تاريخية المصحف -3- (في نقد المرجعية التراثية: أ- الأسس العقيدية)

عمر أبو رصاع في الإثنين ٣٠ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

تاريخية المصحف -3- (في نقد المرجعية التراثية: أ- الأسس العقيدية)

"معنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخلّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز، من تسمية الشيء شبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُدِّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي"- ابن رشد (1)
"...أجمع المسلمون ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل. واختلفوا في المؤوّل منها من غير المؤوّل: فالأشعريون مثلاً يتأوَلون آية الاستواء، وحديث النزول، والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره" ابن رشد (2)
عندما نتناول مفهوم المرجعية الدينية التراثية فنحن لا نتكلم بطبيعة الحال عن المصادر الأصلية، وكنا قد ميزنا في مدخلنا العام بين المصحف باعتباره النص الحاوي للخطاب المؤسس وبين ما قدم من فهم لهذا الخطاب، بل بينه وبين كل ما عداه مما يمكن أن نعده تراثاً، يبقى أن المرجعية الدينية التراثية هنا هي ذلك النتاج الفكري الضخم الذي نرى أنه أرخى كفه واستولى بها على النص، بل نسمح لأنفسنا هنا بالقول ذلك النشاط الفكري الذي صادر الخطاب وحل محله!
هذا ما سنحاول هتك ستره من خلال ما سنتناوله في هذا الثبت، عبر دراسة أداوت تلك المعقولية (الثقافة) التي أنتجت هذا الفكر المرجعي المحكم الإغلاق.
إن هذه الظاهرة ليست امتيازاً حصرياً لأتباع محمد، وعلينا أن نعي جيداً تلك الحقيقة، التي واكبت الملل التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والمحمدية، علينا أن نعي جيداً أن البناء العقيدي الذي أحكم لكل حلقة منها لم يتأسس في لحظة الانبعاث، أو لنقل أن هذا البناء لم يحضر في أي منها في لحظة التكوين، بل الطريف أن الجدل الناجم عن الاختلاف في فهم العقيدة هو تماماً الذي بلور العقيدة المعلنة في كل منها أو لكل منها، فالعقيدة اليهودية استغرق إحكام عراها قروناً، أما العقيدة المسيحية فأول محاولة عامة لوضع قانون إيمان لها كانت عام 325 م في مجمع نيقية المسكوني، وكذلك الحال مع العقيدة الإيمانية لأتباع محمد (المسلمين حسب التسمية التاريخية) سواء كانوا سنة أو شيعة (على أساس أن المذهبين هما اللذان بقيا وطغيا على ما عداهما) لم تكتمل البنية العقدية لهما إلا بعد قرون من وفاة النبي محمد.
هكذا نعلن من البداية أن العقيدة كقانون معلن ليست خارج دائرة النقد، نعني نقد بنية المرجعية التراثية، فهي ليست جزء وبكل مكوناتها من المصحف وبهذا سنبدأ مراجعتنا لهذه لبنية المرجعية التراثية.
أول ما استوقفنا طويلاً ودعانا إلى تأمل عميق، هو السؤال عن القيم في الدعوة المحمدية، ومن نافل القول التذكير بأن التصور العقيدي للمؤمنين برسالة محمد مبني بشكل كامل على حديثين منسوبين للنبي محمد، الأول يعرف الإسلام والثاني يعرف الإيمان، أما الأول فينصرف إلى بيان بنية الإسلام ونصه: « بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ » (3) ، وأما الثاني فينصرف لتعريف الإيمان: « أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ » (4).
نلاحظ أن مفهوم الدين كله يتم اختزاله في هذين البعدين، ولا تكاد تلمس في العقيدة السنية المعلنة أو حتى الشيعية مع بعض الإضافات المتعلقة بالإمامة اختلافاً حول أن الدين هو مجموعة من الاعتقادات الماورائية من ناحية ومجموعة من الطقوس التي يجب أن تؤدى من ناحية أخرى، فللإسلام خمس أركان هي الإيمان بالله وبرسالة محمد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، والإيمان الواجب هو بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
إلا أن كل عقيدة في التاريخ أكانت عقيدة وضعية الهوية أو إلهية تقدم نفسها للناس من خلال مجموعة القيم التي تحملها لهم، فالأكلريوس الكنسي المسيحي يقدم المسيحية باعتبارها ديانة المحبة والسلام والتسامح، والماركسيون يقدمون عقيدتهم بصفتها عقيدة العدل الاجتماعي…الخ
أما الإسلام فيقدم باعتباره إيمان بغيبيات من ناحية ومجموعة من الطقوس التعبدية من ناحية أخرى!
بطبيعة الحال مر في التراث من اعتنى بهذه المسألة، وبنى عقيدته على القيم التي حملتها الرسالة وعلى رأس هؤلاء المعتزلة، إلا أن العقيدة الرسمية المذهبية المعلنة تقدم هكذا واستناداً لهذه الأرضية، فلماذا كان ذلك؟
أي لماذا اختزل الفقه الإسلاموي بناء عقيدته هكذا على بنية اعتقاديه ماورائية وأخرى طقوسية؟
لماذا لا نجد الدنيا والإنسان في هذا المنطلق العقيدي؟ ولحساب من أو ماذا تمت مصادرته؟
الأصل أن الفطرة التي عرفها المصحف في عدة آيات تكشف عن طبيعة الإنسان الثنائية البناء والتي نرى نحن أنها سر الجدل المنتج للعمارة الكونية، إلا أن هذا البناء العقيدي يجرم الدنيوية كلياً، ويهدر قضاياها تماماً، فليس من العقيدة في شيء أن تسعى في أي شيء دنيوي جمعي، إنه يضع الدين في مقابلة الفطرة الإنسانية، فالقيم التي تنبع من العقيدة على هذا النحو تقف في حالة تضاد مع الطبيعة الإنسانية نفسها، ليس لأنها هنا تهدر كل القيم الموضوعية الإنسانية القابلة للتحقيق في الوجود الجماعي فقط، بل وذلك هو الأهم تحيل غاية وجود الإنسان إلى لا شيء سوى أن يؤمن وأن يمارس الطقوس!
هذا هو المؤمن الذي أراد الفقه إنتاجه لنا، ولكن مرة أخرى لماذا أراد إنتاجه على هذا النحو، لماذا؟‼‼
لقد أعاد فقهاؤنا بناء العقيدة والعلة هنا ليست الحديثين اللذين تم توظيفهما بل في العقلية الانتقائية نفسها التي اختارت أن تختزل العقيدة فيهما، تلك العقلية التي بنت لنفسها مرجعية مقدسة مرجعية أرادت دوراً في هذا المجتمع دوراً دينياً مرجعياً ما كان لها أن تحققه إلا إن تصالحت كلياً في خطابها العقيدي مع السلطة السياسية، بل وخدمت أغراضها، من هنا لم يكن الحديث عن العدل ممكناً وأول متطلباته الشورى في إطار العقيدة، بل تحول قبول ظلم الحاكم إلى جزء لا يتجزأ من الإيمان القويم!
حتى مقاصد الشريعة التي من المفترض أنها المدخل الحيوي لفهم المصحف، رتبت على نفس النحو الخادم لمصالح السلطة السياسية، فحفظ الدين كان مدخلاً يوظفه الخليفة لرمي كل من عارضه بتهمة الزندقة والمروق في الدين تمهيداً لذبحه حفظاً للدين، وبقية المقاصد من حفظ للنفس والمال …الخ لا تعدو خدمة غاية أي دولة سياسية من حفظ أمن المجتمع واستقرار سلطته وسياسة عموم أمره.
عندما تنحرف المقاصد وهي المداخل الموضوعية لفهم المصحف، باعتبارها مقاصد عليا للشرع، عن القيم والأخلاقيات العليا التي يحفل فيها النص ويشهد حضورها بكثافة، تحل محلها مقاصد الفقهاء والسلطة التي يخدمونها، تحويل الإنسان عن مجرى الحياة العامة، فليس المطلوب أن يبحث عن العدل الاجتماعي وعن الحرية غاية الغايات، بل المطلوب أن يكون مؤمن بالماورائيات المطلوب منه الإيمان بها، وكذلك مؤدٍ مجتهدٍ لطقوسه، ملتزم بطاعة ربه المتمثلة بطاعة سلطانه وطاعة فقيهه الذي يدبر له أو نيابة عنه البحث المضني في فقه حدثنا ليسير له أمور معاشه، ولما كان الأمر كذلك، فليس العقل ولا العلم، رافعات الدين هنا، بل رافعاته علوم فقه حدثنا وتلابيبه، وما تعلقه به من صناعة لا يجيدها إلا من دخل دار حدثنا فصار بها آمن!
شهدت حركة فهم الكتاب تطوراً متسارعاً وملحوظاً في صدر تاريخ الدعوة المحمدية، وجهدت مدرسة الحديث لمصادرة أي محاولة لتحرير العلاقة بين المصحف والعقل والعلم، فزعمت أن الحديث المنسوب للنبي محمد يشرح المصحف!
وتجهد المرجعية الرسمية في تكريس تلك الفكرة، التي ترددها بأكثر من إهاب تارة السنة تشرح الكتاب، وتارة الحديث النبوي هو الشارح لكتاب الله…الخ
لكن أين المدون في شرح سورة البقرة مثلاً أو آل عمران؟!
أين هو شرح سورة مريم أو يوسف؟
لا يوجد طبعاً، لا يوجد إطلاقاً أي شرح منسوب للنبي لآيات المصحف، ودونك كتب الحديث المجموع أنظرها وتبين أين جلس النبي يشرح لأصحابه معنى قوله تعالى كذا أو كذا!
إذن لنا أن نسأل لماذا حرص النبي الكريم على أن لا يشرح آيات المصحف؟
لماذا لم يحدد لنا فهم معين له؟ فيتناول آياته وسوره بالتفصيل الممل، شارحاً وموضحاً ومعطياً لأمثلة؟
الملاحظ بوضوح أن دين مدرسة الحديث يقوم على مجموعات هائلة الضخامة من الأحاديث المقتضبة، في مواقف هنا وهناك يقول هذا أو ذاك أنه سمعها من النبي أو عنه.
إذا كان النبي محمداً حريصاً على شرح الكتاب وآياته بنفسه، كان لا بد أن نجد حديثه المدون الشارح هذا في كتاب ثان، يتولى هو فيه الشرح بنفسه ويتخذ لهذه المهمة مجموعة من الكتاب.
من الواضح تماماً وبلا شك أن آيات الكتاب، تختلف تماماً في بنيتها وطريقتها عن ما يسمى بالحديث، فما زعموه من الخوف من اختلاط الحديث بالآيات ليس بحجة، أوليس الفرق واضحاً جلياً لا مجال للبس فيه بين آيات المصحف والأحاديث؟
هم عموماً وقعوا في حيص بيص جراء نهيه عن كتابة أحاديثه، فأرادوا دفع ذلك بأنه قاله خوفاً من اختلاط الآيات بالأحاديث، ولكن هل اندفع هذا الخوف عندما -كما نسبوا إليه- أمر بكتابته؟
نعني أنه إذا كان السبب في أول الأمر هو الخشية من أن يختلط حديثه المدون بآيات المصحف، فهل اندفع هذا السبب عندما عاد وأمر بكتابته؟
ثمّ، ألم يكن حديثه الأول الذي نهى فيه عن تدوين حديثه وحي؟ أم أن حديثه أصبح وحي بعد ذلك؟!
وإن كنا سنسلم بأنه أمر بتدوين حديثه، فالأولى إذن أن يكون لدينا دروس مفصلة شارحة لآيات المصحف، فلماذا لا يوجد لدينا مثل هذا الشرح؟!
هل كان النبي عاجزاً عن الجلوس في مسجده لدروس منتظمة يقعد فيها في حلقة بين أصحابه ويشرح لهم الآيات ومقاصدها تفصيلاً، كما يفعل المفسرون في دروسهم؟
ألا يدلنا هذا على شيء؟
ألا يدلنا على حرص النبي محمد على أن لا يقدم تفسيراً حصرياً لهذا الكتاب؟
سواء بوحي أو بدون وحي، لماذا هذا الحرص على تجنب التفسير من قبله؟ أولم ينسبوا إليه الكثير من الأحاديث التي امتنع فيها عن الخوض في التفسير.
بل أن أصحابه كانوا يدركون، وجود فرق بين محمد بصفته رسول الله الذي يتلقى الوحي من السماء، ومحمد النبي الإنسان، الذي يجتهد في الفهم والتطبيق ويحمل أعباء الدعوة ويخالط الناس ويمشي بالأسواق ويتزوج النساء...الخ
فلم يعترض كما نسبوا إليه أيضاً على الرجل الذي برز له يوم بدر سائلاً عن الموقع الذي اتخذه للجيش، أهو من قبيل الوحي أم من قبيل الرأي والحرب والمشورة، فقال له ما معناه بل الرأي والحرب والمشورة، فأشار عليه أن يتحول إلى أبيار بدر ففعل.
ومن مثله حادثة تأبير النخل، التي طالما توقفت عندها لأسأل، إن كان ما يصدر عنه من قول وحي بالجملة فهل كان رأيه الخطأ فيها وحياً؟ يعني هل أوحى له الله بالرأي الخطأ؟!
وليس في هذه الحادثة فحسب، بل كذلك في: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 67) لاحظ هنا أن الخطأ المنسوب له أينما ورد في الكتاب ينسب للنبي وليس للرسول، المهم سؤالنا: إذا كان كل ما يقوله ويفعله بوحي فهل كان اتخاذه الأسرى وأمره بتأبير النخل...الخ وحي؟ يعني هل أوحى له الله بالفعل الخطأ ثم أنزل الآيات تستنكر فعله ذاك؟!!!!
وبعد
شهد منهج فهم التنزيل الحكيم الكثير من التطور في صدر التاريخ العربي الإسلامي، حيث لم تكن المنهجية الرسمية والعقيدة المعتمدة قد اكتملت بعد وأخذت سمة القداسة، لهذا من الأهمية بمكان أن نتتبع تلك الحركة التطورية لنفهم طريقة تكوينها التاريخية، ذلك إننا نجد تطوراً ملحوظاً لعلم المجاز اللغوي على سبيل المثال في دراسة المصحف، والذي كان للمتكلمين فيه قدم السبق وبخاصة المعتزلة، العلم الذي يقوم أساساً على إيجاد المعنى المجازي إذا ما تعارض ظاهر اللفظ مع ما أدى إليه المنطق العقلاني عندهم، وعلى هذا الأساس شيد علم التأويل، أي كان هدفه إزالة التعارض بين ما أدى له التفكير العقلاني وبين ما يؤدي له ظاهر الخطاب، كما بين ابن رشد في الاستشهاد الأول الذي سقناه في صدر هذا القسم.
لم تعرف بنية العقلانية الفاهمة للمصحف ثباتاً أو اتفاقاً تاماً في القرون الأولى التي عاش فيها الجيل الأول والثاني وحتى الثالث، ورغم المحاولات المعاصرة الحثيثة الزاعمة بأن فجوة الخلاف بينهم كانت ضيقة وثانوية، إلا أن دراسة آثارهم تؤكد لنا عكس ذلك تماماً، فقد كان اختلافهم في التأويل اختلافاً جوهرياً وليس ظاهرياً، أساسياً وليس ثانوياً، وجميع الفرق التي ظهرت في القرنين الأول والثاني بدون استثناء تأولت النصوص، وتناقضت تأويلاتها فيما بينها في أمور العقيدة نفسها، مما يجعل الكلام عن الإجماع مجرد زعم واهم لا أساس له من الصحة، بل إن الإجماع المزعوم إن وجد، قد كان في هذا بالذات، كما قال ابن رشد الحفيد أن المسلمين إنما كان إجماعهم على ضرورة التأويل وتعارضهم في نتائجه، كما بينا في ما اقتبسنا الثاني عنه أعلاه، كانت النتيجة التي خلص لها ابن رشد هي استحالة الإجماع في أي عصر أو مصر.
تطور الاجتهاد والتأويل بشكل واسع خلال قرنين أعقبا ظهور الرسالة المحمدية، فقد كانت الثقافة العربية قبل الإسلام من منتجات البيئة الصحراوية. وبعد ظهور الرسالة المحمدية، في القرن الثامن، امتدت سيطرة العرب من أتباع الرسالة المحمدية وانبسطت رقعة دولتهم لتبتلع مناطق شاسعة خلال أقل من قرن، زخرت بألوان وأنواع من التكوينات الثقافية الأكثر رقياً من منظومة الثقافة العربية قبل الرسالة المحمدية في مناحي عديدة، إن عنصر القوة الرئيس في الثقافة العربية كان ذاك المستمد من رحم الرسالة نفسها، ممثلاً بالقيم الأخلاقية الإنسانية للدعوة الجديدة تحديداً توحيد وتنزيه الله، وقد ظهرت هذه القوة القيمية رغم عوامل التثبيط التي فرضتها طبيعة الثقافة العربية بمستويات متفاوتة، إلا أن التجريد النظري لمفهوم الإله ظل عنصر قوة وتميز قادر على ابتلاع الآلهة المجسدة في الثقافات الأخرى، إنها مرحلة من تجريد فلسفي عميق للفكرة بلغ ألبقه المتناهي في فلسفة المعتزلة تحديداً(سنعالج هذا باتساع كبير في كتابنا عن المعتزلة الذي نأمل صدوره قبل نهاية عامنا هذا)، متفوقة على ما يناظرها لدى الشعوب الأخرى، لهذا نعتقد أن المضمون القيمي للرسالة المحمدية كان ولا يزال متقدماً بمراحل على القيم التي تعبر عنها ثقافتنا العربية فعلاً، إذن كانت هذه الحمولة الحضارية القيمية، في ذات الوقت الذي لم تكن لغة العرب نفسها قد وصلت مستوى أصبحت معه صاحبة أثار أبجدية مدونة -مع تحفظنا الشديد على حصر العرب في إطار ثقافة الجزيرة دون الامتداد الطبيعي لهم في بلاد الشام والعراق ولا ندري إلى أي مدى يمكن أخراج الثقافة العبرانية والرافدية من العربية- ذلك أن الحروف العربية المكتوبة كانت تقبل أكثر من قراءة، وكانت ثقافة المشافهة مهيمنة في حضورها، ذلك أن الاستخدام الفعلي الواسع التداول للأبجدية لم يبدأ عند العرب على نحو فعال إلى بعد قرن من وفاة النبي محمد.
إذن كان من الطبيعي اعتبار المصحف بالذات نقطة انطلاق تاريخ العقلانية العربية المدونة، لا يعني ذلك أنه لم يكن للعرب ثقافة قبل المصحف، لكنه يعني أن التاريخ الثقافي العربي المدون الحديث إن جاز لنا التعبير إنما بدأ بالمصحف، فالمصحف هو أقدم كتاب أبجدية عربي، وحتى بعض النصوص التي ثبتت صحة نسبتها لأزمنة سابقة تميزت بعدم نضج الأبجدية المستخدمة فيها، بل أن الأبجدية التي استخدمت في كتابة المصحف لم تكن ناضجة بعد، بحيث لا يحسن قراءته بها إلا من حفظه أصلاً، والنتيجة كانت انتشار اللحن في قراءته، حتى تم ضبط الأبجدية على نحو صحيح على يد أبو الأسود الدؤلي (605- 688) - عندما فشا اللحن باختلاط العرب بالعجم، فوضع الحركات على شكل نقط، ثم أكمل عمله تلميذاه يحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم في عهد عبد الملك بن مروان وبأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي وقيل أن من أمر أبي الأسود هو علي بن أبي طالب وقيل بل زياد عامل الأمويين في العراق، ما يعنينا أن نقط الحروف العربية لم يبدأ إلا بعد نصف قرن على الأقل من وفاة النبي كما روى لنا الإخباريون، فيما تأكد لنا نسخ المصحف الأقدم غير المضبوطة والمنقوطة، أن الأبجدية العربية لم تنضج إلا بعد وفاة النبي بعقود، فسواء قبلنا خبر أبو الأسود ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم أم شككنا فيه، فالأصل ما أكدته المعرفة المادية بالمخطوطات، ذلك أن الكتابة الأبجدية العربية لم تنضج إلا بعد وفاة النبي بنصف قرن على الأقل*.
تحت الضغط الثقافي للمناطق التي سيطر عليها العرب وأصبحت واقعة في قبضة دولتهم، هذه المناطق التي لها تاريخ حضاري عريض، وجد القادمون الجدد أنفسهم يواجهون التحدي الرئيس والمتمثل بهضم الإرث الحضاري الذي قابلوه في هذه المناطق التي سيطروا عليها، لم تكن المهمة سهلة أبداً، في مواجهة هذا التراث الضخم، لشعوب وثقافات سابقة، كان لها إسهامات هامة في بناء حضارة الإنسان، واستيعاب ذلك كله وهضمه، في الوقت الذي كانت فيه الأبجدية العربية نفسها غير ملائمة للكتابة والتأليف، والثقافة العربية لا زالت تعتمد على السماع؛ فهي ثقافة مشافهة لم تتحول بعد للكتابة والإنتاج الفكري باستخدام الأبجدية. لقد كان للإيمان القوي والولاء القبلي والتنظيم الجيد الدور الرئيس الذي أهلهم لهذه المهمة، إضافة بطبيعة الحال للظروف الموضوعية، التاريخية، الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، للعالم القديم في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الإنسانية.

للأسف تعتمد محاولات دراسة التاريخ العربي لمرحلة ما بعد البعثة المحمدية، على مناهج ومصادر تقود إلى فهم مشوش وسقيم أكثر مما تقود إلى فهم علمي سليم، ولعل المشكلة الأكبر آتية من طبيعة المنهج الإخباري، والاعتماد على كتب الرواة والإخباريون في فهم التجربة، وأخطر ما في ذلك هو رفع منهجهم فوق مستوى النقد وإضفاء صفة القداسة عليه كما لو كان منهجاً إلهياً، بالتالي أصبحنا أمام وعي مؤسطر ينزع إلى تقديس التجربة ورفعها فوق مصاف بيئتها التاريخية والموضوعية، وعي وسع دائرة المقدس لتشمل كل التجربة، ففقد شخصوها إنسانيتهم في وعينا، وأصبحوا شخصيات أسطورية مفارقة للواقع فضلاً عن مفارقة الظروف البيئية التاريخية، الاجتماعية، والاقتصادية، التي صدروا عنها.
يتبع

(1) ابن رشد، أبو الوليد محمد،(1968)، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لبنان- بيروت: دار المشرق المطبعة الكاثوليكية، ط: 2، ص: 35.
(2) نفس المصدر ، ص:36.
(3) صحيح مسلم، ج: 1، ص: 34، رقم: 121
كذلك بالنص أو المعنى: صحيح البخاري، ج: 1، ص: 12، رقم: 8. مسند أحمد بن حنبل، ج: 4، ص: 363، رقم: 19240. سنن الترمذي، رقم: 2534. سنن النسائي، رقم: 4915.
(4) صحيح مسلم: ج: 1، ص: 28، رقم: 102. سنن أبي داود، ج: 4، ص: 359، رقم: 4697
كذلك بالنص أو بالمعنى: صحيح البجاري، ج: 1،ص: 27، رقم: 50. مسند أحمد بن حنبل، ج: 1، ص: 28، رقم: 191. السنن الكبرى للنسائي، ج:3، ص: 446، رقم: 5883. سنن أبي داود، رقم 4075
سنن ابن ماجة، رقم: 63
* ظهرت في السنوات الأخيرة بعض الأبحاث التي زعمت أن رسم المصحف جزء من الوحي، أي أن هذا الرسم الحالي للمصحف هو جزء من رسالة محمد، الحقيقة أن وجود أقدم نسخ المصحف المعروفة غير منقط يثبت أن هذه النظرية قائمة على باطل بالدليل المادي، إضافة إلى أنه لو كان هذا الزعم صحيحاً وكان رسم المصحف جزء من الرسالة لحفظت لنا نسخة أصلية بخط النبي نفسه باعتباره مبلغ رسالة ربه.

اجمالي القراءات 15277