كان الأمل الأكبر، أن يتم دفن عهد الدكتاتور صدام حسين كاملاً بعد 2003 ، وأن تشرق على العراق - ولأول مرة في تاريخه الطويل والممتد - بعضاً من أشعة الحرية، والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان. وأن تهبَّ بعض هذه النسائم، خاصة في حرارة طقس العراق القاتلة، وغبارها (الطوز) السياسي المنتشر الآن، والذي يغشى العيون، والأبصار، والأفئدة أيضاً.
الفقيه الديني والفقيه السياسي
ولكن كيف للعراق الدولة، أن تسمح لأشعة الحرية أن تنفذ من شقوق أبواب المحرومين من غالبية الشعب العراقي، ولنسائم الديمقراطية أن تهبَّ على الوجوه العراقية التي لفحتها شمس الدكتاتورية العاتية منذ قرون، وحتى فجر التاسع من نيسان 2003؟ ولم تتوقف شمس الدكتاتورية الجديدة عن لفح وجوه الشعب العراقي، وحتى حرقها كما نرى الآن.
كيف للعراق الدولة، أن تسمح بذلك، و"الزعماء" لاهون بولائم اللحم المشوي والرز "البرياني" الإيراني، لعلهم يجدون مخرجاً في ثنايا هذا اللحم وأكوام الرز للأزمة السياسية، التي سببتها "روح الدكتاتورية" المستمدة من الروح الدكتاتورية الملالية الإيرانية؟
ففي إيران ولاية الفقيه الديني ذي "العِمَّة" السوداء والقفطان التقليدي، وفي العراق ولاية الفقيه السياسي ذي "الربطة" الزاهية، والخاتم ذي الحجر الكريم في الخنصر.
لو استعرض القارئ العادي، وليس المثقف، أو المفكر السياسي، حال النخبة السياسية العراقية التي تلعب وتتلاعب الآن على الساحة السياسية العراقية، لوجد أن معظم هؤلاء الساسة، قد رضعوا من ثدي الدكتاتورية الملالية الإيرانية، حتى ارتووا، تعصباً، وتلاعباً، وطائفيةً، وعدم إيمان بتداول السلطة.
إيران تحتل العراق وليستأمريكا!
فإيران اليوم، وعلى لسان أكثر من معلق ومحلل سياسي بصير، هي التي تحتل العراق وليس أمريكاّ! ولعل ما قلناه في مقال سابق، من أن حجم التجارة الإيرانية مع العراق بلغ عام 2009 ستة مليارات دولار، ومرشح أن يصبح هذا العام 2010 ثمانية مليارات دولار، وهو ما يوازي أضعاف أضعاف ما كان عليه هذا الحجم قبل 2003، كما صرح علي الحيدري الملحق في سفارة إيران في بغداد، يفسر لنا معنى الاحتلال الإيراني للعراق. ودولة تتمتع بهذا الحجم التجاري الضخم مع العراق، لا بُدَّ وأن يكون لها الكلمة الفصل، في كل شؤون العراق. ولا بُدَّ أنها تتحكم بكل مفاصل الحياة العراقية. بل إن العراق وليس البحرين - كما سبق وأعلنت إيران - هي المحافظة الإيرانية الرابعة والعشرين الآن. وهذا ليس شعاراً سياسياً عاطفياً ودينياً، ترفعه إيران لتخويف دول الخليج من نفوذها في العراق، ولكنه وقائع وأرقام قائمة وثابتة على الأرض العراقية. وهو ما يلمسه بوضوح المعلق والمحلل السياسي البصير بشؤون العراق.
صفات الاحتلال الإيراني للعراق
إن إيران أحمدي نجاد - هذا السياسي الفذ، وهو في رأيي ابن المقفَّع الجديد- أذكى من أن يرسل حملة عسكرية لاحتلال العراق. فالحملات العسكرية بقصد الاحتلال أصبحت من تراث الماضي السياسي التقليدي. والاحتلال اليوم يتم عبر المُنتَج، وعبر الكتاب، وعبر شريط الفيديو، وعبر الرز البرياني. كذلك يتم الاحتلال عبر إرسال قوافل الإرهاب، والسيارات المفخخة، والأحزمة الناسفة. وهذه كلها من صفات الاحتلال الإيراني. ولو أرادت إيران احتلال أي بلد خليجي – لا سمح له - فلن ترسل قائد جيشها اللواء عطا الله صالحي على رأس حملة عسكرية لذلك البلد. فيكفي أن يصبح الميزان التجاري الإيراني مع ذلك البلد أعلى من أي ميزان آخر. وأن يتم تأليف الحكومة من وقت لآخر وتعيين وزرائها بموافقة إيرانية. وأن تعطي إيران الضوء الأخضر لكل قرار سياسي خارجي أو داخلي. فهذه هي صفات الاحتلال الجديد في القرن الحادي والعشرين. وهذا ما يجري في العراق الآن. فالأزمة السياسية القائمة في العراق الآن، والتي تبحث النخبة عن حل لها بين إضلاع اللحم المشوي وأكوام الرز، لن تنحلَّ إلا إذا أرادت لها إيران ذلك، وبالطبع سوريا من ورائها.
صفات أخرى للاحتلال
ومن صفات الاحتلال الإيراني الأخرى للعراق انتهاك حقوق الإنسان. ففي إيران، وكما جاء في بحث الخبير الدستوري العراقي منذر الفضل، فإن انتهاكات حقوق الإنسان في إيران، بلغت حداً من الشراسة والبغي ما لم تبلغه في أي دولة أخرى باستثناء العراق (في رأيي أنا).
ففي إيران – وحسب الفضل – تُصادر الحقوق والحريات بكل أشكالها، بصورة مخالفة لجميع المعايير الإنسانيةوالدولية. وتُمارس عمليات القمع المنظم للمعارضين السياسيين، ولحرية الكلمة، ولحرية التعبير والتفكير. وتُضطهد المرأة وحقوقها. ويُمارس التعذيب في السجونالعلنية والسرية بصورة منهجية، ومخالفة للشرائع الدولية. وهناك انتهاكاتخطيرة لحقوق المواطنين في إيران على أساس العرق والدين والمذهب والجنسترقى الى مستوى الجرائم الدولية. وهذه الممارسات – للأسف الشديد - موجودة في عراق الفقيه السياسي أيضاً. وفي إيران – حسب الفضل - تجري حملة تصفيات جسديةضد أصحاب الرأي والناشطين منهم في ميدان حقوق الإنسان ، وممارسة التعذيبالجسدي والنفسي ضد المعتقلين منهم، وإبعادهم الى مناطق بعيدة شمال إيران،حيث تشير العديد من تقارير منظمة العفو الدولية الى حالات خطيرة لانتهاكاتحقوق الإنسان وإعدامات وحشية.
وفي العراق يتم الجُرم ذاته. وما تم اكتشافه في "سجن المثنى" حديثاً يشيب له الولدان.وقد قالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" إن ممارسات مثل تعذيب السجناء وضربهم وهتك عرضهم كانت ممارسات معتادة في سجن غير شرعي تابع لوحدة عسكرية تحت قيادة مكتب رئيس الوزراء العراقي. ودعت "هيومان رايتس ووتش" إلى تحقيق شامل حول مركز الاحتجاز الذي تم الكشف عنه ، وحثت العراق على محاكمة المسئولين.
سوريا في لبنان وإيران في العراق
ورغم كل مناورات السياسيين العراقيين ولفهم ودورانهم حول بعضهم وحول أنفسهم، وإقامة ولائم اللحم المشوي والرز البرياني، لتأليف الحكومة العراقية، فلن يتم تأليف هذه الحكومة، إلا إذا جاءت "كلمة السر" من طهران، كما كانت "كلمة السر" تأتي لرئيس وزراء لبنان منذ 1980 واحتلال سوريا للبنان، وإلى يومنا هذا. وإيران بالنسبة للعراق، تتبع نفس المنهاج والأسلوب السياسي الذي تتبعه سوريا مع لبنان. والمضحك المبكي، أن حال السياسة العراقية، لا تختلف كثيراً عن حال لبنان، الذي لا يُعيّن رئيس جمهوريته، ورئيس وزرائه، ورئيس مجلس نوابه، إلا بموافقة سورية. كما أن سجون إيران في العراق - ومنها "سجن المثنى" آخر الاكتشافات "المبهرة"- تذكرنا بالسجون السورية في لبنان في عنجر وبيروت. كما أن صراع الطوائف الدينية اللبنانية على المقاعد السياسية، شبيه بالصراع الطائفي في العراق الآن كذلك.
كذلك،فهناك في لبنان البطريرك صفير، وهنا في العراق آية الله السيستاني!