تشهد مصر حالياً، وقبيل انتخابات مجلس الشعب والرئاسة، حالة من السيولة السياسية والحراك المحتقن، بحيث يصير من يحاول توصيف الواقع، ناهيك عن استشراف المستقبل، كمن يحاول الإمساك بقطة سوداء في غرفة مظلمة.. نعم الحراك والاحتقان أمر طبيعي ومتوقع، لبلد شهدت ما يمكننا اعتباره دون كثير من التجاوز، تجميداً متعمداً لحياتها وتطورها الثقافي والسياسي والاجتماعي طوال الثلاثة عقود المنصرمة، بعد مأساوية عقد السبعينات بأحداثه الجسام، نهاية عصر الناصرية &a; وبداية عصر أنجز عسكرياً بقوة، واقتحم بقوة مسيرة السلام، وأعاد لمصر علاقاتها الطبيعية والمتزنة مع العالم، لكنه تخبط داخلياً إلى حد الفشل الذريع، حين أطلق مارد الإسلام السياسي من القمقم بهدف توظيفه، لتنتهي المأساة مع بداية الثمانينيات، برئيس صريع رصاص جنوده وصنيعته، ووطن ينتفض بالحمى، بعد تغلغل فيروس التأسلم والعنف في شرايينه.. ليكون هكذا من واجبنا أن نحترس، إذا هممنا بإدانة سيد العصر الجديد، إذ لم يجد أمامه بداً من انتهاج سياسة التبريد والتجميد، عبر مهادنة جميع الأطراف، وعدم الأخذ بالحسم والمواجهة إلا عند الضرورة القصوى، وبالحد الأدنى الذي يحفظ للنظام والقائمين عليه سلامتهم.
الأمر أشبه بأن تتكون قشرة جليد على سطح بحيرة تغلي ما تحتها من سوائل مختلطة ومتفاعلة، ورغم أنها قشرة سميكة وقوية بما يكفي لأن تمنع أي تفاعلات من الظهور على السطح، فإن التجميد لم يصل للأعماق التي تمور وتصطرع.. هي حالة تؤدي بالمراقبين إلى الاختلاف في تقييمهم وتوقعاتهم لما يحدث وسيحدث، يراها البعض حالة جمود وعقم ميؤوس منه، ويرها آخرون مقبلة بالحتم على انفجار تعقبه فوضى.. وإذا كان لا شيء في عالمنا هذا يمكن أن يبقى على ذات حاله إلى الأبد، وكان التغيير كأهم سمة لعصرنا لا مهرب منه لأي شعب، مهما جهد في غلق نوافذه، وكانت سرعة التغيير ووجهته هي فقط محل التساؤل والجدل، فإن وجهة النظر اليائسة من تحرك الشعب المصري من حالته هذه إلى حالة جد مختلفه تفقد جدارتها بالاعتبار، لنتجه بالبحث في نوعية التغيير المنتظر.
في فترة سابقه خرجت من الغرب تنظيرات وإشارات تدفع باتجاه ما أسمته كوندوليزا رايس بالفوضى الخلاقة creative chaos، وهو تعبير سياسي عن نظرية علمية تنطبق على العالم الفيزيائي والبيولوجي، تعرف بالانتظام الذاتي auto-organization، أي قدرة المادة على تنظيم ذاتها ذاتياً في ظروف معينة، لتخلق أشكالاً جديدة تماماً من النظام والحياة والكائنات، وهي قابلة للتطبيق على المجتمعات الإنسانية.. فالمجتمعات في ظروف معينة تكون قادرة عبر الصراع والتفاعل على إنتاج نظم مختلفة ومبتكرة، لم يكن قد خطط لها أو حتى عرفها أحد، وتظهر فيها قوى جديدة، وقادة ذاتيين تخلقهم لنفسها، لم يكن لهم وجود في بداية الحراك أو الفوضى الخلاقة.. لكن هذا الأمر في نظرنا مغامرة غير مضمونة العواقب، فنحن شعب لم يعتد الصراع، ويفتقد للجلد والمثابرة، التي هي بلاشك أمر مختلف كلياً عن الصبر، تلك الصفة الأصيلة للشعب المصري، وهي ليست بالصفة السلبية المحضة.. ليكون من المرجح أننا قد لا نستطيع تحمل تبعات تلك الفوضى الخلاقة ونفقاتها، والأفضل لنا أن ننتقل بهدوء وتدريجياً، عبر خطة اصلاح متكاملة، تفضي بنا في النهاية إلى التغيير المنشود، أو عبر سلسلة من التغيرات والقفزات الجزئية، بقدر ما تسمح به الظروف.
كان الغرب إذن في مرحلة ماضية يحاول أن يدفعنا إلى حالة تسمح بهذه الفوضى الخلاقة، لكن يبدو أن خبراته المستجدة والمريرة في منطقتنا، جعلته يتقاعس أو حتى يتشكك في مناسبة هذه النظرية لنا.. كان الغرب يسعى لتكسير تلك القشرة السطحية التي تحجب وتقمع كل ما تحتها، لكي تفور البركة التي تبدو من بعيد راكدة ركود القبور، قبل أن يؤثر السلامة، ويمد أجل تحالفة مع أنظمة المنطقة، صانعة هذه القشرة العازلة وصاحبة المصلحة فيها.
ما يحدث في مصر الآن ليس تطوراً مخططاً رشيداً، وليس أيضاً انفلاتاً يمكن أن يصل بنا إلى فوضى خلاقة.. فلدينا هنا تيار رائج ومتربص، ويعمل بكفاءة عالية في الساحة المصرية، وقد توفرت له كافة مقومات النجاح، وهو الإيمان بالفكر والتمويل المالي الخارجي والداخلي الجيد، علاوة على استعداد الناس لتقبل هذا الفكر، نتيجة لتدين الإنسان المصري بطبعه.. هذه الجماعة تدفع الآن نحو تكسير ما شبهناه بقشرة عازلة، ليخرج المكبوت تحتها بكافة أشكاله وأنواعه.. هو التكتيك الجديد للجماعة المحظورة، للوصول إلى استراتيجيتها الثابتة، وهي إقامة دولة دينية، وبعد المحاربة القانونية والسياسية لشعار "الإسلام هو الحل" واستهلاكه شعبياً، حيث أدى الغرض التخديري منه، ولم يعد قادراً على تجييش المزيد من الجماهير.. هذا مع البراجماتية التي تتميز بها هذه الجماعة، قد اتجهت لتكتيك استغلال رصيدها الجماهيري وقدرتها الميدانية والتنظيمية، في العمل على تفعيل حراك التيارات الأخرى، ليس بهدف مساعدتها أو تقويتها، ولكن بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من التمرد والبلبلة والفوضى.. رأينا استغلال الإخوان لحادثة مقتل الشاب خالد سعيد بالإسكندرية بين يدي الشرطة، كذا مشاركتها في مجهودات ما سمي "الجمعية الوطنية للتغيير" ومطالبها السبعة، هذه القضايا لا تعنيها لا في كثير أو قليل.. هي فقط تسعى لتعظيم حالات التذمر والتمرد، وتصعيد التحريض ضد قوات الأمن، فهي عدوها الرئيسي الذي تسعى لأن يعتبره الشعب عدواً له، وهي المهمة التي تساعدها فيها التجاوزات المتعددة والمتكررة للأجهزة الأمنية.. ازدياد عداء الجماهير للأجهزة الأمنية وتجرؤها عليها، وتجرؤها على تحدي النظام، وهو ما تتكرر بوادره الآن في حالات العديد من أهالي القرى، الذين يخرجون إلى الطرق السريعة ليقطعوها، احتجاجاً على نقص المرافق أو ما شابه، هو ما تسعى الجماعة إلى تعظيمه الآن، لتدفع نحو فوضى، لكنها لن تكون تلك الفوضى الخلاقة، التي تنجب فيها التفاعلات نظماً ورؤى جديدة، وإنما ستكون البيئة المناسبة التي تنقض فيها ذئاب الجماعة العتيدة المدربة على الوطن، ولتفعل بسائر تلك التيارات بعد ذلك، ما سبق لخميني أن فعله مع من حملوه على أكتافهم من باريس إلى طهران.
نشهد أيضاً الطابور الخامس للجماعة المحظورة، والمستترين تحت مسمى الوسطيين أو المعتدلين، وهم ينفثون سمومهم في الجسد المصري، بإثارة البغضاء والفتنة بين المسلمين والمسيحيين، لتنقلب مصر الآمنة إلى ساحة من الدماء والخراب كسائر الساحات العربية المحيطة، والتي تمكن منها فيروس الإسلام السياسي بكافة أطيافه.. وكانت أحدث هذه المحاولات ظهور أحد هؤلاء في قناة الجزيرة، تلك التي تخصصت في إشعال النيران في كل محيط المنطقة، ليخترع الأكاذيب التي لا يصدقها غير دهماء مغلقة عقولهم، بأمل تأليب هؤلاء على مواطنيهم الأقباط، لتدخل مصر عصر فوضى دامية، يتصورون أنه قد آن أوانها، وأن طريقهم للسلطة على جثة الشعب المصري وأطلال حضارته صار ممهداً.
لن يطفئ نار الفتنة التي زرعها حديث محمد سليم العوا في قناة الجزيرة، غير قيام النائب العام باستجوابه، هو والمذيع المعروف بمناصرته للإرهاب والقتل، وليس ما فعل الأخير في الفالوجة إبان سيطرة الزرقاوي عليها ببعيد، والتحقيق معهما فيما أورداه وادعياه، وإعلان نتائج التحقيق على الملأ، وتقديم من يتوجب تقديمه لساحة القضاء المصري العادل، ليكون هذان وأمثالهما عبرة لكل من يحاول بالأكاذيب والافتراءات تخريب البلاد.
هكذا لم يعد كافياً لبقاء نظام الحكم والاستقرار لمصر الاعتماد على الأجهزة الأمنية، ولا السيطرة على لقمة عيش الموظفين في مؤسسات الدولة.. فمع خصخصة القطاع العام، وتزايد نسبة الاقتصاد غير الرسمي والقطاع الخاص، لابد أن ينزل ما يلقب بالحزب الوطني إلى الشارع المصري، ليكتسب جماهير حقيقية، وفي ذات الوقت يقوم بتفعيل سيادة القانون وتطبيقه بصرامة، على الأيادي التي تعبث بأمن البلاد.. الخطر تبدو إشاراته في الأفق، خطر نجاح الجماعة المحظورة في إثارة الفوضى في البلاد، وضرب ما يتشدق به المسؤولون عن الوحدة الوطنية في مقتل، وإذا ظل المسؤولون أسرى مفاهيمهم القديمة، والاكتفاء بقص ريش أجنحة تلك الجماعة بين الحين والآخر، فلن يفيدهم أو يفيدنا الندم بعد فوات الأوان.
الولايات المتحدة- نيوجرسي