موعدي قبيل ظهر اليوم مع مجموعةٍ من أفضل أطباءِ مِصر لاطلاعي على الوضع الصحي لي، لكن منذ عودتي من رحلتي العلاجية في هايديلبرج الألمانية وأنا ألمس نوعاً من المهانة في وجوه أطبائي، فقد كانت رسالتي في الرحلةِ العلاجية الأخيرة واضحةً لكل أطباءِ أكبر بلد عربي والذي حَكَمْته بالحديد والنار لثلاثة عقود، وكتب عن نظامه الصحي والمستشفيات وعبقرية الأطباء المصريين أكثر المنافقين تمرّساً في المديح الزائف حتى ظن الآخرون أنَّ مصرَ ستصبح قريباً قِبلة المرضى يأتونها من كل فج عميق!
إنهم يعرفون الآن أنني لا أثق بهم، وأنَّ أصغرَ طبيب أشقر الشعر، أزرق العينين أقرب لجسدي، وأرحم علىَ مرارتي، وأحنّ على غضروفي من كل أطباء وأساتذة وأعمدة الطب في أم الدنيا، فأنا لم أصنع نظاما طبيا يثق فيه أصحابُ السلطة والمال هنا، فمستشفياتنا من حق فقرائِنا، والمستشفيات الخاصة لمن يملك المال، أما العلاج في الخارج فهو للسلطة وحوارييها ومريديها!
دخل الدكتور زكريا عزمي وكأنه لص يتسلل في جُنْح الظلام، ثم اقترب من أذني اليسرىَ وأبلغني أنَّ هناك مظاهرة في قلب القاهرة، لكن أجهزة الأمن تمكنت من تفريقها!
ظننتُ في البدءِ أنَّ المتظاهرين عشرات الآلاف ينادون بسقوطي، لكنه أكد لي أنهم لا يزيدون عن سبعة وثلاثين مهووساً تكاد تتمزق حبالُهم الصوتية، وأنَّ المصريين يمرون عليهم كما يمر الأطفالُ على أقفاص القِرَدة في حديقة الحيوانات، فالأمر لا يعنيهم من قريب أو من بعيد!
اتصلتُ بوزير الخارجيةِ أحمد أبو الغيط الذي أكَّدَ لي فور سماعِه صوتي بأنَّ مصرَ أكبر من كل الحاقدين، وأنه لو اجتمعتْ أفريقيا كلُها وحجبت مياهَ النيل عنّا فإن حِكمَتي قادرة علىَ جعل الماء ينبجس من الصخر، وأنني أستطيع أنْ أروي ظمأ المصريين كلهم من قصعةٍ صغيرة!
فرحتُ بكلامِه رغم أنني أعرف مُسبقاً أنه كاذبٌ خائفٌ، وأنا كاذبٌ ديكتاتور!
سألني عما إنْ كان من حقه أن يعقد مؤتمراً صحفياً أُسوة بنظيره الهولندي في حال حدوث كارثةٍ تودي بحياة مئات المصريين، فسمع مني عِتابا اهتزتْ له أسلاكُ الهاتف، وقلت بصرامة: لو ضرب زلزال مصر، أو تسمم عدة ملايين من المصريين، فينبغي أن لا يكترث أو يعطي الفاجعة أهمية أكبر من حجمها، فمصريونا أقل شأنا من حشرات تدوسها أحذيتنا، أليس كذلك؟
ثم أردفتُ قائلا: هل سمعت أنني انتقلت إلى مكان الحادث في أي مصيبة تضرب المصريين حتى لو احترقوا في قطار أو التهمتهم أسماك القرش بعد غرق عبّارة في سفاجا أو سقط عليهم جبل؟
يجب أن تعلم بأنني لا أتسامح مع أي مسؤول مصري يبدي أي قدر من الاحترام للمصريين!
فأجاب بنعم مُذلة أكاد أزعم أنه انهار بعدها من الخوف!
قال لي زكريا عزمي وقد انحنى حتى كاد عموده الفقري ينكسر إلى نصفين: سيدي الرئيس، هل علينا أن نخشى غضب المصريين في يوم من الأيام؟
كأنه ألقى على مسامعي نكتة تجمع بين الضحك والبكاء بنفس القدر.
قلت له: لقد فعلتُ مع المصريين في خمس ولايات من حُكمي ما يجعل الحديد ينصهر حِمماً من الغضب، وجعلت الكوارث تتسابق لتصيبهم، ووضعتُ أجندة فيها نهاية كل مصري إما غرقا في البحر الأحمر، أو محترقا في قطار، أو تحت ركام بناية سقطت بموادها المغشوشة، أو بسرطان من جراء فواكه وخضروات مُسَمّمة، أو من هواء ملوث، أو من مياه أكثر تلوثاً، أو من فقر مدقع، أو من جوع قاتل، أو من اكتئاب مميت، أو في تخشيبة بقسم الشرطة، أو في زنزانة تحت الأرض أو في مستشفى يسرق أطباؤها أعضاءه الصالحة ليستبدلها بأعضاء تالفة في أجساد أثرياء عهدي، أو يخرج عليه بلطجي بمطواة قرن غزال وهو آمن في الميكروباس، أو تختطفة أجهزة أمني، أو ينتحر يأساً، أو يغرق هربا من جحيمي قبل الوصول لشواطيء مالطا أو إيطاليا أو اليونان.
ابتسم الدكتور زكريا عزمي، ودعا لي بطول العمر، وللمصريين بِقصَره!
بعد قليل جاءتني مكالمة هاتفية من الدكتور أحمد فتحي سرور يبلغني فيها بنبأ تمديد العمل بقانون الطواريء، فهنئته، ووعدته بتمديد رئاسته لمجلس الشعب طالما ظل خادما أمينا لي ولأسرتي، ومادام يمرر توجيهاتي فيصنع منها قوانين ملزمة!
فسألني وهو يتلعثم: وهل سأكون على مقعدي عندما يتسلم مقاليد الحُكم السيد جمال مبارك بعد انتهاء ولايتك السادسة أو السابعة أو العاشرة، أطال الله في عمرك حتى يبدو نوح عليه السلام أقصر منك عُمراً؟
قلت له: كما قال أخي الملك الحسن الثاني، رحمه الله،لأحد وزرائه: لا يكفي أن تؤكد لي أنك خادمي، ولكن أن تعمل معي كخادم قولاً وفعلاً!
فرَدَّ بحماس: لو أردت، سيدي الرئيس، تشريع قانون يتيح لك وضع كل أفراد الشعب المصري في حامض الأسيد وإذابتهم، فلن أتردد أنا أو غيري من أعضاء الحزب الوطني!
قبل أن أضع سماعة الهاتف طلبت منه أن يكافيء العضو الذي طالب باطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين.
قيل لي منذ عدة أيام بأن هناك دعوات لتدوير منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، فطلبت من كل الأجهزة المعنية أن تسعى لتطويق الفضيحة، فأنْ يكون جزائري أو قطري أو صومالي مكان عمرو موسى فخسارتي تصبح مضاعفة لأنني أريد أمينا عاماً يجعلني أشعر أنني زعيمٌ لكل العرب، ويلتزم بتوجيهاتي.
اتصلت بعد الغداء بصفوت الشريف، وطلبت منه أن يخفف رؤساءُ تحرير الأهرام والأخبار والجمهورية وروزا ليوسف وأكتوبر من المديح المقزز للنفس، والنفاق المقرف، والكذب المضلل، فقد جعلوا مني نصف إلـَه، وسوبر نبي، وعملاقا بعقل أينشتاين ودهاء تشرشل!
ليل الثلاثاء الماضي أيقظني ابني جمال وقال لي بأنه يشعر بغربة، ووحشة، ويطارد الأرق عينيه من جراء التفكير في الدكتور محمد البرادعي!
ضحكت لدقائق عدة وهو صامتٌ لا ينبس ببنت شفة، ثم قمتُ بالتخفيفِ عليه من تخوفات وهمية، فالرجل القادم من الخارج لا يعرف قواعدَ اللعب مع الكبار، وماذا سيحدث لو أنني رفضت تغيير َبعض مواد الدستور ؟
قلت لجمال وقد علَتْ نبرة صوتي: أنا وضعت في قلب كل مصري، إلا مَنْ رحم ربي، بذرة الخوف ولو كان في جوف كهف لاتعرف موقعه وكالة ناسا، أو في بطن حوت يختبيء في عُرض المحيط!
إن المصري، ابني العزيز، يخاف من خياله، ومن البريد الإلكتروني، ومن كفّ المخبر المتقاعد، ومن المرور أمام قسم الشرطة، ومن أعضاء لجان الإنتخابات حتى لو كتب كلمة(نعم) ووضعها أمام عيونهم،!
هل تعلم أن ربع مليون شاب شجاع على الفيس بوك لو استدعاهم صاحبك الذي تؤرقك صورته، وعودته، ومؤيدوه، وطلب منهم العصيان المدني أو الانتفاضة أو التجمع المسالم في أحد ميادين قاهرة المعزّ فلن يحضر منهم أكثر من ثلاثة وأربعين، وسيبعث حبيب العادلي خمسين ألف رجل أمن ليجعلوا من الميدان ثكنة عسكرية، ومن العاصمة هدفاً لحرقها لو شعرت أن ملكيتي لرقاب المصريين تتعرض لتهديد حقيقي.
أعترف لك، ابني العزيز جمال، بأن العودة الأولى للدكتور محمد البرادعي كانت هي الفرصة الأكبر لوصوله للحكم، والقائه إياي وأمك وشقيقك علاء من نافذة القصر، وكانت مصر تغلي كراهية لي، وغضبا على أسرتنا، لكن البرادعي أضاع فرصة العُمر.
المصريون يبحثون عن زعيم وليس عن رئيس فقط، والبرادعي يطلب من الشعب التأييد الهاديء وليس التمرد الغاضب، وتلك هي المعادلة التي ستجعلنا ننهل من مغارة علي بابا لربع قرن قادم دونما حاجة لأربعين حرامي!
وأخيرا طلبت منه أن ينام قرير العين، فالخطر بعيد عَنّا بُعْدَ المشرقين، والعَدُّ التنازلي لحُكمنا لا يبدأ قبل أنْ يقتنع المصري بأنَّ مصر بلده، وأن المصرييين اخوة في المواطنة، وأن خيرات مصر لأهلها وليست لنا، وأن كرامة المصري تسبق كل القيم الأخرى، وأن الله لا ينحاز للمسلم أو القبطي، وإنما للشجاع، والنبيل، والمؤمن بأن الدفاع عن الكرامة شرط لرضا العزيز الجبار.
عدت إلى النوم وأنا أفكر في مصر التي تسلمتها لثلاثة عقود خلت، فجعلتها في ذيل أمم العالم، أكبرها وأصغرها، ويستطيع أيّ منصف أن يلقي نظرة متفحصة على التعليم، والسلوكيات، والفنون، والآداب، والترجمة، والسياسة الخارجية، والزراعة، والصحافة، وبرامج التلفزيون، وثقافة المواطن، ومعلومات خريجي الجامعات، وعالم المخدرات، والجنس، والتدين الزائف، والعلاقات بين المسلمين والأقباط، والتربية المنزلية المليئة بالكراهية لأصحاب الدين الآخر، ومياه الشرب، وقوانين الطواريء، وظروف اعتقال الأبرياء، والفساد، ونهب أموال الدولة، وموميائية الوجوه التي تطل من الشاشة الصغيرة، والعلاقات بين المصريين، والغش، و ... وسيعرف أنني أديت مهمة لوّ حَكـَم إبليس شخصياً لما استطاع أن يفعل بمصر والمصريين مثلما فعلت أنا وأسرتي.
قبل أن يغلبني النعاس، سألتني شريكة عمري عن تلك الابتسامة الساخرة التي ترتسم على شفتي، فقلت لها: لقد تذكرت غضب المصريين الذي هددني به معارضون لحكمي ومنظمات حقوق الإنسان، لكن يبدو أن هذا الغضب مؤجل إلى يوم القيامة.
ورحت أغـُط في نوم عميق، فاليوم التالي سيكون جحيما متجددا لشعب لا يثور، ولا يغضب، ولا يستعين بكل قيم الخير والشجاعة والإيمان وحب الله ومحبة الوطن ليدافع عن بلده، وأهله، وكرامته، وممتلكاته، ومستقبل أولاده!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 17 مايو 2010
Taeralshmal@gmail.com