الفصل الأول
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
ثانيا- الفتح الإسلامي لمصر
فتح مصر بعد فتح الشام
بدأ الفتح الإسلامي بالشام والعراق حيث لا توجد موانع طبيعية بين شبه الجزيرة العربية وبين الشام, إذ إنهما امتداد للجزيرة العربية وقد تعودت قريش في الجاهلية أن تقوم بالنقل التجاري بين الشام واليمن في رحلتي الشتاء والصيف,وقد وجه النبي عليه السلام إلى تخوم الشام غزو مؤته وقاد بنفسه غزوة تبوك .
وهكذا فالشام والعراق لم يكونا غريبين بالنسبة للعرب فكان منتظرا أن تبدأ بهما الفتوحات الإسلامية . واختلف الحال بالنسبة لمصر فهناك حائل منيع يفصل مصر عن الحجاز يتمثل في البحر الأحمر وما تحيطه من مرتفعات على جانبيه الشرقي والغربي , فلم يكن ثمة اتصال على نطاق واسع بين العرب ومصر قبيل الفتح الإسلامي .
ولم يفكر العرب المسلمون في فتح مصر إلا بعد أن وصلت جيوشهم الفاتحة إلى جنوبي الشام بعد الانتصار في معركة اليرموك الفاصلة . وقد تولى عمرو بن العاص فتح جنوب الشام فاستولى على بيت المقدس ( 15هـ – 636 م ) وشهد عمرو فلول الروم المنهزمين مع قائدهم أرطبون يفرون إلى مصر فأيقن عمرو ضرورة فتح مصر لتأمين الفتح الاسلامى في الشام .
وقد كان لعمرو بن العاص علم بأحوال مصر إذ زارها في الجاهلية ولمس ما فيها من خيرات وثراء , ثم إذ تولى بنفسه فتح جنوب الشام أدرك أن بقاء مصر في يد الروم يشكل خطورة على المسلمين في الشام , ومن هنا فرضت استراتيجية الموقع المشترك بين مصر والشام فتح مصر بعد فتح الشام .
ولم يكن الخليفة عمر بن الخطاب متحمسا للمزيد من الفتوحات خصوصا مصر التي يفصلها عن الحجاز بحر منيع لا طاقة للمسلمين به , وكان الفاروق يرى ضرورة التريث وعدم التسرع حتى لا يغرر بالمسلمين في مواضع لا علم لهم بها , إذ إن حياة المسلم عنده أثمن من عروش كسرى وقيصر , وقد تقابل الخليفة مع عمرو بن العاص حين قدم الخليفة من المدينة ليتسلم بنفسه بيت المقدس بعد أن استولى عليه عمرو ابن العاص . وفى اللقاء بينهما استأذنه عمرو في فتح مصر وأبان له أن فتح مصر ضروري لحماية أرواح المسلمين والفتوحات الإسلامية في الشام ووافق الخليفة على الفتح بشرط إذا وافاه كتاب منه في الطريق قبل أن يدخل مصر فلابد أن يعود أما إذا دخلها فليمض في سيره فاتحا مستعينا بالله حتى لا يطمع فيه الروم .
وحين وصل كتاب الخليفة إلى عمرو أثناء زحفه نحو مصر فإنه لم يتسلمه إلا بعد أن أيقن أنه دخل حدود مصر فعلا وبذلك بدأ الفتح الاسلامى لمصر .
بدأ فتح مصر أساسا لتأمين المسلمين في الشام ، وقدر لمصر أن تلعب نفس الدور طيلة الدولة الأموية التي استقرت بالشام .
حوادث فتح مصر :-
سار عمرو في نفس الطريق الذي سار فيه قبله فاتحو مصر عبر الطريق الساحلي لسيناء ، ولم يكن معه حين تحرك من فلسطين أكثر من أربعة ألاف جندي فاستولى بهم على العريش بسهولة في أواخر ( سنة 18 هـ 632 م ) ثم قصد الفرما وقد كان موقعا حصينا للرومان – شرقي
بور سعيد الآن – وحاصرها شهرا وأمكنه أن يستولى عليها في أوائل سنة 19هـ 640م .
واجتاز عمرو سيناء بعد أن أمن مواصلاته مع الشام والحجاز فاخترق شرق الدلتا إلى بلبيس وحاصرها وقد أقام فيها ارطبون بحامية للروم . واستمر القتال بينهما شهرا استسلمت بعده المدينة في مارس 640 م . ثم تقدم عمرو جنوبا واشتبك مع الروم في قتال مرير عند قرية ( أم دنين ) وموقعها الآن حديقة الازبكية ولم يسفر القتال عن نتيجة في بادىء الأمر ورأى عمرو قلة جيشه فبعث للخليفة يطلب المدد . وقبل وصول المدد هزم عمرو الروم في أم دنين ففرو إلى حصن بابليون .
ولم يشأ عمرو الهجوم على حصن بابليون المنيع بقواته المحدودة ، ولم يشأ أيضا أن يظل بلا حراك منتظرا وصول المدد فعبر النيل بجنده ليفا جيء الروم في الصعيد وليحصل على المؤن اللازمة . وانتصر على جيش رومى في معركة الفيوم ، وقبل أن يستولى على الفيوم علم بوصول المدد الذي ينتظره فعاد إلى عين شمس وهو يستاق أمامه ما وجده في طريقه من الأنعام . وفى عين شمس التقى بالمدد وهو يتكون من جيش باثني عشر ألفا يقودهم أربعة من أبطال المسلمين وقوادهم هم الزبير ابن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وخارجه بن حذافة والواحد منهم بألف كما قال عمر بن الخطاب ، وبذلك تم جيش عمرو ستة عشر ألف جندي .
واستعد عمرو لمعركة حاسمة مع الروم فاختبر مكان المعركة في عين شمس ووزع قواته فزرع كمينا في الجبل الأحمر ، وكمينا أخر قرب أم دنين ووقف مع بقية الجيش ينتظر تيودور قائد الروم ومعه عشرون ألف مقاتل . وبدا عمرو هجومه بمن معه على الروم فتراجع جناح الروم نحو الجبل الأحمر ففوجئوا بالكمين يخرج عليهم فحاولوا التراجع إلى أم دنين فحصرهم الكمين الأخر فيها فحاقت بهم الهزيمة ومن نجا منهم اعتصم بحصن بابليون .
وكان حصن بابليون أعظم الحصون الرومانية بناه الإمبراطور ترا جان سنة 100 م على انقاض حصن قديم كان يقيم به بعض الأسرى البابليين فنسب إليهم . وقد لجأ إلى حصن بابليون جموع الروم الفارين أمام عمرو فبلغت عدتهم خمسة آلاف ، وكانت المياه تحيط بالحصن من جهاته الثلاثة ، ولم يكن مع العرب أدوات للحصار فطالت مدة الحصار حتى بلغت سبعة اشهر .
ودارت المفاوضات بين عمرو و الروم أثناء حصاره للحصن إذ أيقن المقوقس – حاكم مصر الروميةــ تصميم المسلمين على فتح الحصن . وصمم المسلمون على أن يختار الروم واحدا من ثلاثة إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال . ومال المقوقس إلى الموافقة على الجزية وبعث يستشير الإمبراطور فاتهمه بالعجز وعزله ونفاه .
ومات هرقل فارتفعت الروح المعنوية للمسلمين وانحصرت مياه الفيضان حول الحصن وردم المسلمون جانبا من الخندق المحيط بالحصن ، وتسلل الزبير بن العوام للحصن فعلاه وهتف ( الله أكبر ) فارتاع الروم بداخل الحصن وتحمس المسلمون وتبعوه في اقتحام الحصن بعد أن فتح لهم الباب ، وبذالك سقط الحصن وتسلمه المسلمون من قائده وخرج منه الروم وليس معهم سوا زاد يكفى بضعة أيام .
وبسقوط حصن بابليون لم يبق أمام العرب من تجمعات للروم إلا في الإسكندرية وهي العاصمة يومئذ وكانت ثاني المدن في الإمبراطورية البيزنطية في التحصين والمنعة , فالبحر المتوسط يحميها من الشمال بالأسطول البيزنطي وبحيرة مريوط تحميها من الغرب والجنوب الغربي , أما من الشرق والجنوب حيث وصل عمرو فكانت تحيط بها أسوار عالية ذات أبراج قوية وليس لدى عمرو من أدوات للحصار . وبذلك أمتد الحصار للإسكندرية أربعة شهور , ولم يحتمل عمرو الوقوف ساكنا أمام أسوار المدينة فترك قوة من جيشه مقيمة على الحصار وتجول في شمال الدلتا يقضي على الجيوب الرومية حتى وصل دمياط ثم عاد للاسكندرية .
وأبطأ الفتح على الخليفة فكتب يحث عمروا على فتحها وقال ( ما أبطأ بفتحها إلا لما أحدثوا ) وبعث لعمرو يقول له ( أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر إنكم تقاتلون منذ سنتين ما ذاك إلا لما أحدثتم أحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم .. ) .
واستعد عمرو لاقتحام الإسكندرية ولكن الظروف في الإمبراطورية البيزنطية ساعدته إذ توفى خليفة هرقل في نفس العام الذي مات فيه هرقل سنة 641 وظهر انقسام في الجيش وفتن مع تولى الإمبراطور قنسطانز فأصدر أوامره للمقوقس بأن يفاوض المسلمين ليتسلم الإسكندرية حتى يتفرغ قنسطانز لمشاكله الداخلية .
وعقد المقوقس مع عمرو معاهدة في أكتوبر 641 تضمنت عقد هدنة إحدى عشر شهرا يتم جلاء الروم خلالها نهائيا عن مصر وألا يحاول الروم استرداد مصر فيما بعد وأن يقدم الروم رهائن للمسلمين لضمان تنفيذ المعاهدة ودفع الأقباط الجزية دينارين ويدفعها جنود الروم إذا سافروا برا وتأمين المسيحيين وكنائسهم وكذلك اليهود .
وبعد انقضاء الهدنة ورحيل الروم دخل المسلمون الإسكندرية في سبتمبر 642 وصارت مصر ولاية إسلامية وصار المصريون أهل ذمة في حماية المسلمين .
محاولات الاسترداد الرومية :-
ولم يسكت قنسطانز عن سقوط مصر والشام في أيدي المسلمين , ورأى أن يبدأ باستعادة مصر وبعدها يمكنه استرداد الشام, وخطط للاستيلاء على الإسكندرية كبداية لاسترداد مصر , ولم يكن للمسلمين في الإسكندرية إلا ألف جندي فاستطاع أسطول الروم في الإسكندرية أن يقضي عليهم وسهل على الأسطول البيزنطي أن يعزز الوجود الرومي في الإسكندرية إذ لم يكن للعرب عهد بركوب البحر ولا القتال فيه.
وبعد استيلائهم على الإسكندرية تقدموا إلى الداخل ,وكان الوالي وقتها عبدالهك بن أبى السرح في خلافة عثمان بن عفان , ولم يستطع صدهم فاضطر الخليفة عثمان لإرسال عمرو بما له من خبرة في قتال الروم .
وتمكن عمرو من هزيمة الروم عند منوف ثم طاردهم فتحصنوا في الإسكندرية وأغلقوا أبوابها في وجه عمرو , واستمر الحصار للمرة الثانية حتى أقسم عمرو ليهد من أسوارها إذا أمكنه الله منها , وبر بقسمه بعد أن فتحها عنوة وطرد الروم منها .
وأدرك عبد الله بن أبى السرح أهمية تكوين بحرية إسلامية حتى لا يظل البحر المتوسط حكرا على الأسطول الرومي يهدد سواحل المسلمين في الشام ومصر , وتعاون ابن أبى السرح مع معاوية والي الشام في تكوين أول اسطول إسلامي بمعونة أبناء البلاد الساحلية الذين دخلوا في الإسلام .
ورأى قسطنطين أن يقوم بإجهاض البحرية الإسلامية الناشئة عله يتمكن من العودة للشام ومصر عن طريق البحر ودارت معركة ذات الصواري ( 34هـ _ 654م ) بين الأسطول الإسلامي يقوده عبد اهلط بن أبي السرح وتعداده مائتا سفينة, والأسطول البيزنطي يقوده الإمبراطور قسطنطين الرابع بنفسه وتعداده خمسمائة سفينة . وانتصرت البحرية الإسلامية الناشئة وهرب أسطول الروم وجرح الإمبراطور ولجأ إلى صقلية حيث قتله أتباعه لتخاذله أمام المسلمين , وبذلك أصبح البحر المتوسط بحرا إسلاميا وضاع أي أمل للبيزنطيين في استرجاع مصر والشام .
وبدأت مصر والشام عهدا جديدا في الدولة الإسلامية .
وبعد فقد كان الاستيلاء على الشام مقدمة للاستيلاء على مصر في الفتوح الإسلامية, وهذه حقيقة ظهرت قبل ذلك في الفتوح التي أتت لمصر في العصور السابقة للفتح الإسلامي . بدءا من الهكسوس ومرورا بالاشورين والفرس , فقد استولوا على الشام وانحدروا منه إلى مصر .
لقد كانت مصر في بداية الفتوح عمقا استراتيجيا للفتوح الإسلامية في الشام, وكان الشام وقتها مع العراق يشكل واسطة العقد في البلاد المفتوحة , وحتى بعد أن وصلت الفتوحات الإسلامية غربا إلى المغرب والأندلس فقد ظلت مصر عمقا للأمويين في الشام يحمي ظهورهم أمام منافسيهم الذين يتركزون في العراق والشرق والحجاز .
كان ذلك دور مصر طيلة العصر الأموي بل منذ الحرب الأهلية بين على ومعاوية .
المراجع عن الفتح الإسلامي لمصر:
*ابن عبد الحكم فتوح مصر : 56: 73 .
* تاريخ الطبري : 4/ 104 : 111 بتحقيق أبو الفضل إبراهيم .دار المعارف .
* خطط المقريزي 1 / 353 : 315 ,54 : 551 ط. دار الشعب .
* السيوطي: حسن المحاضرة : 1 / 106 : 124 تحقيق أبو الفضل