فور محاضرة لي أخيراً، كنت قد نبهت فيها إلى الخطر الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين على الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، وخطورة قيام القوى الوطنية بالتحالف معهم، في معرض محاولة بعض القوى تشكيل جبهة معارضة قوية، علها تنجح في التأثير على مجريات الأمور بالبلاد، والتي ينفرد فيها الحزب الوطني الديموقراطي بالسلطة وأجهزتها.. جائني صحفي شاب بسؤال، ظاهره التساؤل وباطنه الاستنكار قائلاً: وماذا نفعل في الإخوان المسلمين، هل نضعهم في السجون؟!!
ورغم أن السجن هو المكان الطبيعي قانونياً لمن يعيد إحياء جماعة محظورة قانوناً، إلا أن هذا السؤال لو تمت صياغته بعبارة أخرى مثل: ومن ينتمون لفكر مدرسة الإخوان المسلمين، ماذا سنفعل بهم؟.. هنا يأخذ الأمر منحى آخر، ينأى بنا عن التنظيم غير الشرعي، ليوجهنا نحو البشر ذاتهم، الذين هم مواطنون مصريون، يعتنقون أفكاراً خطيرة ومفارقة للعصر، ويؤدي استشراؤها بين الشعب المصري إلى شيوع الكراهية والترصد بين أبناء الوطن الواحد، بالإضافة إلى فرض الهيمنة والوصاية على الناس باسم الله.
رغم خطورة بعض الأفكار، خاصة تلك التي تندرج ضمن التحريض على الكراهية والقتل، إلا أنه وبصورة عامة فإن مواجهة الفكر المؤثم مجتمعياً وسياسياً، تختلف جذرياً عن مواجهة الفعل الذي يشمل بالتأكيد إنشاء تنظيم يعمل في المجتمع بموجب ذاك الفكر المؤثم.. فمواجهة الفعل من مسئولية الجهات الأمنية والقضائية، بينما مواجهة الفكر تكون سياسية وثقافية وتعليمية، لكن الحادث في مصر في هذا العصر من اختلاط وخلط للأوراق والمفاهيم، ذلك الخلط الذي امتد لجميع مناحي الحياة المصرية، أدى لتخبط الدولة والمجتمع في مواجهة ما يعد بلا مبالغة أخطر تنظيم ظهر في مصر، وامتد نشاطه إلى كافة أنحاء العالم.
فخطورة تنظيم القاعدة رغم عنفها ودمويتها، أقل من خطورة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، فالقاعدة بدمويتها فعلاً وخطاباً، لا تعد مصدر جذب مباشر للشباب، بل في الأغلب هي طاردة ومنفرة.. لكن خطاب الجماعة المحظورة الناعم كجلد الأفعى، هو المدرسة الابتدائية التي تستدرج الشباب، لتبرمج عقولهم وفق رؤاها الخطيرة، ليتوقف بعض من تلاميذها أو ضحاياها عند هذه المرحلة، ويمضي البعض مادين خط ذات الفكر على استقامته، ليلتحقوا بالجماعات التنفيذية، أي التي تأخذ على عاتقها تطبيق ما تعلمته في مدرسة الإخوان على أرض الواقع.. هكذا يجد تنظيم القاعدة من يطرق أبوابه طلباً للالتحاق بجند الله المتطلعين للوصول للجنة عبر بحيرة من الدماء البريئة المسفوكة!!
لقد أدى خلط الأوراق في الساحة المصرية إلى تدخل السياسي في الجنائي والقضائي، فنجد أن المواجهة الجنائية القانونية لمؤسسي جماعة الإخوان المحظورة تتأرجح حسب الأهواء السياسية، على مبدأ فريد الأطرش "مرة يهنيني ومرة يبكيني"، ونجد اتهام "إحياء جماعة محظورة" يوجه حسب المزاج والتساهيل، لتصبح "الجماعة المحظورة" أكثر التنظيمات وجوداً وفاعلية في الشارع المصري!!
أما الإخوان المسلمون "المدرسة الفكرية" فقد تركت لها الساحة ممهدة ومفروشة بالورود، وفق المثل القائل: "خلا لك الجو فبيضي وصفري".. ليتسلل ذلك الفكر وحاملوه إلى نخاع الحزب الوطني الحاكم، وإلى كافة مؤسسات الدولة، حتى تلك السيادية منها.
الآن ماذا علينا نحن الليبراليين والعلمانيين من نشطاء الشارع السياسي أن نفعل تجاه ما تشمله "جماعة الإخوان المسلمين" من "تنظيم" و"فكر" و"بشر"؟
لاشك أننا لابد وأن ننأى بأنفسنا تماماً عن أي علاقة "بالتنظيم"، فهو تنظيم خارج على القانون، وأي علاقة به هي بالتأكيد جريمة قانونية، حتى لو كان القانون غير مفعل تجاه هذا الأمر، أو يتم تفعيله حسب الأحوال كما أسلفنا.
أما الفكر والذي ينبغي أن يعامل كما تعامل الأيديولوجيات العنصرية والنازية في الغرب الليبرالي، فيقابل بكل من الحصار والتفنيد.. الحصار لكي لا يتسلل إلى المنابر الإعلامية والمساجد، فيؤدي إلى إشاعة الكراهية والتعصب والانغلاق بالمجتمع، أو كما يحدث يقود الغوغاء في اعتداءات على منازل ومتاجر وكنائس الأقباط.. والتفنيد من قبل المتخصصين من رجال الدين والعلماء في مختلف العلوم، لتحصين الشباب والمجتمع بعامة ضد تسلل فيروساته إلى القلوب قبل العقول.
نأتي أخيراً إلى "البشر" داخل جماعة الإخوان المسلمين.. هم مواطنون مصريون، وينطبق عليهم ما نجده بالعراق حالياً من لجنة اجتثاث البعث، فكل من لم يرتكب جرماً في حق العراقيين، لا يكون عليه ثمة إثم أو مساءلة، لمجرد انضمامه في الماضي لحزب فاشي أدى بالعراق إلى الخراب.. "البشر" حتى الحاملون لذات الفكر المؤثم والخطير، يحتاجون منا إلى الاحتواء والحوار.. هم زملاء وأصدقاء وأخوة لنا في كل موقع بامتداد مصر، وأعرف شخصياً منهم من هم على مستوى رفيع من الوعي والرغبة في التواصل.. هؤلاء يدار الحوار معهم، ليس للوصول إلى نقطة في منتصف الطريق بين رؤاهم الدوجماطيقية، وبين العلمانية والبرجماتية التي تتأسس عليها الحضارة الإنسانية في عصرنا المعولم، ولكن يدار الحوار على أساس أن الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه، فلا يفرض عليه أحد إيمانه العقائدي، كما لا يفرض هو على الآخرين عقائدهم.. هذه النقطة مفصلية، ولا تقبل أنصاف حلول أو تلفيق باسم التوفيق.. فحرية الإيمان الشخصي حق مقدس للأفراد، وهو حق غير قابل للمساومة، كما أن العلاقات البينية بين أفراد المجتمع لابد وأن تقوم على أساس المصلحة والعلم والتوافق المشترك، وهذا أيضاً محوري ولا يحتمل مساومة أو تلفيق.
غياب الوعي بهاتين النقطتين المفصليتين: حرية وشخصانية العقيدة، وعلمانية العلاقات وتأسيسها على قاعدة المصلحة، يؤدي بنا إلى حالة سيولة وتخبط، كما ينذر بعواقب وخيمة على البلاد والعباد.. ففي حالة فوضى وتخبط وميوعة في المواقف، لابد وأن ينجح الأكثر تنظيماً وإمكانيات في ركوب كل موجة، لنجد مصيرنا في النهاية كما مصير إيران إثر ثورة الخميني، التي ساهم فيها العلمانيون والأحرار من مختلف التيارات، ليجدوا أنفسهم في النهاية معلقين على أعواد المشانق، ورهن زنازين نظام الملالي الرهيبة، أو لاجئين يتسولون القوت والأمان في بلاد الجوار، كما نرى من أحوال سكان مخيم أشرف بالعراق.
جميع فعاليات الشارع الشارع السياسي إذن لابد أن تكون مفتوحة لاحتضان واحتواء "البشر" من جماعة الإخوان المسلمين، أما التنظيم والفكر المرفوضين والمحظورين، فالاقتراب منهما ليس ليبرالية ولا وطنية ولا احتواء لأبناء الوطن الواحد، لكنه تمكين للإفساد في الأرض.