المثقف الحقيقى هو الذى يمتلك نبوءة زرقاء اليمامة بالنسبة لمستقبل وطنه، وقد كان فرج فودة من هؤلاء، ومن يقرأ كتبه الآن يحس أنه كان يتوقع مثل هذا المصير المؤلم للدولة المدنية، وكان يحس بنذير الفتنة الطائفية التى ستمزق النسيج الوطنى المصرى، وكان يقرأ خريطة انهيار العلاقة بين قطبى هذا الوطن.. نحتاج الآن أن نسمع كلماته التى شخّصت هذا الوجع، نحتاج الآن أن نستحضر نضال هذا الرجل الذى اغتيل غدراً بأيدى غربان الظلام من المتطرفيين الذين كانوا مجرد ضيوف فى زمنه، فصاروا بعد موته أصحاب البلد الحقيقيين.
يقول فودة: «أى اتجاه لدعوة المسيحيين لاعتناق الإسلام فى مصر يجد ترحيباً شعبياً، ويعتبره الكثيرون واجباً دينياً، وتغمض السلطات أعينها عنه بل تساعد عليه فى كثير من الأحيان، وفى المقابل بالطبع فإن أحداً لا يتخيل حدوث جهد منظم فى الاتجاه العكسى، ولو حدث ما يشبه ذلك بجهد فردى، لأصبح يندرج تحت بند (إثارة القلاقل).. وخطورة ما أذكره هنا أن فهم حرية العقيدة على المستوى الرسمى سواء كان الحكومى أو الإعلامى أو التعليمى، هو الدعوة إلى تحويل مصر إلى دولة دينية، فيحل الانتماء الدينى محل الانتماء الوطنى أو يسبقه على الأقل، ويتم إلزام غير المسلمين باتباع شرائع المسلمين والدفاع عن (دول الإسلام).
إن كاتب هذه السطور يعتقد أن علمانية مصر أو مدنية الحكم فيها هى التى حفظت وحدة مصر، وتحولها إلى دولة دينية هو السبب الحقيقى فى توتر المشكلات الطائفية وتتابعها خلال ربع القرن الأخير.. وهو الكفيل باستمرارها فى نسف هذه الوحدة الوطنية نسفاً، وإدخال مصر فى مسلسل من الفتن يسهل أن تتحول إلى حروب أهلية حقيقية لن يكون طرفاها المسلمين والمسيحيين، بل سيكون أحد طرفيها المسلمين والمسيحيين المتعصبين، وسيكون الطرف الآخر شاملاً للمسيحيين وللمسلمين المتنورين وللمؤمنين بحرية الاعتقاد كما يجب أن تكون.
إن حضارة العصر لا تتسع لدولة دينية متعصبة، وقد أضفت هنا لفظ (متعصبة) لأنه لزوم ما يلزم، فالدولة الدينية والتعصب وجهان لعملة واحدة، هى الشذوذ والرجوع خلفاً فى وقت يتوجه فيه العالم إلى الأمام.. إن الدعوة لتحويل مصر إلى دولة دينية هى التعبير السياسى عن دعوة أخرى تبدو وكأنها دعوة لتطبيق تعاليم الدين أو دعوة لتعديل النظم التشريعية، وأقصد بها الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية وهى دعوة لا ينكر أصحابها أن (الردة) جريمة تستحق الاستتابة والعقاب، ولست أظن أن أحداً يمكنه بضمير مستريح أو بمنطق متماسك واضح أن يدرج الردة خارج إطار حرية الاعتقاد، أو أن يعتبر مثلاً المرتد أو استتابته ممارسة لحرية العقيدة المطلقة.. إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لباحث هو التردد أو التحسب أو الخوف، وأحسب أن كاتب هذه السطور خارج هذا الإطار، ولهذا فإنه من المناسب هنا أن أوضح ما أقصده تحديداً، وهو أن الدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية فى مصر بما فيها حد الردة يمثل انتهاكا واضحاً لحقوق الإنسان وتحديدا لحرية الاعتقاد التى لن يصبح لها معنى ولا دلالة ولا وجود فى ظل هذا التطبيق».
انتهى كلام فرج فودة وأتمنى ألا ينتهى الوطن.