صناعة التطرف وإشاعة اليأس بقلم د.حسن نافعة 30/ 8/ 2009 |
هل أكون متجنيا إن قلت إن نظام الحكم فى مصر لم يعد يجيد سوى صناعة التطرف وإشاعة اليأس فى النفوس؟ لا أظن، لأن الدلائل على صحة هذه المقولة كثيرة، وسأكتفى منها هنا بمثالين حديثين. الأول: قرار إلقاء القبض على الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح ومجموعة من زملائه وتقديمهم للمحاكمة بتهمة الانتماء إلى «التنظيم الدولى» لجماعة الإخوان المسلمين. والثانى: قرار لجنة الأحزاب فى مصر رفض منح «حزب الوسط» رخصة تأسيس رغم المحاولات المتكررة على مدى 14 سنة. قرار إلقاء القبض على الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح غنى بالدلالات. فالدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح ليس مجرد شخصية قيادية وعضو بمكتب الإرشاد فى جماعة الإخوان المسلمين، لكنه شخصية نقابية عربية وعالمية مرموقة فى الوقت نفسه. فهو يشغل منذ عام 2004 منصب الأمين العام لاتحاد الأطباء العرب الذى يضم فى عضويته جميع نقابات الأطباء فى الدول العربية ويقوم بدور بارز فى العديد من المنظمات العاملة فى مجال الإغاثة الإنسانية على الصعيدين الإقليمى والعالمى. غير أن الأهم من ذلك كله أنه شخصية معروفة بالاعتدال والميول الإصلاحية، وينظر إليه باعتباره أحد الرموز التى يمكن التعويل عليها لتطوير البرنامج السياسى لجماعة الإخوان المسلمين فى اتجاه يمكنها من الانفتاح الإيجابى على بقية فصائل الحركة الوطنية المصرية وتفعيل الجهود الرامية للتوصل إلى أرضية مشتركة بين هذه الفصائل تسمح بإخراج الوطن من النفق المظلم الذى دخل فيه، وبالتالى إنجاز عملية تحول ديمقراطى سلمى يتطلع إليها الجميع. لا أريد الخوض هنا فى تفاصيل الاتهامات الموجهة للدكتور أبوالفتوح ورفاقه، لكنها تدور فى مجملها حول أنشطة يعلم الجميع أنها كانت موجهة لمساعدة الأشقاء الفلسطينيين المحاصرين فى غزة. ولأن الأغلبية الساحقة من شعب مصر، وليس فقط جماعة الإخوان المسلمين، تنظر إلى كل نشاط يستهدف مساعدة الأشقاء الفلسطينيين كوسام يُشرف على صدر صاحبه، وليس جريمة تدينه، فمن الطبيعى أن يتعاطف الرأى العام فى مصر مع الدكتور أبوالفتوح ورفاقه ويرى فى محاكمتهم إدانة للنظام الحاكم نفسه، ودليلا على تجاوزه لكل الخطوط الوطنية الحمراء. فى سياق كهذا يمكن النظر إلى واقعة إلقاء القبض على الدكتور أبوالفتوح ورفاقه وتقديمهم للمحاكمة وكأنها تحمل دليل إدانة مزدوجة للنظام. فهى تؤكد، من ناحية، مدى ما وصل إليه النظام من «عمى سياسى» فيما يتعلق بتعامله مع التيار الإسلامى بصفة عامة ومع الإخوان المسلمين بصفة خاصة، كما تؤكد، من ناحية أخرى، أن موقف النظام من القضية الفلسطينية أصبح أقرب إلى الموقفين الإسرائيلى والأمريكى منه إلى المواقف الوطنية والقومية. ويرى كثيرون أن ضرب التيار المعتدل لن يضعف «الجماعة» بقدر ما سيدفع العناصر الشابة نحو المزيد من التشدد والانغلاق على الذات، وأن تجريم كل عمل يستهدف تخفيف الحصار عن الشعب الفلسطينى سيكون بالخصم من الرصيد الوطنى للحزب الحاكم، إن كان قد بقى له رصيد أصلا، لن تعوضه زيادة أرصدته لدى الولايات المتحدة وإسرائيل! أما قرار لجنة الأحزاب برفض إعطاء رخصة لتأسيس «حزب الوسط الجديد» فتعد دلالاته الكاشفة لعمق أزمة النظام أكثر وضوحا وأشد تأثيرا على مستقبل الحياة السياسية فى مصر. فقد استند هذا القرار إلى أسباب بعضها إجرائى، أو شكلى، وبعضها الآخر موضوعى، أو فنى. فمن الناحية الشكلية، بنى قرار الرفض على «صغر البنط الذى نشرت به لائحة المؤسسين فى الصحف» وهو أمر يثير الضحك، أما من الناحية الموضوعية فقد بنى قرار الرفض على أن برنامج الحزب «لا يضيف جديدا للحياة السياسية»، وهو أمر مثير للدهشة. ولا أعتقد أننى أبالغ إذا قلت إن حيثيات هذا القرار تشكل فضيحة ثلاثية الأبعاد: أخلاقية وقانونية وسياسية. هى فضيحة أخلاقية: لأنها نزعت ورقة التوت الأخيرة عن لجنة الأحزاب، إذ تكفى قراءة سريعة لهذه الحيثيات للوصول إلى نتيجة، مفادها أن قرار الرفض اتخذ خارج اللجنة وأملى عليها ولم يكن نتيجة لأى مداولات حقيقية بين الأعضاء، وهو ما يثبت مرة أخرى أن اللجنة المكلفة بالتصريح للأحزاب السياسية فى مصر هى لجنة من الموظفين برئاسة الأمين العام للحزب الحاكم. وهذا فى حد ذاته فضيحة أخلاقية. وهى أيضا فضيحة قانونية: لأنه كان يتعين على هذه اللجنة، والتى روعى فى تشكيلها ضم شخصيات قانونية بارزة، أن تدرك أنها تعمل فى نظام سياسى يقوم على التعددية الحزبية، وهو ما يفرض عليها أن تكون الإباحة هى الأصل وأن ترجح كفة الاعتبارات القانونية على ما عداها. ولأن هيئة المفوضين بمحكمة القضاء الإدارى كانت قد قضت «بتميز برنامج حزب الوسط من جميع الوجوه»، فقد تعين على اللجنة أن تعتبر أن الجانب القانونى فى القضية قد حسم ولم يعد من حقها أن تزايد على القضاء الإدارى. غير أن اللجنة إما أنها لم تقرأ البرنامج على الإطلاق واكتفت بالتعليمات الرسمية الواردة لها، وإما أنها قرأته بعيون الحزب الوطنى وليس بعيون الدستور والقانون. لذا لم يكن غريبا أن تخلص إلى نتيجة مفادها «عدم تميز برنامج حزب الوسط عن برامج أحزاب القائمة». ولأنها لا ترتكز إلى أى مسوغات قانونية فمن المقبول أن نصفها بالنتيجة المزورة. وهى فضيحة سياسية: لأنها تدل على افتقاد صانع القرار فى النظام الحاكم إلى أى رؤية سياسية، حيث كان عليه أن يدرك أهمية قيام حزب، مثل حزب الوسط، فى الحياة السياسية المصرية. فالحزب الوطنى يدعى أنه يحارب التطرف الفكرى والسياسى، كما يدعى أن لديه برنامجا للإصلاح السياسى يستهدف تنشيط الحياة السياسية فى مصر وإضفاء المزيد من الحيوية عليها، ولأن تحقيق هذا الهدف يتطلب ليس فقط ضخ دماء جديدة فى شرايين الأحزاب القائمة وإنما إضافة أحزاب جديدة أيضا إلى الأحزاب القائمة وزيادة حدة المنافسة السليمة والشريفة بينها، فقد تعين على صانع القرار أن يدرك أن حزب الوسط يمكن أن يشكل إضافة حقيقية. فالبرنامج السياسى لحزب الوسط يعكس، وبوضوح، مرجعية فكرية مستمدة من فهم مستنير لأحكام الشريعة الإسلامية، وهو ما لاحظه وركز عليه بوضوح تقرير هيئة مفوضى الدولة، واعتبره دليلا على تميز الحزب. ويكفى أن نقرأ ما ورد فى هذا البرنامج تحت عنوان «مدخل تجديد الخطاب الدينى» لندرك حجم الحيوية التى يمكن أن يضيفها حزب الوسط إلى الحياة السياسية فى مصر. يقول البرنامج: «يرى المؤسسون أن الخطاب الدينى السائد فى مصر منذ فترة طويلة يحتاج، أكثر من أى وقت مضى، إلى إصلاح أساليبه وتجديد مضامينه وتنحية المفاهيم السلبية واللغة الاعتذارية والمعانى الانعزالية التى يحتويها، وذلك بهدف استيعاب متغيرات الواقع وتفعيل دور الخطاب الدينى فى مواجهة المشكلات التى يعانى منها المجتمع، خاصة الشباب, كما أن هذا التجديد يجب أن ينعكس بشكل إيجابى على مكانة المؤسسة الدينية (الأزهر - الكنيسة) ودورها فى جهود التنمية والإصلاح الاجتماعى العام». من هنا دعوة الحزب إلى «استقلال مؤسسة الأزهر ماليا وإداريا عن بيروقراطية الدولة مع السعى الحثيث لإصلاحه وتدعيم دوره فى تقديم الفكر الدينى المعتدل». وفى ظل المخاوف التى تراود الكثيرين تجاه «جماعة الإخوان المسلمين»، بسبب خلطها المتعمد بين الدعوى والسياسى فى ممارساتها وأنشطتها يصبح تأسيس حزب الوسط، من هذا المنظور, ليس فقط عاملا محفزا أو منشطا للحياة السياسية فى مصر، وإنما أيضا ضرورة تقضيها المصلحة الوطنية ومتطلبات الأمن السياسى والفكرى. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن عدد المؤسسين لحزب الوسط وصل إلى 1200 عضو، من بينهم رموز فكرية كبيرة وحوالى 400 امرأة وعشرين قبطيا مصريا، لأدركنا بوضوح أكثر مقدار ما يمكن أن يضيفه الحزب من حيوية لحياة سياسية تبدو فى قمة ركودها! ولأن المساحة المخصصة لهذا المقال تشرف على النفاد، دعونا نحاول الآن استخلاص الأسباب الحقيقية لاعتقال الدكتور أبوالفتوح وصحبه من ناحية، ورفض الترخيص لحزب الوسط من ناحية أخرى. فرفض التصريح لحزب يشكل قمة الاعتدال فى الحركة الإسلامية، ومحاكمة رمز من رموز الاعتدال والإصلاح داخل جماعة الإخوان المسلمين ليس لهما، من وجهة نظرى، سوى معنى واحد وهو أن الحزب الوطنى له مصلحة فى التحريض على التطرف وإشاعة اليأس فى النفوس! |