تزكية النفس باعطاء المال
(10) الاطار الأخلاقى لتشريعات الزكاة المالية فى الاسلام

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٨ - يونيو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
1 ـ سئل فقيه : هل يمكن أن أباشر زوجتى جنسيا فى نهار رمضان ؟ فأجاب الفقيه : نعم . سافر بها . فلو سافرت بها جاز لك الافطار وجاز لك مباشرتها جنسيا.
وسئل فقيه آخر : أريد أن أتزوج بلا مهر ، فقال الفقيه : يمكن ذلك بزواج ( الشغار ) أى أن تزوج ابنتك أو أختك لفلان على أن يزوجك هو ابنته أو أخته ، و يتنازل كل منكما عن الصداق للآخر.
وسئل فقيه آخر : لا أريد أن أدفع زكاة مالى ، فهل عندك من حيلة ؟ فقال الفقيه : نعم . تعطى زكاة مالك الى من تثق فيه على ان يعطيك هو زكاة ماله بنفس القدر.
هذه بعض الفتاوى المشهورة فيما يعرف بفقه الحيل .
(فقه الحيل ) من أشهر ملامح الشريعة السّنية ، بدأ به المذهب الحنفى ثم اتسع ميدانه لكل من يريد التلاعب بشرع الله جل وعلا ، وقد نسبوا بدايته للامام ابى حنيفة ، وهو خطأ ، وليس هذا موضوعنا على أية حال .

2 ـ هناك تياران متعارضان فى الفقه السنى : أحدهما تيار (عقلى ) ولكن لا يستخدم العقل والفكر فى استنباط احكام القرآن وفى تطبيقها ، بل فى التحايل عليها ، كما سبق فى الأمثلة السابقة . ثم هناك الاتجاه المحافظ الرافض للعقل والمعتمد على تزوير الأحاديث والاكتفاء بها فى سنّ أحكام الشريعة السنية .
والتياران معا يتناقضان مع المنهج الاسلامى فى التشريع ، حيث يكون القرآن هو المصدر الوحيد للشرع الاسلامى ، وحيث يكون استباط الأحكام الشرعية من القرآن مرتبطا بالتقوى وليس بالتحايل والتلاعب بشرع الله جل وعلا .
والأحكام التشريعية فى القرآن دائما ترتبط بالتقوى ، وهى خلاصة الأخلاق العالية ونقاء الضمير بحيث يحاسب الفرد نفسه ويتحسب للوقوع فى الخطأ ، فإذا وقع فيه بادر بالتوبة وتصحيح الايمان والعمل ، وتنقية صفحته قلبيا وعمليا من الرذائل .

3 ـ وكل العبادات فى الاسلام وسائل للتقوى ، أو حسن الخلق والتمسك بالقيم العليا ، ولكن الفقه السنى أهمل عنصر التقوى فى العبادات ، فقام بالتركيز على الأداء الشكلى والمظهر السطحى فتتحول العبادات الى وسائل للرياء و العصيان والفساد الخلقى .

4 ـ وقد أوضحنا اهمال الدين السنى لمفهوم الزكاة والتزكية واقامة الصلاة وايتاء الزكاة ودور الزكاة المالية عموما فى تزكية النفس بالتقوى وكون التفاضل فى الرزق اختبارا للبشر فى تأدية الزكاة المالية .والآن نتوقف مع الاطار الأخلاقى الخاص بموضوع الزكاة المالية أو آداب تقديم الصدقة ـ قبل واثناء وبعد تقديمها ـ حتى يقبلها رب العزة جل وعلا.

أولا : آداب الصدقة قبل تقديمها :

(أ ) معرفة أن الصدقة ضمن الحقوق المالية المفروضة على المؤمن :

1 ـ ذكر رب العزة جل وعلا بعض الحقوق المالية على المؤمن ، ومنها : كتابة الوصية للوالدين والأقربين بالعدل و المعروف حقا واجبا مفروضا على المتقين وهم يودعون الحياة :(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 180 )، و حق المطلقة قبل الدخول فى متعة مالية بالمعروف و العدل :(لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ( البقرة 236 ). و حق المطلقات بعد الدخول فى المتعة المالية بالمعروف و العدل (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 241 ).

2 ـ وجاء التركيز على كون الصدقة حقا للمستحقين أو ( حق الصدقة). :
فالصدقة من الحقوق المالية على المؤمن ، ويجب عليه وهو يؤديها أن يعلم أنه يؤدى حقا مفروضا عليه ، وأن الفقير او المحتاج هو (صاحب حق ) والمتصدق يؤدى له ( حقّه ) ، فليس للمتصدق منّة أو فضل أو جميل على (المتصدق عليه ) ، وبالتالى فعلي المتصدق المقدم للزكاة أن يؤديها ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، ليس تملقا أو رياءا أو تفاخرا أو بالمنّ والأذى .
وقد أشار رب العزة الى بعض أوجه (حق الصدقة ) بنفس تعبير ( الحق ) أى المستحق شرعا ، ومنها :
2/ 1 : الصدقة من الزروع و المنتجات الزراعية ، ويكون إخراجها بمجرد وقت الحصاد ، يقول جل وعلا :(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) ( الأنعام 141 )
2 / 2 : عموم الصدقة على كل أنواع الدخل ، يقول جل وعلا :(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الاسراء 26 )(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الروم 38 ) (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 )(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( المعارج 24 : 25 ).

3 ـ وواضح وصف الصدقة ـ أو (الزكاة المالية ) بأنها (حق ) أى واجب الأداء .
وتفسير ذلك هو أن الله جل وعلا هو الرزاق ، وهو صاحب المال فى الأصل ، فأنت حين تنفق فأنت لا تنفق من مالك ولكن من مال الله الذى أعطاه لك (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور 33 ) أى إنك مستخلف فى المال الذى أعطاه الله تعالى لك ، وهو الذى استخلفك على هذا المال ، وهو الذى أمرك بالانفاق منه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (الحديد 7 ).

(ب ) : تقديم الصدقة من المال الحلال وليس الحرام

1ـ ولأن الصدقة هى ( صدق ) فى التعامل مع رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وهو الذى يعلم مصدر حصولك على الأموال ، وما جاء منها بطريق حلال وما جاء منها غصبا وحراما ، فليس من المنطق أن تتقرب لله جل وعلا بالتصدق بمال تعرف أنه حرام . هذا ليس خداعا لرب العزة بل خداع للنفس .
والله جل وعلا لا يقبل الصدقة الآتية من مال خبيث ، بل يفرض أن تاتى الصدقة من مال طيب حلال من كسب اليد ومما تخرج الأرض ، يقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ( البقرة 267 ).

2 ـ هنا تبدو احدى ملامح التناقض الأخلاقية بين الاسلام والدين السنى فى موضوع آداب الصدقة.
الاسلام يوجب مجىء المال من حلال بعيدا عن اى شبهة فساد أو ظلم ، ولكن فى الدين السّنى تجد النقيض ؛بالتشجيع على كسب المال الحرام ، ثم التصدق ببعضه لتطهيره وتطهير صاحبه.
وتلعب الأحاديث الشيطانية دورا هاما فى الترويج لهذا الافك ، فمن يحج يرجع كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب ، وليس مهما إن يعصى طول العام ثم يحج بضعة أيام ينفض فيها عن جسده أوزار كل العام ، وليس مهما مصدر المال الذى يحج به، ومن يبنى مسجدا ولو كمفحص قطاة يبنى الله له قصرا فى الجنة ، وليس مهما إن كان البانى للمسجد مصليا أم لا ، وليس مهما مصدر المال الذى يبنى به .
ومعظم المبانى الدينية للمسلمين من مساجد وزوايا وخوانق وأسبلة ورباطات ومقامات تم بناؤها فى تاريخ المسلمين بالسخرة ومصادرة الأموال ومن الكسب الحرام لأمراء وملوك فجرة مستبدين مفسدين أرادوا التكفير عن مظالمهم ببعض ما اكتسبوه من المال السحت ، وهذا ما لا يقبله الله جل وعلا.

( ج ): معرفة أن الله جل وعلا يعلم سريرتك وما تقدمه من صدقة او نذر

1 ـ ومن هنا يتردد ويتكرر فى موضوع الحث على الصدقة تذكير المؤمن بأن الله جل وعلا يعلم سريرته ومصدر ماله ، سواء تصدق من هذا المال أو قدمه نذرا لله جل وعلا :( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( البقرة 270) . هذا من ناحية مصدر المال .
2 ـ ومن حيث المستحقين للصدقة فقد يرى المتصدق ان بعض مستحقى الصدقة على غير دين أو خلق فيجعل ذلك مبررا لحرمانهم من حقهم ، وهذا خطأ جاء التحذير منه لخاتم المرسلين مؤكدا أنه ليس مسئولا عن هداية أحد لأن الهداية ارادة شخصية لكل انسان ، ومسئولية شخصية على كل فرد ، وهى علاقة مباشرة بينه وبين ربه لا شأن لمخلوق آخر بالتدخل فيها حتى لو كان خاتم النبيين ، فمن يشاء من البشر الهداية يهده الله جل وعلا ، وكونه مهتديا أو ضالا لا علاقة له باستحقاقه للزكاة المالية أو الصدقة .
المؤمن منهى عن تدخل عواطفه الشخصية والدينية فيمن يستحقون صدقته لأنه يقدمها ابتغاء مرضاة الله وليس تبعا لهواه وعواطفه ، ولو التزم الاخلاص فى إعطاء الصدقة لمستحقيها على أساس الاحتياج الفعلى للصدقة فإن الله جل وعلا سيوفيه خيرا فى الدنيا والآخرة :( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ )( البقرة 272 )
3 ـ والحكم باستحقاق فلان للصدقة يقوم على حسب الظواهر ، وهناك من يدعى الفقر ، وهناك من يحترف السؤال والتسول ، ولهم حق طالما سألوا الناس ، فللسائل حق وكذلك للمحروم .
ولكن لا ينبغى أن يصرف إلحاح محترفى التسول النظر عن بعض مستحقى الصدقة الحقيقيين ، ومنهم من نسميهم بالمستورين ، أى أناس محترمون يعانون الفقر سرا ولكن يسترون حالهم بالصبر الجميل والتعفف . وأولئك يكثر عددهم فى عصور الفساد حين تتكون الطبقات المترفة التى تكتنز الثروة وتحتكرها .
وحين يفتح الفساد أبوابه لكل باغ وعاد من كل الطبقات فإن الشرفاء الرافضين للفساد ينتقلون تدريجيا للفقر ، ويهبطون من الطبقة العليا للوسطى ثم للطبقة الدنيا . ومنهم من يقف ضد الفساد يقول كلمة حق فى وجه الظالمين فيتعرض للاضطهاد ، وقد يلجأ للهجرة تاركا بيته وأهله فتنقطع به السّبل ويعيش محاصرا فى الأرض .
هذا الصنف الكريم الشريف من المؤمنين الأطهار الفقراء المستورين هم الأحق بالصدقة ، والأحق بالعثور عليهم لمعاونتهم ، وما أروع قوله جل وعلا فيهم :(لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ )(البقرة 273 )

ثانيا : الآداب عند تقديم الصدقة :

1 ـ بهذه الآداب والأخلاقيات قبل إعطاء الصدقة فإن المتصدق المؤمن المخلص لا يتقيد بوقت معين فى إعطاء الصدقة ، فحيثما يرزقه الله جل وعلا بمال ـ أى مال قليلا أو كثيرا ـ فإنه يسارع باخراج حق الله من هذا المال ، ليلا أو نهارا ، سرا أو علانية ، لأن قلبه قد أخلص لله جل وعلا حنيفا ، ولا يهمه ما يقال عنه من مدح أو قدح ، المهم أن يرضى ربه جل وعلا: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : 274 )
2 ـ ومن يصل لهذه الدرجة لا يخاف عليه من الرياء والنفاق طالما أخلص لله جل وعلا قلبه ووجهه ، لذا يستوى فى حقه أن أعلن صدقته ليقتدى به غيره وليشجع غيره ،أو أخفاها حرصا على مشاعر المتصدق عليه ، فهذا المتصدق النقى القلب يحاول بكل ما فى قلبه من نية حسنة أن يرضى ربه بكل حال : ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )( البقرة 271 )

ثالثا : الآداب بعد ايتاء الصدقة : التحذير من المنّ على المتصدق عليه واعتبار المنّ أذى :

1 ـ أفظع ذنب يبطل عمل الصدقة ويستجلب حقد المتصدق عليه أن تمنّ عليه وتعيّره بما أعطيته له من صدقة . لا يفعل هذا مؤمن مخلص على الاطلاق لأنه يعرف أنه لا يعطى من ماله بل من مال الله جل وعلا الذى استخلفه فيه ، ولأنه يؤمن أن للفقير و المحتاج حقا فهو يعطيه حقه الشرعى المفروض من رب العزة ، وهو ينتظر مقابل ذلك ثواب ربه جل وعلا فى الدنيا وفى الآخرة ، وبالتالى فلا مكان إطلاقا لأن يمنّ على مستحق أخذ حقه ، بل يعلن له مقدما أنه لا يريد منه جزاءا ولا حتى مجرد كلمة شكر : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) ( الانسان 9 : 10 )
الذى يمنّ على المتصدق عليه ويعيّره يعيش بثقافة قارون الذى زعم أنه صاحب المال وأنه حصل عليه بعلمه ، وعليه فلو أعطى من هذا المال فقيرا فإنه يرى من حقه استعباد الفقير بهذا المال ، وينتظر من الفقير أن يخضع له شكرا وعرفانا ،فإن لم يفعل سلقه بالمنّ والأذى.
ولأهمية هذا من الناحيةالأخلاقية و النفسية فلقد عرض لها رب العزة بالتشريع والترغيب والترهيب مصطنعا أروع اسلوب مؤثر من الناحية البلاغية : ( البقرة : 262 : 266 )

2 ـ فى البداية يقول جل وعلا :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
هنا أسلوب علمى تقريرى محدد ينقسم الى ثلاث فقرات فى حديث عن المتصدقين . الفقرة الأولى عنهم قبل وبعد إنفاق أموالهم فى سبيل الله ، وقد قاموا بالمطلوب قبل وأثناء تقديم الصدقة ، والمطلوب هنا أنهم قدموها مخلصين عقيدتهم لله جل وعلا بلا رياء أو تظاهر. الفقرة الثانية تتحدث عنهم بعد إنفاقهم فى سبيل الله فتصفهم بأنهم بعدها لم يتبعوا الصدقة بالمنّ والأذى . وبالتالى فقد نجحوا فى مرحلتى ما قبل وما بعد إعطاء الصدقة ، ويترتب على النجاح هنا أن ينالوا الجزاء ، وهو أن يكونوا من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
أهمية الاسلوب العلمى هنا أنه جاء بالجملة الاسمية ( الذين ينفقون ..)( لا خوف عليهم ..).
والجملة الاسمية تفيد الثبوت والدوام . وحين تستعمل فى معرض التشريع بمعنى الأوامر والنواهى تكون أكثر دلالة وأكثر حثا وأبلغ تحريضا ، كقوله جل وعلا فى الحث على تأدية فريضة الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران 97 )
من هنا نفهم مغزى استعمال الجملة الاسمية فى التحذير من المنّ فى قوله جل وعلا :( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ).
ونتوقف مع العطف بالواو فى التفسير القرآنى للمنّ ، إذ جاء يعطف (الأذى) بالواو على (المنّ) ليجعل المنّ أذى ، ثم تأتى الآية التالية لتكتفى بكلمة (أذى ) فقط لتؤكد على أن المنّ أذى ، يقول جل وعلا (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى). والمفارقة واضحة هنا ؛ إنك تعطى شخصا مالا بيدك وتؤذيه بلسانك فيضيع ثواب فعلك عند الله جل وعلا و تخسر شكرانه ولا تجنى سوى نقمته . أى خسرت مرتين عندما اعطيته المال وعندما جنيت الكراهية . ومن هنا يكون المنّ ليس أذى للفقير فقط ولكن للمتصدق ايضا .
3 ـ واستعمل رب العزة نفس الاسلوب التقريرى العلمى الموجز وبالجملة الاسمية فى الآية التالية : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ).
المعنى ببساطة ان الاعتذار عن دفع الصدقة بلطف أفضل من ان تعطى صدقة ثم تتبعها بالمنّ والأذى . ويضاف اليها أن الله جل وعلا غنى عن العالمين وغفور رحيم حليم بهم .
ومع الايجاز هنا فقد جاءت الآية الكريمة بمعنى جديد مترتب على الآية السابقة ومؤكد له .
4 ـ وبعد استعمال الجملة الاسمية والاسلوب التقريرى الموجز تأتى التفاصيل تشرح وتوضح .
4 / 1 :وبدأ الشرح بالنهى بأبلغ عبارة وأوجزها . فلم يقل جل وعلا يا ايها الذين آمنوا لا تؤذوا من تعطيهم الصدقة بالمنّ حتى لا تبطلوا ثمرة صدقاتكم وثوابها ، ولكن جاء النهى بايجاز عن إبطال الصدقة بالمنّ والأذى ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى ) .
4 / 2 : وبعد النهى البليغ الموجز جاءت تفصيلات الشرح باسلوب أدبى يستعمل التشبيه فى أروع صوره ، يقول جل وعلا : (كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )، فالمرائى الكافر بالله واليوم الآخر هو فقط الذى يقع فى المنّ والأذى ، وجاء تشبيهه بتراب فوق حجر هطل عليه مطر فأزاح التراب وكشف عن حجر صلد لا يصلح لزرع ولا نماء . والمعنى ان قلب المنافق المرائى كالصخر لا يجدى معه زرع ولا تبقى عليه تربة ولا ينفع فيه مطر ، فلو أنفق فلا خير فى نفقته لأن فى قلبه مرضا يجعل لسانه ينطق بالمنّ والأذى فيضيع ثمرة الانفاق .

4 / 3 : وتأتى الآية التالية باسلوب تشبيه لانفاق المؤمن الذى يبتغى وجه الله جل وعلا : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). التشبيه هنا بحديقة فى ربوة مرتفعة ، وهى ذات تربة غنية خصبة ، فلو جاءها مطر غزير أنتجت ضعفين وإن جاءها مطر قليل فهو يكفيها . فهنا الثواب مضمون والثمرة مضمونة وبلا اى خسارة .
4 / 4 : ثم تأتى الآية التالية بأروع صور التشبيه ، وهى التشبيه التمثيلى الذى يحكى قصة شديدة الايحاء وشديدة الايجاز ، يقول جل وعلا : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ( البقرة 262 : 266 ).
تخيل أنك شيخ طاعن فى السن يقترب منك الموت وتقترب من الموت ، وانت وحدك مسئول عن حديقة فيحاء من نخيل وأعناب ، وقد أفنيت عمرك فى استزراعها واستنباتها ورعايتها حتى علت أشجارها وآتت ثمارها ، وفى غمرة انشغالك بها نسيت أن تتزوج فى شبابك ، ثم تزوجت متأخرا ، وأنجبت فى ارذل العمر أطفالا صغارا لا حول لهم ولا قوة ، وأصبحت وحدك المسئول عنهم وعن رعايتهم وعن رعاية الحديقة ، ثم جاءت المصيبة الكبرى بأن نزل إعصار محرق فدمر الحديقة وأحالها الى خراب . وبقيت أنت وأطفالك بين خرائبها ، ليست لديك القدرة على اصلاحها واعادة تعميرها ولن تعيش حتى ترى أولادك يكبرون ويصلحونها . ستبقى تنظر الى الخرائب والأطفال الصغار و جسدك الواهن عاجزا يائسا .
هل تودّ هذا لنفسك ؟ بالطبع ..لا .
ولكن هذا ما ستقع فيه فعلا فى الدنيا والآخرة حين تنفق الصدقات وتتبعها بالمن والأذى ، فأنت تتخيل وتتوقع الجزاء الشكور من الناس ، وفى النهاية لن تجد سوى الجحود من الناس و المقت و العذاب من رب الناس .
هذا هوالبيان الرائع للقرآن الذى يدعو الناس للتفكير والاعتبار (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ )
5 ـ وبرغم كل هذه الأوامر والنواهى واستخدام شتى الآساليب الحقيقية العلمية التقريرية و البلاغية الأدبية المجازية فإن أغلب المسلمين اليوم يقعون فى المنّ والأذى .
وأشهرهم فى هذا المجال المظلم الموحش آل سعود الذين اغتصبوا أرض معظم الجزيرة العربية وجعلوها مملكة وضيعة ومزرعة لهم أطلقوا عليها اسمهم . وقد احترفوا السلب و النهب فى فقرهم ، فلما اكتشف البترول فى الاراضى ـ التى اغتصبوها من أصحابها الأصليين ـ أنفقوا المال فى المجون وفى سبيل الرياء وتزعم العالم (الاسلامى ). ومع أن تبرعاتهم تأتى من مال منهوب ، ومع أنها لا تقارن بتبرعات الغربيين لمنكوبى المسلمين فى الزلازل والبراكين فإن آل سعود حين يرسلون شحنة مساعدات يملأون الفضاء منّا وأذى . بل وحين يعطون المواطنين فى المملكة بعض حقوقهم المالية فإنهم يجعلونها ( مكرمة ملكية ) ومن إنعامات الملك ، ويتغنى بها الخطباء و أجهزة الدعاية .
هم بذلك يحكمون بأنفسهم على أنفسهم بالكفر بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، وفق ما قاله رب العزة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ).
ودائما : صدق الله العظيم .!

اجمالي القراءات 12271