أنفق المصريون البسطاء مئات الملايين من الجنيهات على "بيزنس الدعاة الجدد" بتوطؤ حكومي واضح من أجل إله
في
الجمعة ١٨ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
من صحيفة المصري اليوم ، ورصد د.عمرو الشوبكى لأحوال الشعب المصري مؤكدا أن شهر رمضان الكريم الذى عاشه جيلى باعتباره شهر التعبد والتراحم وقدر من الترفيه، تحول إلى حالة صاخبة تنافس فيها الجميع على بث كل ما هو غث وردىء، فلأول مرة فى تاريخ مصر «أو فى أى دولة فى العالم» يبث فيها فى شهر واحد ما يقرب من ٦٠ مسلسلاً يستحيل على أى مشاهد إذا بقى أمام التليفزيون ٢٤ ساعة دون نوم أو عمل أن يشاهد ربعها. المدهش أن شكوى بعض الكتاب الإسلاميين فى الماضى من أن وجود المسلسلات كان من أجل منع الناس من الذهاب للمسجد للصلاة، لم يعد له أساس حالياً، لأن جمهور الاثنين أصبح فى معظمه واحداً، ومستمعى خطاب الدعاة الجدد و«مسلسل» موسى وفرعون وكل القصص التمثيلية الساذجة هم أنفسهم تقريباً جمهور المسلسلات ومتابعى البرامج الحوارية الهابطة، التى حرصت بعبقرية تحسد عليها على اختيار كل البلهاء أو الخارجين عن القانون حتى يعملوا «شو إعلامى» ويجذبوا اهتمام الناس. لقد أنفق المصريون البسطاء مئات الملايين من الجنيهات على «بيزنس الدعاة الجدد»، الذين بثوا ثقافة جديدة فى عقولهم بتواطؤ حكومى واضح من أجل إلهائهم عن الاهتمام بالقضايا العامة، خاصة السياسية، فيحدثون الناس كل يوم حول مبادئ الدين وقيم الإسلام، فى حين أن الذى يجرى فى الواقع هو عكس ما يقولونه، حيث قل الإنتاج وزاد الفساد والكذب وجرائم القتل، وانتشر التحرش الجنسى، وملأت القمامة شوارع مصر «رغم أن النظافة من الإيمان» وانهار الأداء العام.
التدين المغشوش
ويضيف الشوبكي : لا أتصور أن هناك مجتمعاً طبيعياً أو صحياً فى العالم يعيش على الفتاوى الدينية، ويتنفس ثقافة الحلال والحرام مثل مصر، ومع ذلك يمارس فى واقعه اليومى عكس ما يسمعه أو ما يتمسك به من مظاهر وصور دينية، فالواقع يقول إن الحديث اليومى فى الدين لم يجعلنا حقيقة متدينين، فمعظم الموظفين يتوقفون عن العمل ساعة صلاة الظهر، وفى الوقت نفسه زادت الرشوة وأصبحت لغة التعامل الرسمى بين المواطن وموظف الحكومة، وقل الإنتاج وغابت الجودة وقيم الإبداع. لم تكن كل هذه المظاهر موجودة فى السابق، وكان المجتمع يعرف علماء حقيقيين وليس دعاة جدداً وهميين، فهل يتذكر بعضنا أسماء مثل محمود شلتوت والباقورى وعبدالحليم محمود ومحمد الغزالى، وهل نعرف كم هى منخفضة وأحياناً معدومة المساحة المعطاة فى الإعلام الحكومى والخاص لكل من يوسف القرضاوى، ومحمد سليم العوا ومن هم على شاكلتهم، خاصة إذا قارناها بالسماوات المفتوحة أمام «بيزنس الدعاة الجدد»، هل نعرف معنى أن تكون عالما، والقيم التى يمكن أن تبثها فى المجتمع، ومع ذلك أو نتيجة ذلك غابوا أو غيبوا عن الساحة الإعلامية حتى نسهل دخول المجتمع فى غيبوبة التسطيح والتبلد. إن «الرجل المتدين» فى مصر كان عادة هو ذلك الرجل المثقف المنفتح على الحياة، المحب للعلم والتعلم، ولم يكن الدين بديلاً لأى قيمة إيجابية أخلاقية أو سياسية، إنما على العكس كان محفزاً للعمل والسلوك الطيب والاهتمام بالشأن العام، إلى أن تغيرت الحال وأصبح التدين بديلاً عن كل القيم الإيجابية.
فى سن المراهقة
ويؤكد الشوبكي : لقد تصور كثير منا أن انتصار الإسلام يقف عند حدود نجاح الدعاة الجدد فى دفع الفتيات فى سن المراهقة إلى ارتداء الحجاب، ونسوا أو تناسوا أن النجاح الحقيقى هو فى تغيير قيم هؤلاء الفتيات، والنجاح فى مواجهة آفة أو مشكلة اجتماعية واحدة فى حى أو مدينة، فلم نجد حملة للنظافة ناجحة وحقيقية باسم الدين ولا أخرى ضد الرشوة والفساد، ولا ثالثة ضد التحرش الجنسى، ولا رابعة ضد الطائفية، ولا خامسة ضد التمييز والقهر، وهى كلها قيم لا تدعو للنضال أو الإصلاح السياسى، ومع ذلك لم يفعلوها، وإذا تحدث عنها بعضهم، فهذا جزء من «أكل العيش» أى الكلام الذى يردد فى الإعلام لإبراء الذمة ويعلمون كما نعلم جميعاً أنه لن يكون له أى مردود على أرض الواقع. إننا نعيش بلا أدنى شك عصر التدين المغشوش الذى تاجر به البعض، وغيب عقل البعض الآخر، وأراح البعض الثالث «بالنضال السياسى» غير المكلف عن طريق الدعاء والصلاة، وشاهدنا تديناً لا هو أنتج ثورة كما فى إيران، ولا حزباً أصبح جزءاً من الحداثة والديمقراطية كما فى تركيا مع حكم حزب العدالة والتنمية، ولا مشروعاً حضارياً وسياسياً حول بلد مثل ماليزيا فى عشرين عاماً من التخلف إلى واحد من أهم اقتصاديات العالم، فهنيئاً لنا تديننا المغشوش وغيبوبتنا التى نتمنى لو طالت ألا تتحول إلى موات نهائى.