تخــّر له الجبابـر سـاجدينا....!!

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٣١ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

1 ـ رفع الشاعر الجاهلي سيفه وهوى به على رأس إمرأة عجوز من أرباب المعاشات فقتلها ، ثم هرب إلى قبيلته وأنشد قصيدة صار قومه يفخرون بها ، وأصبحت من المعلقات السبع، وفيها يقول:

إذا بلغ الرضيع منا فطاما   تــخر له الجبابر سـاجدينا..

وامتلأت القصيدة بأمثال هذه المبالغات المضحكة مما أن يؤكد أن " أبو لمعة الأصلي" لو عاش في العصر الجاهلي لأسرع بتقديم استقالته وهو مستريح الضمير!!.

كانت اللغة العربية هىّ عبقرية ا&aaute; اللسان العربى ، وهىّ أيضاً سبب بلائهم وضعفهم.

 

2 ـ إن عبقرية اللغة العربية تظهر في اشتقاقاتها وحيوتها اللفظية واتساعها للمعاني المتداخلة والمترادفة والمتناقضة، لذا كان للمجاز والاستعارات والمحسنات اللفظية والمعنوية دور هائل في تكوين العقلية العربية جعلها تحتفل بالجمال اللغوي والزينة اللفظية والمعاني الرائعة ، وأضاعوا وقتهم في غريب القول وعجيب المعنى ، وتسامحوا في الكذب طالما يصدر عن شاعر فصيح، واكتفوا بالقول بديلا عن العمل، ولذلك كانوا يصدقون الشعر الجميل، والقول المأثور مهما حوى من مبالغات وأكاذيب، ولذلك ظل قوم الشاعر عمرو بن كلثوم يفخرون بقصيدته ويؤمنون بأن الجبابر يسجدون للرضيع منهم، وظلت القصيدة هىّ النشيد القومي لتلك القبيلة حتى سخر منهم بعض الشعراء فيما بعد ..

3 ـ ونزل القرآن الكريم ليصلح شأن العرب ويضع اللغة العربية في موضعها الصحيح ، فقد نزل القرآن باللغة العربية معجزة تحدى الله تعالى بها العرب في فصاحته وبيانه ومن خلال هذه الفصاحة كانت الدعوة لهداية العربوتحضرهم ، ومنها ما يخص اصلاح عيوبهم التي نتجت عن انبهارهم  باللغة العربية، ومنها مثلا ألا يكتفوا بالقول دون عمل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصّف 2 : 3 )، وربط الله جل وعلا بين الايمان والعمل ( الصالح ) بمعنى ألا تفعل فقط ولكن أن تفعل الصالحات .

وفى القرآن الكريم منهج متكامل للتحضر وتطبيق القيم العليا التى تتناقض وثقافة الجاهلية ، وكتبنا ـ ولا زلنا ـ نكتب فى هذا الاصلاح القرآنى .

4 ـ ولكن لم يستفد العرب من هدى القرآن كما يجب. فقد ظلوا أسرى سحر اللغة العربية وأشعارها وآدابها ، حتى أنهم اتجهوا للقرآن الكريم نفسه بما يعرف بالتفسير يتعاملون مع  الفصاحة القرآنية وحدها معتبرين أنها معجزة القرآن الوحيدة ، فتحول القرآن على أيديهم الى مجرد نصوص أدبية ، استهلكوا قرونا فى التعامل السطحى معها ، تعاملا مع مجرد اللفظ القرآنى ، مع اهمال للمحتوى الحضارى لآيات القرآن الكريم .

وفى نفس الوقت وقعوا أسرى للشعر العربى يجددون فيه المنهج الجاهلى ، ويحاكون الشعر الجاهلى فى العصرين الأموى و العباسى ، لذا تم إحياء الثقافة الجاهلية الشعرية من مدح وفخر وهجاء ، بل وصل التأثر بالشعر الجاهلى الى إحياء ثقافته الأخلاقية .

فالشعر العربي الجاهلى كان مقياس الجودة فيه هىَ المبالغة والكذب ، وكانوا يقولون: أعذب الشعر أكذبه، وكان الشاعر هو لسان قومه والمتحدث بإسمهم وكان له جمهوره حتى من خارج قبيلته، ونزل الوحي يقول "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات: 26/ 224 ـ"

ومع ذلك ظل هذا التأثر سائدا بعد الاسلام.

5 ـ وشهد العصر العباسي تدوين الحضارة العربية ، وذلك التراث العربى المدون إهتم بالجانب النظري وإهمال الجانب العملي حتى في العلوم العملية مثل الطب والهندسة والميكانيكا وغيرها، وقلما تجد إشارة للتجارب المعملية، مما جعل التراث يسير فى النهاية على منوال واحد هو شرح ماقاله السابقون ثم إختصار الشرح ثم شرح التلخيص وفي النهاية جمودوتأخر وتخلف، وصحونا منه على ضجيج الحملة الفرنسية وافكارها الجديدة وابتكاراتها العلمية والحربية ..

وجاء محمد على بمشروع التطوير على الأسس الغربية ، وظهر ابن عبد الوهاب بمشروع دموى يهدف للتصحيح بالعودة للتراث المتخلف ، وبعدها جاءت هجمة الاستعمار الأوربي تحاول التهام ما بقي من الدولة العثمانية، وظهر السلطان عبدالحميد يحاول الدفاع عن كيان دولته بأن تبنى مشروع الجامعة الإسلامية الذي دعا إليه الأفغاني ومحمد عبده ، وهدفه من ذلك أن يثير المسلمين ضد فرنسا وانجلترا في الهند وشمال افريقيا وأن يكون قائد المسلمين داخل وخارج الدولة العثمانية ، وقوبل مشروعه بمشروع نقيض قام به الموارنة في سوريا ولبنان يهدف إلى تجميع كل الناطقين بالعربية في داخل الدولة العثمانية في قومية واحدة هىّ القومية العربية بغض النظر عن دياناتهم مقابل الجامعة الاسلامية العثمانية. وهذا هو منشأ القومية العربية .

 

6 ـ ثم ما لبث أن أعاد جمال عبدالناصر صياغتها  في نهاية الخمسينيات .

وقوبلت دعوة عبد الناصر للقومية العربية بترحيب هائل بين المحيط والخليج فأصبحت الراية التي تعني التحرر من الاستعمار، وأصبح عبدالناصر بطل القومية العربية ، وواكب عصره سيطرة الاذاعة واختراع الراديو الترانستور الصغير ، وبه صالت "إذاعة صوت العرب" وجالت فى ربوع الوطن ( العربى ) أو الناطق بالعربية ، وأدت إلى إيقاظ العرب أو الناطقين بالعربية ، واستمرأ عبدالناصر هذا الدور  وغلبه سحر الكلمة وعذوبة اللغة وتأثير الخطب وقوة التصريحات . ولم يفطن إلى أن الكلمة قد أدت دورها في إيقاظ الأمة والإلحاح بعد ذلك على إيقاظ من استيقظ يصبح صداعاً ودخولاً في اللجاج والجدال والخصام . لذا تحولت القومية العربية إلى نزاع حول الزعامة الكبرى ، ومبدأ "أنا وأخويا على إبن عمي" والتعصب بين البلاد العربية التي استقلت حديثاً وأصبحت دولاً وإن كانت في الحيقية لا تختلف كثيراً عن القبائل العربية القديمة ، وعادت كل النزاعات القبلية القديمة لتكون أسس التعامل بين الدول العربية الآن .

واستيقظنا من تلك الغابة من التصريحات على نكسة 1967 ومع ذلك فلا زلنا ندمن التصريحات .. وإذا قلنا ان الخطة الخمسية القادمة سنبني فيها ألف مصنع اكتفينا بهذا التصريح واستغرقنا في النوم  واعتبرنا أن القول كاف.

 

7 ـ إن الشاعر الجاهلي أصدر تصريحاً خطيراً في قصيدته ، إذ قال يهدد الجميع  

ألاّ يجهلنّ أحـــد علينا   فنجهـل فوق جهل الجاهلينا

قالها ونام مستريحاً مكتفياً بهذا القول .

قالها يؤكد زعامته ، (فالزعيم ) من (الزعم ) أو ( الادعاء )، أى كان مقياس الزعامة فى العصر الجاهلى هو القدرة على الفصاحة و الزعم والادعاء بعظيم الأقوال والمبالغة فى المدح والفخر والهجاء ، وليس الصدق هنا مطلوبا أو مرغوبا ،بل الفصاحة التى تسحر السامعين ، وكلما إزدادت فصاحته تأكدت زعامته.

ولم تكن تلك البلوى خاصة بعرب الشمال من ذرية اسماعيل عليه السلام ( العرب المستعربة ) بل وقع فيها أيضا عرب الجنوب ، القبائل اليمنية القحطانية ، فكان يقال للقائد ( القيل ) أى الذى يمتاز عن الآخرين بفصاحة القول ، وليس مهما أن يكون صادقا ، المهم أن يكون فصيحا .

أى هى غابة من الأقوال و التصريحات و(المعارضات الشعرية ) ، تظل محنطة داخل قبو الأقوال دون عمل .

لذا فان شاعرنا الزعيم أصدر تصريحا شعريا يهدد به الجميع ، فأعلن :

ألاّ يجهلن أحـــد علينا   فنجهـل فوق جهل الجاهلينا

قالها ونام مستريحاً مكتفياً بهذا القول .

وكان الناس في عصره يكتفون أيضا بالقول ، لذا نام أعداؤه أيضاً .

وعلى رأى المثل المصرى ( يا دار ما دخلك شرّ ).

 

8 ـ ولكن ( الشّر دخل الدار ) حين ظهر عبد الناصر ( زعيما ) يأسر النفوس بمهارته الخطابية ويشعل القلوب بتصريحاته النارية ، معتقدا أنه مجرد كلام يمكن أن يقابله الطرف الآخر بكلام مضاد ، كما كان يفعل أقرانه وخصومه الزعماء العرب ، فى تلك الحروب الكلامية التى اشعلها عبد الناصر.

فهذا الأسلوب قضى على عبد الناصر حين تعامل به مع اسرائيل وأمريكا .

ففى تصريحات عنترية أغلق مضايق تيران فى وجه الملاحة الاسرائيلية وهدد أمريكا بأن تشرب من البحر الأحمر والبحر الأبيض،  وظن أنه بهذه المعركة الكلامية قد قهر وأرعب اسرائيل و أمريكا ، ومات عبد الناصر وماتت زعامته بهزيمة 1967 .

 

9 ـ والدرس واضح .

ـ إذا أردنا لأنفسنا أن نظل نعيش في العصر الجاهلي فإن القرن الحادي والعشرين لن يرحمنا .

ـ إن العالم لايقول سنفعل كذا ولكن يقول فعلنا كذا .. وأحياناً يفعل ولايقول ، بينما نحن نقول ولانفعل.

ـ وحين يفعل ( الزعماء العرب ) شيئا فإن حمرة الخجل تعلو وجه المنظمات الدولية لحقوق الانسان .أى لا يفعلون إلا منكرا من الفعل وزورا . ولو كفّوا عنه لكان خيرا لهم .

 

أخيرا : متى ؟

متى نثور ونسترد آدميتنا ونتخلص من أولئك الزعماء ، رؤساء العصابات ؟ متى نخرج من دائرة القول الى دائرة الفعل الايجابى النافع الصالح  ؟متى نخرج من دائرة العصر الجاهلي ؟ ـ

متى نلحق بالمستوى الانسانى الذى تعيش فيه قبرص ( اليونانية )؟!!

اجمالي القراءات 26680