تعد ظاهرة علاقة المصحف بالتاريخ، أحد القضايا التي ألحت في الآونة الأخيرة على الثقافة العربية، وهذا الحضور الخاص لهذه الإشكالية في ثقافتنا يأتي تحت ضغوط كثيرة في صياغة الموقف، ليس فقط من آليات الاشتغال في فهم الكتاب، بل أيضاً الحكم على مصدره نفسه.
إن مفهوم التاريخية على أي حال، ليس مفهوماً حديثاً في دراسة النص، فقد دخل حقل علم قراءة أو نقد النص عموماً في مراحل زمنية مبكرة، على نحو خاlig; خاص مع أعمال النقد الأدبي النازعة إلى توظيف منهج الجدل المادي في دراسة النصوص، والنص أي نص وفق هذا المنهج القرائي ابن شرعي لبيئته التي وجد فيها، بل أن تحليل عناصر تكوين النص وفهمه وفق الأصول المنهجية لهذه المدرسة تستند أساساً إلى تحليل البيئة التاريخية للنص، والنص هنا يعجز عن مفارقة الشروط الموضوعية للثقافة التي تموضع فيها.
أما مدرسة الهرمنيوطيقيا "التأويلية" والتي ارتبطت بفهم وتفسير النصوص الدينية وتحديداً الكتاب المقدس، فقد ركزت على أن فهم النص عملية تفاعلية لها عناصر، ويمكن أن نجمل هذه العناصر بالتالي:
1- المؤلف وزمن وبيئة ظهور النص.
2- اللغة والنص.
3- المتلقي، وزمن وبيئة التلقي.
إن ظاهرة الهرمنيوطيقيا "التأويلية" ظاهرة تُعَلمِن –من العلم- وتفسر اختلاف تأويلات النص، بطبيعة الحال الهرمنيوطيقيا ليست وليدة دريدا وغادايمر من الرواد المعاصرين على ما لإسهاماتهم من إضافات مهمة، ذلك أن جذورها تمتد ضاربة في القدم فترتبط بالنصوص المؤسسة للديانات التوحيدية الإبراهيمية الثلاث، كظاهرة بادية في تأويل النص الديني عموماً، وإن كانت أكثر خصوصية في هذه الديانات لارتباطها على نحو خاص بنص يؤسس لها.
وتعد الدراسات الإنجيلية التأويلية الأغزر إنتاجاً، إلا أننا نعتقد أن للهرمنيوطيقيا حضور خاص في تراث دراسة المصحف، فقد احتفت كتب التفسير كثيراً بدراسة العناصر التكوينية للنص وبيئة تنزيله وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ...الخ
وإن كانت حركة التفاعل الفاهمة للمصحف، قد توقفت في مرحلة مبكرة نسبياً، بحيث لا نكاد نقع على كتاب تفسير جديد متكامل، ربما على طول القرون العشرة الأخيرة، بحيث لا يعدو كون ما يتم إنتاجه مجرد إعادة لما سبق أن كتبه المفسرون قبلاً، اختصار وحواشي لا أكثر ولا أقل.
من جهة أخرى انقلبت المدرسة البنيوية على النظريات التأويلية التي حملتها المدرسة الهرمنيوطيقية، واعتبرت أن النص ظاهرة منفصلة، وكينونة مستقلة فالنصوص وفقها يجب أن تدرس من داخلها، تحلل عناصرها وتدرس بنيتها الخاصة مستقلة، وأنه لا يمكن اكتشاف النص إلى من داخله؛ فالنص كائن حي مستقل بذاته، مستقل حتى عن أعمال الكاتب الأخرى، ورغم أننا لا نقلل من أهمية الدراسة البنيوية للنص، إلا أننا أيضاً لا نستطيع التعامي عن الظاهرة التاريخية في النصوص، والتي لا يمكن فهم ترابطاتها بمعزل عن واقعها هي، فإغفال البيئة التي ولد فيها النص يبدو ضرب من تفريغ النص نفسه من كونه ظاهرة تفاعل مع الواقع.
إذا كانت التاريخية ظاهرة تعتري النصوص وتمثل مدخلاً موضوعياً لتحليل عناصره وبنيته والوقوف على أبعاده وفهمه، فإن التاريخية تضحي مشكلة كبيرة عندما يتعلق الأمر بنص مطروح بصفته إلهي المصدر، فالتاريخية ليست فقط ظهور لفعالية التاريخ في النص بل ظهور لفعاليته في المؤلف أيضاً، وهنا تواجهنا مشكلة عقدية من الدرجة الأولى، ذلك أن السؤال المنطقي الذي يبرز لنا هنا ولا يمكن تجاوزه بسهولة هو إذا كان للتاريخية حضور في النص فمعنى ذلك أن لها حضور في المؤلف، وإذا كان المؤلف هو الله فمعنى ذلك أن الله "بيئي"!
على الجانب الآخر العقدي التنزيهي الله مطلق، والمطلق لا يمكن أن يكون بيئي يتأثر بالتاريخ وبحركته، والنتيجة التي يخلص إليها الناظر من هذه الزاوية هي أن الحضور الزمني والتاريخي في الخطاب –النص- إما أنه يتعارض مع كونه إلهي المصدر، أو أن لهذا الحضور التاريخي في النص تبرير آخر، تبرير يجعله حضور على مستوى يستعمل فيه ما هو تاريخي لحمل مضمون غير تاريخي.
يبدو الأمر معجزة لا يمكن أن يحققها إلا إله، أن نستطيع إنتاج نص بصبغة تاريخية لغوية وبيئية يحمل في نفس الوقت مضمون لا تاريخي ولا بيئي، أي استعمال أداوت ثقافية وبالتالي تاريخية لتحمل مضامين غير تاريخية مضامين عبر زمنية.
هذا الإشكالية ليست بسيطة بل هي مصدر رفض الكثيرين –إن لم نقل الأغلبية- لإلهية مصدر الخطاب وهو منطق سليم مئة بالمئة، إذا كان المصحف نص تاريخي المضمون أي انسحبت صفة التاريخية ليس فقط على أدوات الخطاب بل وعلى مضامينه، فلا يمكن أن يكون إلهي المصدر، فهل المصحف وفق ذلك نص تاريخي أم لا؟
هذا هو موضوع هذه الدراسة، وهي تقترب من منطقة نزعم أن أحداً لم يقاربها بهذا الوضوح وبهذه الصراحة، فقد دارت دراسات عديدة حول الإشكالية دون أن تصرح بها حتى وإن أخذت منها موقفاً صريحاً، نذكر مثلا أعمال الدكتور نصر حامد أبو زيد "مفهوم النص دراسة في علوم القرآن" و "الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في مفهوم المجاز عند المعتزلة" و "فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي" و "أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السميوطيقا " و "إشكاليات القراءة وآليات التأويل" ونذكر أيضاً مشروع الجابري الأخير لفهم الكتاب، وإذا كان أبو زيد قد استند إلى نتائج الهرمنيوطيقيا الأخيرة في نقد دراسة المصحف كنص، فإن الجابري اتجه مباشرة إلى أداة تقليدية في دراسته هي أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وكلاهما لم يتحرر أبداً من علمي الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، بالتالي لم يستطع إنتاج القطيعة المعرفية -الابستمولوجية- مع السلف في المستوى المنهجي.
إن هذه الدراسة قبل أن تشرع في تحديد أدوات فهم النص، تحاول أن تبحث عن العلاقة بين النص وهو هنا "المصحف" وبين التاريخ، للإجابة بكل وضوح وأمانة عن مصدرية هذا النص، وهي تتمسك بالفرض الأساسي أنه إذا كان هذا النص تاريخي المضمون فلا يمكن أن يكون إلهي المصدر.
فما هي تاريخية مضمون النص بالضبط؟
تاريخية النص ليست تاريخ ظهور النص بل هي حضور التاريخ في النص وارتباطه به عضوياً، وبالتالي أن يكون هذا النص مرتبطاً ببيئة تاريخية لا يمكن فهمه مستقلاً عنها ولا يمكن أن يتجاوز حدودها المعرفية في مضمونه، وأبعاد هذا المشكل لا يمكن استقصاؤها ببساطة، إذ لا بد هنا من تحليل أبعاد الروابط اللغوية للنص، وحصر الدلالات البيئية؛ أي أين يكون النص لا يعني إلا في بيئة معينة ومن خلالها، فضلاً عن أن النص التاريخي نص تم تجاوزه معرفياً، أي ثبت أن المعرفة التي يحملها بين ثناياه باتت متجاوزة بمعيار تاريخية المعرفة وتطورها.
حاولت الهرمنيوطيقيا، أن تحل الإشكالية عبر فرضها المؤسس، وهو أن النص ثابت الشكل متحرك المحتوى، بمعنى أن الثبات في النص هو لشكله أما ما ينتج عنه من فهم فمتغيّر، تبدو هذه نتيجة رائعة حقيقية، ونحن نسلم بها، فكل نص هو ظاهرة قابلة لاستمرار الحضور في الثقافة، طالما أنه يمكن أن يعني في كل بيئة، مهما بلغت درجة تشابكه مع البيئة التاريخية التي صدر عنها ومهما كان حضور التاريخ فيه، فنحن من الممكن أن نقرأ قصصاً قديمة ونأخذ منها عبر معاصرة، لكن متى يكف النص عن أن يكون تاريخي؟ أو بعبارة أخرى، إذا كان بالإمكان تحليل النص بقراءة معاصرة لاستقصاء معاني معاصرة، فإلى أي مدى يمكن تنحية الترابطات التاريخية لهذا النص؟ إلى أي مدى يمكن أن لا يكون هذا النص تاريخي؟
هذا جوهر قضيتنا، ونعني تماماً أن دراستنا وحتى تتمكن من الإجابة على سؤالها المركزي، تبحث في حدود العلاقة بين المصحف والتاريخ، إنها تدرس حضور التاريخ في المصحف، وهنا يبرز تحدي مهم وأساسي، ما هو معيارنا في الفصل بين التاريخي واللاتاريخي؟
كل نص بداية ظاهرة تحمل محتوى دلالي، وحضور التاريخ في النص ضرورة يفرضها عليه المتلقي نفسه وإلا صار بلا معنى لمتلقيه، ذلك أن المتلقي تاريخي، إذن كيف يمكن أن يوجه فكر لا تاريخي لمتلقي تاريخي؟! تلك هي القضية.
إذا كان مصدر النص إلهياً فلا بد أن يكون الفكر لا تاريخي أي أنه تماماً "غير قابل للتجاوز"، ونركز هنا على التذكير بأننا نعني النص وليس فهم النص، فالنص شيء وفهمه شيء آخر، ومن الطبيعي أن يكون فهم النص تاريخي لأن الفهم في حالة المصحف منتج إنساني وكل ما هو إنساني تاريخي بالضرورة، لذا فإن فهم النص هو عملية أنسنة فكر النص -في حالة نص غير إنساني- إن جاز التعبير، وبالتالي عندما نحاول أن نجلي الإشكالية موضوع الدراسة، فنحن نجليها في النص مباشرة وليس في أي فهم تاريخي للنص، وهذا فخ لا ننكر أننا تخلصنا منه بسهولة، هذا الفخ هو الذي يصطاد العقلانية المعاصرة، التي تقول بتاريخية النص، لأن هذه العقلانية ابتداء سوّت بين النص وبين فهم النص، وبالتالي أصبحت كتب التفسير تساوي النص، ومن الحماقة أن لا نحكم بأن كتب التفسير تاريخية بالضرورة، ولكن كتب التفسير لا يمكن أن تساوي النص الأصلي وهو هنا المصحف، وبالتالي فإن الحكم المسبق الذي تم تسطيره لا علاقة له بالنص الموضوع (المصحف) بل هو حكم موضوعه كتب الأقدمين (كتب التفسير)، ومن هنا تظهر بقوة فداحة الجريمة التي ارتكبت بحق النص الأصلي من قبل التابعين، عندما تمت التسوية بين الفهم (أي فهم كان ولأي مدرسة فاهمة) والنص نفسه ، وخصوصاً عندما تصبح العقلانية التي أنتجت النص متجاوزة، فالنتيجة المؤكدة أن اللاحق سيحكم بتاريخية النص بالضرورة، إذا تساوى أمامه النص مع فهمه السابق.
نحن هنا على وجه الدقة إزاء إشكالية العقلانية العربية المعاصرة، التي أصبحت موضوعاً لشكلين من التكوين أو البناء، وليس كما زعم الجابري الذي تناول شكل واحداً وعممه على العقلانية العربية، فلو كان صحيحاً أن هذا الشكل الواحد متفرد – وهو الموروث التقليدي حسب الجابري- لما شعرنا أساساً بالإشكالية التي نتحدث عنها هنا، إن بنية العقلانية العربية المعاصرة يتنازعها الشكل المعاصر للمعرفة الإنسانية وأدواتها الفاهمة والمكونة لمناهج العقلانية من ناحية، ومن الناحية الثانية الشكل التقليدي المرتبط بفهم المصحف خصوصاً والدين عموماً، وهذا ما يجعلنا نعيش أزمة تضاد وتناقض بنية العقلانية العربية القائمة حالياً، إنها أزمة عدم الاتساق بين مكونات تلك العقلانية، عدم الاتساق هذا هو تماماً الذي يجعلنا وبكل وضوح نشعر أساساً بوجود تلك الأزمة، ولو أن الصراع والتضاد حسم لصالح البنية العقلانية التراثية لما شعرنا بالأزمة وكذلك الحال لو أنه حسم لصالح البنية العقلانية للحداثة الأوربية التي داخلت العقلانية العربية خلال القرن والنصف الماضيين.
من هنا نقول أنه لا بد من القطيعة المعرفية مع التراث، ومرة أخرى نذكر أن القطيعة المنشودة، ليست تنكراً لهذا التراث ولا إلغاء أو طرداً له من الحضور، بل هي قطيعة منهجية كما ذهب الدكتور محمد أركون، أي أنها قطيعة مع المناهج التراثية في الفهم والتحليل والدرس، للوصول إلى عصرنة منهج القراءة، تحرير القراءة من المنهج التقليدي في الدراسة والفهم وإعمال المناهج المعاصرة، إنها الحقيقة التي عبر عنها أيضاً الجابري ونصر أبو زيد ومحمد شحرور، إلا أنهم مع ذلك لم يتمكنوا من تحرير قراءتهم نفسها من سطوة المنهج التقليدي، للخروج من إطار المنهج التاريخي في النهاية، فالجابري وأبو زيد انصاعا إلى توظيف المنهج السلفي نفسه عبر عِلمي الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول في دراسة النص الأصلي "المصحف" والمشكلة هنا أن العلمين المذكورين ينطلقان جوهرياً من الإقرار بتاريخية المصحف واستحالة فهمه إلا عبر ظروف التنزيل الزمنية والمكانية هذا فضلاً عن حاكمية المنهاج التراثي نفسه عبر أدواته في عملية القراءة حتى وإن كان كلاهما قد أكد على ضرورة إنتاج القطيعة المنهجية وبغض النظر كذلك عن نتائج القراءة التي يقدمان فإن العلة علة تاريخية المنهج المتجاوز ابتداء وعدم مناسبته لتقديم قراءة معاصرة؛ ذلك أن القراءة المعاصرة لا بد أن تستوحي أداوتها من واقعها هي حتى تكون معاصرة، فالمعاصرة هنا ليست اجتهاداً بأدوات تقليدية، وبالتالي فإن هناك صعوبة بالغة في تقبل كون تغير النتائج المتولدة عبر استخدام أداوت القراءة التقليدية قراءة معاصرة بل هي قراءة تقليدية بتوجيه مسبق من عقلانية معاصرة، إنها محاولة لتطويع المنهج التراثي لغايات مسبقة هي تماماً محاولة التوفيق بين الموروث والحداثة، توفيق لا بد له ما دام ينصاع لسلطة المنهج التراثي أن ينقلب تلفيقاً بالضرورة.
أما شحرور ورغم أن الإشكالية واضحة في ذهنه بحيث تناولها مؤكداً على ضرورة عصرنة المنهج فإن منهجه القرائي لم يتمكن من الفكاك تماماً من هيمنة الموروث السلفي وسطوته، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بدراسة المفردات، فرغم أن شحرور استلهم خطوة تراثية مبتورة ولكنها مهمة ومؤسسة هي رفض قاعدة الترادف التي فتحت له أفقاً واسعاً، إلا أن حجر الزاوية الذي يقوم عليه أسلوب شحرور في فهم الخطاب بقي كما معجمي يداور الدلالات المعجمية بطريقة تقوده إلى التوفيق بين دلالات الخطاب ومفاهيم وقيم الحداثة الإنسانية وليست العلة هنا في تدبره الدلالات المعجمية بل في انتقائيته التي يحكمها هواه المسبق فلا يعود من مبرر منهجي لاختيار هذه الدلالة دون تلك والمبرر الوحيد يكون أن توظيف هذه الدلالة بالذات كما يرى شحرور يجعل المعنى مقبول قيمياً بالمفهوم الإنساني المعاصر، مما يجعلنا نتوقف طويلاً ونتردد قبل أن نحكم بوجود منهج قراءة حقيقي له أدوات تحدد معالم وآليات إنتاج الفهم عند شحرور، يبقى أن نعترف بأستاذية الأعلام الثلاث الذين ذكرنا –يدين لهم كاتب هذه السطور بالكثير على المستوى الفكري وخصوصاً الدكتور شحرور والدكتور أبو زيد- وقدم سبقهم في هذا الميدان الهام.
وبعد
فإن القطيعة المنهجية التي نروم، لا يمكن أن تتحقق إلا بنقد وتجاوز المنهجية الكلاسيكية، فنحن لا نقطع لمجرد أننا نريد أن نقطع، فلا بد لنا أن نبين مكمن الخلل في المنهج التقليدي، والأسباب الداعية لتجاوز هذا المنهج، أبعد من ذلك خطوة، نقول أن الحكم بالحضور التاريخي القوي بل بتاريخية المصحف عموماً هو نتيجة لعلمي الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، إن قراءة المصحف وفق هذه الطريقة والمنهجية ستؤدي بنا حتماً للإقرار بأن هذا نص تاريخي بيئي، وبالتالي فإن اختبار هذه الأدوات المنهجية أولاً وقبل كل شيء هي طريقتنا في معرفة الإجابة على سؤالنا المركزي، فأول ما سنوليه عنايتنا في هذه الدراسة هو أدوات القراءة السلفية المنتجة للتاريخية "أسباب النزول والناسخ والمنسوخ" ، أما الفرضية التي سندرسها فهي: أن المصحف ليس نصاً تاريخياً وفق معنى التاريخية الذي قدمنا له.
إن النص يتوقف عن أن يكون تاريخي، تماماً عندما يتحول إلى مستوى التجريد النظري القابل للحياة والاستمرار، ومع ذلك فإن النظرية المجردة اللاتاريخية تصبح كذلك (أي تاريخية) عندما يثبت التاريخ فشلها، فتوظيف ماركس للمادية الجدلية في قراءة التاريخ واستنتاجاته هو نظرية مجردة، ولكن ثبتت تاريخيتها عندما فشلت في استقراء المستقبل (حتمية التحول نحو الشيوعية)، بمعنى عندما أثبتت حركة التاريخ نفسه إنها متجاوزة وأن بها عطب ما مرتبط بأسباب تاريخية تتعلق بالقراءة التنظيرية نفسها، كذلك هو الحال بالنسبة لنظرية مالتوس السكانية مثلاً، وحتى في النظريات العلمية ظهرت جميعاً في نهاية المطاف تاريخيتها عندما أصبحت متجاوزة، إن المعرفة الإنسانية تاريخية لأنها تتجاوز نفسها بدون توقف، فهل المعرفة النظرية المجردة موجودة في التنزيل الحكيم؟ ثم إن كانت موجودة هل هي متجاوزة أي هل هي تاريخية؟
هذا هو شاغل دراستنا هذه الذي نحاول أن نجيب عليه.