1 ــ كنت فى زيارة لقريتى " أبو حريز "فى محافظة الشرقية ، وفى المواصلات احتدمت المناقشات حول الجن والذين يركبهم الجن ، وكل المناقشات تدور فى اتجاه واحد هو المزايدة فى اثبات الموضوع والدفاع عنه والتنافس بين المتحدثين فى رواية المزيد من كرامات الشيوخ الجدد الذين يطردون الجان ويشفون المرضى ، وحاولت الهرب من سماع ما أكره ففتحت الجريدة فوجدت صفحة الحوادث تتحدث عن المريض النفسى الذى مات ضربا بالعصا لأن الشيخ الذى يستخرج منه الجان لم يقتنع بإخراج الجان إلا بالعصا ، ولم يأبه بصراخ المسكين إلى أن قطع أنفاسه ..
2 ــ وذهبت إلى البلدة فتقافزت أمامى نفس الكوابيس ، فقد تحول بعض خريجى الأزهر وبعض الملتحين إلى هذه التجارة الرابحة ، بدلا من البطالة واعطاء الدروس الخصوصية،وأصبحوا مطلوبين لعلاج الممسوسين بالجن عن طريق تلاوة القرآن ، وتأتى لهم السيارات تحملهم من المدن والقرى الى قريتنا ، حيث اشتهر بعض الدجالين ، وكانوا لا يتورعون عن ضرب ضحاياهم بالعصى لإخراج الجان .. وتكاثرت حول أولئك الدجالين الأساطير وتكاثرت معها الأموال وتحسنت الأحوال .. أحوالهم هم بالطبع ..
3ــ والتف حولى أقاربى وبعض أصدقائى ، وأغلبهم لا يزال يحتفظ بعقله ، ولكن التيار الكاسح للخرافات ترك فى رؤوسهم الكثير من الأسئلة والإستفسارات.
شرحت لهم ما سبق شرحه من أن المس الشيطانى فى القرآن هو الغواية والوسوسة والإضلال، وأنه لا يمكن لأى بشر أن يرى الجن و الملائكة والشياطين مهما افترت كتب التراث وروايات المصاطب ، لأن القرآن الكريم يؤكد على أن ابليس ومن هم فى مستواه فى الوجود يرونا ولكن لا نراهم (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ )الأعراف : 27
وأن الأمراض النفسية لم يعد علاجها بالخرافات وانما اهتدت البشرية للطريق العلمى الصحيح ؛ المعروف الأن بأقسام الطب النفسى وأبحاثه المتخصصة ، وانه من العار ان ينشغل العالم الآن بثورة المعلومات والوصول إلى الكواكب والمجرات ونحن نرجع إلى خرافات العصور الوسطى التى تمسحت بالاسلام وهو منها برىء..
4 ــ وقلت لهم أنه بالرغم أننى لا أميل لنظرية المؤامرة إلا أن الواضح أن هناك مؤامرة على العقل المصرى لإخضاعه و السيطرة عليه بالدين، فمنذ سنوات أشيعت خرافات عن السيدات اللائى يسرقن رؤوس الأطفال من المقابر يحملنها فى " قفه " ، وانتشرت تلك الأشاعات فى كل القرى والمدن المصرية ، وانتشر معها الرعب ، فاضطر المسؤلون إلى تكذيبها بعد أن صدقها الناس فعلا ، مع أنه لم تضبط اى حادثة من هذا النوع .
بعدها انشغلت مصر كلها بأسطورة الأطفال الذين عثر عليهم أحياء فى قبر بعد قتل والديهم ، واضطر برنامج المواجهة إلى تكذيب ما أشيع أنه سيقدم الجناة ، وأعلن التليفزيون أنها أكذوبة لم تحدث ، مع أن كل راو لتلك الأكذوبة كان يؤكد على صدق ما يقول ، ويدلل على صدقه بعبارة مأثورة هى : " أن الله قادر على كل شىء .. " فيسكت المعترض خوف الاتهام بأنه يشك فى قدرة الله تعالى على كل شىء .ولكننى عندها كنت أثبت ان النبى محمدا عليه السلام لم تكن له معجزة غير القرآن الذى هو دعوة عقليه وليست حسّية أو مادية، ولو كانت هناك معجزات مادية حسية لكان النبى أحوج الناس إليها وهو يهاجر من مكه إلى المدينة بجهده البشرى ،, أو حين كان يحارب فينتصر أو ينهزهم حسب مجهوده البشرى .. والله تعالى قادر على كل شىء , ولكن ذلك بقوانينه وأسبابه التى دعانا للبحث فيها والإستفادة منها ، أما الوقوع فى الغيبيات وتصديقهامع مخالفتها للقرآن فذلك ظلم للإسلام وللعقل .. وهما مرتبطان ..
5 ــ ورجعت إلى القاهرة وإلى أوراق رسالتى الدكتوراه وكانت عن أثر التصوف فى مصر فى العصر المملوكى وما أشاعه التصوف من خرافات كان يؤمن بها الناس فى تلك العصور المظلمة ، واخترت منها هذه الفقرات من كتاب الشيخ عبد الوهاب الشعرانى (لطائف المنن الكبرى ) الذى يفتخر فيه بكراماته ومناقبه ، وملأ كتابه بأكاذيب كانت تحظى بالتصديق بل بالتقديس فى عصره ، وإلا ما جرأ على تأليفها وكتابتها .
6 ـ يقول ــ وما أكذبه ــ متحدثا عن علاقته بالجن :( ومما منّ الله تبارك وتعالى به عليّ : طاعة الجن لى واعتقادهم فىّ , فكنت ربما اقول للواحد منهم ارجع عن ركوب فلان أو فلانه فينزل عنها من غير عزيمة , وربما دخلوا علىّ فى الليل أفواجا من طيقان القاعه فيصلّون معى ويسبحون معى على السبحة ، ثم يذهبون ، وسحب واحد منهم خيط السبحة فقلت له : إلزم الأدب وإلا لاتعد تجالسنى !، فتاب .
وأتونى مرة بعدة أسئلة فى التوحيد ، يطلبون منى ان اكتب عليها، فكتبت لهم عليها ، وكانت نحو خمسة وسبعين سؤالا ، ونقلت الأسئلة ، وألفت اجوبتى عليها فى نسخة سميتها:" كشف الحجاب والران عن وجه إسئلة الجان "( ملاحظة : هذا الكتاب مطبوع ومنشور ) يراجعها من يريد استفادتها ، فتلقاها العلماء بالقبول ، وكتب الناس منها نسخا لا أحصيها،ونقلت (أى نسخ الكتاب ) إلى الممالك القريبة والبعيدة .
وكان على هذا القدم ( اى الدرجة من الولاية والكرامات بزعمهم ) سيدى أبو الخير الكليباتى رضى الهب عنه ، وسيدى ابراهيم المتبولى رضى الله عنه ، وسيدى على الخواص رضى الله عنه ، وسيدى على الشاذلى رضى الله عنه ؛ فكانو يستخدمون الجان فى صورة كلاب .
وكان الشيخ أبو الخير الكليباتى رضى الله عنه يدخل بهم جامع الحاكم فينكر ذلك عليه الفقهاء انكارا شديدا لاعتقادهم أنهم كلاب , وقال فقيه يوما : كيف تدخل الكلاب بيت ربك جل وعلا ؟؟ فقال :" إنهم لا يأكلون حراما ولا يشهدون زورا ولا يغتاب بعضهم بعضا" . وكان يرسلهم فى قضاء الحوائج فيقضونها ، وكان يعمل الوليمة فى المكان الذى بين الأزبكية وباب اللوق ويمد لهم الطعام هناك : فيعتقد المارون أنهم كلاب. والحال أنهم جنّ ...)( لطائف المنن الكبرى 229: 230: للإمام أبو المواهب عبد الوهاب الشعرانى عالم الفكر)
7 ــ ومسجد الشعرانى لا يزال موجودا فى ميدان باب الشعرية المنسوب إليه ، وقد توفى الشعرانى سنة 972هجريه . أى انه كان حين يكتب هذه الخرافات كانت الأوربيون يكتشفون العالم الجديد فى الأمريكتين واستراليا ويواصلون كشوفهم الجغرافيه توطئة للإنقضاض على أجدادناالغارقين فى خرافات الجن وتلاوة دلائل الخيرات ومناقب الأولياء وكراماتهم ..
8 ـــ ثم تستيقظ مصر على ضجيج الحملة الفرنسية ويفشل المشايخ فى مواجهة مدافع نابليون بترتيل البخارى , وتدخل مصر عصر الاستنارة والدولة الحديثة ولكن يعود المصريين إلى خرافات التراث فى حقبة النفط وفكر التطرف الذى يريد اعطاء العقل المصرى اجازة مفتوحة .
9 ــ وتتفتح أجهزة الإعلام أما م تلامذة الشعرانى فتتضائل مساحة التنوير فى العقل المصرى وتتسع مساحة الخرافات و ونصبح كأجدادنا مهددين .. فالأروبيون يستعدون للقرن القادم بالمزيد من الإكتشافات فى الفضاء الكونى ويغوصون فى أعماق الخلية وأعماق النواة الذرية ..
ونحن نستعد للقرن القادم بالإختلاف فى فوائد البنوك ومخاوفنا من الثعبان الأقرع والعفاريت والجن والشياطين ..
وأخشى أن يأتى القرن القادم وقد نجح الأوربيون فى بناء مستعمرات فوق سطح القمر بينما ينشغل فقهاؤنا الأفاضل بالإختلاف حول حكم الإستنجاء فوق سطح القمر .. !!
آخيرا:
1 ـ واضح أن هذا المقال سبق نشره فى أوائل التسعينيات ، حين كنت فى مصر ، وحين كنت أسافر حرا لبلدتى ابوحريز دون اضطهاد من(أمن الدولة).
اى هو مقال يصور العقلية المصرية من حوالى عشرين عاما .. فهل اختلف الحال الآن ؟ أم لا زالت العفاريت تتلاعب وتتراقص بالعقلية المصرية ؟
2 ـ ونتساءل :
لم نسمع أن الجنّ ركبت واحدا من ألمانيا أو أمريكا أو سويسرا أو اليابان أو حتى اليونان .. لماذا يتخصص الجان فى ركوب العرب والمسلمين فقط ؟
هل لأنهم انحنوا خضوعا وركوعا للمستبد فتعودت ظهورهم الانحناء واستعصت على الاستقامة والكرامة والرجولة والشهامة واتسعت لأن يركبها كل من هبّ ودبّ من العالمين ، حتى الجن والشياطين ؟