في صيف عام 2004 توجهت إلى محكمة جنوب القاهرة لإنهاء بعض الأعمال القانونية و تقابلت مع شيخ من شيوخ المحاماة كان عمره وقتها 74 عاماً و ذهبنا معاً حتى إلى المصعد الكهربائي حتى ننتقل إلى الطابق الثالث و الأخير بهذا المبني العريق و الذي لم تحافظ الدولة على عراقته !
إلا أننا وجدنا طابوراً طويلاً من المحامين و المتخاصمين ، فحصل كل منا على مكانه في الطابور بشكل حضاري و مرت أكثر من 20 دقيقة حتى وصلنا إلى باب المصعد ، و لكننا لم ندخل المصعد نظراً لمجيئ أحد أعضاء النيابة العامة إذ منعنا عامل المصعد من الدخول و آثر أن يدخل عضو النيابة العامة ! وقتها وجدت نفسي أثور على عامل المصعد ثورة عارمة و طلبت منه أن يحترم الطابور إلا أنه قام بالرد بأن الباشا "عضو النيابة العامة" هو الأولى بالدخول و أغق باب المصعد و إرتفع بعضو النيابه إلى الطابق الخاص بمكتبه ، ثم عاد من جديد .. و عندها وجدت نفسي أنهال عليه بالكلمات اللاذعة منتقداً إياه مع تهديده بأنني سأقدم شكوى رسمية لرئيس المحكمة بشأنه .. و واقع الأمر أنني قد أهنت الرجل جداً أمام جموع الناس ، مع العلم بأن ثورتي عليه كانت لسببين الأول / أنه لم يحترم الطابور و الثاني / لوجود شيخ كبير من المحامين معي ، إذ أنني قد إستأت جداً لأجل المحامي الكبير ، و بعد أن صعدت أنا و المحامي الكبير سألته عن رأيه في تقديم شكوى ضد عامل المصعد و كان رد الرجل علي مفاجاً لي إذ أنه قال لي :
لماذا ثورت على الرجل كل هذه الثورة !؟ و لماذا أهنته أمام جميع الناس !؟ هل تعلم مدى الأضرار النفسية التي سببتها إليه الآن ؟ و هل تعلم كيف سيتعامل معه الناس اللذين شاهدوك و أنت تعنفه ؟ لقد أسأت التصرف أكثر من إساءة عامل المصعد !
فقمت بالرد عليه بأنت ثورتي كانت من أجله في المقام الأول ، فقال لي و أنا لم أشكو إليك ! فقلت له رسلك علي و أرجوا أن تبين لي خطأي و بدأ الرجل يشرح لي خطأي قائلاً :
إن عامل المصعد رجل بسيط الحال لا يملك نفوذاً أو سلطة و يعيش في بلد للمحسوبية فيه شأن عظيم ، كما أنه يعمل بالمحكمة و هي مكان مليئ بأصحاب النفوذ و السلطة من ضباط شرطه و مستشارين و أعضاء النيابة العامة ، و بين عامل المصعد و هؤلا مسافات لا يستطيع السير فيها أو تخطيها ، كما أنه لا يملك نفوذاً أو سلطه ! بيد أنه يملك شيئاً واحداً و هو المصعد الكهربائي فهو رئيس هذا المكان و من خلاله يستطيع أن يجامل غيره من أصحاب النفوذ ، و لا يشترط أن يستفيد من منهم و لكنه في النهاية يشعر بالرضا عن نفسه لأنه أصبح في مقدوره أن يجامل الآخرين مثل غيره ! لذلك كان يجب عليك أن تحترم سلطته البسيطة و لا تسلبها منه إلا أنك قد سلبتها منه بالفعل !
تحليل غريب لهذا المحامي الخبير في الحياة إلا أنه منطقي جداً ، فهو الأنسب للواقع الذي نعيشه في مصر في دولة لا يحصل الإنسان فيها على كامل حقوقه مما تسبب في النهاية إلى إصابة الجميع بهوس السلطة و النفوذ و قد وصل هذا الهوس إلى الفقراء أيضاً ! و بالتحليل المنطقي لأسباب ظاهرة هوس السلطان و النفوذ نجد أنها صفة مرضية و قد تكون منطقية إذا ما راجعنا أسبابها و لكنها غير صحية ، فمن خلال تلك الصفات تنشأ الكراهية بين الناس و يزداد الحقد ليس بين الفقراء و الأغنياء فقط بل بين الفقراء و الفقراء أيضاً بنسبة أكبر ، فالجميع يبحث عن النفوذ و السلطان و الجميع يريد أن يشعر بسلطانه على أي أحد أي ما كان ، فالمهم في النهاية الشعور بهوس السلطة و النفوذ ، و لو أننا في بلد تحترم القانون و تحترم فيها أبسط قوانين حقوق الإنسان ، لزالت هذه الصفة بكل تأكيد .
و ليولي الله من يصلح
شادي طلعت