مقطع من يوميات مواطن عراقي

محمد عبد المجيد في الخميس ١٣ - مايو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

هدوءٌ حـَذِرٌ خـَيَّمَ علىَ منطقتنا منذ صباح هذا اليوم، لكنه لا يعني الضوءَ الأخضر للآمنين في الشوارع الرئيسة أو الجانبية، أو حتى للسيدات المـُسِنّات اللائي يفترشن أرضَ السوق في محاولةٍ يائسةٍ لكسب مبلغٍ ضئيلٍ قد يـَسُدّ رمق سبعة أطفال يتضورون جوعاً

قررتُ المجازفةَ والسيرَ في الطرقات المليئة بالمطبات، وفرَكتُ عيني مرات عديدة لعلي أتأكد أنني لازلت في العراق، ثم أزحت من ذهني مطلعَ قصيدة للجواهري ربما كان يقول فيها

سهرتُ وطال شوقي للعراق .. وهل يدنو بعيدٌ باشتياق

وهل يُدنيك أنكَ غيرُ سالٍ .. هواك وأنَّ دمعـَك غير راق

فما أنا على يقين منه الآن هو استجوابٌ في مشروع وطن، وتصويرٌ لمشهد عزاءٍ تحاول حكومة المنطقة الخضراء الايحاءَ لنا أنه عـُرْسٌ، وأنَّ الطلقات النارية هي للاحتفال والفرح وليست للقتل والدمار!

بدرت مني عن غير قصدٍ ابتسامةٌ ساخرة عندما تذكرْت تهكمي في السابق على طائفية اللبنانيين، وتأكيدي لأحد أصدقائي وهو يحاورني أنَّ العراقَ آخرُ دولة على وجه البسيطة يمكن أن تتسلل إليها نزعات طائفية، وأننا، شيعةً وسـُنـَّةً وأكراداً وتركماناً ومسيحيين وصابئةً ويهوداً ومؤمنين وغير ذلك ، شعب واحد يروي عطشـَه نهران، وتـُثري لسانـَه لـُغتان، ويـُعَمـِّر قلبـَه حرفان، ويكتب تاريخـَه مَلـَكان!

تحـَوّل المشهدُ العراقيّ إلىَ أكبر عملية عبث في المعاني اللغوية لوصف الحقائق والأكاذيب، فالاحتلال يصفه نصفُ العراقيين بالتحرير، والطاغية يؤمن ثلثـُهم أنه شهيد، وحكومة فيشي يأمل ربعـُهم في توجهاتها، والقتل على الهوية يرى أكثرنا أنه ضرورة وطنية، وكل الطوائف الأخرى تستحق الإبادةَ إلا طائفتنا التي أعـَدَّ اللهُ لها مكانا في الجنة!

الآن اسمـُك قد يحدد نهايتـَك، ومكانُ عبادتـِك هو الطريقُ المستقيمُ لقبـْرك، وحبـُك لعراقـِك لن يشفع لك، فحتى الذي يـُفَجـّر نفسَه في مستشفى للأطفال أو وسط سوقٍ يحتشد به الضعفاءُ والمساكين والباحثون عن لقمةِ العيّش على يقين أنه أكثر حـُبّاً للعراق من الذين ستتناثر لاحقاً أشلاؤهم في كل مكان!

تلقيت أول أمس مكالمةً هاتفية من ابن عمي المقيم في السويد، وقـَصَّ عليّ بعضاً من يومياته فأصابني هـَمٌّ علىَ غـَمٍ، واستفسرت منه عن طريقة الخروج من الجحيم، فطالبني بالصبر لعل اللهَ يُحْدِث بعد ذلك أمراً!

قابلت أحـَدَ أصدقاءِ الطفولة الذي كـُنّا، أنا وهو، لا نفترق حتى نلتقي، ولا يغيب أيٌّ منّا عن الآخر إلا ويراه مرة أخرى قبل أن يختفي ظله!

وقفنا نتأمل وجهينا مـَليـّاً، فهو يعرف أننا أصبحنا على طرفي نقيض، وهويتـُه قد تقطع رقبتـَه إنْ رآه معي أحدُ أعضاء جماعتنا، وهويتي ترسلني إلىَ العالـَم الآخر لو مررت أمام بيته في منطقةٍ تحمل جنباتي عنها ذكرياتٍ عطرةً مفعـَمة بالبراءة في زمن اكتشفتُ مصادفةً بعد شهور عدة أنَّ زميلي وجاري في مقاعد الدراسة من طائفة أخرى، فالاختلاف في الدين والعقيدة والمذهب والطائفة والعشيرة والطقوس كان آخر ما يشغل العراقي رغم طغيان الاستبداد لأكثر من ثلاثة عقود.

تذكرتُ صديقاً حميما لشقيقي الأكبر الذي حكى له خلال زيارة قصيرة قطعها من منتصفها وعاد إلى وطنه الجديد .. هولندا بأنه قضىَ سهرةً مع مجموعةٍ من العراقيين في بيت أحدِهم بضواحي روتردام، وكان البكاءُ فيها علىَ الوطن يفوق أحزانَ الدنيا كلـِّها، واستمعوا لناظم الغزالي، وقرأوا مقتطفات لعلي الوردي،ولم يسأل أي منهم صاحبه عن دينه أو مذهبه، وصبـّوا لعنات علىَ مُفـَرّقي الجماعة، وداعمي الطغيان، ومفجـّري أنفسهم في الأبرياء، والمجادلين في حقيقة أو زيف مذهب الآخر، واستخرجوا من قاموس الشتائم كل ما فيه لوصف أكثر مَنْ حكموا العراقَ منذ مذبحة قصر الرحاب إلى الانتخابات الأخيرة التي يتصدرها ثلاثة: بلطجي، وقاتل، ومحتال مصارف!

في الطريق لمحتُ رجلا أشيب الشعر، مقوّص الظهر، رثّ الثياب، وعندما التقت عيناي بعينيه أشاح بوجهه إلىَ الناحية الأخري، فهو يعرف أنني عايشت تفاصيلَ حكايته عندما اغتصبه ثلاثةُ جنود يانكي من حراس سجن ( أبو غريب)، وشاهد انتهاكَ كرامتـِه ثـُلـَّةٌ من صحاب السجن، فلما خرج بعد بضع سنوات رفض العودة إلى بيته، فهو من عشيرة ترى أنَّ الشرفَ قبل الإيمان، وأنَّ السيفَ أصدق إنباءً من الكتب، وأن عارَ اغتصاب الرجل أعمق جُرحا من فقدان المرأة لشرفها، ففضـَّل التسوّلَ في منطقة أخرى عن العودة لعشيرته الكبرى!

إذا أردت أن تتأكد من حُبـِك للعراق فعليك أن تتوَحـّد مع روح نخلة باسقة، وأن تهزّ إليك بجذعـَها، وأن تـُنعش لسانـَك برطبها، حينئذ يدخل إلى يقينك إيمانٌ أن ثروة العراق ليست فقط في عبقرية العراقيين، أو تسامحـِهم، أو نهريّن يحتضنان أرضـَه، ولكن في ملايين من أشجار النخيل.

فإذا علمتَ أنَّ نخيلَ العراق قتلتْ ثلثـَه حربٌ مجنونة بين بغداد وطهران، ودمَّرَتْ الثلثَ الثاني هستيريا طاغيةٍ ظنـَّه العربُ مَهيباً، وأتت علىَ أكثر ما بقي منها طائرات العم سام فكانت الحلبجةُ حلبجتين: واحدة لسكان قرية بريئة، والثانية لروح أرض كان تـَمرُها يـَسَّاقط علينا رُطـَباً جـَنـْيـّاً.

لو قام إبليس بافتتاح مكتب للهجرة في قلب بغداد مع وعد للعراقيين بجحيم في الخارج فسيقف أمامه صفٌّ طويلٌ من الحالمين يمتد من الحدود التركية إلى الحدود الكويتية، فأيّ حياة بائسة خارج أرض الرافدين هي جنة مقارنة بوطن كان يمكن أنْ يصبح قـِبْلـَةَ العرب الحقيقية، ومصدرَ الابداع، والتقدم، والثقافة، والشعر، والأدب، والعلوم، وعبقرية التسامح.

وقفتُ أمام كـُشك صغير به بضاعة لو باعها صاحبـُها مرة واحدة فلن تكفي لشراء ثلاث وجبات طعام لأهل بيته، وابتسم لي كأنه أراد أن يبوح بخلجات نفسه قبل أن استخرجها بنفسي، ثم قال لي مُبرّرا شـُحَّ مواد غذائية متناثرة في مـِتْرَيـّه المربعين بكـُشك يعادل مساحةَ زنزانة في سجون العراق تحت كل الأنظمة التي حـَكـَمـَته أو احتلته أو قهرته:

هذا ما بقي لدي بعدما أنفقتُ آخر دينار في بيتنا لتهريب زوجتي وبناتنا الثلاث إلى سوريا، لكن حيرتي لا تبرح ذهني إلا قليلا، فالفاقة بين ملايين العراقيين المُشـَرَّدين في سوريا والأردن قد تجعل غـَضَّ الطرفِ عن شرف المرأة أمراً إعتيادياً، فتتساوى المهانة في الغربةِ مع الذُلّ في الوطن!

لم أكن بحاجة إلىَ المزيد فقد فهمتُ من نظراته الحزينة أنَّ شائعاتٍ قد تناثرت حول أذنيه تتحدث عن اضطرار واحدة أو أكثر من حريمه إلى التفريط فيما كان يعتبره العراقي خطاً فاصلاً بين الحياة والموت، فلما نقلتْ له فضائياتُ العالم مشاهدَ الجنود الأمريكيين وهم يتحسسون أجساد العراقيات بحجة التفتيش، سقطت حينئذ بغداد للمرة الثانية, وتوارى سيف الشرف العراقي في غـِمْده، وبهتت نظرات عيونٍ كانت تبرق، ثم ترسل حمرتـُها شرارات حـِمـَميّة لو مسَّ شرفَ العراقيات غريبٌ ولو كان مقيما بين ظهرانينا نصف عمره أو يزيد!

كل شيء قابل للعادة حتى لو كان السجـّان يُلهب قفاك عشرين مرة في اليوم ثم يتوقف فجأة، فربما تفتقد صفعاته حتى تعتاد مرة جديدة على غيابها!

والإحتلال أيضا يخضع لنفس النظرية، فأنا في أقل من ساعتين وقعت عيناي على جنود أمريكيين لولا أنهم مسلحون لخلـْتهم يتنزهون كما يفعلون في شوارع لويزيانا وشيكاجو ومانهاتن وميامي، ولم أطرح على نفسي السؤالَ عما يفعلوه هنا خشية أنْ يأتيني الجواب بسؤال مضاد عما نفعل نحن في العراق!

الإحتلال أيضا غسيل مخ يجعلك تبحث بعد اليأس والغضب عن إيجابياته، فتُعيد النظرَ كرَّتيّن لشوارع عراقنا فتجد صحفا منشورة كأن كل عراقي لديه مطبعة في بيته، وفضائيات مفخخة في وجوه الجميع، وإيحاءات طائفية عبر الأثير تنفجر لاحقا لتقنع العراقيين بأن حُكم الطاغية، وقهر الجنود الذين اعتمر أحمد الجلبي قبعته وهو يجلس فوق دبابة معهم، وكل من تولى رئاسة الحكومة وتوارى في المنطقة الخضراء ليحيل أحلامَ أهل بلده إلى كوابيس سوداء، فتكتشف أن المشهد العراقي لو رسمه إبليس بريشة من عبقرية الوسوسة التي حنـّكته منذ بدء الخليقة، فإنه سيقف عاجزا، وربما يطلب من العراقيين أن يتتلمذ على أيديهم!

فجأة سمعت إنفجارا يهز الأرض وبناياتها الآيلة للسقوط، وأرتميت على وجهي، وحميت رأسي من تناثر زجاج المنازل القريبة، وظهرتْ فجأة صورة العراق الذي أعيش فيه، واختفت صورة وهمية من زمن أزعم أنه كان من نسج خيالي.

إنه ليس هجوماً بالطائرات الأمريكية، فالأمريكيون يعيشون بيننا، ويبيعون نفطـَنا، ويضعون مناهج الدراسة لأولادنا، ويحددون لنا أولوياتنا، ويوافقون على تعيين حكوماتنا، وأزعم أنه هجوم عراقي ضد العراقيين، وستختفي بعد دقائق اللوحات المعدنية للسيارات المفخخة، وسيغمض الأمنُ عيونـَه عن القتلة في انتظار البيان الذي سيحدده محتلونا لتوزيعه على وكالات الأنباء.

وقفت بعد قليل، وتأكدت أنني حيٌّ، هذه المرة على الأقل، فالموت غدرا مكتوب على العراقيين، وإنْ مـِنّا إلا وارده، وإذا نجوتَ من جنود الإحتلال، فأبناءُ وطنك أيضا سيرسلونك إلى باطن الأرض، ولكن تريّث قليلا، فالطائفة الأخرى تتربص بك!

عدتُ إلى البيت كما يفرّ السليمُ من الأجرب، وأرتميتُ على مقعد غير مُريح أمام جهاز الكمبيوتر، وعبثتْ أناملي بكل مفاتيح الكي بورد، وقضيتُ ثلاثَ ساعات متنقلا بين مواقع ومنتديات عراقية ليتأكد لي بعدها أنَّ انفجارات الخارج كانت أرحم من قنابل الشبكة العنكبوتية، وأنَّ عالـَم الكراهية والبغضاء والطائفية في المنتديات والمواقع التي يديرها ناطقون بلغة الضاد هو عالـَمٌ فريد من نوعه، ولو تجسـّد الحقدُ لغةً لكانـَها، ولو تحوّل الشـَرُّ حـَرّفا لما وجد غير أعضاء ومشرفي وزوار هذه المواقع ليمدّهم بأكثر مما يحتاجون!

كان العراقيون قادرين على إمداد العرب كلهم بالعلماء والأدباء والشعراء والجنود والأطباء والمهندسين، لكننا انتحرنا يوم أنْ رانَ صـَمْتٌ على ألسنتنا، فقد صـَكّ كلٌّ مـِنّا وجهه أمام الاستبداد، وتـَمَّت تصفية ربع مليون عراقي في أقل من ثلاثين سنة لم نشهد فيها سيارة مفخخة واحدة تنفجر أمام الحرس الجمهوري للقائد المهيب، فلما غاب، تفجّرَتْ بطولاتنا، وشققنا طريقنا بسهولة ليقتل العراقي أخاه بأسهل من قتل ذبابة.

كلنا قـَتـَلَة، وكل التبريرات التي نسوقها واهية وكاذبة وشهادة زور، ونقاشاتنا عن الماضي نفاق، واستدعاء شواهد من تاريخنا لألف وأربعمئة عام خلت كاستدعاء الكذب ليمحق الحق، ولو نزلت آياتٌ عن حديث الإفـْكِ مرة أخرى لما وجدتْ غير أرض العراق.

كلنا مارسنا التعاونَ مع الشيطانيـّن بنفس القدر: الاستبداد والإحتلال!

جلست أتخيل أحلامَ ملايين العراقيين في استبدال الراين والسين والدانوب بدجلة والفرات، وتذكرت يا ليلة العيد أنستينا لأم كلثوم وهي تقول: يا دجلة ميتك عنبر، وبحثت في كل الوجوه التي مرّت بذهني محاولا العثور على عاشق للعراق فأعياني الفكرُ، وأصابني دوار، فارهاق، فاكتئاب، فيأس!

أكاد أجزم بأنَّ من يجادل لاثبات أباطيل المذهب الآخر أو الطائفة الأخرى هو عدوٌّ للعراق ولو كان لديه توثيق مـُوَقـَّعٌ من رضوان، عليه السلام، يسمح له بدخول الجنة من باب الأنبياء والصدّيقين والشهداء.

منذ هذا الحادث وأنا أنتظر مكالمة هاتفية من الخارج، لعلي أرجو، واستصرخ صاحبها أن يجد لي فرصة هروب إلى أي مكان، ولو كان جحيما في عالم الحرية، بديلا عن وطن داس عليه الاستبدادُ ثلاثين عاما، وحطـَّمه الحصارُ ثم الإحتلال، وساهم أهلُ البلد في الاجهاز علىَ ما بقي منه.

من كان يظن أنَّ طائفتـَة هي وحدها الناجية من النار فهو من أهل النار!


 

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو في 9مايو 2010

Taeralshmal@gmail.com

اجمالي القراءات 10336