إن القرآن الكريم يحرم اكتناز الأموال أي يدعو لتشغيلها ودورانها في الحركة الاقتصادية ، أي يدعو لتنميتها اقتصادياً فالمال المكنوز قد يبقى كما هو على أحس الأحوال ـ إذ لم تنخفض قيمته بالتضخم ـ فإذا دار مع الحركة الاقتصادية للمجتمع أسهم في التنمية الاقتصادية وفي سرعة حركتها وحقق لنفسه فائضاً ونجا من التضخم الذي يقلص حجمه يوماً بعد يوم .
وكما يحرم القرآن اكتناز المال فإنه في المقابل يحرم أيضاً الإسراف على المستوى الفردي والمستوى الجماعي ، وقد يبدو أن الإسراف يشجع على زيادة الاستهلاك ، وينعش الأسواق ويحقق التنمية الاقتصادية ولكن النظرة المتعمقة تؤكد أن الاستهلاك الترفي القائم على عادة الإسراف يقضي على الطاقة الإنتاجية للمجتمع ويبدد ثروة المجتمع في النهاية.
إن المسرف حين يشتري ما لا يحتاج ما إليه فإنه يجمد أمواله فيما لا نفع فيه ، أي أنه يقوم بعملية اكتناز عيني لأمواله ، وتلك السلع الاستهلاكية غير الضرورية التي أسرف بشرائها تتناقص قيمتها سريعاً أو تصبح عديمة القيمة وتنتهي فيضيع فيها المال هذا بينما يستهلك الفرد المسرف غير المحتاج حصة أخ له معدم كان في حاجة ضرورية لنفس السلعة.
وهذا التوجه القرآني في تحريم الإسراف والاكتناز بالغ الأهمية للتنمية الاقتصادية وإذا أنفق كل فرد ما لديه من فائض في شراء ما لا يحتاج إليه كان ذلك إسرافاً والإسراف حرام وإذا أخفى الفائض لديه تحت البلاطة كان اكتنازاً للمال ، وذلك أيضاً حرام ، إذن فليس أمامه إذا أطاع الله تعالى ورسوله إلا أن ينمى أمواله بالحلال عن طريق الأوعية الادخارية المشروعة أو في مشروعات إنتاجية تنمي ماله وتحقق التنمية الاقتصادية للمجتمع ، وبذلك تدور عجلة التنمية سريعاً بطاقة استثمارية ضخمة .
وفضلاً عن ذلك فإن تشريعات الزكاة والصدقات عظيمة الأثر في دفع عجلة التنمية الاقتصادية ، لأنها ـ بالإضافة إلى تشريعات قرآنية أخرى ـ تحث على إعطاء الفقراء والمحرومين حقوقهم وتمنع الأغنياء من أن يأخذوا شيئاً من الفئ أو ما يفئ إلى بيت المال "حتى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .. الحشر7" أي حتى لا يتركز المال بين الأغنياء فقط فتتعاظم الفجوة بين الأغنياء المترفين المتخمين والفقراء الجوعى المحرومين فينفجر المجتمع من الداخل وتضيع معه التنمية الاقتصادية ، ولكن خطوات التنمية الاقتصادية تتسارع حركتها إذا أخذ الفقراء حقوقهم في الزكاة والصدقات والفئ والغنائم ، لأن الفقير ينفق ما يأتي إليه في إشباع حاجاته الأساسية اليومية من غذاء وملبس ، أي هو بطبيعته كائن مستهلك وكل ما يأتي إليه من مال يعود إلى السوق سريعاً في حركة شراء مستمرة أي أن الأغنياء من أصحاب المصانع والمزارع والمتاجر حين يعطون الفقراء حقوقهم فسرعان ما تعود إليهم هذه الأموال في ازدهار حركة الشراء وتتحقق التنمية الاقتصادية .
وقد فطنت الرأسمالية الغربية إلى هذا الحل الذي سبق أن أشار إليه القرآن ، فقد اقتنعت أوروبا وأمريكا واليابان بأهمية إعطاء العالم الثالث الفقير قروضاً ومساعدات وحين تتخطى هذه الشعوب أزماتها تكون قادرة على شراء منتجات الغرب واليابان فتنتعش الرأسمالية ويصبح العالم الثالث أسواقاً مفتوحة لها .
وتشريعات القرآن ـ حين نطبقها بإخلاص ـ لا تحقق التنمية الاقتصادية فحسب بل تخلق أيضاً طبقة من الاقتصاديين الشرفاء الذين يتنافسون فيما بينهم في إنتاج أفضل سلعة وفي تقديم أكمل خدمة للمجتمع وبأرخص الأسعار ، وعلى أسس من الوضوح والشفافية يتنافسون في تحقيق أفضل استثمار ممكن لثروة المجتمع المالية والبشرية والاقتصادية .
هؤلاء هم الذين يفهمون أن قوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" لا يعني مجرد الإيمان والعبادات ولكن عمل الصالحات يضم كل عمل نافع للمجتمع من صناعة وزراعة وتجارة وتنمية اقتصادية يؤديها المؤمن لينفع بها قومه والناس جميعاً وابتغاء أجر الله تعالى له في الدنيا ولآخرة .