(مدرسة الإمام محمد عبده بين مصر وتونس)
ملاحظة : سبق نشر هذا البحث فى الفصلية العلمية ( الانسان و التطور ) التى يصدرها المفكر المصرى د. يحيى الرخاوى ، فى قسمين تحت عنوان ( بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة فى الإسلام)
عدد 65 - 66 1999
بعض مراتب ومراحل:
الاستنارة الدينية الحديثة فى الإسلام (1 من 2)
رؤية إسلامية: د. أحمد صبحى منصور
مقدمة:
1- كعادتنا فإننا نبدأ بتحديد المفاهيم ووضع النقاط فوق الحروف.
وفى موضوعنا عن مدرسة الاستنارة الدينية بين مصر وتونس فى القرن العشرين لابد أن نبدأ بتحديد الفرق بين الدين والتدين، وبين التدين المصرى والتدين التونسى، وتأثرهما بالظروف الجغرافية والطبيعية للبلدين، واختلافهما عن أنواع التدين الآخرى، خصوصا التدين البدوى الصحراوى، ومدى اقتراب هذا وذالك من القرآن الكريم.( [1])
وفى ورقة بحثية موجزة كهذه فإننا نكتفى بإعطاء لمحة سريعة فيما يلي:
2- فالدين هو ما ينزل من السماء كتابا سماويا على النبى، ويكون النبى أول الناس طاعة واقتداءا بهذا الدين، وتطبيق النبى لهذا الدين مرتبط بإمكاناته البشرية وظروف عصره، وبالتالى فإن التطبيق البشرى للدين يختلف من عصر لآخر، وهذا التطبيق البشرى المختلف حسب الزمان والمكان وحسب الظروف هو ما يعرف بالتدين، فالتدين هو نوعية الاستجابة للدين وكيفية التفاعل معه بالسلب أو بالايجاب.
ومن هنا توجد الفجوة بين الدين الحقيقى وأنواع التدين لدى الأمم والشعوب، سواء كانت إسلامية أو مسيحية وقد يكون ذلك مقبولا ومعقولا بسبب تأثر الانسان بظروفه الاجتماعية والطبيعية، ولكن ليس مقبولا ولا معقولا أن يعطى الإنسان تدينه البشرى مشروعية إلاهية زائفة عن طريق نسبته للنبى (كما يفعل أهل السنة) أو نسبته لأقارب النبى (كما يفعل الشيعة) أو نسبته لأشخاص آخرين يزعمون قدسيتهم وعلمهم اللدنى الإلهى (كما يفعل الصوفية).
الدين كتاب إلهى، وصاحبه هو الله تعالى الذى يملك يوم الدين، والدين يحاسب البشر أجمعين من أنبياء وأئمة وصالحين وعصاة، أما التدين فهو فكر بشرى وسلوكيات إنسانية، فيها الخطأ وفيها الصواب. وفيها الحق والباطل، وإذا كان الحق فى الكتاب الإلهى مطلقا، فإن ما نفهمه من الكتاب، وما نصل إليه بتفكيرنا الدينى يظل فى إطار الحقيقة النسبية إذا كان حقا، ويظل فى إطار الباطل النسبى إذا كان خطأ، لأنه يجرى فى إطار الاختلاف المذهبى الذى يصل بأصحابه إلى التعصب واعتبار ما "يذهبون" إليه من " مذاهب" إنما هو دين، وفى مواجهة هذا التعصب المغالى نضطر إلى القول بأن الحقيقة فى التفكير الدينى البشرى نسبية، والباطل فيها أيضا نسبى، وذلك حتى لا نقع فى تكفير أحد.
والمهم أن الدين الإلهى يظل واحدا مهما اختلفت الرسالات السماوية فى لغتها وفى أزمنتها وأمكنتها وظروفها، يظل الدين الإلهى يعنى - بكل لغات البشر - إسلام القلب والجوارح لله تعالى فى التعامل مع الله، والسلام مع الناس فى التعامل مع الناس.
ولكن يظل التدين لدى البشر مختلفا ومنقسما بين طوائف ومذاهب وملل ونحل وجماعات وفرق، وتظل الاختلافات الدينية الفكرية هى الأسرع فى الانقسام والتكاثر من أى اختلافات فكرية أخرى سياسية أو اجتماعية أو علمية.
3- ومع هذه الاختلافات المتشعبة فى تدين الناس إلا أن هناك سمات عامة تجتمع فيها أنواع التدين الكبرى لدى الشعوب، وعلى سبيل المثال فالتدين الإيرانى يقوم أساسا على التشيع لظروف تاريخية واجتماعية، والتدين البدوى الصحرواى فى نجد فى الجزيرة العربية يقوم على أساس التشدد مهما كانت نوعية المذهب الذى إليه ينتسبون، ويتخذ ذلك التشدد زيا دمويا بسفك الدماء واستحلال أموال الآخرين وأعراضهم، والتدين المصرى أو التونسى يميل إلى الاعتدال والتسامح، ولا شك أن ظروف كل بلد هى التى أعطت له ملامحه فى التدين.
أ- فالقومية الفارسية تحقد على أبى بكر وعمر اللذين أسقطا الإمبراطورية الكسروية، ومن الطبيعى أن تؤيد حق " على بن ابى طالب" فى الخلافة، خصوصا وقد تزوج " الحسين بن علي" إحدى أميرات البيت الكسروى، كما يقال، ومن الطبيعى أن تعود من خلال هذا التشيع لعلى وبنيه ملامح الكهنوت الفارسى دينيا وسياسيا تحت رداء الإسلام، وهذا الرداء صناعة بشرية، أو تدين بشرى يعرف بالتشيع، وله "مودات" أو أزياء مختلفة.
ب - وأهل نجد احترفوا استحلال الغرباء والقوافل التى تمر بهم من العراق إلى الحجاز ولذلك تتلون الدعوات الدينية فى هذه المنطقة ليصبح السلب والنهب والاستحلال أهم شعائرها الدينية، كذلك فعل القرامطة، ثم الوهابيون، وفى ظل الأحوال يتحول التدين النجدى إلى تطرف وتعصب وسفك للدماء فهذه طبيعة الصحراء القاحلة، وتلك طبيعة أهلها لا يرون غيرهم إلا أن يكون فريسة لهم.
جـ - وعلى النقيض من ذلك التدين البدوى نجد التدين " الزراعي" فى المناطق التى تسكنها جماعات من عنصر واحد أو الأغلب فيها عنصر واحد، وينطبق ذلك على مصر وتونس، فالبيئة المعتدلة فى المناخ، والمنفتحة فى الجغرافيا، والغنية فى الثروات، تنتج شعبا محبا للحياة متسامحا مع الآخر معتدلا فى مزاجه منفتحا على التيارات الوافدة، مع حرصه على الثوابت والوطنية والقومية، لذلك لا نعجب إذا كانت مصر تتعامل بالتمصير مع كل الوافد إليها ثقافيا ودينيا، ولا نعجب إذا رفضت تونس قانون التجنيس مع انفتاحها على فرنسا وأوربا.
4- وذلك التوازن بين الثوابت الوطنية والانفتاح على الآخر، سواء كان الآخر عربيا أم أوروبيا هو السمة الأساسية لثقافة البحر المتوسط، وهى الثقافة الحقيقية لمصر وتونس وقد بدأت هذه الثقافة فى مصر الفرعونية ثم انتقلت إلى اليونان، ومنها إلى روما، وسيطرت على البحر المتوسط فى القارات الثلاث، ولم يمنع انتشارها اشتعال الحروب بين دول البحر المتوسط العربية والأوربية بعد الإسلام، أو دول آسيا وأفريقيا وأوربا قبل الإسلام، بل على العكس من ذلك، كانت الحروب الهيلينية والصليبية إحدى روافد التأثر الثقافى بين جوانب البحر المتوسط، بل كانت جزر البحر المتوسط نفسها تقوم بالدورين معا: الحربى والثقافى أى أن الحروب - وهى إحدى صور العلاقات العادية بين الدول والشعوب - لم تكن فى هذه الحالة نفيا للآخر ومصادرة له فى أغلب الأحوال، وحتى فى الأحوال الاستثنائية مثل فرنسا والجزائر مثلا فإنه ينبغى ألا ننسى الأصول العربية الإسلامية للثقافة الفرنسية، خصوصا فى النواحى القانونية والتشريعية بدءا من التأثر بالمذهب الملكى فى الأندلس وانتهاء بقوانين نابليون التى تلونت بحملته على مصر وتأثرت بها.
والمهم أن العنصر الغالب فى ثقافة البحر المتوسط هو الاعتراف بالآخر والتواصل معه، وهذا يتناقض مع الثقافة البدوية النجدية التى لا ترى فى الآخر إلا فريسة تستحل مالها ودماءها وشرفها.
وتختلف حظوظ دول البحر المتوسط فى درجة التحلى بهذه الثقافة، كما تختلف الأحوال داخل الدولة نفسها، وذلك حسب الظروف الطبيعة والاجتماعية، ولكن تظل مصر وتونس أكثر الدول العربية حظا فى إدراك هذه الثقافة، فالجغرافية المصرية يبدو فيها الاتجاه نحو الشمال، نحو البحر المتوسط بدءا من النيل إلى البحر الأحمر ذاته الذى يرفع إصبعيه كعلامة النصر كأنما يرحب باقترابه من شقيقة البحر المتوسط، وحتى أبناء جنوب الوادى فى صعيد مصر يرحلون عنه إلى القاهرة - مركز ثقافة البحر المتوسط - وإلى الاسكندرية "عروس البحر المتوسط" فإذا استقروا فى الدلتا والقاهرة والاسكندرية تخلصوا من التشدد وأصبحوا أكثر اعتدالا وتسامحا.
وإذا انتقلنا إلى تونس وتأملنا خريطتها وموقعها الجغرافى وجدناها تبالغ فى إعطاء الصحراء ظهرها وتبالغ فى الالتصاق بالبحر المتوسط والتعمق فيه، ومن الطبيعى أن تساعدها سواحلها الطويلة على الاتجاه أكثر نحو البحر والاعتماد عليه والتعامل مع الدول التى تطل عليه من الناحية الآخرى، كما أن هذه الدول نفسها ترى فى تونس القريبة منها أقصر طريق للتمتع بالشمس الإقريقية والحضارة الإسلامية العربية وهذا الاحتكاك البشرى والثقافى ترى بصماته واضحة على تعامل تونس مع الغرب، منذ الأغالبة وحتى حكم البايات قبل الاستقلال وهو الانحياز للثوابت الوطنية والقومية مع الانفتاح على الآخر. وتلك هى فلسفة الثقافة البحر متوسطية.
5- وقد قلنا إن الدين السماوى هو الكتاب الإلهى السماوى، وقلنا إن التدين هو الفكر الدينى للبشر والذى يختلف حسب الظروف، ورأينا طرفا من ذلك الاختلاف فى التدين بين دول وشعوب المسلمين، ونأتى للسؤال الهام: أى هذه المذاهب أقرب للإسلام أو للدين الإلهى، أو للكتاب الإلهي؟ الإجابة على نوعين، وذلك تبعا لمنهج الأخذ عن القرآن الكريم، إذا نظرت للقرأن الكريم من خلال التراث، فستجد إجابات متنوعة تنتقى منها ما تشاء، فإذا كنت متعصبا وجدت فى التراث من تفسير وحديث وتشريع ما يؤكد لك تعصبك ويجعله لك دينا، ويجعلك لا ترى فى الآخر إلا مستحقا للموت فى الدنيا والنار فى الآخرة، وإذا كنت متسامحا وجدت فى التراث نفسه من تفسير وحديث وتشريع ما يؤيد لك تسامحك، وفى الحالتين ستنتقى الآيات والتفسيرات، وستنام مرتاحا سواء كنت متعصبا أو متسامحا، لأن القرآن عندهم " حمال أوجه".
أما النوع الآخر من الإجابة فهو النظر للقرأن الكريم نفسه، وعن طريق مفاهيمه هو ومصطلحاته هو، وعن طريق لغته هو، هنا ستجد القرآن كتابا أحكم الله تعالى آياته ولا عوج فيه ولا اختلاف، هنا ستجد رأيا واحدا تدعمه كل الآيات، وبالنسبة لموضوعنا ستجد القرآن مع التوسط والاعتدال والتسامح والرقى الأخلاقى والسمو الحضارى، وذلك موضوع شرحه يطول، ولكن فيما يخص موضوعنا الحالي: ستجد ثقافة البحر المتوسط أقرب الرؤى البشرية للإسلام والقرآن، وبنفس القدر ستجد الرؤية البدوية المتعصبة الإرهابية أبعدها عن الإسلام وأكثرها تناقضا معه. وذلك أيضا موضوع شرحه يطول.
6- ولكن نتوقف مع مدرسة التنوير الدينى التى نهضت بين مصر وتونس فى القرن العشرين لتعبر عن حقيقة التدين المتسامح فى البلدين، وكان لهذه المدرسة شيوخها، ومنهم الشيخ الطاهر ابن عاشور التونسي.
وقد ورثت هذه المدرسة المستنيرة فكر المسلمين المتأثر بالعصور الوسطى وتعصبها، كما ورثت مجتمعا أرهقه التخلف والجمود، فنهضت للتقدم لتواجه ميراث الماضى وتخلف الحاضر، ولتواجه أيضا ما هو أشد وأعنف، وهو فكر التطرف الذى نما منذ منتصف هذا القرن، فما هو منهج هذه المدرسة؟
وكيف تعاملت مع أبرز قضايا عصرها؟
هذا هو موضوع هذه الورقة البحثية على نحو من الإيجاز والله تعالى المستعان.
مدرسة الاستنارة الدينية فى القرن العشرين
بين مصر وتونس: الأرضية التاريخية والمنهج العلمى
الأرضية التاريخية:
1- انقسم المسلمون مبكرا حول الخلافة، وتحول خلافهم السياسى إلى حرب أهلية فى الفتنة الكبرى، ثم تحول الخلاف السياسى الحربى إلى خلاف مذهبى دينى، ثم كانت الطامة الكبرى حين تحول إلى تدين وطائفية دينية، من السنة إلى الشيعة إلى الخوارج، ثم أضفوا على التدين المذهبى مشروعية زائفة عن طريق نسبته إلى النبى أو إلى آله وأقاربه، ثم اتسع الأمر بمزيد من الانقسام داخل الطوائف الكبرى، ثم بإضافة طوائف جديدة بدأت فلسفية ثم تحولت إلى التأثير فى العوام مثل التصوف الذى بدأ نظريا ثم تحول إلى طرق صوفية شعبية.
وأثناء قوة المسلمين لم تتأثر دولتهم بهذا الاختلاف المذهبى، فاستمر الأمويون - مثلا - فى حروب فى الداخل ضد مناوئيهم من الشيعة والموالى والخوارج مع استمرارهم فى الفتوحات، ولكن بدأت الانقسامات الفكرية ترسم تجاعيد الضعف على وجه الدولة العربية الإسلامية فى العصر العباسى الثانى، واستلزم الأمر مجيء عناصر عسكرية وافدة أعطت بعض الشباب والحيوية للدول الإسلامية مثل السلاجقة والبويهيين والأكراد والمماليك، ولكنها كانت فى النهاية مجرد مساحيق لزينة وجه ضامر أضعفته الانقسامات المسلحة فكريا ودينيا واجتماعيا، وجاء الإنقاذ أيضا من الخارج مرتبطا بالسقوط الكبيرللشعوب العربية والإسلامية تحت قبضة الدولة العثمانية، تلك الدولة العسكرية الفقيرة ثقافيا وأيديولوجيا، والتى لم تستطع التواصل مع الفكر السائد لدى العرب والمسلمين فى الداخل، كما لم تستطع التواصل العسكرى مع عدوها الأوروبى سواء فى الشرق (روسيا) أو فى الغرب (انجلترا وفرنسا)، وفى النهاية سلم الرجل العثمانى المريض نفسه للموت ليرثه الأوروبى بعد أن أسهم العثمانيون فى إضفاء المزيد من التخلف والضعف على الشعوب العربية والإسلامية التى كانت تعانى أصلا من الضعف والانقسام.
2- وعلى الجانب الآخر - أوربا - كان الروم البيزنطيون والغال فى فرنسا والبابوية فى أيطاليا، وما تبقى من أمراء أسبانيا يندفعون فى هزائم متلاحقه وقت عنفوان المسلمين ثم بدأ الغرب حركة استرداد عن طريق البيزنطيين، ثم الصليبين ثم الأسبان، وتوقفت موجة الاسترداد الأولى حينا ثم عادت عبر البحر المتوسط تغير على الموانى العربية الإسلامية فى شمال أفريقيا ومصر، وعبر استرداد الأندلس قطعة قطعة، ثم توج ذلك بإخراج العرب من الأندلس ومطاردتهم فى جنوب البحر المتوسط، ثم قطع احتكارهم للتجارة الشرقية، ودخل بذلك الأوربيون إلى الكشوف الجغرافية، ثم إلى الإستعمار، وفى الوقت الذى يزداد فيه الغرب قوة كان المسلمون تحت الحكم العثمانى يزدادون ضعفا وكانت الحملة الفرنسية على مصر صفعة أثارت انتباه المسلمين، على أن العدو الأوروبى بدأ ثانيا يتجه إلى قلب العالم الإسلامى، وهناك فى صحارى نجد حيث كان النفوذ الإنجليزى مسيطرا على الخليج والبحر العربى، توالت صفعات آخرى، قبل الحملة الفرنسية، ومن هنا ومن هناك جاء رد الفعل، وقدمت نجد مشروعها للنهوض بالمسلمين، وقدمت مصر مشروعا آخر مختلفا.
3- كان مشروع نجد هو النهضة عن طريق العودة للسلف وذلك على أساس الفكر الحنبلى التـيمى المتشدد الذى يلائم التدين البدوى، ولذلك كان " الاستحلال" هو أساس التحالف بين إبن عبد الوهاب وإبن سعود، وعلى أساسه قامت وتوسعت الدولة السعودية الأولي.
وفى المقابل قدمت مصر مشروعها للنهضة فى إقامة الدولة الحديثة بالأخذ عن الغرب خصوصا فرنسا فى ولاية محمد على باشا الذى اهتم بالقضاء على رموز القديم وإقامة الحديث مكانه، فى التعليم والجيش وإدارة الدولة، وكان طبيعيا أن تقف الدولة العثمانية ضد المشروعين معا، ولكن حتمت الظروف السياسية أن يلبى محمد باشا رغبة السلطان العثمانى فى القضاء على الدولة السعودية الأولى وتدمير عاصمتها الدرعية سنة 1818 م.
وبعدها جرت مياه كثيرة، فقد قامت الدولة السعودية الثانية ثم سقطت، ثم بدأ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إقامتها للمرة الثالثة سنة 1902 وأكمل سيطرته على معظم الجزيرة العربية سنة 1926، وأعطى الدولة إسم أسرته سنة 1932، وخلال تلك العقود وبعدها كان الفكر السلفى ينتشر ممثلا ليس للفكر الإسلامى ولكن للإسلام نفسه، ثم تحالفت عوامل آخرى لتزيد من انتشار الفكر السلفى، تبدأ بسقوط الخلافة العثمانية وقوة المقاومة للاستعمار الغربى ومذاهبة التى تنتشر فى الداخل وأخيرا ظهور البترول وانتشار الفكر السلفى عبر قطار النفط السريع إلى عقول أغلبية الأمة.
وأدت سيطرة الفكر السلفى فى القرن العشرين إلى نتيجتين متلازمتين، هما إجهاض التطور الطبيعى لمدرسة الاستنارة الدينية التى بدأها محمد عبده، والتحول عن هذه المدرسة المستنيرة إلى المدرسة السلفية التى تحولت بدورها إلى الطموح السياسى، لتنشيء دولا دينية على مثال الدولة السعودية.
هذا هو المسرح السياسى الذى تعين على مدرسة الاستنارة أن تلعب عليه، وهو المسرح الذى فرض على تلك المدرسة أن تقدم تنازلات تتفق مع الانتصار المضطرد والمتنامى للتيار السلفى ونستطيع أن نلمح درجات هذا التنازل حين نتوقف مع المنهج الفكرى المدرسة، بين مصر وتونس.
منهج مدرسة التنوير المصرية
بداية مدرسة التنوير المصرية:
1- أطلق الجبرتى شهقة المفاجأة الأولى حين شهد بعض المنجزات العلمية للعسكر "الفرنسيس". ولا تزال أصداء شهقتة تتردد بين سطور تاريخه " مظهر التقديس فى خروج الفرنسيس" وكان التعبير الحضارى عن هذا الانفعال بالغرب والتجاوب معه قد بدأ يتحول إلى سياسة واقعية على يد خصم المؤرخ الجبرتى وهو الوالى محمد على باشا الذى أرسل البعوث لفرنسا، وتـوجت هذه السياسة بنهضة عسكرية ومدنية تحولت إلى استنارة فكرية على يد رفاعة رافع الطهطاوى الذى أطلق المزيد من شهقات المفاجأة حين عاش فى باريس، وسجل حياته فيها فى كتابه المشهور " تخليص الابريز فى تلخيص باريز".
2- وتحولت شهقات المفاجأة الجبرتية والطهطاوية إلى تأسيس مدرسة فكرية مالبث أن اشتعلت حماسا سياسيا بمجيء الأفغانى ووصل الحماس أوجه بالثورة العرابية، وبفشلها بدأ محمد عبده - أحد الثوار والمفكرين - يراجع نفسه وهو فى منفاه فى لبنان، فاختار تطليق السياسة والتركيز على الاصلاح الدينى الفكرى والعقلي.
قام محمد عبده "بإصلاح" حركة الإصلاح وإعادتها إلى الاتجاه السليم، وكانت مهمة عسيرة لانه تحتم عليه أن يواجه زملاءه فى الأزهر، وإصلاح الأزهر كان مهمة عزف عنها محمد على بكل سطوته وقسوته، ولكن نهض لها محمد عبده فى الزمن الخطأ، حيث كان يتمتع محمد عبده بكثير من الخصوم على رأسهم الخديموى توفيق نفسه.
ولا نريد أن نستطرد فى حركة محمد عبده الاصلاحية ومعاناته، ولكن نود الاشارة إلى أن حجم هذه المعاناة وسوء المناخ السياسى والاجتماعى فى هذا الوقت أجبر محمد عبده على التريث فى إعلان كل تفاصيل منهجة الفكرى، وأرغمه على أن يحصر هذا المنهج فى محاولة الإصلاح والاجتهاد داخل الدائرة التقليدية المتوارثة، لأن عصره لم يكن يسمح بقبول منهج فكرى جديد مهما كانت قوة الحجج التى يقوم عليها.
3- باختصار نحن أمام عقلية كبرى تجاوزت عصرها، بل تجاوزت المستوى العقلى للحضارة التى تنتمى إليها، ولكن قسوة الخصوم وسوء المناخ أجبر هذه العقلية على أن تقلص حركتها فى إطار المنهج التقليدى وتجتهد من خلاله، وربما كان يطمع محمد عبده إلى أن يمتد به العمر وأن يتغير المناخ العقلى للأفضل فاختار طريق التدرج، فبدأ الإصلاح فى المنهج التقليدى، وبين سطوره نثر بعض ملامح المنهج الجديد مثل بالونات اختبار يمكن البناء عليها، فإذا عاش استطاع أن يواصل الطريق، وإذا مات فقد أعطى إشارات لمن يخلفه من المفكرين كى يبنى ويتطور، ولكن حدث عكس ذلك، لأنه مات فى السادسة والخمسين من عمره، وهو يلعن الشيوخ أثناء احتضاره، وأفسد خليفته رشيد رضا دعوة أستاذه المستنيرة. فتحولت إلى التشدد السلفى الوهابى، بحيث أصبحت مدرسة التنوير تلك مرتبطة لدى بعض المفكرين اليسارين بالسلفية، وبحيث أصبح محمد عبده نفسه رائدا لما يعرف بحركة الصحوة التى تمهد الطريق لقيام الدولة الدينية، وأولئك الدارسون يكتفون بالعناوين وليس لديهم ما يعينهم على فهم الأصول الفكرية واختلافها بين محمد عبده ورشيد رضا، وفى ورقة بحثية نضطر سريعا لإلقاء لمحة عن تلك الأصول الفكرية والعقدية والتى نحكم من خلالها على اختلاف المنهج بين محمد عبده وتلميذه رشيد رضا ثم نتعرف على منهج المدرسة التنويرية ومسارها بين مصر وتونس.
مقياس الاستنارة:
1- وللتيسير على المثقف غير المتخصص فى الأصوليات وللتخفيف من وقع المفاجأة فإننا نكتفى بوضع مقياس قرآنى للاستنارة العقلية ونبدأ بتطبيقة قرآنيا على النبى محمد عليه السلام نفسه، فالنبى هو القدوة وما لا ينطبق عليه لا يمكن أن ينطبق على غيره، وهذه العبارة يمكن فهمها حالا إذا عرفنا المقياس القرآنى المراد. وهو بإختصار، الإجابة على سؤالين: هل كان النبى يعلم الغيب؟ وهل كان النبى يفتى للمسلمين فى التشريع ويجتهد برأيه فى الأمور التشريعية؟.
2- إذا كان النبى يعلم الغيب فالواجب علينا أن نؤمن بكل الأحاديث المنسوبة للنبى فى الغيبيات، بدءا من الحديث عن الأمم السابقة والأمم اللاحقة بعد النبى، والحديث عن علامات الساعة وما يجرى فيها من شفاعات وأحوال، والحديث عن العوالم الآخرى من ملائكة وجن وشياطين، وبالتالى يمكن أن نتسامح فى معرفة الآخرين لهذا الغيب لأنهم على " قدم النبي" أى نؤمن بمقدرة الأولياء الصوفية وغيرهم من القديسين على معرفة الغيب، وبالتالى تتضخم مساحات الخرافة فى عقولنا - وهى فعلا متضخمة - وتتحول تلك الخرافات المتضخمة إلى قدس الأقداس، وبالتالى أيضا تتضاءل المساحة التى يتحرك فيها العقل - وهى فعلا تضاءلت - ونصبح أسرى للخرافة - ونحن فعلا كذلك.
وإذا لم يكن النبى يعلم الغيب - وهذا ما يؤكده القرآن الكريم خلال أكثر من ثلاثين آية قرآنية - فإن كل تلك الأحاديث المنسوبة إليه مزيفة، وهى بمعنى آخر كاذبة فى نسبتها للنبى، وإن كانت صادقة فى أنها تعكس الحالة العقلية المتردية للذين صاغوها وللمجتمع الذى يؤمن بها، أى أن صدقها فى تعبيرها عن حال أصحابها ومدى تحكم الخرافة فيهم، والمهم فى ذلك المقياس عن عدم علم النبى بالغيب أنه يفتح كل الأبواب للعقل الإنسانى فى أن يفكر وأن يبدع طالما كانت الغيبيات محصورة فى العلم الإلهى المذكور فى القرآن الكريم وحده، وليس للنبى محمد ولا لأى إنسان آخر أن يتحدث فيها. إذن علينا أن نسعى للبحث فى عالم الشهادة طالما تقلص ميدان الغيب فى آيات القرآن وحدها.
3- ومن ناحية أخرى فإذا كان النبى يفتى ويجتهد فى التشريع فقد وضعت بذلك متاريس كثيرة أمام العقل المسلم، إذ كيف يـجتهـد فى أمر قد أفتى فيه النبى سلفا؟ وكيف يفسر آية فسرها النبى آنفا؟ فمن الطبيعى أن يتحول ذلك الاجتهاد النبوى إلى دين، أو على الاقل يكون مصدرا للتشريع، وعليه فقد كان ينبغى للمذاهب الفقهية أن تبدأ أولا بجمع وتوثيق ذلك الاجتهاد النبوى كما حدث مع القرآن، ولكن ذلك لم يحدث، صحيح أن هناك التفسير بالمأثور، ولكن أعلن الإمام أحمد بن حنبل نفسه عدم الاعتداد به، حين قال " ثلاثة لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازى " ولكن الصحيح أيضا أن المنافسات الفقهية والمذهبية جعلت بعضهم ينسب رأيه فى التفسير أو فى الفقة للنبى عبر سلاسل مفتراة ذهبية أو معدنية، لا يهم، إنما المهم أنها افتراء على الله تعالى ورسوله وأنها فى تضخمها أعاقت حركة المسلمين، وإذا كان سهلا أن نتذكر الآيات القرآنية التى تعلن عدم معرفة النبى بالغيب وتأمر النبى بأن يعلن ذلك عن نفسه بوضوح، فإن قضية اجتهاد النبى فى التشريع والتفسير تستحق بعض التوقف بما يتلاءم وهذه الورقة البحثية الموجزة.
4- وهنا نكتفى بالدعوة إلى تدبر الآيات القرآنية التى تبدأ بقوله تعالى " يسألونك" ونعطى عنها لمحات سريعة.
أ- فالقرآن الكريم أكد أكثر من مرة على أن علم الساعة وموعدها وما يجرى فيها عند الله تعالى وحده (فصلت 47، لقمان 34، الزخرف 85) وأكد أيضا على أن النبى لا يعلم عن الساعة شيئا (الشورى 17).
ومع ذلك سألوا النبى عن الساعة، وكان يمكن أن يكتفى بالإجابة عليهم بترديد الآيات السابقة، ولكن لم يكن له أن يجيب على شيء طالما الوحى ينزل، لذلك انتظر إلى أن نزل قوله تعالى "يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيم أنت من ذكراها؟ إلى ربك منتهاها، إنما أنت منذر من يخشاها: النازعات - 46"
وبعد هذا التأكيد فى الإجابة على التساؤل بأن النبى لا شأن له بعلم الساعة وأن وظيفته التبليغ والإنذار فقط، عاد نفس التساؤل، وكان يمكن أيضا للنبى أن يتلو الآيات السابقة التى ترد على نفس التساؤل، ولكن ليس له أن يجيب بنفى أو إيجاب، لذلك انتظر إجابة السؤال من السماء، ونزلت الإجابة تؤكد نفس الإجابة السابقة وتزيد تأكيدا عليها بأن النبى ليس له أن يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء (الإعراف 187: 188) وعاد نفس التساؤل وظل أيضا معلقا دون إجابة من النبى إلى أن نزل قوله تعالى " يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا، الأحزاب 63" أى أن النبى لم يكن مسموحا له أن يجيب على أسئلة يعرف مقدما إجابتها من القرآن، حتى لو تكررت الأسئلة وتكررت الإجابة عليها فى القرآن من قبل.
5- وإذا كان هذا الموقف واضحا فى أمور الغيب فإنه بنفس الوضوح فى التشريعات، فعلى سبيل المثال نزلت آيات مكية كثيرة تحض على رعاية اليتيم وإعطائه حقوقه (الأنعام 15، الاسراء24 الفجر 17، الضحى 9، الماعون 2، البلد 15، الكهف 82) ثم نزلت آيات آخرى فى المدينة فى نفس الموضوع (الإنسان 8، البقرة 83، 177، النساء 36،10،8،6،3،2، الأنفال 41، الحشر 7) وتميزت الآيات المدنية بتشريعات تحفظ حقوق اليتيم المالية والاجتماعية والنفسية، وكانت تلك الآيات المكية والمدنية تتلى فى المدينة ويرتلها المسلمون فى صلواتهم ومناسكهم، ومع ذلك سألوا النبى مجددا عن اليتيم، وكان يمكن للنبى أن يتلو عليهم بعض الآيات وفيها الإجابة، وكان يمكنه أن يستشهد بها فى فتواه، إذا كان له حق الفتوى، وكان بإمكانه أن يحيلهم إلى تلك الآيات ويدعوهم للتدبر فيها بأنفسهم، لم يغفل ذلك، وانتظر إلى أن نزل الوحى بالإجابة " ويسألونك عن اليتامى، قل: إصلاح لهم خير، وإن تخالطوهم فإخوانكم: البقرة 22" وهى إجابة تؤكد ما سبق قوله فى الآيات السابقة عن رعاية اليتامى وجاء تساؤل آخر عن اليتامى من النساء، وكالعادة لم يتصدى النبى للفتوى، بل انتظر إلى أن نزل قوله تعالى " ويستفتونك فى النساء، قل: الله يفتيكم فيهن، ومايتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء، النساء 27" ويلاحظ هنا أن الرد الإلهى على استفتائهم جاء بقوله تعالى " قل الله يفتيكم" لم يقل قل أنا أفتيكم، وتردد هذا فى قوله تعالى " ويستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة: النساء 176" أى أنه طالما ينزل الوحى الإلهى فإن الله تعالى هو صاحب الفتوى، وما على الرسول إلا البلاغ، أى بتبليغ الوحى كما هو، دون أى أضافة، حتى لا يكون للدين الإلهى إلا مصدر واحد، هو الله تعالى، وحتى يتنزه دين الله تعالى من أى مصدر بشرى، وبعد نزول الوحى وموت النبى يكون تدين الناس وفكرهم وتدبرهم وتفسيراتهم للكتاب، وهم عنها مسئولون، ولكن لا يمكن أن تكون دينا، لذلك فإن الله تعالى يوجه نظرهم إلى ما نزل فى الكتاب فى موضوع النساء اليتامى فيقول: قل الله يفتيكم، وما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء" أى أن للناس - دون النبي- الحق فى الإجتهاد، لانهم ليسوا مبلغين عن الله، ولأنهم يتحملون وزر ما يقولون، وهذا منطقى ومعقول، لأن كل مؤلف من البشر يكتب اسمه على الكتاب الذى يؤلفه ويكون مسئولا عنه، والنبى محمد ليس مؤلفا لأى كتاب، ولكنه قام بتبليغ كتاب الله تعالى وتلك مهمته وتلك مسئوليته وليس عليه غيرها.
ج- ونعود إلى لمحات سريعة آخرى عن كلمة "يسألونك" فى القرآن فقد كانوايسألون النبى عن أمور يعرفها بثقافته العربية والدينية، وكان المنتظر منه أن يجيب عنها من واقع المعرفة والتعود العربى، ولكنه لم يكن يجيب بما يعرف، وانتظر الإجابة من الله تعالى، ولذلك حين سألوه عن الأهله (جمع هلال) لم يرد عليهم إلى أن نزلت الإجابة فى قوله تعالي" يسألونك عن الأهلة، قل هى مواقيت للناس والحج، البقرة 189" وبالتأكيد فإن هذه الإجابة معروفة مسبقا للنبى ولأى عربى، فقد اعتاد العرب اتخاذ التقويم القمرى مواقيت شهرية، وعلى أساسها كان العرب يحجون للبيت الحرام، ولكن لم يبادر النبى بالإجابة برغم أن الإجابة لا تحتاج إلى اجتهاد فى الرأى، لأنه لا يملك الإفتاء أو الاجتهاد فى الدين.
د - ونحن نعتقد أن النبى عليه السلام قد بلغ الكمال الإنسانى فى الذوق الرفيع، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته: "الأنعام 124" ولذلك فإننا نتوقع أنه يعرف الإجابة مقدما حين يسأل عن مباشرة الزوجة فى المحيض، ومن المتوقع أن تكون إجابته بالنهى عن ذلك لأن المحيض أذى، ذلك هو ذوق الصفوة من الناس، ولكن النبى لا يقول رأيه، وينتظر الإجابة إلى أن ينزل قوله تعالى " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن: "البقرة 222" ويلاحظ أن البخارى أعطى فى باب الحيض فى كتاب الطهارة إجابة مخالفة لهذا التساؤل فى حديث كاذب يزعم أن النبى كان يباشر نساءه فى المحيض" وتأسيسا على موقف النبى من الرد على تساؤلات واستفتاءات الناس فى عصره، وانتظار الإجابة من الوحى فقد حدث موقف طريف للنبى، فقد ظاهر رجل امرأته كعادة الجاهلية، وجاءت المرأة تستفتى النبى وتطلب منه حلا، ولم تكن حالتها النفسية ترضى بأن يمهلها النبى إلى أن ينزل الوحى بالفتوى، كانت تريد من النبى بأن يسرع بإعطائها فتوى سريعة، والنبى لا يملك حق الفتوى، فظلت تجادل النبى إلى أن نزل الوحى بالفتوى قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله، والله يسمع تحاوركما: المجادلة 1 فالمرأة حين يئست بعد الحوار والجدال اشتكت إلى الله تطلب منه الفتوى، فنزلت الإجابة فى تشريع الظهار (المجادلة 2: 4).
5- باختصار.. ليس للنبى أن يتحدث فى الغيبيات، وليس له أن يتحدث فى التشريع أو التفسير أو أن يجتهد فى هذا وذاك. لم يكن له إلا التبليغ للقرآن كما هو، فالاجتهاد فى التفكير لنا دون النبى فى أمور التشريع.
وباختصار آخر، فإن ما نسب للنبى بعد موته بقرون كان انعكاسا وتعبيرا للثقافات السائدة وقتها، وحيث كانت العادة السيئة فى القرون الوسطى هى الانتحال الدينى، فقد كان سهلا نسبة هذه الثقافات للنبى عن طريق الروايات والسلاسل الذهبية والفضية والمعدنية!!.
ومن الطبيعى أن الصدمة ستكون هائلة إذا طبقنا هذا المقياس العقيدى والتشريعى على فكر المسلمين فى طوائفهم المختلفة، ولكن ستكون لنا مفاجأة آخرى إذا طبقنا نفس المقياس على فكر محمد عبده ومنهجه، ستكون مفاجأة سارة حين نراه يقترب ويناور ويلتف حول الموضوع إلى درجة تحس معها أنه يريد أن يصرح وأن يعلن لولا أن كابوس التقليد والجمود يرزح فوق أنفاسه ويمنعه من الاسترسال والإفصاح.
6- وفى هذه العجالة السريعة سنأخذ تفسير المنار للشيخين محمد عبده ورشيد رضا كحالة نموذجية نتفهم منها منهج محمد عبده، ومنهج تلميذه رشيد رضا، والفجوة بين هذا وذاك.
إن رشيد رضا يؤكد فى مقدمة تفسير المنار أن شيخه محمد عبده توقف فى تفسيره للقرآن عند الآية (126) من سورة النساء، وتوفى بعدها فأكمل رشيد رضا التفسير إلى بعض أجزاء سورة يوسف. وهذا هو محتوى تفسير المنار للشيخين، بغض النظر عن طريقة صياغة رشيد لأجزاء التفسير كلها، وما ينسبه لنفسه أو لشيخه، وتلك قضايا فرعية نعرض عنها اختصارا. ونكتفى بتوضيح منهج الشيخين فى ذلك التفسير والفجوة بينهما.
منهج محمد عبده:
فماذا قال محمد عبده فى المنار عن علم النبى بالغيب؟ وماذا قال عن تشريع النبى فى تعليقه على آيات يسألونك فى الجزء الذى قام بتفسيره؟
1- فى تفسير قوله تعالى وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء: آل عمران 179 يقول محمد عبده إن بعض الناس قد وقع فى الوهم حين ظن أن كل من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب، وزعم بعضهم أن النبى محمدا قد أطلعه الله تعالى على علم الساعة قبل وفاته، ويؤكد محمد عبده أن كل ذلك من الجرأة على الله، والقول عليه بغير علم، وهنا يستدل محمد عبده بقوله تعالى قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب (الآية الخمسون من سوره الأنعام ) ويقول محمد عبده إن هذا ما أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يبلغ عن ربه للناس ويؤكد محمد عبده مجددا عدم علم النبى بالغيب بقوله تعالى ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء: الاعراف 188
ثم يقول محمد عبده إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله تعالى عن نفسه وأن ذلك يقضى إلى تعطيل صفات الألوهية بالتأويل، فيجب أن نقف عند حدود النصوص فى أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس ولا مجال فيه لعقول الناس، وسيأتى لهذا البحث مزيد بيان فى سورة الأنعام وغيرها إن شاء الله تعالى أ.هـ.
ومات الإمام محمد عبده قبل أن يكمل فى تفسيره إلى سورة الأنعام وما فيها من آيات تنفى عن النبى علم الغيب، وكان ذلك من حظ تلميذه رشيد رضا الذى استخدم كل مهاراته فى التأويل والتحريف لكى يثبت للنبى علما بالغيب خلافا لمنطق القرآن الواضح، وخلافا لتفسير شيخه محمد عبده. وموعدنا مع تفصيل لذلك فيما بعد، ولكن نتوقف مع ما قاله محمد عبده بالمزيد من التأمل.
2- فالآيات التى تقطع بأن النبى محمدا لا يعلم الغيب لم تأت فى الجزء الذى عرض له محمد عبده فى تفسيره ومع ذلك فقد استشهد ببعض الآيات الواردة فى سورتى الأنعام والأعراف قبل أن يصل إليها، ووعد بأن يأتى بمزيد من البحث ليؤكد عدم علم النبى بالغيب. أى أنه كان حاضر الذهن فى الموضوع وقد اكتمل وعيه بحقائق القرآن التى تؤكد عدم علم النبى بالغيب.
ويكاد القارى لما بين سطور الكلام أن يقطع بأن الامام محمد عبده كان حاضر الذهن فى نفى الأحاديث التى تنسب للنبى زورا العلم بالغيب، وإن لم يتعرض لها بالهجوم والاستنكار مكتفيا بالدعوة إلى الإعراض عنها تحت عنوان عام يحذر من تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل .
والمسكوت عنه فى هذه العبارة يظهر حين نعيد شرحها أو نعيد صياغتها فى ضوء التأكيدات القرآنية التى استشهد بها محمد عبده، فنقول إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله تعالى عن نفسه من أن النبى لا يعلم الغيب، إذا أجزنا أن نقيد ذلك بتلك الأحاديث التى تثبت للنبى علم الغيب فإن ذلك يفضى إلى تعطيل جميع الصفات الألوهية بتأويل معناها، حيث أن العلم بالغيب مما اختص الله تعالى به ذاته، وأعطى بعضه لبعض الأنبياء كمعجزة ولم يكن منهم خاتم النبيين .
والمفهوم فى منهج محمد عبده فى هذا السياق انه اكتفى بتقرير القرآن فى التأكيد على أن النبى لا يعلم الغيب، واكتفى بالإعراض عن الأحاديث المخالفة للقرآن فى هذه القضية، ولم يشأ إعلان الحرب عليها، لأن المناخ السياسى والثقافى يحول بينه وبين ذلك. وهذا هو موقفه من الجزء العقيدى فى المقياس، أى ما يتعلق بعلم الغيب. فماذا عن الجزء الآخر التشريعى، وهو أن النبى كما لا يعلم الغيب فليس له أيضا أن يجتهد فى التشريع؟
3- وهنا نجد تضاربا فى منهج الإمام محمد عبده.
ففى تفسير المنار فى الجزء الخاص به نجده يتبع المنهج التقليدى فى الإصلاح الفكرى، بمناقشة الروايات خصوصا أسباب النزول معتمدا فى ذلك على ماورد فى الرازى والجلالين، ونحن نركز هنا على آيات يسألوك عن الخمر والميسر ويسألونك ماذا ينفقون، يسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض: (البقرة: 189، 222،220،219،217،215) ولم يستشف منها ما قررناه سابقا من أن النبى لم يكن له أن يفتى فى أى تشريع.
وفى مقابل هذه النظرة التقليدية نجد الشيخ أكثر جرأة فى إصدار الفتاوى الثورية التى تحل التعامل مع البنوك والتصوير الفوتوغرافى والاستماع إلى الراديو والتى تحل الإضراب للعمال المظلومين، كما نجد ما يؤكد هذه الثورية فى اعتبار الأحاديث (الصحيحة) مجرد أحاديث آحاد تفيد الظن ولا تفيد اليقين.
هذا بالإضافة إلى اعتبار النظر العقلى لتحصيل الإيمان هو الأصل الأول للإسلام، وجعل تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض هو الأصل الثانى للإسلام، ثم جعل الأصل الرابع الاعتبار بسنن الله تعالى فى الخلق (الإسلام بين العلم والمدنية 2 :106،105) (ط. الهيئة العامة للكتاب المصرية).
وباختصار فإن منهج محمد عبده قد اقترب من المقياس الصحيح فى موضوع الغيب وتقاعس عن ذلك المقياس فى موضوع التشريع والتفسير. كان فى الجانب العقلى سابقا لعصره والعصور السابقة، بينما اكتفى فى الجانب الآخر بالإصلاح التقليدى بمنهج المصلحين السابقين، فى تتبع الروايات ومناقشتها، وتوضيح الصحيح من الفاسد تسليما بالمبدأ نفسه.
وهذا بدوره أعطى فرصه لتميذه السلفى رشيد رضا لكى يرسى دعائم منهجه ولكى يفسد الثمرة التى ناضل من أجلها أستاذه وندخل بذلك على منهج رشيد رضا.
منهج رشيد رضا:
1-هربا من بيئة التعصب الدينى (بين المسلمين والنصاري) والتعصب المذهبى (بين السنة والشيعة) والصراع الدولى (بين العثمانين والأوربين) جاء رشيد رضا من الشام إلى مصر، ضمن كثيرين من الشوام النصارى والمسلمين، الذين جاءوا إلى مصر يحملون داخلهم إفرازات التعصب الدينى والمذهبى وموروثاته. وفى مصر كان التدين مختلفا، يسمح لهذا وذاك بحرية المعتقد وإمكانية الشهرة والثراء والنفوذ. وأتيح لهذه الكفاءات الشامية عن طريق (وكلاء) مصريين أن يحظوا بالشهرة والثناء، وعندها، وبعد الاستقرار والتمتع بالأمان، عاد أولئك الأعلام الشوام إلى استئناف خصوماتهم الفكرية فى مصر، بين علمانيين وسلفيين، بين ملحدين ومتدينين، بين نصارى ومسلمين..
وكان من أولئك صاحبنا رشيد رضا الذ ى حمل فى داخله التعصب السنى السلفى بعد أن أحدثت الحركة الوهابية انتعاشا للفكر السلفى الحنبلى التيمى بالشام. وحاول رشيد رضا كبت مشاعره السلفية بكل ما أوتى من دهاء أهل الشام، ولا ريب أنه كان يتوجع من آراء أستاذة محمد عبده ومن انتقاده للأحاديث، خصوصا وقد كان الإمام محمد عبده لا يفتأ يهاجم التصوف والدعوة الوهابية معا.
2- وبينما كان رشيد رضا يحتفل بآراء شيخه فى نقد التصوف ويرصع بها أقواله فى تفسير المنار نجده على العكس يتجاهل أراء محمد عبده فى السخرية وانتقاد الوهابية، ومنها قوله عنهم .. فئة زعمت أنها نفضت غبار التقليد، وأزالت الحجب التى كانت تحول بينها وبين النظر فى آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها، ولكن هذه الفئة أضيق عطفا وأحرج صدرا من المقلدين، وإن أنكرت كثيرا من البدع، ونحت عن الدين كثيرامما أضيف إليه وليس منه.. فلم يكونوا للعلم أولياء ولا للمدنية أحباء. (الإسلام بين العلم والمدنية: 47:148)
3- وكذلك تجاهل رشيد رضا ما أكده الامام فى نفس الكتاب السابق عن الأصل الثالث من أصول الإسلام وهو البعد عن التكفير، والتكفير أساس الاستحلال للدماء والأموال والأعراض، والاستحلال أساس قيام وتوسع الدولة السعودية الوهابية. وصاحبنا رشيد رضا أوقع نفسه فى تكفير خصومه فى المذهب وفى الدين فى مواضع كثيرة من تفسيره فى المنار، وذلك حين كان يخلط بين خطاب الله تعالى للبشر من مشركين وأهل كتاب (ومن حقه تعالى أن يقول لهم ما يشاء) وبين الأوامر الإلهية لنا فى الحكمة والموعظة الحسنة وإرجاء الحكم فى العقائد إلى الله تعالى يوم القيامة، وذلك فى حوارنا مع المختلفين عنا فى المذاهب والعقائد.
سار رشيد رضا على نفس طريقة السلف - خصوصا ابن تيميه - فى إدمان التكفير لجميع من يخالفونه فى الرأي.
4- وإذا كان محمد عبده فى كتابه (الإسلام بين العلم والمدنية) قد جعل الأصل الخامس من أصول الإسلام "قلب السلطة الدينية.. والإتيان عليها من أساسها" فإن رشيد رضا لم يفهم من هذاالمبدأ إلا الهجوم على أولياء التصوف، ونراه فى المقابل يعمل على تأسيس الكهنوت الدينى السياسى أو الدولة الدينية، وهو المبدأ الذى وقف عليه نشاطه بعد أن تحالف علنا مع السعوديين، وبعد موت شيخه الامام. والطريف - بل من غير الطريف - أن رشيد رضا يتحدث عن تأليف الإمام محمد عبده لكتاب الإسلام بين العلم المدنية فيقول فى مقدمة تفسير المنار " زرته يوم الجمعة 13 رمضان فقرأ لى عبارة من كتاب فرنسى فى الطعن على الإسلام، وطفق يرد عليها بعد أن قال أن هؤلاء الافرنج يأخذون مطاعنهم فى الإسلام من سوء حال المسلمين مع جهلهم بحقيقة الإسلام، وقال إن القرآن نظيف والإسلام نظيف وإنما لوثه المسلمون بإعراضهم عن كل ما فى القرآن واشتغالهم بسفاسف الأمور.." والشيخ رشيد رضا لم يذكر لنا كل ما قاله له شيخه، كما لم يذكر أيضا لنا فى تفسير المنار بعض ما قاله شيخه فى نفس الكتاب " الإسلام بين العلم والمدنية".
5- ومن حقنا أن نتشكك فى أمانة النقل لدى رشيد رضا فى الموضوعات التى يختلف فيها مع شيخه الأمام، ويتأكد لنا هذا الشك فى تفسير المنار ذاته، ففى نهاية الجزء الذى فسره الإمام محمد عبده وهو نهاية الآية (126) من سورة النساء يقول رشيد رضا هذه الآية كانت آخر ما فسره شيخنا الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده فى الجامع الأزهر، وسنستمر فى التفسير على هذه الطريقة التى اقتبسناها منه، ولكنه يناقض نفسه فيما كتبه فى المقدمة، والعادة أن تكون مقدمة الكتاب آخر ما يقوم به المؤلف لأنه فى نهاية حديثه فى المقدمة يقول هذا وإننى لما استقللت بالعمل بعد وفاته خالفت منهجه بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيرا لها أو فى حكمها وواقع الأمر أن منهج محمد عبده اعتمد على بعض مرويات الأحاديث ومناقشتها وإثبات ما يتفق منها مع وجهة نظره، ولكن الجديد الذى جاء به رشيد رضا ورفض أن يفصح عنه هو الإتيان بأحاديث سماها سنة صحيحة وهى تؤكد على رؤية رشيد رضا المخالفة لمدرسة شيخه التنويرية ونضرب لذلك مثلا واحدا: فالشيخ محمد عبده فى تفسير آية وما كان الله يطلعكم على الغيب وعدنا بتفصيلات آخرى لتأكيد أن النبى لا يعلم الغيب، وذلك عندما يصل إلى الآية 50 من سورة الأنعام قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ومات الامام قبل أن يصل إلى نهاية سورة النساء، وأكمل رشيد رضا التفسير، وحين جاء إلى الآية المذكورة حاول تأويل أو تحريف معناها الواضح ليثبت للنبى علم الغيب، وفعل نفس الشيء فى موضوع الشفاعة، وهذه هى السنة الصحيحة التى يعنيها رشيد رضا،
6- وهنا تبدأ الفجوة بين محمد عبده ورشيد رضا، وهنا أيضا تتسع الفجوة: فالأحاديث النبوية عند محمد عبده مجرد أحاديث آحاد لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن، ولا تنهض وحدها دليلا إلا إذا اتكأت على آية قرآنية أو رؤية قرآنية واضحة. أما عند تلميذه رشيد رضا فالأحاديث هى مصدر قائم بذاته سواء اختلف أو تعارض مع القرآن، بل طبقا لمنهجه فإنه يستسيغ تأويل الآيات القرآنية وتحريف معناها كى توائم وتتفق مع الأحاديث الصحيحة لديها.
7- ولكن النتيجة الواضحة والمؤلمة أن رشيد رضا نجح فى خنق وتحجيم حركة شيخه التنويرية وكان لذلك سببان: الأول يرجع إلى منهج محمد عبده نفسه الذى لم يكن متسقا ومحددا. إذ إنه بدون مبررات تشرح سوء الاحوال وعنف الأشياخ وتأثيراتها على تردد محمد عبده وعدم وصوله إلى منهج كامل متسق الأطراف يضع الأمور فى نصابها، نقول برؤية منهجية فوقية أن هذا التردد وعدم حسم المشكلة الأساسية (الأحاديث المنسوبة للنبى فى الغيبيات والتشريعات ) قد أتاح لرشيد رضا أن يجهض حركة محمد عبده التنويرية ويحصرها فى الإطار التقليدى الذى تتقلص مساحته التنويرية شيئا فشيئا، والمؤسف أن عدم التحديد للمفاهيم و التوارى فى الهجوم خلف مصطلحات باهتة، مثل التأويل جعل الكثيرين يعتقدون أن رشيد رضا قد سار على منوال شيخه، لأن التلميذ الداهية استخدم نفس مصطلحات شيخه استخداما عكسيا، فإذا كان محمد عبده يريد أن يهاجم الأحاديث تحت لافتات آخرى مثل التأويل وسفاسف الأمور، فإن رشيد رضا بذكاء نادر استخدم نفس اللافتات فى الهجوم على خصومه، ومنهم من كان قرآنيا حاول أن يبنى على ما أرساه الامام محمد عبده، فكان أن سلط عليه رشيد رضا منبر المنار ليهاجمه ويستعدى المناخ مستخدما نفس مصطلحات شيخه.
8- والسبب الثانى يعود إلى المناخ الذى ساند رشيد رضا فى منهجه: فرشيد رضا لم يكن فى وزن شيخه محمد عبده ليكمل بعده مشوار الإصلاح ولكى يعادى شيوخ الأزهر وحلفاءهم فى السرايا الملكية وقصور الاقطاع. هذا إذا كان رشيد رضا متحمسا فعلا للسير على طريقة شيخه، ولكن عرفنا اتجاهه الحقيقى، وقد وجد المناخ بعد موت الامام محمد عبده مواتيا لكى يرسى دعائم دعوته السلفية ويصعد معها إلى القمة. فقد كان خصوم رشيد رضا من المفكرين الشوام ينشرون فى مصر (المذاهب الغربية الإلحادية والعلمانية لأهل أوربا الكفرة الذين يستعمرون بلاد المسلمين) ومن الطبيعى أن يتحد رشيد رضا مع علماء الأزهر ضد أولئك الملاحدة، خصوصا بعد إسقاط الخلافة العثمانية وتحول تركيا إلى (العلمانية الكافرة) وتجدد الحديث عن الخلافة الإسلامية وبعثها، وما واكب ذلك من علو شأن الدولة الوهابية السعودية باستيلاء عبد العزيز آل سعود على مكة والحجاز سنة 1926، وتنافسه مع الحكام الآخرين فى مزاد الحصول على لقب الخلافة والإمامة العظمى فى مواجهة الغرب الكافر. من الطبيعى أن يحاول رشيد رضا بمهارته الشامية أن يظفر من هذا السوق السياسى بأى شيء. وقد ظفر فعلا بشيء وأشياء، وبغض النظر عن هذه الأوضاع السياسية فإنها خلقت مناخا ليس لديه أدنى استعداد للبناء فوق ما أرساه الإمام محمد عبده، ويكفى أن الظروف الاجتماعية والسياسية فى مصر أصبحت تتقبل فكرة الدولة الدينية، بعد أكثر من قرن من النهضة الفكرية وتأسيس الدولة المدنية الحديثة، ومشاركة محمد عبده فى تأسيس الحزب الوطنى القديم الذى يفصل بكل وضوح بين الانتماء الدينى والانتماء السياسي.
9- هذه النقطة استثمرها رشيد رضا فى الدعاية لمشروعه السياسى للدولة السلفية الدينية، وكان قبل ذلك قد أسهم فى تحويل الجميعة الشرعية من تدينها الصوفى إلى التدين الوهابى، كما نجح فى إقامة جماعة أنصار السنة بزعامة صديقه الشيخ حامد الفقى، كما أسهم فى إقامة جماعة الشبان المسلمين أى أنه أكمل إرساء الدعوة السلفية بديلا عن دعوة محمد عبده المستنيرة، ثم كان أن قام رشيد رضا بأخطر عمل سياسى، وهو إقامة جماعة الأخوان المسملين عن طريق تلميذه الشاب حسن البنا سنة 1928 وبذلك تحول الفكر السلفى من مجرد الدعوة إلى الحركة السياسية النشطة إلى إقامة الدولة الدينية. ونجح حسن البنا خلال عشرين عاما (1928-1948) فى إنشاء خمسين ألف شعبة فى العمران المصرى، وساعد على نجاحه استثمار المناخ الدينى والاجتماعى لصالحه بالإضافة إلى حرمان الطبقات الوسطى والدنيا من طموحها السياسى، مع التبرعات المالية من السعودية قبل ظهور البترول فيها. واستثمر حسن البنا كل أنواع الخلل الاجتماعى والسياسى لصالحه، وتحالف تبعا لمصلحته مع حكومات الأقليات، ومع كل أنواع الثوار وفى النهاية تحالف أتباعه بعد مقتله مع حركة الجيش، وأسهموا فى قيام الثورة، ثم اختلفوا مع عبد الناصر فانقلب عليهم فهرب من نجا منهم إلى موطنهم الروحى (السعودية).
10- وقد استفاد الفكر السلفى من هذا المناخ السياسى الصاعد والهابط على السواء بالنسبة للحركة السلفية السياسية، والدليل على ذلك أن عبد الناصر وقع فى نفس الخطأ الذى وقع فيه الوالى محمد على من قبل، حين قضى على الدولة السعودية الأولى دون أن يقضى على أساسها الفكرى والديني. وإذا كنا نغفر للوالى البلقانى محمد على هذا الخطأ فكيف نبرره لعبد الناصر وهو أقرب لفهم ما يجرى أكثر من الوالى محمد علي. والمهم أن عبد الناصر قضى على الإخوان سياسيا ولكنه تبنى الفكر السلفى أو على الأقل تصالح معه، ووضع عبد الناصر بذلك الأسلوب العسكرى فى مواجهة الحركات الدينية السياسية، وهو أن تكون الدولة العسكرية- خصوصا فى وقت ضعفها - معتمدة على أشياخ التطرف فى محاربتها للتطرف نفسه، وتكون النتيجة أن تحاول الدولة المزايدة على المتطرفين بأن تكون أكثر تدينا منهم، وكذلك فعل عبد الناصر، وكذلك فعلت الجزائر وكذلك تفعل السياسة المصرية الراهنة، وكذلك يستفيد التطرف السلفى على صعيد السياسة، وعلى صعيد الفكر، وعلى صعيد المنهج الفكرى، وهنا يكون اختبارا صعبا أمام أى مفكر مسلم مستنير يحاول مواجهة الفكر السلفى السائد والذى يحظى بمساندة الدولة نفسها. وتلك هى الأرضية التى قام فيها فكر الشيخ شلتوت فى عهد عبد الناصر وهى نفس الأرضية التى انتشرت فيها غابات الشوك، والتى يتحتم على كاتب هذه السطور أن يسير فوقها خلال ما تبقى له من عمر..
منهج الشيخ شلتوت:
وقد سار الشيخ شلتوت على منهج الامام محمد عبده فى الصياغات العامة وغير المحددة. فإذا كان محمد عبده قد جعل العقل يحتل الأصلين الأول والثانى ضمن أصول الإسلام فى الإيمان والتشريع، فإن محمود شلتوت يتحدث فى كتابه من توجيهات الإسلام عن الإسلام دين العقل والعلم ودين الواقع والحقائق. ويردد نفس المقولة فى الفتاوى عن قيمة العقل (من توجيهات الإسلام: 236،176،140،18، الفتاوي: 332) وتحت هذا الشعار تزدحم كتبه وفتاويه بالأحاديث التى ينتقيها موافقة للقرآن ومنهجه العقلى، وذلك بدرجة أكبر مما نراها فى كتابات محمد عبده، وفى المقابل، فإذا كان محمد عبده يبتعد عن أسلوب التكفير ويجادل النصارى والملحدين بالتى هى أحسن، نرى شلتوت فى الفتاوى يحكم بكفر من يفعل كذا وكذا بنفس طريقة الفقهاء فى العصور الوسطي.
وإذا كان محمد عبده قد أعلنها صريحة فى أن النبى لا يعلم الغيب فإن الشيخ شلتوت تحاشى ذلك الإعلان، واكتفى بين سطور الفتاوى بعدم الاعتداد بما يقال عن العلاقات الحسية بين الإنس والجن وما يقال من تزاوج بينهما، وحتى لا يصطدم بأحاديث فى البخارى تكرس ذلك الاعتقاد نرى شلتوت يحاول من خلال الفتاوى الإيحاء بأن تلك المقولات عن علاقات الإنس والجن مجرد فتاوى فقهية كانت للتدريب النظرى، فحسب ثم يدعو فى النهاية على استحياء إلى الرجوع إلى القرآن (الفتاوى 19: 21)
أى أن مساحة التنوير تناقصت لدى شلتوت عما كانت عليه عند محمد عبده بسبب تسيد المنهج السلفى وغلبته، لذلك تضاءلت بالتالى تفصيلات التنوير لدى الشيخ شلتوت وتناقصت طرديا مع علو النفوذ السلفى على الحياة الدينية. ولذلك لا تعجب حين تعرف أن الشيخ شلتوت لم ينج من الاضطهاد، حتى حين كان مديرا لمكتب شيخ الأزهر المراغي. وأنه كتب أهم واجرأ مؤلفاته بعد أن أصبح شيخا للأزهر، ومع ذلك فلم تنج هذه المؤلفات من امتعاض الشيوخ، ومن الطبيعى أن يسوء الحال أكثر بعد عصر شلتوت وعبد الناصر، حين تحالف السادات مع الإخوان والسعوديين وفتح الباب واسعا أمامهم ليسيطروا على المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية.. وهذا ما كان كاتب هذه السطور شاهدا عليه وأصبح جزءا من تاريخه النضالي. وذلك يستحق لمحة سريعة..
منهج ما بعد شلتوت
1- كان الدكتور محمد البهى (توفى فى حدود 1980م ) أبرز دعائم المدرسة التنويرية بعد الشيخ شلتوت وهو الذى نشر مؤلفات شلتوت حين كان مديرا عاما للثقافة الإسلامية فى الأزهر، وقد عبر عن تضامنه وتفاعله مع هذه الاستنارة فى أعماله حين كان مديرا لجامعة الأزهر أو وزيرا للأوقاف، وفى مؤلفاته وأهمها عن منهج القرآن فى تطوير المجتمع. وفى نفس الوقت فإن الدكتور محمد البهى كان فى بعثة الشيخ محمد عبده إلى الجامعات الالمانية سنة 1931 وقد حملت هذه البعثة إسم الإمام محمد عبده تيمنا باسمه، وعاد محمد البهى يحمل دكتوراه الفلسفه وعلم النفس من جامعتى هامبورج وبرلين. وكان ذلك أثناء مشيخة الشيخ الظواهرى الذى وضع قانون إصلاح الأزهر سنة 1930 وكان الظواهرى والمراغى من مدرسة محمدعبده فى إصلاح الأزهر، ذلك الإصلاح الذى توجه فى الأغلب إلى الشكل دون المضمون والمنهج، ولايزال حتى الآن أى نفس المنهج القديم الذى لم يجرؤ محمد عبده على الاصطدام به مكتفيا بالعبارات العامة، وكان أول من اصطدم بالمنهج القديم العتيد هو كاتب هذه السطور.
2- بدأ ذلك بالمنهج الذى اتبعه كاتب هذه السطور فى بحث الدكتوراه وكان عن أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى، وفيه بحث الحياة المصرية سياسيا ودينيا واجتماعيا وثقافيا من خلال تأثير التصوف فيها واستقال المشرف على البحث وكشف للشيوخ المنهج الذى اتبعه المؤلف، فبدأت حروب الشيوخ ضد المؤلف وكان وقتها مدرسا مساعدا فى قسم التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية بكلية اللغة العربية بالقاهرة جامعة الأزهر، واستمرت تلك الحرب ثلاث سنوات (1977 - 1980) وانتهت بحل وسط، وهو حذف ثلثى الرسالة ومناقشة الثلث فقط، وهو الذى يتعرض لأثر التصوف السياسى والاجتماعى والثقافى والعلمى، وخلال مراحل هذه الحرب لجأ المؤلف إلى الدكتور محمد البهى، وكان فى عزلته بعيدا عن مشاكل الجامعة، وعرض عليه أن يتولى الإشراف على الرسالة باعتباره البقية الصالحة من مدرسة التنوير فى الأزهر، واعتذر الدكتور البهى بلباقة وأشار على المؤلف بترشيح واحد من اثنين من تلامذته وقد سبق أن أرسلهما إلى ألمانيا حيث حصلا منها على الدكتوراه، وهما د.محمود زقزوق (جامعة ميونخ) ود. محمد عبد الغنى شامه (جامعة برلين الغربية) وأوصاهما الدكتور محمد البهى بالباحث خبرا.
وفعلا ذهب المؤلف إلى د. محمود زقزوق وكان يعمل وقتها عميدا لكلية الدعوة ، ولكن الدكتور زقزوق آثر السلامة فاعتذر، وحينئذ لم يبق للباحث إلا أن يلجأ لرفيقه الآخر د.محمد عبد الغنى شامة الذى استجاب وتشيع على المغامرة ولكن الشيوخ رفضوا إشرافه على الرسالة، وأسندوا الإشراف عليها إلى اثنين من الشيوخ معا..
وتلك لمحة سريعة يبدو منها التضاؤل الهائل فى حجم وعمق المدرسة التنويرية فى مصر فى عصر السادات، وازداد التضاؤل بزدياد النفوذ السعودى فى مصر، بحيث تبلورت مواقف كثيرة، حتى أن المتعصبين للتصوف أصبحوا متعصبين ضده حبا فى البترودولر وفى الريال السعودي.
منهج مدرسة التنوير التونسية
بين ابن عاشور ومحمد عبده:
1- لا مفر من الاعتراف بأن هذه الورقة البحثية تعانى من نقص حاد فى المراجع التونسية، خصوصا تفسير التحرير والتنوير للشيخ الطاهر ابن عاشور، وكل ما اعتمدت عليه هذه الورقة هو كتاب وحيد للشيخ ابن عاشور وهو أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام بالاضافة إلى كتابين أحدهما عن ندوة أقيمت حول اسهامات الشيخ الطاهر بن عاشور فى تجديد الفكر الدينى، وهى رقم (9) من سلسلة آفاق إسلامية، بالاضافة إلى العدد الأول من هذه السلسلة وكان عن الوسطية والتيسير فى الإسلام.
وقد يكون بعض الإسهاب السابق فى المدرسة التنويرية المصرية معينا على توضيح بعض النقاط الغائبة فى توصيف المدرسة التنويرية التونسية، ولكن أرجو أن يتاح الوقت للاطلاع الكافى على المصادر التونسية لإعطاء صورة متكاملة فى بحث متكامل يضع كل النقاط فوق كل الحروف
لقد تحدثت المصادر التونسية لدينا عن لقاء ابن عاشور بالشيخ محمد عبده وتأثره به.
فالدكتور على الشابى يلاحظ اتساق الخطاب الإصلاحى للشيخ ابن عاشور مع الحركة الإصلاحية الإسلامية خارج تونس وداخلها، وهو يركز على تفاعل ابن عاشور مع الشيخ محمد عبده حين زار تونس للمرة الثانية سنة 1903 ويعطى بعض أمثلة للتشابه فى الآراء بينهما فى تقييد تعدد الزوجات وإصلاح حال المرأة ومحاولة إصلاح التعليم الدينى وكيف هب الشيخ ابن عاشور للدفاع عن محمد عبده حين هوجم بسبب الفتوى الترنسفالية.
ويؤكد عبد العزيز يوسف والحبيب الشعبيى ذلك التفاعل بين المدرسة الاصلاحية المستنيرة فى تونس وبين محمد عبده حين زارها ويؤكد الشعبيى ذلك التفاعل حين يتحدث عن معاناة ابن عاشور من المتزمتين حين أراد إصلاح التعليم الزيتونى، وكيف كان إبن عاشور يسخر منهم، وهذا يذكرنا بمعاناه محمد عبده من شيوخ الأزهر المتزمتين، وكيف كان يسخر منهم، وفى حوار بين الشيخ محمد عبده والشيخ البحيرى قال البحيرى عن تعليم الطلاب: إننا نعلمهم كما تعلمنا، فقال الإمام محمد عبده وهذا الذى أخاف منه، فقال البحيرى، ألم تتعلم أنت فى الأزهر؟ وقد بلغت مابلغت من مراقى العلم وصرت فيه العلم الفرد فأجابه محمد عبده إن كان لى من العلم الصحيح الذى تذكر فإننى لم أحصله إلا بعدما مكثت عشر سنين اكنس من دماغى مما علق فيه من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة (سلسلة آفاق إسلامية: ندوة الطاهر بن عاشور: رقم (9) 42،35،33،- 362،160، 367 381) (سلسلة الاعمال الكاملة للامام محمد عبده 179،178،3).
ومن الطبيعى أن يؤثر هذا التواصل والتفاعل بين محمد عبده وابن عاشور على منهج الأخير ونظرته للقرآن والحديث والتراث مع التأكيد بأن منهج ابن عاشور - حسب مالدينا من مصادر - قد احتوى على بعض التغيير الذى تميزت به المدرسة التونسية المستنيرة عن نظريتها المصرية، نظرا لاختلاف الظروف التونسية عن الظروف المصرية، التى اسلفنا الحديث عنها.
منهج ابن عاشور فى التفسير والحديث:
(1) وقد أوجز الدكتور على الشابى منهج ابن عاشور فى التفسير، فهو يقرأ القرآن قراءة لغوية وقراءة مقاصدية تتحقق بها المصلحة التى تتغير باختلاف الزمان والمكان ودرجة تطور المجتمع.
وهناك تفصيلات آخرى فى الحديث عن منهج ابن عاشور فى التفسير، فيرى محمد المهدى العروسى أن ابن عاشور يعتمد التفسير بالرأى ويدعو إليه، ولكن يقرنه بالأساليب الاجتهادية التى تعتمد أساسا على اللغة العربية وعلومها، كما أن الشعيبى قد أورد رؤية الشيخ فى إصلاح علم التفسير، وهى تفسير النص القرآنى بمفاهيم اللغة الحقيقية ودلالات الألفاظ وعلوم البلاغة، وإنه لا يؤخذ من أقوال السلف إلا ما يوافق الأصول الدينية الثابتة، وتجنب الدعاية الحزبية والمذهبية، والاقتصار على تبين المعنى والاقتصار على استنباط المقاصد ودقائق الآيات.
(2) وبالنسبة للروايات، ترى وسيلة بلعيد أن الشيخ كان يعنى بتمحيصها ونقدها ويختار أقربها للصحة وفق مناهج المحدثين، أما الشعيبى فقد تحدث عن اهتمام الشيخ بنفد سلاسل الرواة والعنعنة مع ضرورة نقد المتن، وإنه اقترح إلغاء الأحاديث الضعيفة، والاكتفاء بذكر الراوى من الصحابة، والاهتمام بما يستنبط من الحديث (سلسلة أفاق إسلامية: رقم (9): 44، 245، 247، 253، 388، 138 - 389)
دور الشيخ خضر حسين:
(1) والواضح مما سبق أن الشيخ ابن عاشور سار فى نفس المنهج الإصلاحى التقليدى، نفس الطريق الذى سارت فيه الحركة الإصلاحية فى منتصف القرن العشرين، وذلك بعد التأثير الذى انعطفت به هذه الحركة بالحركة الوهابية ودعاتها، من أبرزهم رشيد رضا. ورأينا كيف تأثرت المدرسة المصرية بهذا التغيير، وكيف حمل الشيخ شلتوت ذلك التأثر فى منهجه، ومن المنطقى أن يصل ذلك التأثير إلى تونس، ليس فقط بحكم الصلة بين البلدين، ولكن أيضا لأن هذه الصلة توثقت بين المدرستين بوجود الشيخ خضر حسين التونسى الأصل فى إمامة ومشيخة الأزهر، فيما بين (1952 - 1954)
ومع أن الشيخ محمد حضر حسين لا ترشحه مؤلفاته لكى يكون علما فى مدرسة التنوير شأن شلتوت وابن عاشور إلا أنه كان حلقة وصل نشطة بين المدرستين المصرية والتونسية، إذ درس فى الزيتونة وفى الأزهر، وعمل فى الزيتونة مدرسا، ثم عمل فى تونس قاضيا، وبعدها عاد إلى مصر ليرأس تحرير مجلة الأزهر، ثم يلتحق بعضوية جماعة كبار العلماء، إلى أن اختير شيخا للأزهر.
وهذا التنقل بين مصر وتونس عززه نشاط الشيخ خضر السياسى حين كان ينتقل منددا بالاستعمار الأوربى لبلاد المسلمين، وحين كان يدعو إلى نبذ الخلاف بين المسلمين من أجل الوقوف ضد الاستعمار.
وذلك الشيخ التونسى الذى أحرز شهرة فى مصر والعالم الإسلامى كان أقرب للسلفية منه إلى الإستنارة فقد وصل إلى أعلى منصب فى الأزهر بفكره السلفى الصوفى، وبهجومه على الشيوخ المستنيرين فى مصر، فللشيخ خضر كتابان هامان وهما نقض كتاب الشعر الجاهلى يهاجم فيه د. طه حسين، وكتاب نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم يهاجم فيه الشيخ على عبد الرازق.
كما أن مواقفه السياسية التى تبدو متحررة كانت مغلقة بالتوجه السلفى إذ كان من أشد المؤيدين لاشتغال رجل الدين بالسياسة لأن الأمة لا تتقدم إلا بعلمائها وهى نفس دعوة رشيد رضا إلى الدولة الدينية، أو خطوة نحو تحقيق هذا المشروع، ولذلك نراه قد غضب من الرئيس عبد الناصر حين ألغى المحاكم الشرعية وحين تفجر خلافه مع الإخوان المسلمين.
(2) ولا يمكن إغفال الأثر الذى أحدثه الشيخ خضر حسين فى الربط الفكرى بين مدرستى تونس ومصر، كما لا يمكن إغفال التأثير السلفى لهذا الشيخ على المدرسة التونسية، خصوصا بعد أن أصبح شخصية مشهورة فى مصر وتونس والعالم الإسلامى، وهذا التأثير لم يكن يشجع الشيخ بن عاشور على أن يقترب من القمة التى وصل إليها محمد عبده من قبل فى المنهج وفى الجرأة، هذا بالإضافة إلى أن النشأة الاجتماعية للشيخ الطاهر نفسه توضح إنه كان سليل بيت أصولى عريق، تتردد فى جنباته علوم التراث (المقدسة) من تفسير وحديث، وقد تفتحت عيونه ومعارفه على ذلك التراث الذى أصبح جزءا من مكانة الأسرة اجتماعيا. وقد يكون سهلا على الإمام عبده أن يطيح بما أسماه وساخات الأزهر لأن محمد عبده نشأ فى أسرة ريفية مصرية عادية، فهو ليس له حسب أو نسب فى الارستقراطية الدينية بالقاهرة، ولكن ليس سهلا على سليل أسرة دينية متخصصة فى علوم الدين أن يقوم أحد أبنائها بنسف ذلك التراث مرة واحدة. وهنا يمكن أن تتحدد ملامح المنهج الإصلاحى والفكر التنويرى فى الإصلاح التقليدى للموروث طبقا لما كان عليه الحال فى عصور الاجتهاد فى القرنين الثانى والثالث من الهجرة، أى نقد الروايات والإعلاء من شأن الرأى والعقل. وهذا بالضبط أساس المنهج الفكرى لابن عاشور، وهو هنا يتفق مع رفيقه محمود شلتوت، بقدر مايبتعد عن رفيقه الآخر محمد خضر حسين.
ونتوقف هنا قسرا بسبب المساحة واعدين بمشيئة الله أن نكمل الحديث
تحت العناوين التالية:
1ـ أثر الطبيعة التونسية وآثر الطبيعة المصرية: بين بن عاشور وشلتوت
2ـ بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
3ـ ملامح الوسطية والتسامح عند محمد عبده
4ـ من ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ الطاهر بن عاشور
5ـ ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ شلتوت
6ـ قضايا المرأة
7ـ فى الموقف من غير المسلمين.
عودة إلى الفهرس
عدد 67&68 ديسمبر - يناير 1999-2000
بعض مراتب ومراحل الاستنارة الدينية الحديثة فى الإسلام
(2 من 2)
رؤية إسلامية
د. أحمد صبحى منصور
ملخص ما سبق نشره
فى مقدمة الجزء الأول من بحثه القيم عن 'بعض مراتب الاستنارة الحديثة فى الإسلام' استعرض د. أحمد صبحى منصور بعض المفاهيم الأساسية اللازمة لليمييز بين مفهومى الدين والتدين, ثم تطرق إلى استعراض مدرسة الاستنارة الدينية, فى مصر وتونس فى القرن العشرين بادئا بشرح الأرضية التاريخية. ثم قدم شرحا لمنهج مدرسة التنوير المصرية مستعرضا منهج الإمام محمد عبده وخلفه الشيخ رشيد رضا مبينا كيف أن الأخير لم يكمل مسيرة الأول , بل لعله عكسها فى أكثر من موضع.
كذلك استعرض الكاتب منهج الشيخ شلتوت وما بعده. كما استعرا منهج مدرسة التنوير التونسية بريادة الشيخ الطاهر ابن عاشور.
وكما قدم لنا موجزا عن منهج ابن عاشور فى التفسير والحديث, أبان لنا دور الشيخ خضر حسين كحلقة وصل نشطة بين المدرستين المصرية والتونسية.
وفى هذا الجزء الثانى يواصل إنارته وإضافاته التى تضعه فى مقام من يؤرخ لهم بإذن الله, وأكثر.
أثر الطبيعة التونسية وأثر الطبيعة المصرية:
بين ابن عاشور وشلتوت
على أنه لا يمكن إغفال عامل آخر كان له تأثيره على منهج ابن عاشور, وهو الطبيعة التونسية ذاتها التى نراها أكثر وضوحا لدى ابن عاشور منها عند صاحبه خضر حسين. وتتجلى هذه الطبيعة التونسية فى انحيازه لفقة المصلحة أو المصالح المرسلة, وتلك هى القراءة المقاصدية التى أشار إليها دكتور على الشابى عن منهج ابن عاشور فى التفسير.
إننا لا نرى هذا الوضوح فى الانحياز لفقه المصلحة لدى شلتوت, صحيح أنه (شلتوت) كان يتمتع بالمرونة والجرأة على الاجتهاد فى الإطار التقليدي, وصحيح أيضا أنه اضطر لمسايرة النظام الناصرى الاشتراكي, ولكنه ظل فى داخله أزهريا عريقا يكتم غيظه من إصدار عبد الناصر لقانون 103 المشهور لسنة 1961 والذى قضى بتطوير الأزهر أو تأميمه حسبما كان يتناقل الشيوخ وقتها. وعقلية مثل هذه لا تتيح للشيخ شلتوت الانحياز الى فقه المصلحة بنفس الدرجة الى كان عليها ابن عاشور التونسي.
وفى هذا المجال فإنه من الواضح أن شلتوت يقف بين الشيخين التونسيين ابن عاشور وخضر حسين. ومن الواضح أيضا أن العناصر التونسية داخل عقلية ابن عاشور كانت أشد تأثيرا منها عند خضر حسين وان كان حظ العناصر المصرية فى التطور لدى شلتوت معقولة وكافية. وهذا يدخل بنا على الاختلاف الكمى وليس النوعى بين قابلية التطور الفكرى لدى المدرستين المصرية والتونسية, وهى المقارنة التى كانت تتردد فى حديث الإمام محمد عبده فى تونس.
فالملاحظ أن مصر احتاجت الى حملة نابليون لكى تخرج من فكر العصور الوسطى إلى العصر الحديث, ولكن تونس القريبة جدا من قلب أوربا النابض لم تكن محتاجة لحمله عسكرية, لذا كانت مبادرة أحمد باى (1806 - 1859) بالإصلاح الذى بدأ عسكريا ثم امتد الى التعليم فى الزيتونة حين أصدر منشور (1842) كما أقام إصلاحا سياسيا بإصدار قانون أو 'عهد الأمان' كأول وثيقة لحقوق الانسان فى البلاد الإسلامية, وقد وفق فيها بين الشرع الإسلامى والقانون الوضعي, وهذه الوثيقة هى التى أدت الى إصدار الدستور التونسى (1859م).
وفى هذا المناخ الإصلاحى المستنير (بذاته ومن داخله) نشأ وترعرع الطاهر ابن عاشور (1879 - 1973 م) ثم جاء لقاؤه وتأثره بالشيخ محمد عبده ليتحدد منهجه بين إصلاح واستنارة داخل الإطار التقليدى وجرأة فى الأخذ بفقه المصالح المرسلة بما يتمشى مع المواءمة بين ظاهر النصوص والانفتاح على الغرب الذى يجاور تونس ويكاد يلامس شواطئها.
اختلافها عن الطبيعة المصرية:
وبينما كانت هذه النظرة المتطورة أصيلة فى الطبيعة التونسية فإننا نجد اختلافا لدى المدرسة المصرية مبعثه الاقتراب الشديد من السعودية وتأثيرها النفطى والاقتصادى على الشيوخ فى الأزهر, وحاجتها الى جعل مصر عمقا استراتيجيا لها فى مواجهة الشيعة داخل وخارج المملكة. وهذا الاقتراب الجغرافى وتلك الحاجة السياسية السعودية أتاحت للنفوذ السعودى والفكر السلفى الانتشار والسيادة على العقلية المصرية, وفى نفس الوقت فإن سهولة الاتصال بالفكر الأوربى وإرساء الفكر الاشتراكى فى العهد الناصرى وخصومة الاشتراكيين للتوجهات الساداتية جعلت اليسار المصرى يقف خصما للتيار السلفى وطموحاته السياسية. وعلى صعيد المنهج الفكرى أدى ذلك الصراع السلفى اليسارى الى نتيجتين سيئتين الأولى تهميش اتجاهات فكرية أخرى مثل الصوفية والقرآنيين, و ما يعنيه ذلك من تأكيد الاستقطاب بين معسكرين فقط, الأصولى والعلماني, واجهاض محاولات الفكر القرآنى ومنهجيته فى الاصلاح والتنوير. والنتيجة الثانية هى اعتناق اليسار الإسلامى لفقه المصلحة ردا على تطرف الفكر السلفى المصرى فى الجمود والرجعية.
بعض ملامح الاستنارة الدينية بين المدرستين المصرية والتونسية
1) بعد التعرف على الأرضية التاريخية والمنهج العلمى لدى المدرستين نأتى لبعض تفصيلات الاستنارة فيهما. ولايتسع المجال هنا إلا للتعرض السريع لبعض عينات تتحدث عن الوسطية والاعتدال ولمحات أخرى عن نظرة المدرستين لقضايا المرأة وأهل الكتاب.
2) والمعروف لدى الفقهاء المتزمتين أن المرأة يجب تعليبها داخل الحجاب والنقاب, وإيداعها داخل البيت, ويتسلمها الزوج من أهلها 'بضاعة مزجاة' يستعملها حيث يشاء داخل بيته, وبين بيت الأهل وبيت الزوج, ليس لها الخروج إلا مرتين, عند الزفاف وعند الموت!!
أما أهل الكتاب, فإذا كانوا معنا فهم أهل ذمة. ومهما يقال فى حقوقهم فهم فى نهاية الأمر مواطنون من الدرجة الثانية أو العاشرة. أما إذا كانوا خارج الحدود فهم غالبا - حربيون, ليس لهم إلا السيف أو الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية إذا كان المسلمون أقوياء.
3) وتشريع القرآن يخالف ذلك كله, ولكن فهم تشريع القرآن يعنى أن تتدبر القرآن وتقرأه بمنهج قرآني, أى أن تقرأ القرآن بمفاهيم القرآن ومصطلحات القرآن ولغة القرآن وليس بمفاهيم التراث ومصطلحاته ولغته وأيضا من خلال فهم منهج القرآن فى التشريع.. وذلك موضوع شرحه يطول.
4) ومقدار الاستنارة لدى شيوخ المدرستين مرهون بمدى اقترابهم من ذلك المنهج القرآنى وبمقدار الابتعاد عن روايات التراث. فكل التعصب والتطرف ومفاهيم العصور الوسطى تجدها فى التراث, فهو أصدق ما يعبر عن تلك العصور, بينما يؤكد المنهج القرآنى صلاحية التشريع القرآنى لكل زمان ومكان.
من ملامح الوسطية والتسامح عند محمد عبده:
1) من الصعب تتبع هذا الباب فى فكر الإمام أو حتى فى مواقفه, ولكن نكتفى بالإشارة الى بعض عينات من تفسير المنار ومن كتاب الإسلام بين العلم والمدنية.
2) فى الكتاب الأخير يجعل الأصل الثامن من أصول الإسلام 'الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة' وهو عنوان يوحى بالقصد والاعتدال والتوازان بين الدنيا والآخرة, وبين الدين والدنيا, ولكنه جاء بكلام عجيب يرعب الفقيه السلفى فى عصرنا, فعن 'الصحة ' يقول 'الحياة فى الإسلام مـقدمة على الدين' وهى عبارة خطيرة لا يدرك خطورتها إلا من يعرف سادية الفقه السلفى وحبه الشديد لسفك الدماء فى مقابل الحرص الشديد فى تشريع القرآن على الحياه وحرمة النفس الزكية. ولكن يعنينا هنا أن محمد عبده يخلط بذكاء بين الوسطية والتسامح, ونراه يتعرض للرخص والتيسير فى الصوم والوضوء والغسل والصلاة والزينة والطيبات وفى الاقتصاد, وفى نهى القرآن عن الغلو فى الدين, ويقول 'فترى أن الإسلام لم يبخس الحواس حقها كما أنه هيأ الروح لبلوغ كمالها' ويرى أهمية الجمع بين التمتع بالحياة الدنيا والرغبة فى نعيم الآخرة, ويقرن ذلك بالعمل الصالح الذى لا يجعله مقتصرا على العبادة بل يشمل العلم والتقدم والرفعة (الإسلام بين العلم والمدنية 119 وما بعدها).
3) ومن تفسير الأمام فى المنار نأخذ عينات آخري.
فى تعليقه على قوله تعالى 'وكذلك جعلناكم أمة وسطا' يرى محمد عبده أن الوسط هو العدل والخيار, لأن الزيادة على المطلوب فى الأمر إفراط والنقص عنه تفريط وتقصير, وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الاستقامة, فهو شر ومذموم ثم يقول أن الإسلام قد جمع بين الحقين, حق الروح وحق الجسد, فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطا تعرفون الحقين وتبلغون الكمالين; لتكونوا شهداء بالحق على الناس, الذين اهتموا بالجسم وفرطوا فى الدين, والروحانيين الذين أفرطوا وكانوا من الغالين. (المنار: 4/2: 5) ومن المتوقع أن ينفعل الشيخ الطاهر ابن عاشور بهذا الوجه السمح لشيخه الإمام محمد عبده.
من ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ الطاهر ابن عاشور:
1) فى كتابه 'أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام' لابن عاشور تعرض للوسطية أو الاعتدال وللسماحة. ونراه فى موضوع الوسطية والاعتدال يبنى ويفرع ويفصل فى رأى الامام محمد عبده دون أن يشير إليه صراحة مكتفيا بقوله 'لقد تصفحت كلام فلاسفتنا وأساتذتهم.. فكانت خلاصة أبحاثهم.. أن قوام الصفات الفاضلة والفطرة السليمة هو الاعتدال فى الامور وأن النزوع إلى طرفى الغلو والتقصير أو الافراط والتفريط إنما ينشأ عن إنحراف فى الفطرة..'
وقد يقال أن الشيخ الطاهر قد كتب هذا الكلام وفى ذهنه عبارة أرسطو المشهورة أن الفضيلة وسط بين رذيلتين (فالشجاعة وسط بين رذيلتى التهور والجبن, والكرم وسط بين الإسراف والشح) ولكن الواضح فى سياق حديث ابن عاشور أنه يقترب أكثر من شيخه محمد عبده, حين يرى أن الاعتدال هو الكمال وهو إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص, وهو ينشأ عن معرفة حقائق الأشياء, أى الحكمة المشار إليها فى القرآن. ويقرن الإعتدال بالتوسط, بعد أن نبهنا إلى صلة الإعتدال بالعدل, ويجعل التوسط من أوصاف الإسلام الثابتة مستدلا بقوله تعالى 'وكذلك جعلناكم أمة وسطا'
2) إلا أن الشيخ الطاهر تفنن وأبدع فى شرح التوسط والإعتدال لغويا ونفسيا واجتماعيا.
يقول (كأنه يقوم بتشريح المتطرفين فى عصرنا نفسيا واجتماعيا) أن الغلو فى الغالب يبتكره أصحاب الطموح إلى السيادة أو القيادة, وذلك بالتظاهر بالمقدرة ولابهار الأتباع والأعوان لينقادوا لهم. وهذا الغلو أو الإفراط (أو التطرف) يقابله تفريط وتقصير, وهو من شيم الأتباع المنقادين, أهل النفوس الضئيلة.
وبعد هذا التفسير السيكولوجى النفسى يتوقف الشيخ مع معنى الوسط, ولا يكتفى بما يقال عن الوسط بأنه العدل ولكنه يرجع الى اشتقاقات اللغة ودروبها لنعرف أن معنى الوسط هو الشيء المتوسط بين شيئين, ولأنه اسم قبل أن يكون وصفا فقد استوى فى الوصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه بمنزلة المصدر وأعرق منه فى الجمود, ولذلك جرى وصفه فى آيه ' وكذلك جعلناكم أمة وسطا' للأمة بدون علامة تأنيث, واستشهد بشعر زهير القائل:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالى بمعظم.
معنى 'وسط' هنا عدول حكماء. وذلك معنى قوله تعالى 'قال أوسطهم' أى أعلمهم وأعدلهم. وبعد هذا الفيض اللغوى الأدبى يدخل ابن عاشور فى ذم التطرف مستشهدا بقوله تعالى 'قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين' فالتكلف هو تجاوز الحد كما تشعر به مادة التفعل.
3) وكما مزج محمد عبده بين التوسط والتسامح, نرى ابن عاشور يقرر أن السماحة وسط بين الشدة والتساهل, وكعادته فى التأصيل اللغوى يقرر أن لفظ السماحة أرشق لفظ يدل على هذا المعني, ويؤكد هذا الاتجاه بمرويات الأحاديث. وبنفس المرويات بربط السماحة بالتيسير المعتدل أو بيسر الإسلام, ويؤكد ذلك بآيات القرآن 'يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر' ويقرر أن استقراء الشريعة يدل على أن التيسير أصل فى تشريع الإسلام, وقال إن السماحة أكمل وصف لاطمئنان النفس وأعون على قبول الهدى والإرشاد, ثم أن لها أثرا فى سرعة انتشار الشريعة وطول دوامها, كما أن الشدة فى بعض الأديان تجعل الناس ينصرفون عنها أو يفرطون فى تأدية مناسكها, فاذا أرغمهم سلطان جائر على تأدية تلك المناسك فان ذلك يصل بهم إلى الشقاء ويجعلهم يتصفون بأسوأ الخصال, ثم يعود لتأكيد صلة السماحة بأحكام الإسلام مستشهدا بقوله تعالى 'فمن اضطر غير باع ولا عاد فلا إثم عليه' وبحديث 'إن الله يحب أن تؤتى رخصه..' والقاعدة الفقهية القائلة 'المشقة تجلب التيسر'
4) ثم يعود ابن عاشور فى نفس الكتاب للحديث عن 'التسامح' بعد أن تحدث عن 'السماحة '. وبملكته اللغوية الفريدة يضع مفهوم التسامح أى إبداء السماحة القوية لأن صيغة التفاعل هنا ليس لها جانبان, فيتعين أن يكون المراد بها المبالغة فى الفعل مثل قولك 'عافاك الله', وقد فضل مصطلح 'التسامح ' على مصطلح 'التساهل' الذى يؤذن بقلة تمسك المسلم بدينه, ويرى أن مصطلح التسامح يعنى التسامح مع المخالفين للمسلين فى الدين, ويناقش الاتهام الموجه للمسلمين بعدم التسامح ويرى أنه رد فعل لتعصب الآخرين واستغلالهم لتسامح المسلمين إلا أنه لا يتوقف كثيرا مع هذا الرأى ويأخذ فى تحليل فضيلة التسامح من وجهة نظره, فالمتدين الذى يحب دينه يجعله ذلك الحب متعصبا لدينه ضد الأديان الأخرى وأصحابها انطلاقا من كون الدين - فى تاريخ البشر - جامعة مانعة, واستشهد بما كان يفعله الغالب من فرض دينه على المغلوب وبإيذاء قريش للنبى محمد (ص) وأصحابه. وأما الإسلام فقد جعل الدين جامعة عظمى لأصحابه, إلا إنه لم يجعل تلك الجامعة سببا للاعتداء على الآخرين, إذ جعل التسامح أصلا من أصوله, ويؤكد أن التسامح الإسلامى وليد إصلاح التفكير ومكارم الأخلاق, وهما من أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام. فالفكر الصحيح الصالح يؤدى إلى العقيدة الحقة الموثوق فيها والتى لا يخشى عليها من العقائد الأخرى ولا تحتاج إلى دفاع أو تأويل أو تعصب فى هذا السبيل, بعكس العقائد الهشة والزائفة التى لا تقوى أمام الحجة, ولا تستطيع أن تصمد إلا متكأة على تعصب أصحابها ودفاعهم عنها. وفى نفس الوقت فإن كرم الأخلاق يؤدى بصاحبه إلى سعة الصدر فى التعامل مع المخالفين. واستشهد بآيات القرآن التى تعزز من ثقة المؤمن فى دينه, وتأمر بحسن التعامل مع المخالفين فى الرأي, وانتهى من ذلك الى أن التسامح أشهر مميزات الإسلام وأنه من النعم التى أنعم الله تعالى بها على أعدائه وبها كان الإسلام رحمة للعالمين.
5) ويصل الشيخ ابن عاشور فى تحليله الى أن للتسامح الإسلامى أسسا راسخة, ترتكز على قاعدة فكرية نفسية هى أن الاختلاف الفكرى طبيعة بشرية وسنة الله فى خلقه, وينبغى التعامل معه على هذا الأساس. وإذا كان الإسلام قد دعا إلى الوحدة الدينية, إلا إنه لم يدع أتباعه إلى مناوأة غير المسلمين, بل دعا إلى حسن التعامل معهم. ولذلك فإن التسامح الإسلامى يظهر فى مواطن يعتاد التعصب أن يشتد فيها. فالعادة أن التعصب الدينى يشتعل فى المعاملات الناشئة عن التخالف الدينى مثل المشاكسات فى الهند عندنا يذبح المسلمون البقرة التى يعبدها الهندوس, كما ينشأ فى المعاملات الدنيوية, وما تؤدى إليه منه مشاحنات وتنافس سرعان ما تتحول بالتعصب الدينى إلى أزمات وكوارث.
وعن المظهر الأول الذى يتحول فى الإسلام الى تسامح, استشهد الشيخ بقوله تعالى 'ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم..' وبحديث 'لا تخيرونى على موسي..' وعن المظهر الثانى استشهد بقوله تعالى 'ووصينا الانسان بوالديه حسنا, وإن جاهداك على أن تشرك بى ماليس لك به علم فلا تطعهما' واستشهد بإباحة المصاهرة مع أهل الكتاب, ومعاملة الصحبة والبر والقسط مع الذين لم يقاتلوا المسلمين فى دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم.
وفى النهاية عزز رأيه بشواهد تاريخية من تسامح المسلمين مع غير المسلمين من نصاري, مجوس وأقباط وصائبة, وكيف أسهم هؤلاء فى الحركة العلمية وكيف شاركهم المسلمون فى أعيادهم, وهى نماذج انفردت بها الحضارة الإسلامية. (أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام: 23 وما بعدها, 226 وما بعدها).
ملامح الوسطية والتسامح عند الشيخ شلتوت
1) يسير الشيخ شلتوت فى كتابه 'من توجيهات الإسلام' على نفس النسق الذى سار عليه شيخه الإمام محمد عبده فى كتابه 'الإسلام بين العلم والمدنية' فالشيخ شلتوت تحت عنوان 'يسر الدين وسماحته' يتحدث عن اعتدال الإسلام 'فى مصادرة الحقة' وابتعاده عن الإفراط والتفريط. ثم يؤكد من خلال الآيات القرآنية على الأساس العام للتشريعات, وهو اليسر لا العسر ورفع الحرج وعدم تكليف النفس إلا وسعها, ثم يسير مع التشريعات الجزئية فى الاعتقاد والعبادات وما فيها من رخص (جمع رخصة), ورفع للمشقة فى الصوم والطهارة والصلاة.
2) ثم يعود الشيخ إلى التوسع فى الموضوع تحت عنوان 'الروحية المهذبة: لا تبتل ولا تكالب على الدنيا' ليتحدث عن منهج الإسلام فى تكوين الفرد, وهو نفس الموضوع الذى انشغل به الطاهر ابن عاشور فى كتابه 'أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام' وتقترب المسافة بين الشيخين حين يتحدث شلتوت عن تكوين الفرد المسلم على أساسين: تحديد علاقته بالدنيا وإحياء شعوره بالوحدة الإيمانية والوحدة الوطنية الخاصة والوحدة الإنسانية العامة. وعن تحديد علاقة المسلم بالدنيا يناقش الشيخ شلتوت أعداء الدنيا من الزهاد, ليؤكد لهم أن الرهبانية تعطيل لأسرار الله تعالى فى الإنسان والكون, كما يناقش المتكالبين على الدنيا بأدلة قرآنية وتاريخية واجتماعية. ثم يشير إلى عناية الإسلام بتهذيب الروح بالفكر والذكر والمزاوجة بين حظوظ الجسم والروح, ثم يهاجم الذين يحرمون الطيبات كما يهاجم الذين يخرجون عن الاعتدال فى التمتع بزينه الحياة (من توجيهات الإسلام: 21, 116ـ 135).
3) وعكست فتاوى الشيخ شلتوت جانبا من هذا التوسط والاعتدال والتيسير, فقد أكد فى الفتاوى أن مصافحة المرأة لا تنقض الوضوء تأسيسا على أن معنى الملامسة هو المخالطة الجنسية وعلى أن الآية تختم بالتيسير وعدم المشقة والحرج. كما أفتى بصحة الصلاة بالبرنيطة أو القبعة التى يرتديها الغربيون. وأكد عدم تحريم سوى الأربعة أطعمة المذكورة فى القرآن (الميتة,الدم, لحم الخنزير, ما أهـل بغير الله به) ورأى أن الأحاديث التى اعتمد عليها الفقهاء فى تحريم أشياء آخرى ليس دليلا كافيا للتحريم, وقد تفيد الكراهة, ولكن لا تفيد التحريم. وعن صبغ الشعر وما أثير عن تحريمه, رأى الشيخ شلتوت أنه من الشئون البشرية التى لا يحتمها أو يمنعها الدين, وأنهى بذلك الاشتباكات والتضارب بين الأحادث وتحت عنوان 'الشريعة تـنـظـم الغريزة' ناقش حكم الشرع فى الغناء والموسيقي, وبعد استعراض تاريخى واجتماعى وفقهي, انتهى إلى أن الأصل هو الحلال فى سماع الموسيقي, وأن التحريم فيه عارض أى إذا اسـتعين به على محرم, ثم ختم حديثه بالتحذير من الإفتاء الجزافى فى التحليل والتحريم.
وبنفس المنهج سار الشيخ مع ختان الأنثي, فأشار إلى تاريخه والصراع الفقهى بشأنه وأفتى فى النهاية بأن الختان لا يخضع لنص منقول وإنما يخضع لقاعدة شرعية عامة, وهى أن إيلام الحى لا يجوز شرعا إلا لمصالح تعود عليه وتربو على الألم الذى يلحقه, وعليه فهو يرى أن ختان الأنثى ليس هناك ما يدعو اليه أو يحتمه لا شرعا ولا خلقا ولا طـبا. وحتى ندرك أهمية هذه الفتوى منذ نصف قرن تقريبا, علينا أن نتذكر فتوى سامة أعلنها شيخ الأزهر السابق جاد الحق وهى إعلان الحرب المسلحة على كل من يمنع ختان الأنثي, وذلك إثر الجدال الذى احتدم فى مصر منذ سنوات حول مشروعية الختان. (راجع الفتاوى للشيخ شلتوت: 78 -, 357,82 -, 379 -, 304-, 306 -).
قضايا المرأة:
نصيب المرأة من الفقة السلفى نفسه يزيد على النصف, أى يزيد على نسبتها فى المجتمع. وهذا يعكس لديهم نوعا من الاختلال الفكرى لا محل لمناقشة مظاهره وأسبابه الان, ولكنها إشارة تؤكد الحجم الهائل لقضايا المرأة واضطرارنا إلى الاكتفاء بعينات منها فى فقه شيوخ الاستنارة بين مصر وتونس.
محمدعبده وقضية المساواة بين المرأة والرجل:
فى التعليق على قوله تعالى 'ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف'
1) قال الإمام محمد عبده أنها قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل فى جميع الحقوق إلا أمرا واحدا عبر عنه بقوله 'وللرجال عليهن درجة' وقال إن المراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء, فهما متماثلان فى الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل, أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مـصـالـحـة وقلب يحب ما يلائمه, فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدأ, ولاسيما بعد عقد الزوجية.. وقال محمد عبده: هذه الدرجة التى رفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق, بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام وبعده. وهذه الأمم الأوربية التى حفزتها حضارتها على المبالغة فى تكريم النساء واحترامهن وتعليمهن, لا تزال دون هذه الدرجة التى رفع الإسلام النساء اليها. ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف فى مالها بدون إذن زوجها, ومع ذلك فإن أولئك الافرنج يفخرون علينا فى إعلان شأن النساء..
2) ويؤكد محمد عبده على المساواة أيضا فى تعليقه على قوله تعالى 'فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أثنى بعضكم من بعض' ويرى أنه لا فارق بين المرأة والرجل فى البشرية ولا تفاضل بينهما إلا بالأعمال وكرر نفس اللفتة عن سبق الإسلام للأوروبيين وأشار الإمام إلى أن الله تعالى لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى أوضح أن العمل هو الذى يستحقون به ماطلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة فقال 'فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم...' (المنار: 250,4,297,2).
قضية المساواة عند الشيخ ابن عاشور
1) إلا أن الشيخ ابن عاشور قد أخذ الخيط من شيخه محمد عبده ليؤكد المساواة بطريقته اللغوية المتفردة, إذ فطن من الآية الكريمة إلى أن صيغ التذكير تشمل النساء, فبعد أن ذكر أنه لا يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو انثى جاء بتوجيه الخطاب للجميع بقوله 'فالذين هاجروا ' فمع أنه الذين يقصد بها الذكور إلا أن الخطاب هنا يشمل النساء, وذلك أكبر دليل على المساواة.
2) والواقع أن المنهج القرآنى هنا يعطى الكثير مما يؤكد المساواة بين الرجال والنساء فى التشريع وفى الطبيعة البشرية. فكلمة 'زوج' فى القرآن يطلقها القرآن على الرجل والمرأة, والسياق هو الذى يحدد المقصود بل أن كلمة زوجة لم تأت مطلقا فى القرآن. كذلك كلمة 'أباؤكم ' فى أية الميراث وغيرها تفيد الرجل والمرأة معا, ومثلها الوالدين والإحسان إليها, تفيد الاثنين معا, وعلى سبيل المساواة فالمرأة أب ووالد, بالمساواة مع الرجل الأب والوالد.
كما أن المنهج القرآنى ينبذ من البداية تلك الروايات (الصحيحة) التى تجعل المرأة ناقصة عقل ودين وأنها تكفر العشير, وأنها خلقت من ضلع أعوج ويظل على عوجه حتى لو كسرته, وأنها فى الشؤم كالدار والفرش وكلها فى البخاري, وتعبر عن ثقافة العصور الوسطى وتعصبها للرجل ضد المرأة
3) ونعود للشيخ ابن عاشور وهو يقيم بحثا رائعا عن المساواة من حيث المعنى اللغوي, وتقيدها فى الشريعة وفى الطبيعة البشرية, وكيف تظهر فى إطار الأخوة الإسلامية وفى تلقى الشريعة والتكليف وكيف تظهر فى تساوى الخلقة البشرية إلا إذا جد مانع, وموانع المساواة عوارض تقتضى إلغاء حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة فى ذلك الإلغاء, وهذه العوارض تنبه إلى أن إجراء المساواة ليس فى صالح العدالة, وقد تكون هذه العوارض دائمة وقد تكون مؤقتة, وجعل من العوارض عدم مساواة غير المسلم من أهل الذمة للمسلم فى بعض الحقوق مثل ولاية المناصب الدينية وفى إرث قريبه المسلم, وفى القصاص له من المسلم وفى قول الشهادة, وعدم مساواة العبد بالحر فى الحدود.. وقسم العوارض المانعة فى المساواة إلى أقسام, موانع جبلية أى طبيعية وشرعية واجتماعية وسياسية.
ومن الموانع الجبلية الطبيعية منع مساواة المرأة للرجل فيما لا تستطيع أن تساويه فيه بموجب الخلقة مثل إمارة الجيش والخلافة عند جميع المسلمين, ومثل القضاء والإمامة وقتال العدو عند جمهور علماء المسلمين, ومثل منع مساواة الرجل للمرأة فى حق كفالة الأبناء الصغار وفى حق النفقة لكون الرجل هو المكتسب للعائلة.. وهذه الموانع قد تتعلق بالأصناف تعلقا ذاتيا كضعف الأنوثة عن تحمل بعض الأعمال الشاقة (أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام: 97 -, 143 -)
قضية زينة المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) يرى الدكتور على الشابى أن زينه المرأة المشكوفة عند الشيخ ابن عاشور زينتان, زينه خلـقية وهى الوجه والكفان أو نصف الذراع والقدمان والشعر وزينه مصطنعة كالحلى والكحل والخضاب واللباس الفاخر, أى الزينة التى لا تؤدى إلى التبرج.
أما محمود شمام فقد أورد بعض آراء الفقهاء السلفيين فى زينة المرأة, ومنعهم من ارتداء المرأة للشعر المستعار اعتمادا على التفسير المشهور لقوله تعالى 'فليغيرن خلق الله' وعلى حديث لعن الواشمات والمستوشمات أو المتوسمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن, المغيرات خلق الله'
ثم جاء بآراء الشيخ الطاهر ابن عاشور فى أن المراد بقوله تعالى 'ولآمرنهم فليغيرين خلق الله', التعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية, وليس من تغيير خلق الله التصرف فى المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل فى معنى الحسن مثل حلق الشعر وتقليم الأظافر وثقب آذان النساء لوضع الأقراط والحلي. وبالنسبة للأحاديث التى تلعن الواصلات للشعر والمتنمصات للحسن, فالغرض منه النهى عن سمات كانت العواهر يتخذنها فى ذلك العهد, أو من سمات المشركات وقتها, وإلا لو فرضنا هذا منهيا عنه لما بلغ النهى الى حد لعن فاعلات ذلك وهن مسلمات محصنات, واستنتج محمود شمام من ذلك أن الشيخ ابن عاشور أفتى بجواز لبس الباروكه وماشابهها وتزجيج الحواجب وتكحيل العيون, لأن هذه الأمور يقصد بها الآن الزينة وليس تغيير خلق الله ولا تبديله. وبرأيه أن المشكلة بذلك قد تم حلها. ومعلوم أن المشكلة هنا هى تفسير سلفي, وأحاديث منسوبة للنبي, وقد تم إبطال مفعولهما مع الحفاظ عليهما لتنفجر كقنبلة موقوتة فى بلاد أخرى غير تونس (راجع: سلسلة أفاق إسلامية رقم (9): 45, 77 - 80).
2) والواقع أن الإمام محمد عبده كان أقرب إلى المنهج القرآنى هنا من تلميذه ابن عاشور, ففى تعليقه على مقالة الشيطان لله تعالى عن بنى آدم 'ولآمرنهم فليغيرن خلق الله' قال: إن المراد بتغيير خلق الله هو تغيير دينه, أى تغيير الفطرة الإنسانية, فالإنسان قد فطره الله تعالى على طلب الحق والإستدلال بما يظهر له من الدليل على أنه الحق والخير (المنار: 35,5).
والواقع أن الإمام محمد عبده تجاهل هنا الإشارة لحديث لعن الواصلات والمتفلجات.. والعجيب أن تلميذه رشيد رضا سار على منواله, وإن كان ما نقله عن الإمام مضطربا إلى حد ما.
3) والمنهج القرآنى كفيل بتوضيح القضية فى بساطة شديدة, فلكى نفهم المعنى القرآنى لكلمة 'ولآمرنهم فليغيرن خلق الله' يرجع الى قوله تعالى 'فأقم وجهك للدين حنيفاrlm; عبده وابن عاشور:
1 - يرى محمد عبده فى المنار أن تعدد الزوجات جاء فى سياق الكلام عن اليتامي, وعند الخوف من عدم العدل فلابد من الالتزام بواحدة فقط, وقال إن الخوف من العدل يصدق بالظن أو بالشك فيه بل يصدق بتوهمه أيضا. ويؤكد الإمام على أن إباحة تعدد الزوجات فى الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التى تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل, وبعد هذه الفتوى الفقهية يتحدث محمد عبده كمصلح اجتماعى فيقول إنه لا يمكن أن تصلح أمة من الأمم فشا فيها تعدد الزوجات لأن البيت الذى فيه زوجتان لزوج واحد لاتستقيم له حال ولا يقوم له نظام, بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت, كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو, فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد الى البيوت ثم إلى الأمة وخلص الإمام إلى أن اشتراط العدل بين الزوجات, وهو شرط صعب تحقيقه يعنى النهى عن التعدد (المنار 4/ 285- 287).
2 - وقد لاحظ الدكتور على الشامى تأثر الشيخ الطاهر أن عاشور برأى محمد عبده فى تضييق التعدد إلى درجة المنع, ونقل عن 'التحرير والتنوير ' وصف واقع المجتمعات الإسلامية الذى عرف شيوع التعدد, كما نقل عنه صعوبة العدل وما يترتب على ذلك من اختلال نظام العائلة وعقوق الزوجات والأبناء وذلك ما أسهب فيه الإمام محمد عبده فى المنار.
إلا أن الجديد والجريء الذى جاء به ابن عاشور هو الإشارة إلى أن لولى الأمر أن يمنع المباح إذا خيف وقوع الضرر والفساد, ولكن الدكتور على الشابى يرى أن هذه الجرأة مستوحاة من حديث محمد عبده الاجتماعى عن اختلال المجتمع إذا فشا فيه تعدد الزوجات, مما يجعل من مسئولية ولى الأمر درء المفاسد, وذلك ما أكده بالتفصيل محمود شمام (سلسلة آفاق إسلامية (9) 41 -, 80)
قضية ضرب المرأة بين محمد عبده وابن عاشور:
1) فى تعليقه على قوله تعالى 'واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن, فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا' النساء: 34 يرى الإمام محمد عبده إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر فى العقل أو فى الفطرة بحيث يحتاج إلى التأويل, فهو أمر يحتاج إليه فى حال فساد البيئة وغلبة الاخلاق الفاسدة, وإنما يباح للرجل إذا رأى أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه. أما إذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ أو يزدجرن بالهجر فيجب الاستغناء عن الضرب فلكل حال حكم يناسبها فى الشرع, ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان وإذا أطاعت المرأة بواحدة من هذه الخصال التأديبيه فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيرها, أما القانتات المطيعات فلا سبيل عليهن حتى فى الوعظ والنصح - وقوله سبحانة وتعالي: 'إن الله كان عليا كبيرا' يعنى أن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم, فإذا بغيتم عليهن, عاقبكم. وجاء هذا النهى عن البغى حتى لا يحس الرجل فى نفسه بالاستعلاء على زوجته, فذكره الله تعالى بعلوه وكبريائه ليتعظ ويخشى ويتقى الله فيها وفى النهاية يقول الإمام: واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة فى بيوتهم, إنما يلدون عبيدا لغيرهم, يعنى أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم. (المنار 5, 62 - 63).
أما رأى الشيخ ابن عاشور فقد حلله الدكتور على الشابى فقال: إنه فسر الأية تفسيرا كشف عن منزع اجتهادى عز نظيره, إذ اتفق مع رأى عطاء فى أن ضرب الزوج امرأته أمر أباحه (أى لا يفيد الوجوب) واعتبره يقضى بعدم ضرب الزوج امرأته, واعتبر الضمير فى قوله تعالي: 'تخافون ' متجها أيضا إلى ولاة الأمور لأن تطبيق الأحكام من اختصاصهم, وقد وضع الشيخ هذه المسألة فى إطارها الزمنى وفى سياقها الاجتماعي, إذ كان أهل البدو فى العصور الوسطى لايعدون ضرب المرأة اعتداء, بينما يعتبره أهل الحضر اعتداء, وقد خلص الشيخ إلى ربط هذه المسألة بأصل قواعد التشريع التى لا تسمح لأحد بأن يقضى لنفسه لولا الضرورة, ومن ثم انتهى إلى القول بأنه يجوز لولى الأمرأن يعلن أن من ضرب امرأته عوقب, كى لايتفاقم أمر الإضرار بالأزواج (سلسلة آفاق إسلامية (9): 46 - 47).
والواضح هنا أن الشيخ الطاهر قد تجاوز المدى الذى وصل إليه الإمام محمد عبده, فالإمام اجتهد فى إطار النص, أما الشيخ فقد وضع النص فى إطار زمنى وسياق اجتماعي, مع ربطه بقواعد التشريع الفقهي, ليصل فى النهاية إلى منع الزوج من ضرب زوجته, وحق ولى الأمر فى عقوبة الزوج إلى فعل ذلك.
2) والمنهج القرآنى - عندنا - يقف بين هذا وذاك بين الإمام والشيخ ونوضحه سريعا فى هذه القضية, فالتشريع القرآنى يتكون من 'أحكام تشريعيه' (أوامر ونواهي) وهذه الأحكام التشريعية تسير فى إطار 'قواعد تشريعية ' وهذه القواعد التشريعية بدورها تسعى لتحقيق غايات ومقاصد تشريعية.
والمقصد التشريعى فى أحكام الأسرة هو حفظ كيانها ورعايتها. ولذلك كانت أغلب تشريعات القرآن الاجتماعى تسعى لبناء الأسرة والحفاظ عليها, ذلك أنه إذا كان الفرد هو الخلية الأولى فى المجتمع الغربي, فإن الأسرة هى الخلية الأولى فى المجتمع الإسلامى والشرقي. وكان المقصد التشريعى للقرآن هو حفظ كيان هذه اللبنة الأولى فى بنيان المجتمع حفظا لكيان المجتمع ذاته.
ومن خلال هذا المقصد التشريعى جاءت القاعدة التشريعية فى التعامل بين الزوجين فى قوله تعالي: 'وعاشروهن بالمعروف, فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا' النساء 19, ومن خلال هذه القاعدة التشريعية تجرى الأحكام التشريعية فى إصلاح الشقاق إذا أتى من المرأة أو إذا أتى من الرجل أو إذا أتى منهما معا, ونفهم معنى قوامة الرجل على المرأة وشروطها (سورة النساء: 128,35,34), وعليه فضرب المرأة وارد إذا كان هو السبيل الوحيد لمنعها من النشوز الذى يهدد بتحطيم أسرتها ومستقبلها, وفى إطار معاشرة زوجها لها بالمعروف, بحيث لا يكون هو الآخر ناشزا عليها, ونشوز الزوج فى مفهوم القرآن يعنى مجرد إعراضه عنها وعدم اهتمامه بها.
أما عن تدخل المجتمع ممثلا فى السلطة فقد حدد القرآن له طريقين, إذا أرادت الزوجة افتداء نفسها بالتطليق من الزوج (البقرة 229) أو إذا حدث نشوز متبادل بين الزوجين قد يؤدى إلى تحطيم الأسرة (النساء 128), مع ملاحظة أن قوامة الزوج تعنى قدرته على حماية الزوجة والإنفاق عليها, وإلا فلا قوامة له عليها, وبالتالى فإذا كانت لها العصمة وتنفق على نفسها فليس له قوامة عليها, وبالتالى ليس له أن يستطيل عليها بالضرب أو بغيره. والعصمة من حق المرأة إذا أرادت وإذا رضى الزوج لأن الزواج عقد يتم بالتراضى بين الطرفين وتصبح بنوده شريعة المتعاقدين.
5) شلتوت وقضايا المرأة:
للشيخ شلتوت كتاب 'القرآن والمرأة' واستعراضه يخرج بنا عن المطلوب. ولكنه فى كتابه 'من توجيهات الإسلام', عقد فصلا عن شئون المرأة أكد فيه مبدأ الطبيعة الواحدة بين الرجل والمرأة, ومساواتها بالرجل, وعرض للمرأة فى القصص القرآنى مع تحليل رائع لشخصيات النساء فى قصص الأنبياء, مع تنوع أدوارهن, خصوصا ملكة سبأ, وانتهى من ذلك إلى أهمية تثقيف المرأة, ثم عرض لتاريخ المرأة فى عهد النبوة المحمدية, ومبايعة النبى للنساء. (من توجيهات الإسلام 204 -).
فى الموقف من غير المسلمين:
هنا أم المشاكل, وبداية الاختلاف بين تشريع الإسلام فى القرآن وتشريعات المسلمين فى التراث. ويرجع السبب هنا إلى السياسة ونظام الحكم الذى أصبح عضوضا وراثيا ملكيا مستبدا, أى أصبح يحمل ملامح الدولة فى العصور الوسطى وكشأن الاستغلال الدينى فى ذلك الوقت, كان اختراع التشريع ليلائم سياسة هذه الدول وليسبغ عليها مشروعية.
وقد تكلف المصلحون المستنيرون من أمرهم عسرا, وهم يحاولون الاقتراب من تشريعات القرآن فى التعامل مع الآخر, وهذه الصعوية مردها إلى أنهم كانوا يفهمون الآيات بمصطلحات التراث ورواياته, فأبرزوا من تسامح الإسلام أشياء وغابت عنهم أغلب الأشياء. ونعرض لبعض ما أبرزوه ولبعض ما غاب عنهم أن يبرزوه.
رؤية الإمام محمد عبده:
فى البداية يقرر الإمام أن الأصل الثالث من أصول الإسلام هو البعد عن التكفير, صحيح أن حديثه قد انصب أساسا على التعامل بين المسلمين, ولكن المستفاد منه عمومية التعامل بهذا الأصل, لأنه أصل من أصول الإسلام, وعليه فينبغى أن نبتعد عن تكفير غير المسلم, وإن كان ذلك مستحقا لتوضيح وتأكيد أكبر من الإمام. ولكن سكوته عنه أعطى الفرصة لتلميذه السلفى كى يبالغ فى تكفير خصومه.
إلا أن محمد عبده جعل الأصل السادس من أصول الإسلام حماية الدعوة من الفتنة, لأن القتل ليس من طبيعة الإسلام, بل فى طبيعته العفو والمسامحة, ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم, ولم يكن ذلك للإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه, ولذلك كان المسلمون فى الفتوحات لا يجبرون البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام.
ثم جعل الإمام الأصل السابع من أصول الإسلام مودة المخالفين فى العقيدة وذلك بالمصاهرة حيث أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج من الكتابية دون تفريق بين الزوجة المسلمة والكتابية فى الحقوق, وما تؤدى إليه المصاهرة من اختلاط وتشابك ومودة وقربى بين المسلمين والكتابيين (الإسلام بين العلم والمدنية 106 -,113 -, 117-)
إلا أن الإمام محمد عبده اقترب أكثر من المنهج القرآنى حين أدرك معنى الفتنة التى جاءت فى سياق تشريع القتال 'والفتنة أشد من القتل, وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة 'البقرة 193,191 فرأى أن الفتنة هنا تعنى الاضطهاد فى الدين. وهذا صحيح, وعليه فقد اقترب من فهم المقصد التشريعى للقتال فى الإسلام, وهو انه لتقرير الحرية الدينية, ولمنع الاضطهاد فى الدين.
رؤية الطاهر ابن عاشور:
فى المصادر القليلة التى معنا بعض إشارات فى هذا الموضوع تنبيء عن فكر متقدم مستنير للطاهر ابن عاشور. ومن ذلك ما يذكره محمود شمام من شرح ابن عاشور لحديث 'لا تخيرونى على موسي' على أساس أنه مظهر من تسامح الإسلام مع أهل الكتاب وقمعا لباب الخصومة الدينية معهم, فاليهودى ظل على يهوديته فى دولة الإسلام, ولم يلزمه الإسلام بتغيير دينه واعتقاده, والعلماء يقولون أن أهل الكتاب لايعاقبون على ما يقولونه من أصل دينهم. وبعض هذه المعانى تردد فى كلام الشيخ فى حديثه عن التسامح مع أهل الكتاب فى 'أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام'.
وفى هذا الكتاب عرض الشيخ تفسيره التاريخى للغزوات فى عهد النبى عليه السلام مستشهدا بالقرآن الكريم وبعض روايات الحديث والسيرة, وكيف كان تكوين الجيش الإسلامى وقتها. ثم كيف تطور الجهاد إلى فتوحات فى الشام والعراق. وقرر أن ذلك كله كان دفاعا عن الحوزة وتأمينا للمسلمين ودينهم.
وقد يكون ذلك التفسير التاريخى للشيخ عاديا سبق إليه كثيرون,إلا أنه سبق الكثيرين فى الإشارة إلى حقيقة قرآنية تاريخية لم يلحظها كثيرون, وذلك فى معرض تعليقه على قوله تعالى 'ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا: الحج 40' فقد لاحظ أن الدفاع عن بيوت العبادة لغير المسلمين دفاع عن الحق. والمعنى المقصود تأمين بيوت العبادة لغير المسلمين داخل الدولة الإسلامية, وهذا المعنى قل من التفت إليه من المسلمين على مستوى السياسة وعلى مستوى الفقه والثقافة, إذ أن ثقافة العصور الوسطى القائمة على التعصب الدينى داخل بلاد المسلمين وخارجها كانت تستهدف بيوت العبادة للآخرين بالمقت والكراهية, ولذلك لا نعجب من الجدل الفقهى الذى كان يزايد على منع أو هدم الكنائس فى البلاد التى فتحها المسلمون (عن مؤلفات ابن عاشور يراجع أصول النظام الاجتماعى فى الإسلام 216 - 2207, بالإضافة إلى ندوة سلسلة آفاق إسلامية الشيخ عاشور (9): 59, 356).
رؤية محمود شلتوت:
نلمس هنا بعض التراجع فى بعض القضايا.
فالمصاهرة بزواج الكتابية والذى احتفل به الإمام محمد عبده, نجد الشيخ شلتوت يناقشه على طريقته الخاصة فى عرض آراء الفقهاء ثم يخلص إلى رأيه وهو أنه إذا ضعف الرجل المسلم فالواجب منعه من الزواج بالكتابية, وأنه ينبغى تقييد ذلك أو منعه, هذا مع أنه فى ' التوجيهات ' أشار إلى دعوة الإسلام إلى البر بغير المسلمين من المسالمين, وقال إن المبدأ العام فى معامله أهل الكتاب هو المساواة بينهم وبين المسلمين وإعانتهم فى النكبات وإباحة التعاون معهم ومصاهرتهم, وهو هنا يتفق مع شيخه الإمام محمد عبده الذى استدل بنص أيه 'لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين..' على دور المصاهرة فى دعم الترابط بين المسلمين والنصاري. (عن الشيخ شلتوت, يراجع: من توجهات الإسلام 93, الفتاوى 252)
وهذا التراجع لدى الشيخ شلتوت استمر بعده إلى أن أصبحت الفتنة الطائفية تهدد مستقبل مصر, خصوصا بعد استشراء الفكر السلفى واضطهاده للنصارى المصريين, ومع سيادة ثقافة التطرف والإرهاب فإن خطرا هائلا يهدد مستقبل مصر ووحدتها الوطنية. وليس هناك من سبيل إلا بمواجهة ذلك الفكر السلفى بالمنهج القرآنى الذى يوضح الأمور بصورة قاطعة.
وقفة مع المنهج القرآنى فى التعامل مع غير المسلمين:
بعيدا عن روايات التراث وفتاويه ومصطلحاته فإن القرآن فيه الرؤية الواضحة, ولكن هذه الرؤية تحتاج إلى من يقرأ القرآن ويفهمه بلغته ومصطلحاته, مع فقه قواعده التشريعية.
وقد قلنا أن التعامل مع غير المسلمين هو أم المشاكل وبداية الاختلاف بين تشريع القرآن وتشريع المسلمين فى التراث. وذلك لأن البداية تكمن فى تعريف المسلم والمؤمن والمشرك والكافر طبقا لمفهوم القرآن واختلاف ذلك عن مفاهيم التراث. حيث تمت صياغة التراث فى أاحضان نظم سياسية قامت بتوجيه الثقافة بما يخدم أغراضها.
وباختصار شديد نقول من خلال المنهج القرآنى ومفاهيمه أن المؤمن له مفهومان, تبعا لعلاقه المؤمن بربه أو علاقته بالناس: 'آمن بـ ' تأتى فى القرآن بمعنى اعتقد وآمن, أى فى التعامل مع الله, وحينئذ ينبغى أن يكون الإيمان بالله تعالى كاملا. أما 'آمن لـ ' فتأتى فى القرآن بمعنى وثق واطمأن وأصبح مأمون الجانب, أى فى التعامل مع الناس . وورد الأسلوبان كثيرا فى القرآن, حيث أن الأمن هو أصل كلمة الايمان, واجتمع الاستعمالان معا فى قوله تعالى عن النبى ' يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين, التوبة 61 ' فالنبى يؤمن بالله إيمانا كاملا , وذلك فى التعامل مع الله, أما فى تعامله مع المؤمنيين فإنه يثق بهم ويطمئن لهم, وهذا هو مفهوم المؤمن فى القرآن. إذا حقق الإيمان بالله كاملا وحقق الأمن مع الناس, استحق الأمن فى الآخرة كما تردد ذلك فى آى القرآن العظيم.
ولكن الإيمان بالمفهوم القلبى فى التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة, وليس لأى بشر حتى النبى أن يحكم على ذلك. وعشرات الآيات القرآنية ترجع الحكم فى العقائد إلى الله تعالى يوم القيامة, وعلى ذلك فإن كل انسان مأمون الجانب لا يعتدى على أحد يأمنه الناس ويأمن الناس يكون مؤمنا فى التعامل البشري, حتى لو كان بوذيا أو هندوسيا. أما عقيدته وفكرته عن ربه فمرجعها إلى الله تعالى يوم الدين الذى سيفصل فيه رب العزة فى كل ما يتعلق بعلاقة البشر بالدين.
ونفس الحال فى المسلم فالمسلم له مفهومان, أحدهما فى التعامل مع الله تعالى والآخر فى التعامل مع الناس.
المسلم فى التعامل مع الله تعالى هو إسلام الوجه والقلب والجوارح إلى الله تعالى (الأنعام 162:163) والحكم على ذلك مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامة وليس لأحد من البشر أن يحكم على ما فى القلوب من إخلاص أو رياء أو نفاق. أما مفهوم المسلم فى التعامل مع الناس, فهو السلام أو أن يسلم الناس من يده ولسانه, فالمسلم هو المسالم المأمون الجانب, وهذا أمر يحكم الناس فيه وعليه, وتشريعات الإسلام فى العقوبات نزلت لمعاقبة المعتدى على حقوق غيره فى الحياة والمال والعرض.. وليس فى عقوبات التشريع الإسلامى إلا حفظ حقوق الأفراد, أما حقوق الله تعالى فليس عليها عقوبة دنيوية أو 'حدود ' بمفهوم التراث. وقد اخترعوا ' حد الردة ' لأغراض سياسية فى العصر العباسى كما أوضحنا ذلك فى كتابنا ' حد الردة: دراسة أصولية تاريخية '.
ومفهوم الذين أمنوا والذين كفروا والمشركون والفاسقون.. الخ حين تأتى فى تشريعات القرآن يقصد بها التعامل البشري, فالذين أمنوا أى الذين اختاروا الأمن والأمان, الذين اجتمعوا حول النبى محمد كانوا من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان, وكان منهم ذوو شأن وجاه, ولكن اختاروا أيضا طريق الأمن والسلام, لذلك يقول تعالى لهم ' يا أيها الذين آمـنوا آمـنوا امنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنـزل من قبل' النساء 136 أى بعد أن حققوا الايمان بمفهوم الأمن والأمان عليهم أن يحققوه بمفهوم الاعتقاد.
وفى المقابل فإن المشركين والذين كفروا هم فى تشريع القرآن فى التعامل البشرى أولئك الذين يعتدون على المؤمنين المسالين الذين لا يعتدون على أحد, والسبب واضح. إن تطبيق الناس للشرع ينبغى أن يكون فى إطار قدرتهم على التطبيق. وليس فى قدرة النبى نفسه أن يعلم خفايا القلوب, فقد كان لا يعرف بعض المنافقين الذين يعيشون إلى جانبه وقد مردوا على النفاق (التوبة 101) فإذا كان النبى لا يعرف خفايا القلوب فغيره أولي, ولذلك فإن الحكم على الناس بالشرك يرتبط فى تشريع القرآن بالاعتداء, وذلك فى موضوعات التعامل البشري, وقد قلنا إن التعامل مع الله تعالى مرجعه إلى الله تعالى يوم القيامه حسبما أكدت عشرات الآيات القرآنية.
وهذا يدخل بنا على ناحية أخري, وهى وجود نوعين من الخطاب فى القرآن الكريم فيما يتعلق بغير المسلمين, وهذا يختص فى موضوع العقائد والتعامل معه جل وعلا. فمن حقه تعالى أن يقول ' لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم: المائدة 17 ' لأن تلك قضية تخصه جل وعلا, فهذا خطابه لنفر من خلقه أخطأوا فى حقه وموعدهم معه ليحاسبهم على ذلك الافتراء. ولكن الله تعالى يأمرنا أن يكون لنا خطاب مختلف معهم, وذلك بأن نجادلهم بالتى هى أحسن, وأن نقول لهم آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلاهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (العنكبوت 46). والدليل الأكبر على ذلك فى الأمر بالمباهلة الذى نزل للنبى أساسا ولنا من بعده. فبعد أن أوضح الله تعالى قصة عيسى وحقيقته البشرية قال للنبى محمد 'الحق من ربك فلا تكن من الممترين' ثم جاءت الآية التالية بتشريع المباهلة, فإذا جاء نفر من النصارى للنبى يجادلونه فى موضوع ألوهية المسيح بعد أن أنزل الله تعالى الحق للنبى فليس للنبى أن يتهمهم بالكفر, ولكن يدعوهم إلى المباهلة, يجمع كل فريق من المسلمين والنصارى أبنائهم ونسائهم, ثم يبتهل كل فريق بأن يجعل لعنة الله على الكاذبين (آل عمران-61).
والواضح أن هذا التشريع القرآنى غريب فى دنيا التعامل الواقعي. والأغرب منه حين نتعرف على لمحة سريعة عن تشريع القتال فى القرآن.
فقد قلنا أن تشريعات القرآن هى أحكام وتفصيلات تشريعية تخضع لقواعد تشريعية, والقواعد التشريعية تخدم هدفا أو مقصدا تشريعيا, ومن الخطأ أن نخلط بين هذا وذاك.
فالأوامر والأحكام التشريعية جاءت كثيرا تأمر بالقتال, ولكن تقرنة بالقاعدة التشريعية وهى أن يكون القتال للدفاع ورد الاعتداء بمثله كقوله تعالى 'وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين'... 'فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله: البقرة 190, 194' وفى هذا الإطار أيضا يأتى المقصد التشريعى من القتال, وهو أن يكون بهدف منع الفتنة فى الدين أو منع الاضطهاد فى الدين, أو أن يكون الدين لله تعالي, أى مرجعه لله تعالى يحكم على الناس بشأنه يوم القيامة, وحتى تكون لله تعالى الحجة على البشر فلابد أن يتمتع أولئك البشر فى الدنيا بحرية الإعتقاد, وألا يكون هناك اضطهاد فى الدين, وذلك معنى قوله تعالى 'وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله' البقرة .193
وعليه فالقتال هنا دفاعى ضد اعتداء المشركين الكافرين.
والمشركون الكافرون هم المعتدون الظالمون مهما كانت عقائدهم ومبراتهم وتأويلاتهم وشعاراتهم, ينطبق ذلك على مشركى قريش كما ينطبق على الإرهابيين فى عصرنا.
والمسلمون المسالمون هم أولئك الآمنون الذين لا يرفعون سلاحا, مهما كانت عقائدهم وطقوسهم وينطبق ذلك على كل المسالمين من كل الديانات والمذاهب..
وهنا يتفق تشريع القتال فى الإسلام مع مفهوم المسلم والمؤمن والمشرك والكافر فى مصطلحات القرآن ولكى تبقى بعض نقاط الإتصال الآخرى نشير إليها سريعا.
فالمؤمنون الذين تجمعوا حول النبى طلبا للسلام والمسالمة كانوا يكرهون الحرب مع إنها السبيل الوحيد أمامهم للبقاء حتى لا يفنيهم المشركون, ولذلك قال تعالى لهم 'كـتـب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم, وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم' البقرة 216 ومع ذلك فإن بعضهم احتج على الله تعالى حين فرض عليهم القتال وطلب تأخير الأمر بالقتال فقال تعالى 'ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيدكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة, فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية, وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال, لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟: النساء 77' ولذلك فرض الله تعالى على النبى أن يحرض المؤمنين المحبين للسلام أن يقاتلوا, فقال 'يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال: الانفال' 65 وقال له 'وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا' النساء 84.
ومع ذلك فقد كان بعضهم يتقاعس عند الحرب, فقبيل غزوة بدر - خلافا لما ترويه السيرة- كان فريق من المؤمنين يكرهون الاشتباك مع العدو ويجادلون النبى فى الحق الواضح, وحين تحتم عليهم القتال كانوا كأنهم يساقون إلى الموت وهم ينظرون (الانفال: 6,5) وتلك أولى غزوات النبي, ولكن الوضع لم يختلف مع أخر غزوة وهى ذات العسرة وفيها يخاطب الله تعالى المؤمنين قائلا 'يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض'؟... التوبة 38.
والمستفاد من تلك الأوامر التشريعية تأكيد المفهوم القرآنى لمعنى الذين آمنوا أى الذين اختاروا الأمن والسلام, وآثره بعضهم حتى عندما يكون القتال واجبا للدفاع وخوفا من الإبادة والاستئصال.
ومثل آخر من الأوامر التشريعية يؤكد المفهوم القرآنى لكلمة المؤمن وأنه فى المأمون الجانب بغض النظر عن عقيدته ودينه.. فالله تعالى يقول 'وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ' أى غير معقول أن يقتل المؤمن المسالم المأمون الجانب رجلا مؤمنا مسالما مثله إلا على سبيل الخطأ. ثم وضحت الآية تشريع الدية فى ذلك القتل الخطأ. وجاءت الآية التالية بأقسى عقوبة فى الآخرة لمن يقتل مؤمنا متعمدا وهى الخلود فى جهنم والعذاب العظيم والغضب من الله ولعنته. ثم جاءت الآية التالية تحدد ماهية ذلك المؤمن الذى يستحق قاتله كل ذلك العذاب واللعنة, يقول الله تعالى 'يا أيها الذين أمنوا إذا اضربتم فى سبيل الله فتبيوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: النساء 94' فالمؤمن هو أى إنسان مسالم أو ألقى السلام. وحين الاشتباك الحربى يجب على المؤمنيين حقن دماء ذلك المؤمن المسالم حتى لو كان فى معسكر الأعداء وكل ما هو مطلوب منه أن يقول: السلام عليكم وقتل ذلك المسالم يستحق كل ذلك العذاب وتلك اللعنة والخلود فى النار.
وهذا هو الإسلام دين السلام لكل الناس الذى أنزله رب العالمين رحمة للعالمين..