أولا :
1 ـ فى الستينات كان المدرس يشرح فى أحكام الصيام ونحن فى الثانوى الأزهرى وسأله طالب : ماذا لو فعلت كذا وكذا ؟ وقال المدرس على الفور : إذا تكون عليك حرمة . وقال الطالب المشاغب : يا ريت ، وضجت القاعة بالضحك ، فكلمة " حرمة "( بضم الحاء ) تعنى فى اللغة المصرية الريفية : المرأة..
2 ـ والمصرى حين يعتبر المرأة التى لا تحل له شرعا " حرمة " إنما يعبر عن رقى فى الأخلاق وفى الحضارة . فمن كلمة " الحرام " اشتق وصف " الحرمة " ليعبر به عن كل امرأة يحرم النظر إليها ويحرم الت&Uacutعرض لها . وهكذا عشنا على تقاليد الريف المصرى نعتبر النظر إلى الحرمة ـ أو المرأة ـ عيبا لا ينبغى الوقوع فيه .
3 ـ وأعتقد أن لهذه التربية الأخلاقية جذورا فرعونية كانت لا تزال تعيش فى ريفنا قبل عصر الإنفتاح والتليفزيون والفيديو ، وكأنما كان الريف المصرى فى الستينيات يلتزم بنصائح الحكيم الفرعونى ( أمنيت ـ بن ـ كانخيت) من الأسرة الثانية والعشرين حين يقول " لا ترسل نظراتك إلى جارتك فإن نظرك إليها يجعلك كالذئب الماكر ، لأن للجار حرمة يجب الإحتفاظ بها " .
وفى الفصل الخامس والعشرين من كتاب الموتى تفاصيل عن محاكمة النفس حيث يجتهد الميت فى تبرئة نفسه أمام أوزوريس ، ومن ضمن دفاعه عن نفسه " أنى يا إلهى لم أرتكب الفحشاء ولم أشته امرأة قريبى ."
ومن هنا ترسب فى الشعور المصرى منذ القديم اعتبار المرأة ـ غير الزوجة ـ حرمة ، أى يحرم النظر إليها ويحرم التعرض لها ، وإذا دخل غريب إلى دار قال : دستور ، أو قال : يا ساتر ، ليعبر عن احترامه وتوقيره لمن فى البيت من حريم .
واعتقد أن لهذا أيضا جذورا فرعونية .
4 ـ وكما عف المصرى بصره عن النظر للمرأة الأجنبية فإنه كذلك كف يده عن مال الغير ، وكما أعتبر المرأة الأجنبية حرمة فإنه كذلك أعتبر مال الغير حراما ، ووصف من يسرق مال غيره بأنه " حرامى " أى ارتكب حراما حين سرق مال الآخرين . وهكذا يكون ذلك السارق لصا فى اللغة العربية ، ويكون فى لغتنا المصرية " حرامى " مما يدل على حساسية الشخصية المصرية نحو المال الحرام وكل ما يمت للحرام بصلة .
5 ـ والغريب أن المصرى مع ذلك كان يستبيح لنفسه أن يأكل مال الحكومة ما أمكنته الفرصة ولا يعتبر ذلك حراما .
ولا ينبغى أن نلومه على ذلك فقد عانى المصرى قرونا من ظلم الحكام الأجانب الذين بذلوا كل ما فى وسعهم لأمتصاص دمائه ونهب خيراته ومصادرة رزق أولاده . وكان الفلاح المصرى وفقا لنظام الإقطاع الذى صارت عليه الدولة المملوكية والدولة العثمانية مجرد عبد مسخر ليزرع الأرض ولا يأخذ من الخير الذى ينتجه ما يكفى غذاءه هو وأولاده ، وكان مجبرا على الإلتصاق بالأرض وإذا هرب منها أنهالت عليه السياط ، وإذا أخفى حفنة من شعير عن الخولى أو الخفير أو المشد أنهالت عليه السياط ، وكان مما يفتخر به الفلاح فى ذلك العصر أنه إحتمل مئة سوط على ظهره العارى دون أن يعترف بما خبأه من حبوب لقوت عياله..!!
أى كان يفتخر بسرقة حقوقه من الحكام الظلمة ويفتخر بتحمله لسياطهم ..
6 ـ وأنشأ " محمد على " مصر الحديثة ، ولكنه حافظ على النظام الإقطاعى الزراعى واحتكر الإنتاج الزراعي وسن قوانين أحكم بها سيطرته على الفلاح المصرى عن طريق موظفيه فى الريف فى الريف ، وأهمهم المأمور الذى يتلقى تعليماته من القاهرة ويباشر تنفيذها فى منطقته ويتيقن عن طريق أعوانه من تسخير الفلاحين فى الأرض وعدم هروبهم منها .
وأعوان المأمور فى كل منطقة هم المحاسب والصيارفة ومشايخ البلد والخولى والمشدّ والخفير وناظر الشونة ، وأولئك يتعرضون للضرب بالسياط إذا توانوا فى واجبهم ، وهم بدورهم يلهبون ظهر الفلاح إذا تكاسل .. ويعملون من ناحيتهم على تنمية مواردهم الخاصة بزيادة العسف بالفلاح وبالتزوير فى الأوراق وفى الموازين ، أى يسرقون الحكومة التى تسرق الشعب ، ويعيش الفلاح فى الريف ضحية للجميع .. فإذا أمكنته فرصة " وسرق " شيئا من حقوقه افتخر بذلك على المصطبة بين أقرانه .. هذه هى السرقة الوحيدة التى اضطر إليها الفلاح المصرى ولم يعتبرها حراما .. وهو على حق فى ذلك .
7 ـ وما زالت تعيش بيننا بعض النظم التى أرساها محمد على واهمها ما كان موجودا إلى عهد قريب من التسويق الإجبارى للمحاصيل ووضع الفلاح تحت سلطة المأمور وأجهزة وزارة الزراعة وتعرضه للسجن وللضرب فى المركز وفى النقطة إذا لم يبعث بما عليه من أنفار فى مقاومة دودة القطن .ولا تزال الغرامات والأحكام بالسجن تطارد الفلاح المصرى أكثر عباد الله تحملا للظلم وصبرا عليه.
8 ـ والآثار النفسية لذلك الظلم مدمرة على كل المستويات ، وأهمها فيما يخص موضوعنا أعتبار الحكومة أجنبية ينبغى التحايل عليها وأعتبار المال العام كلأ مباحا لمن استطاع أن يسرقه ، وأن يظل الفلاح المصرى يعف ويكف يده عن مال الأفراد ويمد يده فى نفس الوقت لمال الحكومة التى تظلمه وتسلبه حقه وتشترى منه المحصول برخص التراب وتبيعه بأغلى الأسعار وتطارده وتسجنه إذا مارس حقه فى بيع محصوله أو حاول التحرر من احتكار الحكومة للتسويق .
9 ـ إن مصر لو تبلورت فى كلمة واحدة تمشى على قدمين لكانت ذلك الفلاح الذى اختزن فى داخله حضارة خمسين قرنا من الزمان.
متى تكف البيروقراطية المصرية عن عجرفتها وغبائها وتحسن معاملة الفلاح المصرى الذى عرف الحلال والحرام قبل الرسالات السماوية المعروفة !
والغريب أن هذه البيروقراطية الآن من أولاد الفلاحين !!
دولا عساكر مصريين دولا أولاد الفلاحين ...
ثانيا :
1 ـ فى أوائل التسعينيات نشرت هذا المقال جريدة ( الأحرار ) ضمن سلسلة ( قال الراوى ).
وقتها كان الفلاح المصرى إما يعانى العسف فى بلده وإما يعانى العسف مع الغربة حيث يعمل فى الأردن أو دول النفط .
بعدها زاد العسف وزاد معه الفقر فأصبحت الغربة عن مصر حلما يتنافس فيه المتنافسون أملا فى بناء بيت قد تهالك أو تحقيق زواج قد تأجل ، أو الانفاق على الأولاد ..
ثم استشرى الظلم والعسف واختنق الفلاح ..واختفى الفلاح التقليدى فلم تعد تجده إلا فى مسلسلات التليفزيون ، وحلّ محله فلاح كسول يلبس البنطلون ويسهر للفجر ويتفرج على ( الحريم ) فى الانترنت ، ويتهاون فى العناية بالأرض ،أو ما تبقى منها .
2 ـ باندثار الفلاح المصرى التقليدى وبالتخطيط البارع لخراب مصر أصبحت مصر بفقرائها على حافة الجوع .
لم يعد هناك حرامى يسرق الحكومة كما كان زمان ، فلقد تأكّد أن ( الحرامى ) هو نظام الحكم .
3 ـ بهذا يتهامس المصريون .
فمتى يتحول الهمس الى زئير ؟