فلسفة الهجرة فى تاريخ الأنبياء

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٣٠ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

احتلت الهجرة منعطفا هاما فى السيرة النبوية وحظيت باهتمام الباحثين باعتبارها معبرا هاما عبر به المسلمون فترة الاضطهاد فى مكة للاستقرار والانتشار فى المدينة. على ان هناك جانبا هاما لم يحظ بعد بالإهتمام الا وهو فلسفة الهجرة فى تاريخ الانبياء السابقين وما جدّ عليها من تغييرات فى عهد خاتم المرسلين عليهم السلام ، ومنبع هذه التغييرات ..

وهذا ما سنوضحه بعون الله وتوفيقه .

أولا: بين تاريخ الأنبياء والتاريخ الاسلامى .

من الخط&;طأ أن نقتصر مدلول " التاريخ الاسلامى " على سيرة محمد عليه السلام  وأتباعه , فالتاريخ الاسلامى فى حقيقته يشمل تاريخ الأنبياء منذ أن بدأت الرسالات , وذلك ان الاسلام هو الدين الذى نادت به كل الرسالات , فالاسلام هو دين الله ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) آل عمران : 19 , وكل الرسل دعوا للتوحيد الخالص ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء : 25 . غير ان كل رسول عبر عن الاسلام والتوحيد بلسان قومه ليبين لهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) إبراهيم : 4 , والقرآن الكريم نزل بلسان العربية الفصيحة لعلهم يتذكرون (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) الدخان : 58 , وقد قررربنا جل شأنه حقيقة هامة تكررت فى سيرة التاريخ الاسلامى او تاريخ الانبياء، هى ان كل الرسل تلقوا نفس الوحى وواجهوا من أعدائهم نفس المواقف والاقوال , ويقول تعالى (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ) فصلت : 43 , أى كل ما يقال لك يا محمد من وحى الهى أو من انكار من مشركى العرب انما هو تكرار لما قيل للرسل من قبلك . وهذا يعنى ان الايذاء والهجرة الذى واكب السيرة النبوية انما هو تكرار لما حدث فى تاريخ الانبياء السابقين , وهذا ما فصله القصص القرآنى فى مواضع مختلفة .

ثانيا :ـ الهجرة فى تاريخ الانبياء السابقين :

كان التهديد بالطرد والنفى أحد صنوف الايذاء التى واجهها الانبياء السابقون واتباعهم . فقد أورد القرآن الكريم حوارا موحدا جاء على لسان كل الانبياء فى كل عصر , جرى بينهم وبين خصومهم المشركين ، اذ كان المشركون فى كل عصر يهددون الرسل فيه بالطرد والاخراج والنفى اذلم يعودوا الى ملة الكفر , يقول تعالى ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) إبراهيم : 13, .

وهذا بالنصما جاء على لسان مشركى مدْيـَن الى نبيهم شـُعيب عليه السلام ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) الأعراف :88 ـ .

فكل الانبياء فى كل عصر هددوهم بالنفى والطرد أو بالهجرة .

وجاء فى القرآن الكريم ان بعض الرسل اضطر فعلا للهجرة , فبراهيم عليه السلام هدده أبوه بالرجم وآذنه بالطرد (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) مريم : 46 ، واذعن ابراهيم وهاجر (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا .. ) مريم : 47 , وهاجر مع ابراهيم ابن اخيه لوط  (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ). , (وقال) ـ ابراهيم ـ( إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ) العنكبوت : 26

ثم استقر لوط عليه السلام فى سدوم وعموره ودعاهم للتوحيد والكف عن المحرمات فهددوه بالطرد ان لم ينته عن دعوته (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ) الشعراء : 167 ولم ينته لوط بل أعلن(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ) الشعراء : 168 أى المبغضين , ولأنه استمر على دعوته ولم يأبه بهم فقد تآمروا علي اخراجه وتنفيذ تهديدهم (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ )النمل : 165 . وجاء الوحى للوط عليه السلام يأمره بالهجرة وترك هذه القرية العاصية (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ) الحجر : 65 .

ويبدو ان الكثير من الأنبياء قد اضطر للهجرة وهذا ما نفهمه من قوله تعالى لرسوله محمد عليه السلام أثناء هجرته من مكة (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ) محمد : 13ـ إذن فقد عرفت الهجرة فى تاريخ الانبياء السابقين قبل الهجرة التى قام بها النبى محمد عليه السلام واتباعه . وهنا نتوقف لعقد بعض المقارنات بينهما ..

ثالثا : فلسفة الهجرة فى الأمم السابقة :ـ

يلاحظ ارتباط الهجرة بالتعذيب والفتنة . فقوم شعيب خيروه بين الطرد والرجوع للكفر (َنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) إبراهيم : 13 , وآزر يهدد ابنه بالرجم ويقرن تهديده بالطرد(َئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ) مريم : 46 .

وفى الحديث الذى تكرر فى سورة ابراهيم بين كل رسول وقومه , قالت الرسل ( وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ) إبراهيم : 13 , ورد عليهم الكفار(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ) إبراهيم :13 ـ فالرسل توكلوا على الله وصبروا على الأذى ورد الكفار على صبر الرسل بتهديدهم بالاخراج من بلادهم وبالفتنة عن دينهم ..

وبسسب هذا الارتباط بين الهجرة وعنت المشركين نجد نبينا مثل موسى عليه السلام يرجو النجاة من العنت والاذى وبفضل الاعتزال والهجرة خوفا من جبروت فرعون وطغيانه , بالاضافة الى ان من اهداف رسالته ان يهاجر بنى اسرائيل من مصر . يقول تعالى على لسان موسى لفرعون وملائه (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ , وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) الدخان 20 , 21 ـ أى أن موسى عليه السلام يستعيذ بالله من أن يرجموه ، ويدعو فرعون ان لم يؤمن به أن يتركه يعتزله بقومه .

وفى قصة الفتيه المؤمنين من اهل الكهف يصمم الفتية على الهجرة واعتزال قومهم خوفا من الرجم أو الفتنة عن الدين (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ) الكهف : 16 , وبعد ان أووا الى الكهف ورقدوا فيه ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ثم استيقظوا لم ينسوا ما ينتظرهم من عذاب قومهم اذا عثروا عليهم ( إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) الكهف 20 ..

وبسبب طغيان المشركين وايذائهم للأنبياء الى درجة التهديد بالرجم والطرد والقتل فان العقاب الالهى كان يحل سريعا بالمشركين فيهلكهم بالصاعقة أو الصيحة أو الغرق كما ورد فى قصص المشركين من قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون ..

ولم يرد فىالقصص القرآنى حديث مفصل عن جهاد وقتال قام به الانبياء السابقون واتباعهم الا ما ورد فى قصة بنى اسرائيل بعد موسى مع ملكهم طالوت حين طلبوا من نبيهم ان يبعث ملكا يجتمعون عليه ليقاتلوا العمالقة ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) البقرة : 246 , ويلاحظ ان الجهاد هنا لم يكن مفروضا وانما طلبه بنواسرائيل بانفسهم , وخشى النبى ـ وهو ــ بين قومه فى بعض الروايات ـ من نكوصهم عن الجهاد بعد أن يفرض عليهم ـ فأكدوا تصميمهم على الجهاد فقد أخرجوا  من ديارهم وأبنائهم . وبعد ذلك التصميم فعندما فرض عليهم القتال فعلا ولَّى معظمهم الأدبار .. وهنا يبدوا الفارق بين فلسفة الهجرة فى عهد الأنبياء السابقين وهجرة محمد عليه السلام , إذ ان هجرته عليه السلام مرتبطة بالجهاد .

رابعا : ـ فلسفة الهجرة فى الرسالة الخاتمة :

 لم يتغير موقف المشركين من محمد عليه السلام وأصحابه , فكرروا ما قاله أسلافهم المشركون الأوائل . من الأذى والتآمر والتهديد بالقتل والطرد . يقول تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ) الأنفال : 30 , وتخفيفا عن الرسولعليه السلام وهو يرغم على ترك موطنه مهاجرا الى المدينة نزل عليه فى الطريق قوله تعالى (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ...) محمد :13). أى أن ما تعانيه من كفار قومك قاسى مثله اخوانك الانبياء قبلك .

ويبدو انها غريزة عند كبار المشركين فى كل عصر أن يستخدموا نفوذهم فى طرد الرسل , من ذلك ان الرسول عليه السلام حين استقر له الأمر بالمدينة لم يعجب ذلك كبير المنافقين عبد الله بن أبى , وكان على وشك ان يتوج ملكا قبل هجرة الرسول  فلما هاجر الرسول واسلم أهل المدينة وانقضى عنه الناس حقد على الرسول والمسلمين ونافق . وحدث شجار صغير بين فئة من الانصار والمهاجرين فنسى عبد الله بن أبى نفسه وهدد بأن رجع للمدينة سيخرج منها الرسول والمهاجرين (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) المنافقون : 8 أى أن ابن أُبَى عبـَّر فى لحظة انفعال عما يجيش فى خاطر كل مشرك متكبر مسيطر ازاء كل اية للحق . ولم يختلف فى ذلك عن الذين استكبروا من قوم شعيب أو قوم لوط .. والمهم أن منطق المشركين فى عهد الرسول لم يختلف عن موقف أسلافهم فى عصر الأنبياء السابقين .

ولكن الذى اختلف هو موقف الدعوة الخاتمة وطبيعتها ..

فالدعوة الخاتمة التى جاء بها محمد عليه السلام لم تكن كالرسالات السابقة , فالرسل السابقون كان كل منهم يرسل الى قوم بعينهم فى مكان بعينه فى زمن معين . فيؤمن به الأقلون ويكفر به الأكثرون , ويضطهد المشركون الرسول واتباعه القليلين ويكون الحل النهائى فى تدمير القوم المشركين وقطع دابرهم ويرث الأرض الصالحون ، ثم تتلو ذرية يتسرب اليها تقديس البشر والحجر وتتحول العقيدة الى الشرك ، ويستلزم الأمر مبعث رسول آخر يجدد المسيرة ويقاسى ما قاساه الأنبياء السابقون , وينتهى نهاية القوم كما انتهى أمر السابقين .. وهكذا ..

وجاء محمد عليه السلام رسولا عالميا للبشر أجمعين منذ عهده والى ان تقوم الساعة , فليس رسول فقط لقريش أو العرب أو القرن الذى بعث فيه , وانما هو الرسول العالمى الذى اختتمت به الرسالات السماوية ..

ومن هذا المنطلق لم يعد هناك مجال لاهلاك القوم المعندين وتدميرهم عن آخرهم كما حدث فى الرسالات المحلية السابقة . فكفار قريش ليسوا كل العالم ، وانما هم جزء يسير منه .

وقد كان الكفار فى الرسالات السابقة يتحدون الأنبياء ويسخرون من عذاب الله قائلين (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الأعراف : 70 وعلى هذا المنوال كان مشركوا مكة يستعجلون العذاب , وقد بين ربنا فى كتابه أن الأمر مع مشركى هذا العهد اختلف عن أسلافهم السابقين , فالسابقون كان اهلاكهم وعذابهم فى الدنيا أما المشركون فى عهد الرسول الخاتم (ص) فعذابهم فى الآخرة يقول تعالى ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا ) الكهف : 58 , وتلك القرى ـ أى القرى المشركة فيما مضى ـ ...   أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ) الكهف : 59 , ويقول تعالى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) العنكبوت :53 , ( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ , يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) العنكبوت :54, 55 فالله تعالى قرن لهم العذاب بيوم القيامة , لذا كثر سؤالهم عن الساعة باعتبارها ميعاد العذاب الذى يستعجلونه فينزل الوحى يرد عليهم (أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ) النحل: 1 (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الأنبياء :38 ..؟؟ (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ـ , ـ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ  ـ , ـ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) يونس : 49, 50 , 51 ..

وألحف المشركون فى استعجال العذاب فأمر الله رسوله أن يخبرهم أن ذلك من شأن الله وحده ، وانه لو كان من سلطة الرسول ايقاع العذاب بهم لقضى عليهم واراح نفسه منهم (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) الأنعام : 58 .

وهكذا لم يعد اهلاك القرشيين المعاندين واردا , اذ طويت صفحة التدمير العام التى كانت تصيب المعاندين فى الرسالات المحلية السابقة وتعين على اتباع الرسالة الخاتمة أن يواجهوا المشركين بانفسهم , فالصراع بينهما مستمر وقائم الى أن تقوم الساعة , وعليهم أن يتخذوا لهذا الصراع عدته وادواته , أو بمعنى آخر لابد أن تتسم العلاقة بين المسلمين وأعدائهم بطابع الجهاد بمراحلة المختلفة التى تناسب ظروف المسلمين , كالجهاد بالقول والدعوة السلمية ثم الجهاد بالدم اذا كانت لديهم القوة الكافية لرد اعتداء المشركين .

وفى هذا العصر تتحول الهجرة من مجرد هروب الى عملية جهاد تنتقل بها الدعوة من الجهاد بالقول الى الجهاد بالدم والحرب والقتال . وهذا هو الطابع الاساسى للهجرى فى الرسالة الخاتمة ..

ومن الخطأ ان يقتصر معنى الجهاد على معارك الرسول (ص) الدفاعية فى المدينة , وانما الجهاد بدا بمواجهة المشركين بكلمة الحق والصمود بها امام طغيانهم وعتوهم ، وبهذا نصت الآيات الكريمة من سورة الفرقان المكية , يقول تعالى عن الذكر الحكيم (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُالنَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ...  َفلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا    )الفرقان : 50, 52  فالرسول عليه السلام وهو أعزل فى مكة كان يجاهد المشركين بلسانه الناطق بآيات الله , وكانت اشق عليهم من وضع السيوف والحراب .

ومن الخطأ أيضا ان ينصرف معنى الهجرة للرحلة التى انتقل بها المسلمون من مكة للحبشة أو للمدينة فقط . ان الهجرة من الهجر والاجهاض وقد بدأ هجر الرسول (ص) للمشركين وأعراضه عنهم وعن تحرشهم به واعتدائهم عليه بعد أن أعلن دعوته فى مكة .. وبهذا جاء الوحى للرسول (ص) يعلمه (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) الأعراف : 199 .

بل ويربط هجرهللمشركين بالأمر باعلان الدعوة والاستمرار فيها (َاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر :  94 , بل ويعرض أيضا عن أقوالهم (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ) المزمل : 10 ـ .

وحتى لو بلغ الأمر تعرضهم بالاستهزاء لآيات الله فأعرض عنهم أيضا (َوإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) الانعام : 68 .

وهكذا ارتبطت الهجرة بمرحلة الصبر على الاذى التى عاشها النبى والمسلمون السابقون فى مكة بمثل ما ارتبط الجهاد بالصبر على الاذى ايضا , اذ ثابر المسلمون على الدعوة جهادا منهم بالكلمة وتمسكا منهم بالحق .. ثم تطورت الهجرة من الاعراض الى الهجرة العملية بمثل ما تطور به الى الجهاد القولى فى مكة الى جهاد دموى فى الفترة المدنية ..وفى الحالات كلها كان المسلمون هم ضحايا العدوان والاعتداء ، وكان المشركون هم المعتدون البغاة الطغاة المجرمون المسرفون الظالمون ، حسب وصف رب العزة جل وعلا لهم.

بهذا تصبح الهجرة وثيقة الصلة بالجهاد ، أو بمعنى اخر تكون الهجرة فى مفهوم الرسالة الخاتمة مرحلة من مراحل الجهاد تعنى الانتقال من مرحلة المقاومة الوقائية التى تقوم على الهجران والاعراض والصبر مع التمسك بالحق واعلانه الى مرحلة رد الهجوم ودفعه والتصدى له بالجهاد الدموى ..

فبالهجرة من مكة الى المدينة عبر الرسول و معه المسلمون عصر الجهاد القولى الى الجهاد الدفاعى بالقتال .

واعتبار الهجرة جهادا عمليا ينبع من الربط القرآنى بين الهجرة ومراحل الجهاد التى قام بها النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه .

شرع الله الجهاد الحربى الدفاعى فى صورة تدريجية تتناسب مع نمو القوة الاسلامية فى المدينة. فكان الأمر بالكف عن رد العدوان ، ثم جاء الاذن بالقتال ـ قتال مشركى قريش فقط . ثم تطورالأمر بتحالف كل المشركين ضد المسلمين فجاء الأمر بقتال المشركين المعتدين كافة والوقوف ضد عدوانهم ، ثم حين تحالف معهم فى العدوان أهل الكتاب ووالوهم فى العدوان جاء الامر الاخير بقتال العصاة المعتدين من اهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، والجزية هنا غرامة جزاء اعتدائهم وبدئهم بالعدوان . وفى كل الأحوال لا يوجد ـ عند انتصار المسلمين فى حروبهم الدفاعية ـ لإكراه لأحد فى دينه ، أو إحتلال لبلده ، مجرد دفع غرامة على قدر ما سبب بعدوانه خسائر للمسلمين .

ولقد كانت الهجرة من ظلم المشركين واعتداءاتهم من حيثيات الاذن بقتال مشركى قريش ، فالآية التى اذنت بالقتال جاء فيها (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) الحج : 39 أى أذن لهم فى القتال لرد العدوان الواقع عليهم فعلا ،أى كانت قريش تغير عليهم بينما هم ممنوعون من رد العدوان ومأمورون بكف أيديهم ، وانتهى هذا الوضع بالاذن بالقتال رد العدوان.

ثم أوضح سبحانه وتعالى اهم المبررات فى الاذن بالقتال فيقول (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) الحج :40 أى فالهجرة كانت طردا وتهجيرا ظلما وعدوانا ، أرغمت واضطرت المسلمين لترك بيوتهم واموالهم واملاكهم ووطنهم ، وبعد أن تهيأت لهم القوة التى تمكنهم من الدفاع عن انفسهم ودولتهم الوليدة نزل تشريع القتال الدفاعى يحمل فى ثناياه مسوغاته الشرعية ، وجاءت تفصيلات أخرى مثل منع المسلمين من الحج للبيت الحرام الذى جعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمنا وللناس كافة العاكف فيه والباد.

 أى كانت الهجرة سببا اساسيا فى تشريع القتال ، ثم كانت الهجرة مسوغا برر قتال المشركين فى الشهر الحرام لأن اخراج المسلمين من ديارهم وهم اهل المسجد الحرام والاحق به ـ لهو جرم اكبر من القتال فى الشهر الحرام , يقول تعالى (  َيسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) البقرة : 217 .

وهناك حقائق تاريخية أغفلتها السيرة التى كتبها ابن اسحاق ونقلها عنه من جاء بعده ، ولكن جاءت عنها إشارات قرآنية ، ومنها ما نفهم منه أنه بعد دخول أهل مكة فى الاسلام طوعا ما لبثوا أن نقضوا عهدهم واعتدوا على المسلمين وأخرجوهم ومعهم النبى من مكة ، لذا نزلت بداية سورة  " براءة" تشير الى ذلك وتعطيهم مهلة الأشهر الأربعة الحرم كى يتوقفوا عن عدوانهم ، ومنها قوله جل وعلا للمؤمنين : (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ) التوبة : 13 .

واعتبار الهجرة جهادا عمليا يظهر فى نظرة القرآن الكريم لمن تكاسل عن الهجرة من المؤمنين , وهى نظرة لا تختلف عن رأى القرآن الكريم فيمن تثاقل عن الجهاد .

يقول تعالى فيمن تكاسل عن الهجرة ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا ـ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ) النساء : 97 , 98

ويقول تعالى عمن تثاقل عن الجهاد (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ـ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) التوبة : 80 , 81.

ثم تتحدث الآيات التالية عن هجرة الرسول وانهم ان لم ينصروه بالجهاد معه فان الله تعالى نصره وهو وحيد مع صاحبه فى الغار حين الهجرة (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ... ) التوبة 40: .

 أىان القرآن حكم بالنار على من تكاسل عن الهجرة او القتال الا الضعفاء , يقول عنهم فى معرض الجهاد (لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ ) التوبة : 92 ..ويقول عنهم فى الهجرة : (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ) النساء : 97 , 98

 )

واعتبار الهجرة جهادا عمليا يتجلى فى التعامل مع المشركين ومن لم يهاجر من المسلمين.

فهناك نهى عن أى موالاة بين المسلمين المسالمين والمشركين الذين يعتدون عليهم ، كما أنه لا موالاة بين المسلمين ومن تكاسل عن الهجرة من مسلمي مكة. أى أن من تكاسل عن الهجرة وعاش مع المشركين المعتدين فقد وضع نفسه  فى خندق واحد مع المشركين المعتدين وصار خارجا عن دائرة المسلمين ليست بينهم وبينه موالاة . والموالاة تعنى التحالف الحربى وقت نشوب الحرب .

يقول تعالى فى النهى عن مودة المشركين وموالاتهم (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) الممتحنة : 9 ومن حيثيات النهى عن موالاتهم انهم أخرجوا المسلمين من ديارهم وظاهروا على اخراجهم أى أعانوا عليه وقاتلوهم بسبب الدين .

ويقول تعالى فى النهى عن موالاة المسلمين الذين لم يهاجروا الى المدينة (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ) الأنفال : 72 ـ أى فالهجرة هى الحد الفاصل بين مجتمع المسلمين ومجتمع المشركين .. ومن تكاسل عن الوصول لمجتمع المسلمين فايس منهم .

بل ان الهجرة دليل على الاسلام الظاهرى للكافر فى عقيدته أو المنافق , فاذا هاجر عد مسلما اى مسالما ، وإن لم يهاجر وجب قتاله , يقول تعالى عنهم ( وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا )النساء : 89 . وحتى نفهم المراد من تلك الآيات الكريمة فانها تتحدث عن الاعراب الذين كان بعضهم يخدع النبى والمسلمين فى المدينة ، يفدون الى المدينة بزعم الاسلام ، وهو فى حقيقته يريد أن يتكشف ثغراتها الدفاعية ، ثم يعود الى الصحراء مزودا بتلك المعلومات ، ويأتى ليهاجم المسلمين . لذا كانت الهجرة والاستقرار فى المدينة هى الحل الأمثل ، لأنه فى المدينة سيتمتع بحريته العقيدية ، بل له حريته المضمونة فى المعارضة القولية و السياسية والدينية كيف يشاء بمثل ما كان يفعله المنافقون فى المدينة من إيذاء للنبى واسهزاء بالله تعاى ورسوله وآياته وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف ، وترويج الاشاعات وقت الحرب وتثبيط لهم عن المشاركة فى الحرب وبناء مسجد للاضرار بالمسلمين والتآمر عليهم وسخرية بالمؤمنين عند الأذان للصلاة وعند التبرع والتطوع للقتال ، كل ذلك كان مسموحا بهم طالما لا يرفعون سلاحا . وبالتالى كان أمام أولئك الأعراب لو كانوا مسلمين مسالمين أن يهاجروا للدولة الاسلامية فى المدينة ز ولو رفضوا فيجب الحذر منهم ومراقبتهم فإن اعتدوا فيجب الرد عليهم بحزم .

 

واعتبار الهجرة جهادا يتجلى فى ذلك الاقتران الدائم بين الهجرة والجهاد وتفضيل من جمع بينهما على من عداه ـ يقول تعالى ( الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) التوبة : 20  , ويقول تعالى مبشرا لمن هاجروا وجاهدوا وقـُتـل ( فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) آل عمران : 195 ونحو ذلك آيات كثيرة ربطت بين المهاجرين والمجاهدين وتحدثت عن اجرهم عند الله تعالى ..

واعتبار الهجرة جهادا يتضح فى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجرا ومجاهدا . فالرسول (ص) خطط لهجرته كأنه ينفذ عملية حربية دبر واحكم التدبير , وأخفى الميعاد وأحسن اختيار الصديق الرفيق فى الرحلة ووزع الأدوار فهناك دور لأسماء بنت أبى بكر ودور لعبد الله بن أبى بكر ودور لعامر بن فهيرة , ودور لعبد الله أريقط ، وحدد أماكن الاستخفاء وخمن رد الفعل عند المشركين وتحسب لها .. كل ذلك بجهد الفردى معتمدا على الله تعالى متوكلا عليه . ونفس التخطيط ونفس الذكاء والتدبير كان يمارسه فى معاركه عليه سلام الله جل وعلا .

وهكذا يتضح لنا من تتبع الهجرة فى تاريخ الأنبياء من خلال آيات القرآن الكريم الحقائق القرآنية الآتية :ـ

1ـ ان كل الأنبياء هددوا بالطرد والنفى وبعضهم هاجروا فعلا .

2ـ ان هجرة الانبياء ارتبطت باضطهاد المشركين لهم ومحاولة فتنهم فى الدين .

3ـ ان الهجرة فى تاريخ الأنبياء السابقين ارتبطت مع الاضطهاد بفناء الامم المشركة وابادتها عن آخرها .

4ـ أما الهجرة فى الرسالة الخاتمة فقد ارتبطت بالجهاد , لأن الرسالة الخاتمة عالمية ودائمة الى قيام الساعة وبهذا امتنع نزول الاهلاك العام للمعاندين فى الدنيا , وتحتم على النبى واتباعه ان يواجهوهم بالصبر ثم بالجهاد ,  وكانت الهجرة معبرا عبر عليه النبى واتباعه مرحلة الصمود والصبر الى مرحلة القتال الدفاعى ،وكان ارتباط الهجرة بالجهاد فى آيات القرآن الكريم أوضح دليل على فلسفة الهجرة فى الرسالة الخاتمة على صاحبها , والأنبياء كلهم ـ  السلام .  

اجمالي القراءات 22744