تسبب الأمويون في إحداث كوارث مؤلمة لا تزال تؤرق العالم الاسلامي ، وهى قتل الحسين وآله في كربلاء وقتل أبناء المهاجرين والأنصار واقتحام المدينة ثم انتهاك الكعبة وضربها بالمجانيق.. واحتاج الأمويون إلى تبرير هذه التصرفات أمام دعاية خصومهم فوجدوا التبرير في اعتناق فلسفة الجبرية ،فما هى فلسفة الجبرية ؟ وما هي جذورها لدى الأمويين ؟ وكيف استغلوها ؟ وما موقف خصومهم منها ؟ وما هى الآثار التي ترتبت على ذلك ؟
معنى فلسفة الجبرية :
* فلسفة الجببرية : معناها أن الإنسان مجبر على أعماله وأن كل أفعاله تصدر عنه بطريقة لا إرادية ، وأن مشيئة الله اقتضت أن يتصرف هكذا ، ولا يمكن له أن يتحرر من أسر هذه المشيئة ، فإذا شاء الله أن يكون كافراً فلابد أن يكون كافراً ، وإذا شاء له أن يعصي فلابد أن يعصي .. ولامجال للإنسان في الإختيار وحرية الارادة .
جذورها في قريش والأمم السابقة :
* وحين كان الأمويون زعماء قريش في حرب الاسلام كان يحتجون بالجبرية ويقولون إن مشيئة الله اقتضت أن يشركوا بالله ، وحكى القرآن عنهم ذلك " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيئ كذلك فعل الذين من قبلهم ، فهل على الرسل إلا البلاغ المبين : النحل 35 ."
رد القرآن على الجبرية :
* والواقع أن القرآن الكريم أرسى حرية الإرادة وحرية الاعتقاد فقال عن القرآن يخاطب قريشاً وغيرها " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ..الأسراء 107 " أي بامكانهم أن يؤمنوا أو أن يكفروا ، وقال " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر : الكهف 29" أي للبشر مشيئة مستقلة وإرادة حرة ، والله دعاهم للإيمان في ظل من الحرية الإنسانية ومنع الاكراه في الدين لأن مشيئة الرحمن اقتضت ان يكون الناس أحرارا " ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين ؟ يونس 99 "
بل إن أعداء القرآن يحاولون حربه مااستطاعوا تأسيسا علي مايتمتعون به من حرية ، والله تعالي هو الذي شاء لهم أن يكونوا أحرارا وسيحاسبهم علي أفعالهم يوم القيامة ، يقول تعالي " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ، أفمن يلقي في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ؟ اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير : فصلت 40" قال لهم" اعملوا ماشئتم " أي لهم حرية الأرادة في التصرف وليسوا مجبرين علي الطاعة أو المعصية إلا إذا ألزموا أنفسهم بأنفسهم .
* غاية ماهنالك أن العبد يختار لنفسه بمحض ارادته طريق الإيمان أو طريق العصيان والله تعالي يزيد المؤمن ايمانا ويزيد الضا ل ضلالا . يقول تعالى عن المؤمنين حقاً " ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً : مريم 76." ويقول عن أهل الكهف " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى.. الكهف 13." ويقول عن الضالين " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً : البقرة 10 . "
* إذن يبدأ الانسان بالاختيار الحر ثم يزيده الله إيماناً إذا كان مؤمناً ويزيده ضلالاً إذا كان ضالاً ، أو بمعنى آخر يزين له اختياره ، يقول تعالى عن تزيين الإيمان للمؤمنين " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان : الحجرات7 ." ويقول تعالى عن الصنف الآخر " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون : النمل / 4 " .
الخلفاء الأمويون وفلسفة الجبرية:
* وأرسى الأمويون ملكهم العضوض بقوة السيف، وبعد مقتل الحسين وآله وانتهاك البيت الحرام وقتل أهل المدينة لم تعد هناك حدود يقفون عندها في سبيل احتفاظهم بالملك، ولكن احتاجوا فقط لتبرير أعمالهم ولجوئهم للسيف والعنف ، وكانت فلسفة الجبرية هى التبرير المناسب ولم تكن بالغريبة عليهم إذا عرفوها من قبل .
* لذا قامت دعايتهم على أساس أن الله شاء أن يقتل الحسين وآله في كربلاء وأن مشيئة الله أقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام والمدينة المنورة وأن الاعتراض على ذلك اعتراض على مشيئة الرحمن وخروج على إرادته ، وأنه لا شيئ يخرج عن قدر الله ومشيئته ، وأنّ من أنكر ذلك فقد خرج عن الاسلام واستحق القتل . وكان الأوزاعي عالم الشام هو أكبر بوق للدعاية الأموية في هذا الشأن .
عمرو المقصوص أول داعية للإرادة الحرة :
* ومن الطبيعي أن يقاوم خصوم الأمويين تلك الأفكار بأن ينادوا بمذهب نقيض، هو الإرادة الحرة للانسان ومسئوليته عن فعله وإلا ما كان هناك حساب وعذاب وثواب وجنة ونار .
ولأن خصوم الأمويين كانوا يعملون في الخفاء وينشرون أفكارهم سراً فإن من الصعب رصد حركتهم بالكامل ، وإن كان المقدسي في كتابه " البدء والتاريخ " يتحدث عن رائد لمذهب الإرادة الحرة هو عمرو المقصوص الذي كان له أكبر الأثر في تاريخ الأمويين.
فذلك الرجل كان معلماً لمعاوية بن يزيد بن معاوية ، وترك أثراً واضحاً عليه وجعله يعيش في عقدة الذنب التي تضخمت حين قتل يزيد بن معاوية الحسين وآله وانتهك حرمة الكعبة والمدينة ، فلما تولى معاوية بن يزيد الخلافة بعد أبيه كان قد تشرب بمذهب الإرادة الحرة ورفض المذهب الأموي في الجبرية والتمسح بمشيئة الله ، واستشار الخليفة الجديد معلمه عمرو المقصوص ماذا يفعل، فقال معلمه: إما أن تعدل وإما أن تعتزل .
ولذلك خطب معاوية بن يزيد خطبة مشهورة يبدو فيها تحمله لمسئولية ما فعل أبوه يزيد وجده معاوية ثم اعتزل الخلافة ، ومات بعد أربعين يوما بعدها وقيل أنه مات مسموماً ، وقد وثب بنو أمية على المعلم عمرو المقصوص وقالوا له : أنت أفسدته ، ثم دفنوه حياً .!!
الحسن البصري ومذهب الإرادة الحرة :
* وتلك النهاية المفجعة لعمرو المقصوص أثرت على داعية آخر مشهور هو الحسن البصري الذي كان يؤمن بالإرادة الحرة فإذا ووجه بضغط من الأمويين لجأ للتقية والسكون خصوصا وقد أدرك جبروت الحجاج بالعراق ، وقد لمس الحسن البصري ما أدى إليه مذهب الجبرية الأموي من انحلال خلقي بالبصرة ، فالذين أدمنوا الفواحش فيها كانوا يتمسحون بالجبرية والزعم بأنها المشيئة الإلهية في استمرارهم في الفجور والدعوة إليه .
لذا كان الحسن البصري يعلن مسئولية الانسان عن أعماله ويحذر من نسبة الشر إلى الله تعالى ويعتبر ذلك من شر المحدثات ويؤكد أن الله لا يرضى من عباده الكفر ويستدل بقوله تعالى " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولايرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم: الزمر7 ".
معبد الجهني وثورته على الأمويين :
* بينما تردد الحسن البصري في مقاومة المذهب الجبري الأموي فقد نهض معبد بن خالد الجهني لحرب ذلك المذهب علانيةً فأعلن مذهبه في الإرادة الحرة تحت شعار أصبح مشهوراً وهو قوله " لا قدر والأمر أنف " ولشرح هذا الشعار نقول إن الأمويين أشاعوا أن معاصيهم وأعمالهم تسير بقدر الله ومشيئته فأعلن معبد أنه لادخل للقدر في تلك المعاصي " لا قدر " وان أمور الأمويين تجري بالعنف والإكراه رغم أنوف المسلمين "والأمر أنف" .
وانتقل معبد إلى البصرة وقابل شيخها الحسن البصري وقال له : يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون أموالهم ويقولون " إنما تجري أعمالنا على قدر الله" ورد الحسن البصري قائلاً : كذب أعداء الله ..
وتشجع معبد الجهني بما سمعه من الحسن البصري فاستمر في دعوته. وأتته الفرصة حين سار ثار محمد بن الأشعث على الحجاج والأمويين فانضم إلى ابن الأشعث، وفشلت الثورة ، ودخل معبد سجن الحجاج الذي كان يتلذذ بتعذيب معبد والسخرية منه ، فقد جئ للحجاج بمعبد مقيداً فقال له : ( يا معبد كيف ترى قسم الله لك ) ؟ أي يذكره الحجاج بأن إرادة الله قسمت لمعبد أن يكون أسيراً للحجاج ، فقال له معبد (: يا حجاج خلِّ بيني وبين قسم الله فإن لم يكن لي قسم إلا هذا رضيت به ) ، أى أن إرادة الله لا دخل لها بسجنه وأن الحجاج لو تركه حراً فلن يضع نفسه بمحض اختياره في السجن . فقال له الحجاج (يا معبد أليس قيدك بقضاء الله ؟) فقال له : "يا حجاج ما رأيت أحداً قيدني غيرك ، فأطلق قيدي فإن أدخله قضاء الله رضيت به " ، وهكذا صمم معبد الجهني على رأيه أمام جبروت الحجاج ، فأمر بتعذيبه حتى مات بعد سنة 80 هـ .
مذهب القدرية وغيلان الدمشقي :
* وانتقل تأثير معبد إلى العالم الإسلامي تحت اسم القدرية تأثراً بقوله المشهور " لاقدر والأمر أنف " ، وكان أبرز القدرية في دمشق هو غيلان الدمشقى الذي تابع معبد الجهني في ثورته على الأمويين ، وكانت له علاقات بالخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، وكانت لهما مناقشات في القضاء والقدر تعرضت لتحريف الرواة من خصوم القدرية إذ جعلوا عمر بن عبد العزيز ينقم على غيلان وجعلوا غيلان يرجع عن رأيه.
بينما يذكر أنصار مذهب الحرية الفردية أن عمربن عبد العزيز استجاب لدعوة غيلان الدمشقي في رد المظالم وما صادره الأمويون من أموال الناس ومتاعهم ، ويقولون أن عمر بن عبدالعزيز أوكل إلى غيلان أن يبيع تلك الأغراض لصالح بيت المال فوقف غيلان في سوق دمشق يبيع حوائج الأمويين قائلاً : تعالوا إلى متاع الخونة، تعالوا إلى متاع الظلمة، تعالوا إلى متاع ما خلف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته " .
ويقولون أن هشام بن عبدالملك مر بغيلان وهو يقول ذلك فغضب ونذر إن تولى الخلافة ليقطعن يدي غيلان ورجليه ..
وتبدو تلك الرواية الأخيرة هى الأقرب للصواب لأن غيلان الدمشقي ظل متمسكاً بآرائه للنهاية حتى قتله هشام بن عبدالملك في خلافته.
فقد هرب غيلان ورفيقه صالح إلى أرمينيا يدعوان للثورة على هشام فقبض عليها أعوان الأمويين وجئ بهما إلى هشام فقال لغيلان : " زعمت أن ما في الدنيا ليس هو عطاء من الله لنا " ، فقال له غيلان : "أعوذ بجلال الله أن يأتمن خواناً أو أن يستخلف الخلفاء من خلقه فجاراً" وفي نهاية النقاش أمر هشام بحبسه واستمر غيلان في بث دعوته من السجن وكان من الفصحاء البلغاء، فرأى هشام أن يقتله بفتوى دينية فسلط عليه الأوزاعي الذي ناقشه ثم أفتى لهشام بقتله .
وأمر هشام بإخراج غيلان وصاحبه صالح وقطع أيديهما وأرجلهما .. ومات صالح ، وظل غيلان حياً فتوافد عليه الناس فاستمر يعظهم ويهاجم الأمويين فأمر هشام بقطع لسانه ، فأرسل إليه من يقطع لسانه فقيل له : أخرج لسانك ، فقال : لاأُعين على نفسي . فكسروا فكيه واستخرجوا لسانه ليقطعوه فمات . .
التشنيع على مذهب القدرية :
* وكان مكحول أكبر عالم بالشام في وقته ، وكان متأثراً بالقدرية التي واجهت حملة دعائية عاتية من الحكام الأمويين ثم العباسيين فيما بعد ، لأن الظلم استمر ، وكانت الجبرية من أسس تبريره بينما كانت القدرية هى الدعوة للتخلص منه . وكان أعوان السلطان أكثر ونفوذهم أشد ، لذا توارثت الأجيال التالية الفكرة القائلة بأن القدرية تهمة تساوي الكفر والعصيان ، خصوصاً وأن تلاميذ القدرية في العصر العباسي دخلوا فيتفريعات كلامية ابتعدت بهم عن البساطة التي كان عليها معبد وغيلان والحسن البصري ، وابتعدت بهم أيضاً عما اتسم به أولئك الرواد من اقتران العمل بالقول ووقوف في وجه الظلم وأمربالمعروف ونهي عن المنكر.
* وفي العصر العباسي انتشرت أحاديث تطعن في القدرية وفي قائدهم غيلان الدمشقي ، ونسبوا تلك الأحاديث للرسول عليه السلام ومنها " صنفان من أمتي ليس لهما في الاسلام نصيب ، المرجئة والقدرية" وحديث " ستة لعنتهم، لعنهم الله وكل نبي، الزائد في كتاب الله عز وجل والمكذب بالقدر " وحديث " يكون في أمتي رجلان أحدهما وهب ، وهب الله له الحكمة ، والآخر غيلان ، وهو فتنة على هذه الأمة أشد من فتنة الشيطان " وذلك الحديث يشيد بوهب بن منبه منبع الاسرائليات في الأحاديث والتفسير ، ويطعن في غيلان ويذكر اسمه صراحة.
ويذكر الإمام بن القيم الجوزية في كتابه " المنار المنيف في الصحيح والضعيف " أن من الأحاديث الموضوعة كل الأحاديث التي تتحدث عن تواريخ فى المستقبل وما يحدث فيها ، مثل " يكون في كذا " أو " إذا كانت سنة كذا .."
إلاّ أن الاتهام بالقدرية ظل جريمة عند محققي علم الحديث حتى في العصر المملوكي ، ويكفي أن الإمام الذهبي صاحب " ميزان الاعتدال" يقول في ترجمة معبد الجهني " تابعي صدوق في نفسه ولكنه سن سنّة سيئة فكان أول من تكلم في القدر، وقتله الحجاج صبراً لخروجه مع ابن الأشعث. " ويقول عن غيلان " هو المقتول في القدر ، ضال مسكين ، حدث عنه يعقوب بن عتبة ، وهو غيلان بن مسلم كان من بلغاء الكتاب " .
* ويقول عن مكحول " هو مفتي أهل دمشق وعالمهم .. وهو صاحب تدليس وقد رمى بالقدر والله أعلم .. " . ولقد مات الإمام الذهبي في العصر المملوكي سنة 718هـ . واستمرت بعده السمعة السيئة تلاحق مذهب القدرية تأثراً بما أرسته السياسة الأموية في البداية ..