آضاءات قرآنية (2)
كلمة... (عندك).
القرآن الكريم نبع من الكنوز اللغوية لا ينضب.كل كلمة في القرآن الكريم لها معانيها ودلالاتها على أرض الواقع .هذه الدلالات اللغوية لها وجودها وحضورها في موقعها من الآية, لها دلالة ومعنى ,لا ينطبق إلا على هذا الموقع من الآية الكريمة.
تناولت في المقالة السابقة ,دلالات كلمة –منكم- في الآية الكريمة من سورة ..النساء 59
واليوم سأتناول معنى كلمة – عندك- في الآية الكريمة رقم 23,من سورة الأسراء
"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" الآسراء 23
في البداية لابد لنا من العودة إلى السلف ,لنقف على تدبرهم لهذه الآية الكريمة ,وجزاهم الله خيراً ,كونهم تركوا لنا ثراثاً ,علينا دراسته والإستفادة منه ,لكنهم ماتوا ,فعلينا أن لا نبقى في دائرة تدبر الأموات ,فالحياة خلال سيرورتها حملت الكثير الكثير من التطور ,وواجبنا تفعيل النص القرآني على ارض الواقع المعاش ,لأن النص ثابت ,والتأويل متحرك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وللوقوف على تدبر السلف ,اخترت نموذجين الطبري ,وابن كثير
الطبري :
وَاخْتَلَفَتْ الْقُرَّاء فِي قِرَاءَة قَوْله { إِمَّا يَبْلُغَن عِنْدك الْكِبَر أَحَدهمَا أَوْ كِلَاهُمَا } فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء أَهْل الْمَدِينَة وَالْبَصْرَة , وَبَعْض قُرَّاء الْكُوفِيِّينَ : { إِمَّا يَبْلُغَن } عَلَى التَّوْحِيد عَلَى تَوْجِيه ذَلِكَ إِلَى أَحَدهمَا لِأَنَّ أَحَدهمَا وَاحِد , فَوَحَّدُوا { يَبْلُغَن } لِتَوْحِيدِهِ , وَجَعَلُوا قَوْله { أَوْ كِلَاهُمَا } مَعْطُوفًا عَلَى الْأَحَد . وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّة قُرَّاء الْكُوفِيِّينَ " إِمَّا يَبْلُغَانِّ " عَلَى التَّثْنِيَة وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيدهَا , وَقَالُوا : قَدْ ذُكِرَ الْوَالِدَانِ قَبْل , وَقَوْله : " يَبْلُغَانِّ " خَبَر عَنْهُمَا بَعْد مَا قَدَّمَ أَسْمَاءَهُمَا . قَالُوا : وَالْفِعْل إِذَا جَاءَ بَعْد الِاسْم كَانَ الْكَلَام أَنْ يَكُون فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ خَبَر عَنْ اِثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَة . قَالُوا : وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ خَبَر عَنْ اِثْنَيْنِ فِي الْفِعْل الْمُسْتَقْبَل الْأَلِف وَالنُّون . قَالُوا : وَقَوْله { أَحَدهمَا أَوْ كِلَاهُمَا } كَلَام مُسْتَأْنَف , كَمَا قِيلَ : { فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّه عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِير مِنْهُمْ } 5 71 وَكَقَوْلِهِ { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } 21 3 ثُمَّ اِبْتَدَأَ فَقَالَ { الَّذِينَ ظَلَمُوا } 21 3 وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ , قِرَاءَة مَنْ قَرَأَهُ { إِمَّا يَبْلُغَن } عَلَى التَّوْحِيد عَلَى أَنَّهُ خَبَر عَنْ أَحَدهمَا , لِأَنَّ الْخَبَر عَنْ الْأَمْر بِالْإِحْسَانِ فِي الْوَالِدَيْنِ , قَدْ تَنَاهَى عِنْد قَوْله { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ثُمَّ اِبْتَدَأَ قَوْله { إِمَّا يَبْلُغَن عِنْدك الْكِبَر أَحَدهمَا أَوْ كِلَاهُمَا }
ابن كثير:
" وَقَوْله " إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدك الْكِبَر أَحَدهمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفّ " أَيْ لَا تُسْمِعهُمَا قَوْلًا سَيِّئًا حَتَّى وَلَا التَّأْفِيف الَّذِي هُوَ أَدْنَى مَرَاتِب الْقَوْل السَّيِّئ " وَلَا تَنْهَرهُمَا " أَيْ وَلَا يَصْدُر مِنْك إِلَيْهِمَا فِعْل قَبِيح كَمَا قَالَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح فِي قَوْله " وَلَا تَنْهَرهُمَا " أَيْ لَا تَنْفُض يَدك عَلَيْهِمَا وَلَمَّا نَهَاهُ عَنْ الْقَوْل الْقَبِيح وَالْفِعْل الْقَبِيح أَمَرَهُ بِالْقَوْلِ الْحَسَن وَالْفِعْل الْحَسَن فَقَالَ " وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا " أَيْ لَيِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا بِتَأَدُّبٍ وَتَوْقِير وَتَعْظِيم ."
مما تقدم ,نرى أن السلف جزاهم الله خيراً ,وكأنهم مروا على دلالة كلمة – عندك – مرور الكرام.
في البداية , وقبل الدخول إلى تحليل دلالات كلمة (عندك) ,لا بد من الملاحظة ,أنه و في سياق الآية الكريمة ,أن الله عز وجل أبتدئ ألآية الكريمة بقوله– وقضى-
و كلمة( قضى الله) لها في القرآن الكريم دلالات مختلفة حسب وقوعها في سياق الآيات.
ولن أدخل في تبيان معاني كلمة( قضى) ...في هذه المقالة ,لأن الهدف الأساس هو تبيان دلالة كلمة (عندك). لكن لا بد من الإشارة إلى أن كلمة قضى لا تعني بأي حال من الأحوال –أمر الله- ولو كان القضاء أمراً ,لانتفت معه مشيئة الخالق في حرية الاختيار للإنسان . والقضاء في هذه الآية هو أمر وحكم ,لكنه مرتبط بمشيئة الإنسان واختياره.
الله عز وجل خلق الكون بما فيه ,وخلق الإنسان ,وسخر له ما في هذا الكون ,وأعطاه الحرية ,حرية الاختيار في المشيئة .
لكنه ,ولعلمه وحكمته لم يترك هذا الإنسان ,لمشيئته بدون أن يبين له طريق الحق من طريق الباطل.
فأرسل له كتاب فيه الهداية .لو تدبر معانيه وفعّلها على أرض الواقع. لكان في ذلك سعادته في الحياتين.
فالله عز وجل ...قضى... أن لا يعبد إلا هو ,وحده لا شريك له .وهذا القضاء هو أساس التوحيد الخالص .ومن عظمة الخالق ربط التوحيد مباشرة بالإحسان إلى الوالدين ....فجاء الإحسان إليهما بعد التوحيد ,كأساس تبنى عليه المجتمعات الإنسانية السوية .
لكن من تدبر الاية الكريمة ,نلاحظ ورود كلمة – عندك-
لنحاول ,حذف هذه الكلمة من الآية الكريمة .
"وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا.
ظاهر الآية بعد حذف كلمة عندك ,يستقيم ....وتشير الآية إلى بلوغ الكبر أحدهما أو كلاهما ,وهذا الكبر هو من سنن الحياة.فوصى الله عز وجل بالإحسان إليهما ,وعدم نهرهما ,وعلينا أن نقول لهما قولاً كريماً.
معاذ الله أن يستقيم المعنى بعد حذف كلمة –عندك- ومعاذ الله أن تكون في القرآن الكريم كلمات تعتبر زائدة لا ضرورة ولا معنى لها.
كلمة –عندك- .هي إشارة من رب مدبر لهذا الكون ومخلوقاته ,وتأكيداً منه على أن الوالدين عند بلوغهما سن الشيخوخة عندك أيها الإنسان ....ذكراً كنت أو أنثى.فعليك واجب الرعاية .رعاية الحي منهم بوجودك .....في بيتك ...أو في دار الرعاية إن اضطرت الظروف المعيشية لذلك ....لكن تحت رعايتك ,وعليك أن تفعل المستحيل حتى يشعرا,إن كانا في دار العجزة أو تحت رعاية إمرأة متخصصة .وكأنهما في بيتك وتحت رعايتك وحمايتك .
كثيرون هم الذين يرمون الوالدين كلاهما أو أحدهما في بيت العجزة ....ويعتبرون أن مهمتهم انتهت ,وصاروا في عناية القائمين على هذه البيوت..... أبداً ....وحتى إذا اضطرت الظروف لذلك ...جاءت كلمة –عندك- كتشريع رباني .كتشريع من مشرع ومربي لا تفوته فائتة مهما كبرت أو صغرت.علينا تفعيلها والعمل بها.
لو رتبنا أولويات دلالاتها ومعانيها.
- أولاً ... عندك... أي الرعاية بعد بلوغ أحدهما أو كلاهما الكبر .يجب أن تكون عندك ,في بيتهما وتحت رعايتك ,أو في بيتك وتحت رعايتك(والمقصود برعيتك هي أن تتوزع أدوار الرعاية على الأولاد مهما كان عددهم وحسب ظروفهم) ...وهذا الأفضل.
_ وثانياً ... عندك ...إن اضطرتك الظروف المعيشية أيها الإنسان ,في استخدام دور العجزة من أجل إيوا ء الوالدين أو أحدهما في حالة الكبر,فعليك أو (عليكم أيها الأولاد) تأمينهما بشكل يشعرا معه وكأنهما في بيتك,(بيتكم) وتحت رعايتك (رعايتكم).كما عليك أو عليكم تكثيف الزيارات لمرة واحدة على الأقل يومياً وتقاسم الأدوار في الرعاية والزيارات لهما , حتى يتوزع بينكم الأجر الكبير في الدنيا والأخرة.
والله أعلم.
"