تلك المقاومة البائسة
نعم هو من قبيل القضاء والقدر أن تدمن شعوبنا تعاطي الشعارات، ولا يهمها بعد ذلك إن كانت قابلة للتطبيق، أم كل فائدتها أنها تخلق لنا عالماً افتراضياً موازياً نهرب إليه من بؤس حاضرنا وهوانه.. لا بأس أن تلجأ الشعوب الفاشلة إلى الخيال، عوضاً عن اليأس المطلق ومشاعر الإحباط المريرة، لكن غير المفهوم ولا المنطقي، أن ترى نتائج مثل هذه الشعارات، وبيلة وكارثية، ومع ذلك تظل على ذات تعلقها المحير بهها.. شعار "خيا&Ntilil;ر المقاومة" الذي له مفعول، والذي يتردد باعتزاز على ألسنة الدهماء والمتلاعبين بعقولهم ومشاعرهم، يعبر عن قيمة يبدو أنها قد صارت هي العظمى، لدى الجماهير والنخب المسيطرة على الساحة الإعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية، بالإضافة للجماعات التي تمارس هذه المسماة مقاومة ميدانياً، سواء في فلسطين ولبنان أو العراق أو كشمير والشيشان، أو باقي أنحاء المعمورة التي امتد لها "خيار المقاومة" هذا.
هو أمر ملغز ومستفز بحق، أن تكون شعوبنا منن البلادة بحيث لا نجد لها ردود أفعال على النتائج الكارثية التي يتسبب فيها ما ندعوها بكل توقير وإجلال "مقاومة".. نتائج حرب تموز 2006 في لبنان، وما أدت إليه من قتل ودمار.. ثم نتائج حرب غزة 2008، وما سقط فيها من ضحايا، وما تم تدميره من مقومات حياة هي بالأساس هزيلة وبائسة.. مع ذلك نجد من يتجاسر ويعد هذه الكوارث انتصارات إلهية، ويجد هذا الدعي من ينصت إليه ويحتفل معه بالخراب، ليكون المشهد أقرب لمن يرقصون فوق جثث ضحاياهم.
الغريب أن نستمر في مساندتنا وتشجيعنا للعصابات الإجرامية المنتحلة اسم مقاومة، ليظل المسلسل مستمراً.. فها نحن نشهد بوادر كارثة جديدة توشك أن تحل بنا، بعد تلك الصواريخ الحمقاء التي سقطت على ميناء العقبة الأردني، يليها ذلك الاشتباك غير المفهوم أو المبرر بين الجيش اللبناني والإسرائيلي.
حادث ميناء العقبة تشير أصابع الاتهام فيه إلى المنظمات الإرهابية في غزة، في ذات التوقيت الذي يبحث فيه المجتمع الدولي تخفيف الحصار عن الشعب الغزاوي الأسير بين براثن حماس.. هكذا فجأة ينقلب السحر على الساحر، وتغمد المقاومة خنجرها في الصدر الفلسطيني، الذي نشك أنه قد تبقى فيه موضع لطعنات جديدة.. هكذا ستتحول الدفة للبحث عن كيفية تقليم أظافر تنظيمات غزة الإرهابية، وربما اقتلاعها من جذورها، لتزداد في معرض هذا المعاناة الحياتية لمليون ونصف أسير فلسطيني لحماس في غزة.
الاشتباك الأحمق بين الجيش اللبناني المبتدئ وبين الجيش الإسرائيلي، لا تفسير له إلا وقوعه تحت سيطرة "حزب الشيطان"، فعناصره ونفوذه هم وحدهم الكفيلين بانحراف الجيش عن مساره المتزن والوطني، لينحو منحى العصابات غير الملتزمة.. هكذا يتبدل موقف العالم من الجيش الوليد، من الدعم والمساندة العسكرية والسياسية، ليكون مؤسسة وطنية لبنانية بحق، وقوية وقادرة على أداء المهمات الثقيلة الموكله إليها.. هكذا لابد وأن يتبدل الحال، ليصير الجيش اللبناني محل شك، فيكف عنه الدعم بمختلف أشكاله، ويتبدد في ذات الوقت الأمل الذي كان معقوداً عليه، أن يساهم في إعادة الدولة اللبنانية وسيادتها الفعلية للوجود.
يدفعنا هذا إلى مقاربة شعار "خيار المقاومة"، لمحاولة اكتشاف أبعاده ومحمولاته، ومعالم الساحة التي يروج فيها.. القراءة الأولى لمحتوى الشعار، تشير إلى جماعة تتعرض لنوع أو آخر من الظلم، وإلى حقها أن تقاوم هذا الظلم حتى النصر على الظالمين، وهو المعنى الذي يتضمنه الخطاب المروج للشعار، وان كان يتوه أغلب الوقت، بين ركام من التعبيرات والتصريحات والملابسات التي تحمِّل الاصطلاح معان أخرى، تنحرف به عن صورته البسيطة النقية.
وإذا كنا نريد كشف المستور من حقيقة هذا الشعار وحقيقة ثقافتنا العروبية، فإن علينا أن نستعرض الكثير من العناصر، أولها طبيعة الممارسات التي نسميها "مقاومة"، والأفكار والشعارات التي كثيراً ما تصاحب خطابها، وصولاً إلى المناخ الذي نعيش في ظله، والذي صار أرضاً خصبة لتلك "المقاومة".
ممارسات "المقاومة" المتمثلة في إقناع صبي أو صبية بارتداء حزام ناسف أو قيادة سيارة مفخخة، وإرساله إلى منطقة يتزاحم بها مدنيون يمارسون حياتهم العادية اليومية، وهناك يفجر نفسه، فيتحول إلى أشلاء متناثرة، تمتزج بأشلاء الآحاد أو العشرات من ضحاياه، ويمكننا بسهولة رصد أنه لا تترتب على هذه العمليات أي انتقاص من قوة العدو العسكرية، وتعقب هذه العمليات هجمات عسكرية مدمرة يوقع بها العدو خسائر فادحة في الصف الفلسطيني، كما تجلب هذه العمليات علينا إدانة العالم، ورعبه من امتداداتها، بما يفقد القضية الفلسطينية رصيد التعاطف العالمي، بل ويتزايد باستمرار أعداد الدول والشعوب التي تدرجنا وندرجها في تصنيف الأعداء، بما يترتب عليه فشل المجهودات لحل سلمي هو الخيار الوحيد الحقيقي والممكن.
التنظيمات المتواجدة على أرض لبنان باسم "مقاومة"، سواء داخل المخيمات الفلسطينية أو خارجها، وهي في حقيقتها تكوينات عصابية لا تمارس غير البلطجة والابتزاز، علاوة على كونها مجرد أصابع عابثة لسوريا وإيران، يبقون بها لبنان وطناً مفتتاً فاقداً للسيادة والأهلية، يسقط خيرة أبناؤه غيلة، ليكون الفاعل المعلوم مجهولاً قصرياً ورغم أنف الجميع، بل وحتى تحت تأثير تهديد عصابات القتلة، لا يجسر أحد على أن يشير إليه بأصبع اتهام، وتصبح الدولة اللبنانية الوطنية ذات السيادة مشروعاً مأمولاً مع وقف دائم للتنفيذ.. أي مقاومة هذه، وأي خبال أن تُبقي الشعوب عليها وتحتضنها، وينتظم شبابها في صفوفها!!
المشكلة الجديرة بالتأمل، أن الجميع يعرف تماماً كل ماسبق ويعاني نتائجه، ويشاهد مآسيه على شاشات التليفزيون، ومع ذلك "فخيار المقاومة" منتهى أمانينا وقرة أعيننا، فما هي حقيقة ذلك اللغز، الذي لا بد ويراه العالم من حولنا محيراً؟!!
المفترض أن "المقاومة" (المسلحة) وسيلة لتحقيق غاية هي رفع الظلم، ولو كان الأمر كذلك في أذهاننا، لكانت خبراتنا المتراكمة عن نتائج هذه الممارسات، أقنعتنا بأن وسيلتنا هذه فاشلة، بل وبأن الهدف المفترض أنه ثمين (رفع الظلم) يتبدد، بل لنقل يتضاعف "الظلم" أضعافاً مضاعفة بناء على تلك الممارسات، بمعنى أن التشبث "بالوسيلة" لا يضيع علينا "الغاية" فقط، وإنما أيضاً يذهب بنا إلى عكسها.. وهذا معاكس للطبيعي تماماً، حيث من المفترض أن نكون شديدي التمسك "بالغاية"، وأن نستبدل الوسائل التي يثبت أنها فاشلة، أليست هذه الحالة لغزاً يبحث عن حل؟!!
الحل الواحد والوحيد لما يبدو لغزاً، هو أن الوسيلة المفترضة قد أصبحت في الحقيقة غاية لنا، وصارت غايتنا مجرد تعلة نتعلل بها أمام العالم، أو أمام أنفسنا إذا ما سولت لنا بعضاً من إنسانية وتحضر.. الغاية التي هي رفع الظلم والمعاناة عن شعوبنا، تراجعت إلى الخلفية.. هناك لذلك سببان محتملان، أولهما أننا قد وصلنا إلى حالة من اليأس، أفقدتنا القدرة على رؤية أو اكتشاف طرائق بديلة، تحقق لنا غايتنا، التي هي بالنسبة لنا الحياة ذاتها، وبالتالي فقد قررنا جميعاً أن نسلك طريق الموت إلى النهاية، وكأننا بتمسكنا "بخيار المقاومة" إنما نرفع شعار "الموت لنا ولأعدائنا"، أو عبارة شمشون المعروفة: "علي وعلى أعدائي يارب"، وهي العبارة التي يمكن أن يقولها أي فرد قرر أن ينهي حياته، أما أن يكون هذا قرار شعوب بكاملها، فإن هذا يثير علامة استفهام ترجح الاحتمال الثاني، وهو أن ما شخصناه على أنه وسيلة لتحقيق غاية، إنما هو غايتنا من الأساس، فمقاومتنا الحبيبة ليست قتالاً وإنما قتل مجرد، وشتان بين القتل والقتال.
القتال محاولة فرض الإرادة على العدو بالعنف، الذي قد ينتهي بالقتل، أو باستسلام العدو وخضوعه لإرادتنا، وهنا أيضاً تكون ثمة غاية ووسيلة، الغاية هي فرض إرادتنا على العدو، والوسيلة هي العنف، أما القتل فإنه غاية في ذاته.. للقتال أصول وأعراف متعارف عليها منذ عرف الإنسان القتال، ولها في عصرنا مواثيق دولية، من صالح الجميع احترامها والتمسك بها، أما القتل فهو فعل مجرد، لا يعترف بقواعد أو أعراف، فهو قتل محض يقيم الإنجاز بحجم عدد القتلى.. من حق كل جماعة أن تحدد أهدافها وفقاً لاحتياجاتها المادية والنفسية والثقافية، وأن تنتقي الخيار الأكثر أهمية وإلحاحاً من بين خيارات عدة، وقد اخترنا (أو اختار الكثيرون منا) قتل الآخر، الذي قد يكون اليهود أو الكفار أو الغربيين أو الشيعة أو الأكراد أو المختلف في الرأي، المهم أن ننجز أكبر قدر من القتل والقتلى، علنا نشعر ببعض الارتياح!!
في الصراع بين طرفين، يمكن أن يحدد كل طرف أهدافه بأحد منهجين.. منهج تحقيق أكبر مكاسب أو أقل خسائر ممكنة، ويترتب عليه وجوبية ضبط نوع وحجم أعمال الصراع وفترته الزمنية، وإدارته عبر تكتيكات تعظم المكاسب وتخفض الخسائر.. أو منهج إيقاع أكبر خسائر ممكنة بالطرف الآخر، وفيه يغيب تحقيق صالح الجماعة من صدارة الصورة والاعتبار، ليتحدد الأمر حصراً في إلحاق الأذى بالعدو، ويترتب عليه تعظيم عمليات الصراع بأقصى قدر مستطاع، دون مراعاة لحجم الخسائر التي تلحق بنا، واستخدام كل طرق إيقاع الخسائر بالعدو، دون التفات للمشروع منها وغير المشروع، كما يترتب عليه أن يمتد الصراع بلا سقف زمني، فيصير صراعاً أبدياً، وهو ما نطلق عليه في القضية الفلسطينية: "صراع وجود لا صراع حدود".
هكذا يمكن أن نقرأ خطاب أشاوس العروبة والتطرف الأصولي، وممارسات تنظيمات ما نسميه مقاومة، بالطبع إذا افترضنا فيهم الإخلاص، وليس الارتزاق بالعمالة وسفك الدماء والبلطجة.. أن هؤلاء قد وصلوا إلى حالة يأس من الحياة فاختاروا الموت لأنفسهم ولأعدائهم، أو أن ثقافتهم ودخيلة نفوسهم قد أوصلتهم لاتخاذ القتل غاية، منتهجين نهج إيقاع أكبر خسائر ممكنة بالآخر، مهما كان الثمن الذي يدفعونه، وسيدفعونه في المستقبل، من حياتهم وحياة أبنائهم وأحفادهم.. إذا كان هذا صحيحاً، فإنه من الطبيعي أن تعتبر الجماهير ونخبها المناضلة كل داعية للسلام خائناً وعميلاً وكافراً، وكل من يسعى لوقف مسلسل القتل استسلامياً وانبطاحياً وانهزامياً، وكل من يدين ذلك الجنون الجمعي عدواً للأمة وخارجاً عليها.
الآن هل ينجح النفر القليل من دعاة السلام والعقلانية في شرقنا، في استنفار قطاعات ربما كانت عريضة من شعوبنا، تحب الحياة ولم تدركها ثقافة اليأس، ولم تتملك منها شهوة القتل وسفك الدماء، لكي تنهض لطرد المخربين والسيكوباتيين والمازوشيين من مواقع الصدارة، وتبدأ مسيرة جديدة مختلفة كل الاختلاف؟!