هل تبيع الدولة الأقباط؟

كمال غبريال في الخميس ١٥ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

هل مصر دولة مدنية وعلمانية، أم هي دولة دينية؟
هل من يسن لنا القوانين التي تنظم حياتنا هو مجلسنا التشريعي، مستعيناً بالعلماء والمتخصصين في فروع العلم المختلفة، أم هم رجال الدين الذين يحتكرون تفسير الكتب المقدسة، ولا يهمهم في كثير أو قليل الاستقرار الاجتماعي والوطني، كما لا يعرفون شيئاً ولا يلقون بالاً لمواثيق ومعايير حقوق الإنسان العالمية؟
هل يحكمنا العلم والعلماء، أم أنهم تواروا أو انقرضوا، لتخلو الساحة للجهلاء والأدعياء، ليحكمونا باسم ال&Ae;إله؟
هل الدولة المصرية مقبلة على صفقة، تبيع بمقتضاها مواطنيها الأقباط لقادة الكنيسة، مقابل إراحة رأسها من صداع هي في غنى عنه، أو مقابل حفنة من أصوات الأقباط في الانتخابات القادمة؟
هل ستترك دولتنا حق من حقوق الإنسان يسلب من مواطنيها الأقباط، وهو حق الزواج والانفصال في حالة استحالة العشرة، وتترك أصحاب آلاف القضايا المعروضة على المحاكم نهباً للضياع واليأس، ويعاني أطفالهم مرارة النشأة في جحيم، في ظل أبوين لا يطيق أحدهما معاشرة الآخر، لمجرد أن رجل دين أفتى بأن حل مشاكل هؤلاء والترفق بهم مخالف لتعاليم الله كما يفهمها هو؟
هل الأغلبية التي يجيشها البابا خلف موقفه، في ظل غياب مفهوم حقوق الإنسان واستشعار هموم الآخر لدى الجماهير، تعطي مبرراً للدولة لتجاهل معاناة أقلية، يمكن أن يجد أي مواطن قبطي نفسه مندرجاً فيها، إذا ما حدث واقترن هو أو أحد أفراد عائلته بشريك حياة لا يتوافق معه؟
ألا تكون هذه سابقة خطيرة أن يتم الاستناد إلى موقف أغلبية، في سلب الحقوق الأساسية لأي أقلية في أي جانب من جوانب الحياة؟
أليس الاحتكام لرأي الأغلبية محكوماً بالمحافظة على الحقوق الأساسية للأقلية، وإلا كان فاشية وقهراً للإنسان؟
هل الشعب المصري حقاً يفضل الركوع تحت أقدام أصحاب الفضيلة والقداسة، على تحمل مسئولية نفسه، وأخذ زمام حياته ومستقبله بين يديه؟
يلزم بداية أن نستعرض الحكاية، وهي أن القضاء المصري "الشامخ"، قد أصدر حكمين يلزمان قداسة البابا "المعظم"، بالموافقة على زواج ثان لرجلين مطلقين، انصاعت الكنيسة في صمت وتكتم للتصريح بزواج أحدهما، بعد سنوات التقاضي الطويلة ومراحله المتعددة، وتوقفت عند التصريح للثاني، وصورت الأمر للجماهير والإعلام أنه مسألة مبدأ ودفاع عن عقيدة، رغم أنه قد سبق للكنيسة أن وافقت على زواج مطلقته، بعد أن خلعته عن طريق تغيير ملتها لتطبق عليها الشريعة الإسلامة وفقاً للقانون، ثم عادت مرة أخرى إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسية!!.. هكذا نشأ التضاد بين "الشامخ" و"المعظم".. بين القضاء المصري ممثلاً للدولة المدنية، وبين قداسة البابا ممثلاً لله على أرض مصر وأفريقيا والخمس مدن الغربية وسائر بلاد المهجر!!.. هنا وقع الجميع في "حيص بيص"، وأقصد بالجميع هنا مؤسسات الدولة المصرية وحدها بالطبع، فقداسة البابا "المعظم" حاشا له أن يقع في أي "حيص بيص"، بل لقد اغتنمها فرصة لكي يقف وقفة أسد هصور، مقنعاً جماهير الأقباط أنه يدافع عن المسيحية في أرض مصر، ضد هجمة تبغي القضاء عليها، فما كان من الجماهير القبطية التي نشأت على تقديس الكهنة باعتبارهم نواب الله على الأرض، إلا أن هتفت بملء حناجرها: "بالروح. بالدم. نفديك يا سيدنا"!!
نعم تعودت دولتنا أن تواجه بتحديات من "كل من هبَّ ودبَّ"، لكنها جميعاً تحديات مستترة تجري تحت السطح، أو تغمض عنها الدولة عينيها وكأن شيئاً لا يحدث، حتى لو كانت فضائحه بجلاجل كما يقولون.. يحدث ذلك بداية من تحدي الباعة الجائلين الذين يتفترشون نهر الشوارع داخل المدن ولا يتركون منه لمرور السيارات إلا أضيقه، مروراً بأصحاب المقاهي الذين يفترشون بكراسيهم الرصيف، وقد يضمون إليه بعضاً من الطريق.. ثم البناء العشوائي للمساكن، ومرح الفساد المالي والإداري وتفشيه في كافة مؤسسات الدولة، وصولاً إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة قانوناً، والتي يعلن نوابها في مجلس الشعب انتماءهم لها بكل جسارة وتبجح، وتجرى انتخابات لمرشدها العام ومكتب الإرشاد، تتابعها كافة وسائل الإعلام.. كل هذا والدولة "تعمل ودن من طين وودن من عجين"، وكأن سيادتها لا تنتهك وتتبعثر إلى أشلاء، في كل ركن من أركان مصرنا المحروسة من عين الحسود!!
لكن الأمر هذه المرة يختلف جذرياً، مع الرفض القاطع لرأس الكنيسة تنفيذ حكم قضائي نهائي، وإعلان البابا أنه يخضع لحكم إلهي يحدد هو وحده بنوده وحيثياته، وليس لحكم القانون والقضاء المصري.. هنا الأمر كتناطح رأس لرأس بين السلطة المدنية لجمهورية مصر، وبين السلطة الدينية لبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فماذا يتوقع العارفون لحال دولتنا وفلسفتها في حكم البلاد طوال الثلاثة عقود المنصرمة؟.. أيمكن أن تقف الدولة وقفة صارمة دفاعاً عن سيادة القانون وعن مدنية الدولة، وأن تضع رجال الدين في حجمهم الطبيعي، في حدود الوعظ والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، لا يتعدونه ولو سنتيمتراً واحداً؟.. أم أن المتوقع أن ترتعش أوصال الدولة التي يتهمونها بالاستبداد، وأن تبحث لنفسها عن مخرج، يحفظ لوجهها ولو القليل من الدماء، هذا لو كان بالفعل قد تبقى لدى حكامنا ولو القليل من دماء الحياء واحترام الذات؟!!
كان أمام الدولة لكي تحافظ على البقية المتبقية من كرامتها وسيطرتها أكثر من طريق تسلكه، لكل منها مغارمه ومكاسبه، وكما قال المتنبي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الكرام المكارم"، فإن الطريق الذي سوف تسلكه دولتنا سوف يحدد مدى انتماء حكامنا إلى فئتي "أهل العزم" و"الكرام".. وقبل أن نعدد الطرق الممكن لدولتنا أن تسلكها، يجدر بنا أن نوضح لغير المطلعين على تفصيلات الأمر، أن القضاء المصري في حكمه محل الإشكالية لم يجر أو يتجاهل العقيدة المسيحية فيما يخص الأحوال الشخصية للمسيحيين، فقد أصدر حكمه وفقاً للائحة الأحوال الشخصية المعتمدة قانونياً منذ العام 1938، والتي قدمتها الكنيسة حينذاك، وظلت سارية طوال فترة أربعة بطاركة قبل البطريرك الحالي، الذي جاء ليعلن أوامر إلهية مغايرة لما سبق أن أخبرت به الكنيسة الدولة المصرية، متعللاً بأن من صاغوا هذه اللائحة "شوية باشاوات"، غير مؤهلين لإدراك الأوامر الإلهية الصحيحة، وكأن الإيمان والفهم للمسيحية حكر على أصحاب الزي الأسود واللحى المطلقة، كما لابد وأن يعني هذا الكلام أن أربعة بطاركة قبله قد جهلوا الحق الإلهي، أو عرفوه لكنهم تهاونوا في إحقاق الحق، وقبلوا أن تحيا الأسر المسيحية طوال تلك العقود وفق قوانين تسمح وفقاً للإيمان المسيحي "بالزنى"، كما أفاد قداسة البابا "المعظم"!!
نأتي الآن إلى الطرق الممكن أن تسلكها الدولة، لتخرج من ورطتها، وما يمكن أن يترتب على كل منها من مكاسب ومغارم:
• أن تتخذ الموقف القانوني من البابا، بوصفه موظف عمومي رفض تنفيذ حكم قانوني، وهذا يؤدي على الأقل إلى عزله، حيث أنه مادام يصدر بتعيينه قرار جمهوري، فإن توصيف موظف عمومي ينطبق عليه، سواء كان هذا القرار الجمهوري كاشفاً أو معلناً لحقيقة انتخابه، أو كان قراراً بالتعيين، حيث أن رئيس الجمهورية نفسه يتم انتخابه من الشعب، ويصدر بعد ذلك قرار بتنصيبه.. هكذا سوف تُفَعِّل الدولة سيادة القانون في ظل دولة مدنية، لكنها سوف تجد نفسها في عيون مواطنيها المسيحيين وكأنها تعاديهم وتضطهدهم، كما سبق وأن حدث عام 1981 في عصر السادات، وبالتالي يكون هذا الأسلوب في معالجة الأمر مفتقداً للحكمة، في ظل حالة الاحتقان الطائفي الحالية، ما لم يقم المجمع المقدس للكنيسة ذاته بتولي الأمر، وتشكيل لجنة لإدارة شئون الكنيسة، وهو احتمال غير وارد عملياً الآن.
• أن تصدر الدولة عبر المجلس التشريعي (مجلس الشعب)، مستعينة بخبراء في العقيدة المسيحية، قانوناً مدنياً للمواطنين المصريين المسيحيين، يراعي خصوصيات العقيدة المسيحية، مثل الاقتران بزوجة واحدة، وحصر الزواج بين الأطراف المسيحية، ويراعى فيه في نفس الوقت إمكانية فك الرابطة الزوجية في حالة استحالة العشرة بين الزوجين لمختلف الأسباب، وأن تسحب مهمة توثيق عقود الزواج من الكهنة، وتسندها لموظفي الشهر العقاري، ليكون في إمكان الزوجين الاكتفاء بالتوثيق المدني، أو استكماله بإجراء الطقوس الدينية في الكنيسة، وبهذا يتحرر المواطن المصري المسيحي من قبضة الهيمنة الدينية، وفي نفس الوقت يتاح له اضفاء الصبغة الدينية على زواجه وفقاً لإيمانه وظروفه، وتعفى الكنيسة من الخضوع لقوانين مدنية تتنافى مع التزامها الديني، وهذا حادث في كل أنحاء العالم المتحضر، وفي إيطاليا معقل الكنيسة الكاثوليكية التي ترفض الطلاق لأي سبب.. فالزواج في أساسه أمر مدني بحت سبق جميع الأديان، وتنص مواثيق حقوق الإنسان على عدم جواز تقييده أو الحرمان منه لأي سبب.. لو سلكت الدولة هذا السبيل ستكون قد تقدمت بالبلاد خطوة معتبرة في طريق علمانية الدولة، وفي تعميق الشعور بالانتماء الوطني وليس الديني لدى مختلف فئات الشعب المصري.. لكنها هنا تكون قد فقدت المميزات التي كانت تجنيها من إيكال أمر الأقباط كلية للكنيسة، والتفاهم في شئونهم مع شخص واحد هو البابا، الذي يسهل الضغط عليه في كل ما يخص الأقباط، فيما عدا بالطبع ما يمس سلطانه هو الشخصي.
• أن تصدر الدولة بالتنسيق مع الكنيسة والمواطنين المصريين المسيحيين قانوناً جديداً موحداً للأحوال الشخصية للمسيحيين، يزيل الخلاف والاختلاف، ويحل الإشكالية المزمنة لآلاف العائلات المسيحية المعذبة على أبواب الكاتدرائية والمحاكم.. وهذا هو الطريق الذي قررت الدولة السير فيه بالفعل، لكننا نجد أنفسنا أمام واحد من احتمالين: أولهما أن تهتم بالخروج من مأزق تحدي البابا للقضاء فقط لا غير، فيخرج القانون موافقاً ومتطابقاً مع مشيئة قداسة البابا المعظم (التي يقول أنها مشيئة إلهية)، فتمنع الطلاق إلا لعلة الزنى، وتمنع السماح بزواج الطرف المخطئ.. بهذا سوف تغلق باب الرحمة الضيق الذي كان متاحاً لمعذبي الأقباط، بالحصول على التطليق عن طريق تغيير الملة، ولا يظل أمامهم من مخرج غير إشهار إسلامهم، ونعرف جميعاً ما يترتب على ذلك من مشاكل كفيلة بإشعال نيران الفتنة الطائفية، حيث يحاول هؤلاء الذين أسلموا أن يعودون ثانية للمسيحية، فيعاملون من القضاء والمجتمع المسلم كمرتدين!!.. الاحتمال الثاني هو أن تضع الدولة في اعتبارها حقوق مواطنيها الأقباط الطبيعية والأساسية، ولا تكتفي عند وضع مشروع القانون الموحد برأي الرؤساء الدينيين للطوائف المسيحية، والذين لا يعيرون اهتماماً إلا للنص المقدس والالتزام الحرفي به، وأن تأخذ رأي المعذبين بحثاً عن مخرج من ارتباط زوجي فاشل، ومعهم آراء المفكرين والنشطاء الحقوقيين، على ضوء الدستور ومعايير حقوق الإنسان.. ورغم صعوبة الأمر وتعقيده، إلا أن الخبراء القانونيين يستطيعون لو توفرت النية أن يجدوا التشريعات التي ترضي أسيادنا وكلاء الإله، وفي نفس الوقت لا تصدر حكماً بالإعدام على كل من يتورط في زواج غير منسجم وغير صالح للاستمرار.
السؤال الآن هو إن كانت الدولة سوف تتصرف في هذا الشأن من واقع استشعار مسئوليتها عن مواطنيها وحقوقهم الوطنية والإنسانية بغض النظر عن ديانتهم، فيخرج القانون محل البحث الآن، بما يدعم انتماء الأقباط للوطن بمؤسساته وقوانينه، وليس للكنيسة ووكلاء الله على الأرض، أم ستبيع مواطنيها الأقباط بثمن بخس، وهو إرضاء قداسة البابا المعظم، لكي تضمن أصوات رعيته، في انتخابات تشريعية ورئاسية قادمة؟
لو اختارت الدولة الصفقة الأخيرة على حساب سيادة الدولة وعلمانيتها، من أجل بضعة أصوات في الانتخابات، فإن لي في هذا الشأن اجتهاداً شخصياً قد لا يوافقني عليه كثيرون، وهو أن "فساد الممارسة خير من فساد القانون ذاته"، بمعنى تفضيلي لأن تمارس الدولة التزوير في نتائج الانتخابات القادمة، فلا تحتاج لأصوات أقباط أو مسلمين، أفضل من انتخابات نزيهة تحصل فيها على الأصوات، مقابل التأسيس القانوني لدولة دينية، يحكمنا فيها فعلياً أصحاب العمائم واللحى!!

 

اجمالي القراءات 9107