أولا : ثقافة القناعة لدى الفلاح المصرى قبل أن يلحقها التغيير
1 ـ مصر تتجسد فى الفلاح المصرى . ما عداه ومن عداه من مستبدين وجند ورجال دين وموظفين وعمال وحرفيين وعاطلين ومطبلين وراقصين وراقصات واراجوزات ـ هم مجرد ( ملحقات) للفلاح المصرى ، يحملهم على كاهله.
معظم هذه الملحقات دينها التكالب على الثروة ، لذا وقف لهم الفلاح المصرى بالمرصاد فقال فيهم أمثاله الشعبية التى لا تخلو من حكمة :( إجرى جرى الوحوش .غير رزقك ما تحوش )( الطمع اقل ما جمع ). وفى مواجهة الظالمين المتكالبين على الدنيا ينصح فى أمثاله الشعبية بالابتعاد عنهم : ( قالوا دخلنا بيت الظالمين وطلعنا سالمين ، قال وايش دخّلكم وايش خرجكم ) ؟!!
2 ـ كان هناك حاجز ثقافى بفصل بينه وبينهم اسمه ( القناعة ).
فبينما كانت ( الملحقات ) تتصارع فيما بينها ـ ليس على لقمة العيش وكسرة الخبز ، ولكن على الثروة والسلطة ـ كان الفلاح يعيش قانعا راضيا يردد الحكمة القائلة ( القناعة كنز لا يفنى ). أورثته القناعة و السماحة راحة البال التى يتمناها المتكالبون على حطام الدنيا ، فيقول فى أمثاله عن الدنيا ( ما حدش واخد منها حاجة ).
كان يكتفى بالموجود ويحمد الله عليه، يأكل الخبز بالبصل ويفرك يديه راضيا قائلا : (اللهم أدمها نعمة واحفظها من الزوال) . عاش هانئا ـ رغم المكاره ـ ينشد ( السّتر) ويمضغ (الصبر) ويتندر على ما يحدث له من (قهر) ، ويتندر مبتسما على الحاكم الظالم فيطلق عليه النكات ( جمع نكتة ) و ( القفشات ) فإذا مات الحاكم الظالم إنطلق الفلاح المصرى بأصالة ونبل يترحم عليه ، و يستنكر الهجوم عليه قائلا : ( أذكروا محاسن موتاكم ) و ينسب الظلم للحاشية ، مكتفيا بالقول بأن الحاكم الظالم قد لقى ربه ( عند رب كريم ). وينسى أن ذلك الحاكم الظالم هو المسئول عن الفقر ، وأيام (الفقر) ، بل ترى الفلاح المصرى يتندر على الفقر نفسه ، فهو الذى قام بتقسيم الفقر الى نوعين : الفقر العادى ، والفقر الدّكر ، وهو الذى أطلق على (الجنيه المصرى )( الشيخ رفاعى ) لأنه كان يرفع مقام صاحبه حتى لو لم يكن ذا مقام. كان هذا طبعا وقت أن كانت للجنيه المصرى قيمة .
هذا ما كان عليه الفلاح المصرى قبل الثورة المصرية؛ قانعا فى الباطن سعيدا فى الظاهر ، مبتسما متندرا حتى يحسبه الجاهل أسعد مخلوق فى الدنيا ، لذا استحق أن يحسده محمد عبد الوهاب فغنى له ( محلاها عيشة الفلاح . متهنى قلبه ومرتاح . يتمرغ على أرض براح ).
3 ـ الذى لم يعرفه المطرب المترف ( محمد بن عبد الوهاب ) أن سعادة الفلاح المصرى كانت تغلفها حفلات مستمرة ـ ليس للتكريم ولكن للتعذيب ، يقيمها له أعوان السلطة ، أشدها فى موسم الحصاد وتوريد المحصول للسلطة . فبسبب حرصه على (لقمة العيش وكسرة الخبز ) تركّز كل جهاده فى أن يخفى من السلطات بعض انتاجه من الحبوب و الدواجن ، بينما يتبارى المشد والمأمور فى ضربه حتى يقرّ ويعترف بما أخفاه من حبوب أو دقيق لاطعام عياله. وبعد انتهاء السلطة من التعذيب وجمع ( الضريبة ) يعقد الفلاحون حفلات سمر يفخر كل منهم بما تحمله من ضرب دون أن يقرّ ودون أن يعترف بما أخفى من كده وتعبه لقوت عياله . ويتردد فى الأمثال الشعبية ما يعكس هذه الحالة الفريدة ، منها : ( ضرب الحاكم شرف ).!( من افتكرنى ما احتقرنى .. ولو بطوبة وزقلنى ) ..!!
وواضح أن جهل الفلاح المصرى وقتها أتاح له أن يعايش الظلم متصالحا ومتسامحا معه ، يراه قدرا لا فكاك منه ، ولا حيلة معه إلا بالصبر : ( إصبر على جار السوء حتى ينصلح أو تيجى له داهية تاخده )..وعاش الفلاح المصرى مع ذلك الجار السىء من الحكام الظالمين آلاف السنين ، من الفراعنة الى العثمانيين .
ثانيا : بداية التغيير من ثورة عرابى الى ثورة 19
1 ـ من مميزات التعليم أنه ينشىء وعيا بالظلم وحرصا على تغييره ، وإحساسا بالفوارق بين المحروم المأزوم والمتخم المترف . فاذا اجتمع مع التعليم والوعى بالظلم الحصول على بعض أسباب القوة تم فرض التغيير بالقوة . وهذا هو الفارق بين الفلاح المصرى أحمد عرابى وأبناء عمومته الفلاحين المساكين فى قرية هرية رزنة فى الشرقية . ظل أبناء عمومته متمسكين بالقناعة و الرضا والصبر ولكنه خرج على هذا (الإجماع ) لأنه تعلم فى الأزهر ودخل الجيش وأصبح ضابطا ، لذا أحدث ثورة داخل الجيش المصرى ، ثم حشد الجيش فى مواجهة القصر يطالب بالحقوق ، فلما قال له الخديوى : لستم إلا عبيد إحساناتنا ، ردّ عرابى بكل أنفة ( والله لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم ).
انتشر التعليم وانتشر معه الوعى بالظلم والرغبة اقامة العدل و تحرير الوطن والمواطن ، فانفجرت ثورة 19 . وبدأ بها التغيير فى ثقافة الفلاح المصرى .
2 ـ أدت ثورة 19 الى تركيبة طبقية جديدة .
كان التعليم قد صعد ببعض أبناء الفلاحين الى طبقة الأفندية وارتقى بكثيرين من طبقة الأفندية والطبقة الوسطى الى الشرائح الدنيا والعليا من الطبقة العليا ، وكان أولئك الأفندية والمتعلمون هم مادة وقيادة ثورة 19 ، وبنجاحها انتقلوا الى الطبقة العليا ، وبهم انتشر التعليم وتكاثرت وطالت صفوف المتعلمين الجدد وانتظم فيها مئات الأوف من أبناء الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطى من الشباب الطامح لمكان تحت الشمس بعد أن ودع قيمة ( القناعة ) وآثر أن يكافح ويدخل معترك السياسة والحياة الحزبية والصحفية فوجد الباب موصدا فى وجهه ، ولم يعد أمام هذا الجيل التالى لجيل ثورة 19 إلا مجرد الهتاف للباشوات والبهوات ـ القدامى و الجدد ـ الذين احتكروا السلطة و الثروة ، ولم يفسحوا مكانا للجيل القادم ، إذ حجزوه مقدما لأولادهم المدللين الذين أطلق عليهم عبد الناصر فيما بعد ( العاطلون بالوراثة ).
3 ـ هذا الجيل المتعلم القادم من رحم الطبقات الدنيا اصبح الجيل الناقم الذى اعتنق الايدلوجيات الوافدة من الغرب : من علمانية ( الاشتراكية و الشيوعية ) وعنصرية ( مصر الفتاة )،ولكن كانت الايدلوجية الوهابية الدينية هى الأكثر انتشارا وتأثيرا ،خصوصا فى الريف والأقاليم والأحياء الشعبية ، لذا نجح حسن البنا بسهولة وباستغلال اسم الاسلام فى انشاء خمسين ألف شعبة للاخوان المسلمين ، وكان الاخوان هم الأكثر تأثيرا فى الشباب والأكثر حضورا فى الشارع والمظاهرات ، ثم كانوا الأكثر تأثيرا فى العسكر. إذ أنه مثلما حدث فى ثورة عرابى فتحت الكلية الحربية أبوابها فى منتصف الثلاثينيات فى القرن الماضى لدفعات جديدة من هذا الجيل الناقم ، فكان منهم العسكر الذى قام بحركة الجيش عام 1952 .
4 ـ فى تحليل سريع لما حدث بعد ثورة 19 نجد ليبرالية ديمقراطية منقوصة ولكن سابقة لعصرها فى مصر وما حولها ، أسفرت هذه الليبرالية عن دستور 23 الذى لم تشهد مصر مثيلا له حتى اليوم ، والذى نتمنى مثله اليوم . كما أسهمت الليبرالية المصرية ( 1920 : 1952 ) فى تدعيم الحركة الفكرية الأدبية الثقافية الفنية والصحفية . بايجاز قامت بتوفير مناخ من الحرية فى الكلمة والاعتقاد والحركة السياسية استفاد بها الاخوان المسلمون أكثر من غيرهم حيث قدموا أنفسهم كحركة دينية وليست حزبا سياسيا ، مع أنهم فصيل سياسى ، فاستفادوا سياسيا ودعائيا دون آثار جانبية للعمل السياسى .
ولكن هذه الليبرالية السياسية لم تساندها عدالة اجتماعية .
ومشكلة المجتعات والنظم هى التوازن بين الحرية و العدل . وبدون هذه الموازنة تسقط نظم الحكم و تنفجر المجتمعات وتقوم الثورات . وضحايا الظلم الاجتماعى فى مصر بعد ثورة 19 جعلهم التعليم أكثر إحساسا بالحرمان وأكثر حرصا على الحصول على حقوقهم فى المساواة و العدل ، فاستخدموا الليبرالية فى الدعوة و الحركة ، وتشعبت التنظيمات والحركات السرية ، وكان الاخوان أنشطهم ، وقد اخترقوا الجيش ، وانضم اليهم معظم تنظيم الضباط الأحرار ( عدا يوسف صديق و خالد محيى الدين ) .
ثالثا : ثورة 52 والتغيير الثقافى للفلاح المصرى
1 ـ كانت حركة عسكرية حوّلها تأييد الأخوان المسلمين الى ثورة شعبية ، فقد وقف الفلاح المصرى لأول مرة يؤيد حكما مصريا صميما ، والتفت عبد الناصر للفلاحين الأجراء فأقام لهم الاصلاح الزراعى وتحديد الملكية الزراعية ، وقام بتوزيع الأرض على الفلاحين . وبهذا دخل الفلاح المصرى الصميم فى (ثورة ثقافية ) جديدة . وأصبح أبناؤه المتعلمون جيل الثورة ، خلعوا الجلباب الأزرق وارتدوا البنطلون والبدلة،وتكونت منهم ومن غيرهم جيل الثورة ، أوطبقة (الأفندية ) من حيث المظهر بعد إلغاء الألقاب . وانتشر التعليم بمستوى إنشاء مدرسة كل ثلاثة أيام على امتداد الريف المصرى ، بجانب الجامعات الجديدة ، ومكتب التنسيق الذى يضمن العدالة القصوى فى دخول الكليات ، مما أتاح الفرصة لآبناء الفلاحين والعمال و الفقراء للترقى أجتماعيا .
2 ـ وحين نجحت حركة الجيش سلميا سقطت مصر بين ايدى الضباط غنيمة سهلة ، وغادر الملك بسهولة وتقاطر الباشوات وأبناؤهم ( العاطلون بالوراثة ) يتملقون الضباط الشباب ، فشجعوهم على أن يتركوا الثكنات العسكرية ليحكموا مصر بدلا من حماية مصر، أى حولت حركة الجيش مصر الى معسكر حربى كبير . ترك قادة العسكر ثكناتهم وعملوا بالسياسة وقد ارتدوا الزى المدنى و جلسوا فى المكاتب الوثيرة ، فأصبحوا مخلوقات مشوهة ، ليسوا عسكرا و ليسوا مدنيين، فشلوا فى السياسة وفشلوا فى الحرب .!!
3 ـ وكما رفع نظام الحكم الملكى لواء الليبرالية وأهمل العدالة الاجتماعية ففشل فإن العسكر فعلوا العكس وفشلوا أيضا ، رفعوا لواء العدالة الاجتماعية وصادروا الحرية فأدى الاستبداد الى تدمير البلاد والعباد . نسى العسكر أن الديمقراطية هى ثقافة العصر، وقد عرفتها قبلهم مصر، ونسوا أنه بدون الديمقراطية لا يمكن أن ينجح نظام حكم فى عصرنا مهما بلغت وطنية المستبد .
رابعا : وعبد الناصر هو أبرز مثال .
1 ـ كان عمره 34 عاما حين نجح فى حركته . لم تكن له خلفية ثقافية معرفية عميقة شأن أى ضابط ، تركزت خلفيته فى العمل السرى . ولكن النجاح السهل جاءه مبكرا يسعى وجعله حاكما لمصر بدورها الرائد ، بل جعله أحد ثلاثة من زعماء التيار الثالث فى العالم ( الحياد الايجابى وعدم الانحياز ) ، الى جانب جوزيف بروز تيتو ( الذى قاد المقاومة وأسس دولة يوغوسلافيا من شتات متنافر من القوميات والأديان والمذاهب تحت ايدلوجية الشيوعية ) والى جانب جواهر لال نهرو الحكيم الهندى المثقف وتلميذ غاندى . لا مجال لمقارنة الشاب عبد الناصر بهما ، ولكن بموقع مصر وبموضع مصر صار عبد الناصر الأكثر منهما شهرة ونفوذا فى العالم . هذا الوضع ساعد عبد الناصر على التمادى فى الاستبداد . وطمع فى أن يكون المستبد الأكبر لكل العرب تحت لافتة القومية العربية ، وحقق الوحدة مع سوريا عندما بلغ الأربعين من عمره ، وهى مرحلة عمرية لا يستطيع الشاب المصرى الآن فيها أن يتزوج أو يجد عملا أو سكنا .
2 ـ وفى تحليل الاستبداد الناصرى نقول إنه ارتكز على عدة محاور :
2 /1 : بعد ان كان الشعار المصرى سابقا هو ( الجلاء والدستور ) لتحرير الوطن من الاستعمار ولتحرير المواطن من الاستبداد المحلى المصرى ، الغى عبد الناصر الدستور مكتفيا بعض الوقت بدساتير مؤقتة او اعلانات دستورية ، وكانت مجرد قصاصات ورق ، فى الوقت الذى تطرف فيه عبد الناصر فى مقاومة الاستعمار ليس فقط فى مصر بل فى العالم العربى و أفريقيا وآسيا . أى أرسى الاستبداد محليا وتطرف فيه وطارد الاستعمار دوليا .وبهذا الاستبداد انطلق يدعو للقومية العربية ليستبد ليس فقط بالمصريين بالعرب أجمعين .
2 / 2 : فى حماية استبداده اعتنق الاشتراكية والمركزية فتحكم فى لقمة العيش للمواطنين ، فالفلاح ليس مالكا لأرضه ولكنه ( حائز ) تحدد له الدولة الدورة الزراعية و تتكفل بالانفاق على المحصول ثم تستولى على المحصول ، أى تقريبا نظام الاقطاع فى عهد الوالى محمد على الذى اعتبر نفسه المالك لكل الأرض الزراعية .والقطاع العام يمتلك الصناعة و التجارة ، وبقية الأعمال الحرة تتحكم فيها البيروقراطية الحكومية ، وتوسع فى التوظيف ، وتدخلت الدولة بموظفيها فى كل مفردات الحياة المصرية ، وبهذه البيروقراطية سيطر عبد الناصر على كل شىء ، كما سيطر على الموظفين ، فلقمة عيشهم فى يده. والرفت من الوظيفة يعنى الجوع إذ لا مجال تقريبا خارج نطاق الحكومة .
2 / 3 : لظروف شتى مرحلية مصرية وعربية وعالمية وشخصية أصبح عبد الناصر الزعيم الأوحد للقومية العربية وصاحب أكبر كارزمية عربية فى القرن العشرين . واستخدم هذه الكارزمية فى تدعيم استبداده .
2/ 4 : كانت لا تأخذه فى ديكتاتوريته واستبداده لومة لائم . ومع أن الأغلبية الساحقة من الشعب كانت تقدسه بالمعنى الحرفى ـ وقد عايشت فى صباى تلك المرحلة ـ ومع أنه حصل بتقديس الشعب له على مشروعية سياسية طاغية بحيث لا يأبه لأى معارضة ،إلا إنه لم يسمح بوجود أى معارضة ولو هامسة .
2 / 5 : ومع أنه وصل بسهولة للسلطة وأطلقوا على ثورة 52 الثورة البيضاء لأنه لم يحدث فيها صراع وسفك دماء فإن الدماء فيما بعد سالت أنهارا من القتلى وضحايا التعذيب التى أقامها عبد الناصر بقسوة متناهية ضد من يفكر فى الاعتراض ، وكانت الأغلبية الساحقة من الضحايا أبرياء ـ ليس لهم نشاط سياسى ، فقد جاءه الخطر من داخل نظامه ، بدليل أنه نفسه قام بمحاكمة جهاز المخابرات الذى تخصص فى تعذيب وقتل المواطنين . ومع كل هذا التعذيب فان القضاء على عبد الناصر وهزيمته عام 67 ومقتله عام 71 جاءت من الدائرة القريبة من عبد الناصر و ليس من الغلابة الذين أهلكهم تعذيب و سطوة عبد الناصر.
3 ـ كان استبداد عبد الناصر غير مبرر.
والاستبداد وحده يكفى سببا للفشل فى القرن العشرين وما بعده حيث ثقافة الديمقراطية وهزيمة الديكتاتوريات منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن فى حالة عبد الناصر نجد سببا آخر يضاف الى الاستبداد ، إنه الحمق .
قد يوجد مستبد حكيم وعظيم سياسيا خصوصا إذا كان فى استبداده متسقا مع ثقافة العصر . وعرفت مصر نوعا راقيا من المستبدين فى عصور الاستبداد ، ارتفعوا بمصر وارتفعت بهم مصر . وعرفت مصر أنواعا شتى من المستبدين الحمقى ، أضاعوا مصر وحجزوا لهم مكانا فى زبالة التاريخ ـ المصرى. وبين هؤلاء وأولئك يقف عبد الناصر .
ارتفع بمصر وارتفعت به مصر عاليا ، ثم سقط من أعلا سقوطا مدويا مأساويا. السبب فى سقوطه أنه تطرف فى الاستبداد فى الداخل فى وقت كان يحتم عليه تبنى الليبرالية والديمقراطية التى ترعرعت وتمهدت فى مصر قبله خلال قرن من الزمان، ولأنه أيضا خلط الاستبداد فى الداخل بالحمق مع الخارج .
4 ـ حمق عبد الناصر يرجع لأنه غفل عن مراعاة التوازن بين موقع مصر وموضع مصر. وكل مستبد مصرى حصيف من عهد حتشبسوت الى عهد الخديوى اسماعيل لم يغفل عن هذا التوازن فى سياسته بين موقع مصر وموضع مصر.
موقع مصر يعنى علاقتها بالبحر المتوسط وأوربا وآسيا ، حيث تقع بينهما ، وتتركز نقطة الارتكاز فى الموقع فى قناة السويس ، وما سبقها من محاولات وصل البحرين الأحمر و المتوسط. هذا الموقع يزيد قوة لمصر لو كانت قوية ، ويزيد ضعفها لو كانت ضعيفة. وقوتها وضعفها يرتكز على شخصية الحاكم المصرى . والتفصيل فى هذه النقطة جاء فى كتابنا ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى )، وهو بالمناسبة مختلف تماما عن كتاب العلامة المصرى جمال حمدان الذى لم أقرأه حتى الآن . وسننشر كتابنا هذا فى هذا الموقع . وكان مقررا على طلبة قسم التاريخ بجامعة الأزهر عام 1984 .
موضع مصر هو النيل ، وأفريقيا . هذا الموضع ليس نقطة قوة بل نقطة ضعف لمصر ، فالنيل هو أساس مصر ، وبدونه تكون مجرد صحراء قاحلة . ومصر ليست منبع النيل ولكنها موضع مصب النيل ، ومن منابعه الأصلية فى اثيوبيا و البحيرات الكبرى فى وسط أفريقيا يمر بأقطار عديدة يمكنها أن تهدد مصر فى قصبتها الهوائية التى لا تستطيع التنفس بدونها . كان تهديد مصر بالتحكم فى منابع النيل هو أمنية أعداء مصر ، خصوصا فى الحروب الصليبية ، وكانت سببا فرعيا للكشوف الجغرافية . كما أن تأمين منابع النيل هو الشغل الشاغل للحاكم المصرى الحصيف ، من أجل ذلك قامت حتشبسوت باكتشاف بلاد بونت ( الصومال ) وقام محمد على بفتح السودان ووصل نفوذ مصر فى عهد الخديوى اسماعيل الى ارتريا وأواسط أفريقيا منافسا للنفوذ الانجليزى و الفرنسى هناك.
حين جاء عبد الناصر للحكم كان السودان جزءا من مصر حتى وهى تحت الاحتلال الانجليزى ، وبدلا من تدعيم وحدة مصر والسودان ـ وهو داعية االوحدة والقومية العربية ـ فإن عبد الناصر فرّط بسرعة وسهولة فى السودان فانفصل ، ومن بعدها لم يفلح السودان ولم تفلح مصر.
أهمل عبد الناصر (موضع مصر : النيل والسودان وأفريقيا ) وانهمك فى مشاكل موقع مصر ، (قناة السويس ، سوريا العراق الجزيرة العربية ،والبحر المتوسط وأوربا ) . وبدون استعداد عسكرى واقتصادى اندفع فى حمق هائل ليؤمم قناة السويس قبل ان تعود مجانا لمصر بعدة سنوات . وأدت هزيمة 1956 ـ التى حولوها لانتصار وهمى ـ الى فتح الطريق أمام اسرائيل فى البحر الأحمر ومنابع النيل بعد استيلائها على أم الرشراش ( ايلات ) ، وبذلك جاء التهديد لمصر فى الموضع بعد إهماله والتركيز بحمق وافتعال مشاكل مع الغرب .
ثم جاءت القاصمة ، وفقدت مصر الموقع نفسه بهزيمة 67 واحتلال اسرائيل لسيناء ، وهى هزيمة لمصر لم تر مثلها من قبل طيلة تاريخها ، وهو أطول تاريخ فى العالم . ولا تزال سيناء شبه محتلة بعد أن عادت لمصر ناقصة السيادة .
كل ذلك بسبب حمق عبد الناصر فى التركيز على الموقع بطريقة خاطئة وإهماله موضع مصر بطريقة متطرفة.
وعلى نهج عبد الناصر فى التركيز على موقع مصر واهمال موضع مصر سار السادات ثم مبارك .
5 ـ ولكن كانت لعبد الناصر مزايا نفتقدها فيمن جاء بعده أو فى غيره من مستبدى العرب .
امتاز عبد الناصر عن غيره بالانتماء للفقراء ورعايتهم ،و الكرامة والعفة والنزاهة الشخصية والتعفف عن المال الحرام و تطبيق المساواة والحرص على تكافؤ الفرص ، فنهض بالتعليم والصناعة و تطوير الريف ، وجعل التعليم سلما آمنا يصعد به أبناء الفقراء للطبقة العليا فى السلم الرسمى ،أى يكون ابن البواب وابن الفلاح وزيرا بكفاءته ودرجة الدكتوراه التى حصل عليها من أوربا على نفقة الدولة . وأدى ذلك كله الى تذويب الفوارق بين الطبقات .
باختصار حقق عبد الناصر وعده مع المصريين ، أخذ منهم الحرية مقابل قيامه بتوفير التعليم المجانى و العلاج المجانى و بناء المساكن الشعبية وتوفير الوظائف و الدعم للسلع و توفيرها رخيصة . أخذ منهم الحرية السياسية ومنحهم العدالة الاجتماعية .
6 ـ وبعد سقوط عبد الناصر سار على سنته السيئة فى الاستبداد والتعذيب حكام من الدرجة الثانية ، منهم من لقى حتفه ومنهم من ينتظر . أخذوا منه أسوأ ما فيه ( الاستبداد فى الداخل والحمق فى التعامل مع الخارج)، ولم يأخذوا منه أروع ما فيه ( النزاهة و العدل الاجتماعى والانحياز للفقراء وحب الخير لأغلبية الشعب ).أى إن عبد الناصر حصل على صفر كبير بسبب الاستبداد ، ولكن من أتى بعده وصل ببلده الى ما تحت الصفر .
خامسا : والسادات هو أبرز مثال .
1 ـ عبد الناصر كان ( عقدة ) السادات . حاول السادات تشويه سيرة عبد الناصر فلما فشل فى جعل المصريين يحبونه بدل عبد الناصر أنتقم من المصريين باختيار مبارك خليفة له.
مع مرضه بعقدة عبد الناصر كان السادات مريضا بعقدة الشهرة وحب الظهور ، وأن يتصدر نشرات الأخبار . جعله هذا ممثلا رائعا يلعب دور الرئيس وليس رئيسا حقيقيا ـ وسبق تحليل هذه الناحية فى مقال ( الرئيس أنور وجدى السادات ) . حقق السادات أمله فتصدر نشرات الأخبار فى العالم ، حتى فى مقتله ، ولكنه انتهى الى ما تحت الصفر. والسبب هو عشوائيته التى ضخمت من أخطائه وأضاعت منجزاته فى الحرب و السلام والانفتاح الاقتصادى والسياسى .
2 ـ ـفيما عدا الاستبداد والحكم العسكرى سار السادات على نقيض عبد الناصر.
وتميز بسياسته العشوائية التى كان يسميها سياسة الصدمات ، حيث يفاجىء الناس بقرارات مفاجئة ومتناقضة . فاجأ العالم بحرب اكتوبر، وزار اسرائيل فجأة فأعطاها كل شىء بدون مقابل ، ثم أخذ يتسول منها أى مقابل . طرد الخبراء السوفييت ليحقق لأمريكا أكبر أمنية فى الشرق الأوسط بدون مقابل ، ثم أخذ يتسول منها المقابل . حقق لدول الخليج ثروة كبرى فى أسعار النفط بدون مقابل ، ثم أخذ يستجدى منهم المقابل . حتى فى الداخل المصرى فاجأ المصريين بالمنع من ذبح المواشى وعدم أكل اللحوم الحيوانية لمدة شهر أو أكثر على ما أذكر ، وفاجأهم برفع سعر الرغيف ( العيش ) فانفجر الشارع المصرى بثورة الخبز ، وفاجأهم بالانفتاح الاقتصادى دون أن يجهز أرضية قانونية وسياسية يقومك عليها الانفتاح ، وفاجأ المصريين باباحة المنابر السياسية ، ثم فاجأهم بتحويل المنابر الى أحزاب ، وانشغل النشطاء المصريون فى العمل السياسى ففاجأهم السادات بوضعهم جميعا فى السجن فى 5 سبتمبر 81.
وفى النهاية فوجىء هو بالرصاص يطلقه عليه ( أبناؤه ) فى العرض العسكرى ، على مرأى العالم كله .!!
3 ـ وصلت عشوائية السادات الى قرارت كبرى تتعلق بالحرب و السلام وماهية الدولة وشخصيتها ، فقد أحدث تحولات خطيرة مفاجئة دون أن يجهز لها تشريعيا و ثقافيا.
الاعداد الثقافى للشعب بطىء بطبعه ويستلزم وقتا ، ولكن لا بد له من تغيير فى التشريعات والقوانين . التغييرات من الاشتراكية الى الانفتاح ومن الاتحاد الاشتراكى وتحالف قوى الشعب العامل الى الأحزاب لا بد له من أرضية تشريعية واضحة ومسبقة ، تبدأ بالدستور الذى يرسى انفتاحا سياسيا يقوم على الديمقراطية و تداول السلطة وحقوق المواطنة وحقوق الانسان ، وتقوم بغربلة القوانين السابقة من عهد عبد الناصر وما قبل عبد الناصر لتوفير بيئة صالحة للاستثمار ، مع تدريب البيروقراطية المصرية العتيقة و تقليم أظفارها حتى لا تتدخل فى كل شىء لتتيح حركة وسهولة وسيولة ، وفى نفس الوقت تعطى أجهزة الرقابة سلطة قانونية فى الحساب وحق مجلس الشعب فى الرقابة الفعلية على المال العام ومحاسبة المسئولين .
ولكن الانفتاح الاقتصادى لم يؤيده انفتاح سياسى ديمقراطى، بل جاء تعديل دستور 71 ليجعل السادات ـ ومبارك من بعده ـ رئيسا مدى الحياة ، بالاضافة الى كونه الاها يتحكم فى كل شىء دون أن يكون مساءلا أمام أحد.
4 ـ ثم إن عشوائية السادات حولت الانفتاح الى فساد .
المستثمر يأتى بملايينه ليتعاما مع موظف يمثل الدولة . هذا الموظف مرتبه عدة مئات من الجنيهات ، ولكن تأشيرته على الأوراق تعطى المستمر ربحا بالملايين . وهذا الموظف الجائع معه قوانين وقرارات متضاربة، بعضها يقول للمستثمر أهلا وسهلا ومرحبا ، فقد تمت صياغتها فى عشوائية ساداتية متعجلة ، ولكن لا تزال هناك أقوانين أخرى تقول له لا ،بل تدخله السجن . أى لدى ذلك الموظف سلطات قانونية بالمنح والمنع يتصرف فيها حسب يشاء. وفى نفس الوقت قام السادات بالغاء أجهزة الرقابة فى خطوة أخرى أكثر عشوائية ، أى يقول بصريح العبارة للموظف و المستمر : اسرق وانهب . وأعلنها السادات بلسانه داعيا للفساد : إن من لم يحصل على الثراء فى عهدى لن يرى فرصة أخرى .
5 ـ وقتلوا السادات قبل أن يرى ثمرة فساده بالتفصيل .
سادسا ـ ومبارك هو التجسيد الحىّ لشجرة الفساد التى أنبتتها عشوائية السادات .
1 ـ إذ تمخض جبل ثورة 23 يولية فأنجب ـ أخيرا ـ .. حسنى مبارك .!!
بعد مقتل السادات حاول حسنى مبارك تشويه السادات ، مع أن السادات لم يكن محتاجا لتشويه إضافى فيكفى أنه لم يحضر جنازته سوى بعض المشبوهين من الرؤساء . وكل ما عثر عليه حسنى مبارك هو اتهام عصمت السادات أخ أنور السادات بقضايا فساد لا تزيد عن بضع ملايين من الجنيهات و ليس الدولارات .
الآن وفى حياة حسنى مبارك تتحدث وسائل الاعلام عن اتهامات لآل مبارك بسرقة عشرات البلايين . فماذا سيبلغ الرقم بعد موت مبارك ومجىء رئيس جديد يريد أن يكسب شعبية بفضح مبارك والكشف عن بعض المستور؟
2 ـ نجح مبارك فى الوصول بمصر والمصريين الى الحضيض . وكتبنا فى هذا كثيرا . ولكن نضيف شيئا واحدا : إن عبد الناصر استبد بالمصريين ، أخذ منهم الحرية مقابل كفالة الدولة لمجانية التعليم والتوظيف والسكن ودعم السلع الأساسية وتوفيرها . لم يوجد فى عصر عبد الناصر خريج عاطل عن العمل ، ولم توجد أزمة فى السكن .
جاء مبارك وخلال 29 عاما جمع بين الاستبداد والتعذيب مع حرمان المصريين من العدالة الاجتماعية التى كانت فى عهد عبد الناصر. الآن يعانى المصريون من الاستبداد والتعذيب والفساد والفقر والبطالة و تفشى الأمراض ونقص السلع الأساس حتى الخبز وارتفاع أسعارها. ومع مصادرة كل الحقوق فقد صودر معها الأمل فى التغيير والأمل فى المستقبل ، بين التمديد فى رئاسة مبارك أو توريث مصر لابنه الأصغر .
3 ـ كان ممكنا أن تقلّ معاناة الفلاح المصرى والفقير المصرى لو ظل محتفظا بثقافة الصبر والقناعة التى تمسك بها فى تاريخه القديم والوسيط . ولكن ذلك زمن مضى وانتهى .
3/ 1 . لم تعد حياة الفلاح المصرى صالحة لوصف محمد عبد الوهاب ( محلاها عيشة الفلاح ) لأنه ببساطة مؤلمة لم يعد هناك فلاح مصرى، ولم تعد هناك قرية مصرية أو أرض زراعية .
الفلاح المصرى الآن له أشكال متعددة وكلها مخزية .
تراه عاطلا عن العمل بعد حصوله على الشهادة المتوسطة أو شهادة عليا من كلية اقليمية . من حيث الظاهر هو حاصل على شهادة ، ولكنه فى الواقع تعلم الجهل فى المدرسة والكلية من أساتذة أجهل منه ، وحصل بالغش والتزوير على نجاح لا يستحقه ، وضاعت قيمة التعليم عنده لأنه لم تعد للعلم قيمة اقتصادية إذ لا وظيفة حكومية ، وحتى لو عثر على وظيفة حكومية فالمرتب لا يكفيه اسبوعا ، فكيف بالزواج والسكن والأولاد . لذا يضطر الى العمل فى الحقل ، وهو يحلم بالسفر للخارج فى الغرب أو حتى لبلاد البترول العربية . وفى سبيل الوصول للغرب يضحى بحياته التى لم يعد لها ثمن .
وترى هذا الفلاح مهاجرا الى دول النفط يتحمل الذل مقابل أن يوفر ما يبنى به بيتا ـ لا يسكنه ـ فى قريته ،أو أن يتزوج زوجة لا يستطيع الحياة معها باستمرار ، أو ينجب أولادا لا يراهم إلا فى الأجازات .
وترى هذا الفلاح جنديا مستعبدا فى الأمن المركزى يذيقه الضباط العذاب ليحمل حقدا هائلا ينفثه فى أحرار المصريين المعارضين لمبارك ونظام حكمه .
وبين هذا وذاك يتوزع بين الانحلال والتطرف لو كان يعيش فى ظل من يتكفل بنفقاته .
القرية المصرية تحولت الى نموذج شائه ، لا هى قرية ولا هى مدينة . والتربة الزراعية تم تجريفها ، والترعة المصرية تحمل المجارى تنقلها من قرية الى أخرى ، وكل قرية تصرف مجاريها لتشرب منه القرية التالية ، وتنتشر الأوبئة ويظهر الفساد فى البر و فى البحر بما كسبت أيدى الناس. ويسيطر على الجميع حالة من البلاهة والتواكل وانتظار المجهول حتى لو كان موتا .!
3 / 2 : انتهت ثقافة الانتماء الى فكرة القناعة المصرية ، بل حتى انتهى الانتماء لفكرة وهمية هى القومية العربية التى حشد وراءها عبد الناصر المصريين والعرب. القومية العربية سقطت فى مؤتمر الصمود و التصدى الذى قاده صدام ليعاقب مصر بعد ان زار السادات اسرائيل عام 1979 ، وتم تشييع جنازتها ودفنها مع احتلال صدام للكويت عام 90 . وبسقوط المشروع القومى الوحدوى أصبح لكل فرد مشروعه الفردى الذى يناضل فيه من أجل نفسه طلبا للثروة ، وطلبا للسلطة إن أمكن . وهو يحمل هذه الفردية الأنانية حتى لو حاول تحقيق حلمه بالانضمام الى حزب أو تيار أو منظمة علنية أو سرية ، لذا لا يمانع فى الانفصال عن رفاقه أو خيانتهم فى أى فرصة تلوح له طالما فيها مكسب .
أصبح المال هو المقصود الأعظم ، والقيمة العليا . ليس مهما كيفية الحصول عليه ، المهم أن تحصل عليه .
لم يكن سهلا تغييب أو غياب ثقافة القناعة المصرية لتحل محلها عند المصريين اليوم عبادة المال الجاهلية و التى من أجلها تقاتل الصحابة وبها فازت بنو أميه و أصبح معاوية ملكا .
3/ 3 : كان الفلاح المصرى ( القديم ) منعزلا عن العالم فى قريته وحقله ، لا يغادر القرية إلا لماما ، وقد يظل طيلة عمره لا يغادرها .
منذ عصر السادات اضطر الفلاح المصرى بسبب الفقر الى القيام بأكبر هجرة فى تاريخه الممتد سبعين قرنا فى عمق الزمان . هاجر الى دول مستحدثة بعد أن ضاقت عليه أرض مصر بما رحبت ، فرأى ما لم يره أسلافه وتعلم ما لم يعرفوه .
بذل الفلاح المصرى دماءه فى حرب اكتوبر وتحولت دماؤه الى أرصدة هائلة لدول النفط ، وجاء أبناء النفط الى مصر يغزونها بأموالهم يستبيحون المصريات فى عقود زواج وهمية ويستعبدون الرجال فى عقود عمل احتكارية استعبادية ، وسافر الفلاح الى هناك ، وبين اللقاء هنا وهناك تفتحت عينا الفلاح المصرى على رفاهية ،رآها وتمناها ولم يحصل عليها .
وفى نفس الوقت ظهرت طبقة المترفين المفسدين تفاخر بثرائها تغيظ به المحرومين الذين زادهم التعليم والاعلام و الأفلام و الاعلانات إحساسا أكثر بالحرمان .بالسفر للخارج وبظهور التليفزيون عايش الفلاح المصرى بعينيه وقلبه واحلامه صور الثراء فانتهت ثقافة القناعة وحل محلها الطمع الذى لا يشبع .
وفى الفجوة بين الشعور المؤلم بالحرمان واليأس من تغيير الواقع تنتشر الدعوات المتطرفة ، وهى أقوى أنواع المخدرات العقلية ، فتتشابكت وتكاثرت التنظيمات السرية ، ومهما تنوعت لافتاتها فالأصل هو الحصول على الثروة و الوصول للسلطة .
ونشرت الثقافة الدينية السلفية ثقافة الاستحلال اجتماعيا ودينيا ، نقلتها من بيئاتها الصحراوية البدوية ، وأرساها أيضا الاخوان المسلمون وهم وهابيون فى الثقافة و المنشأ و المنبع . وتعاون الجميع على الاثم والعدوان ، وانتشر بهم التدين السطحى ممثلا فى اللحية والجلباب وتقصير الثياب وارتداء الحجاب و النقاب . وانتشر مع التدين السطحى و الاحتراف الدين كل مساوىء البشر ورذائلهم . وفى المقدمة منها عبادة المال ، وجمعه بالسحت ، سواء بالرشة أو باستغلال الدين ، ( تبرع يا أخى لبناء مسجد نفق شبرا ).!!
4 : هذا التغيير حدث بالتدريج فى عهد السادات ( 1971 : 1981 ) ، ثم تراكم وتلاطم فى عهد حسنى مبارك . تغيرت وفسدت أخلاق الفلاح المصرى ، وأصبحت هذه حقيقة مؤلمة تحظى بالاعتراف .
وزادها إيلاما الحاجة الى الاصلاح . والاصلاح يحتاج الى تضحية ، والمصلحون الذين يضحون بأنفسهم وراحتهم يتعرضون الى اضطهاد المستبد والى التشويه ، والمناخ الفاسد لا وقت لديه لاظهار الحقائق ونصرة المظلوم لأنه تسيطر عليه الثقافة السمعية فما يقوله زبانية المستبد هو الحق والوقت كله للحصول على المكاسب.
وفى هذا المناخ الفاسد تسود الفردية الأنانية المريضة ، فمع رسوخ الاستبداد وطول حكم المستبد الواحد تسود ثقافة العبيد والاستعباد ، ويتحول الأفراد الى مستبدين ، كل منهم يستعبد من دونه و يكون عبدا مطيعا لمن هو أعلا منه ، شأن الحياة فى معسكر حربى ، وهذا هو واقع مصر منذ حكمها العسكر .
آفة هذه الحالة تتمثل فى عدم نجاح أى عمل جماعى ـ فى ميدان اصلاحى ـ لأن كل فرد يرى نفسه مركز الكون ، ولسهولة إغواء الأفراد حيث يصبح المال و النفوذ المقصود الأعظم . ومن هنا تضخم عدد العاملين فى دولة مبارك البوليسية العسكرية ، وانتشر التعذيب و الفساد جنبا الى جنب مع مظاهر التدين السطحى وزيادة عدد المساجد وزيادة صفوف المصلين الذين يخادعون الله جل وعلا وهو خادعهم.
5 ـ من أسف أن اختلف الحال فى مصر الآن عنها منذ مائة عام تقريبا .
فى ثورة 19 كان الفلاح المصرى بخيره وأخلاقه وأصالته وشهامته ، لذا هبّ يشارك فى الثورة ، واحتضن من قبلها عبد الله النديم وهو يهرب من الاحتلال ، وكان البوليس المصرى أكثر وعيا ووطنية من البوليس المصرى اليوم الذى تخصص فى تعذيب الضعفاء و المصلحين وحماية المفسدين .
ونفس الفارق بين الأفندية قواد ثورة 19 الذين أحاطوا بسعد زغلول ، وبين أفندية اليوم المحيطين بالبرادعى . وهو نفس الفارق بين البرادعى وسعد زغلول .
سعد زغلول كان قد تخطى الستين من عمره ، أى يقترب من عمر البرادعى اليوم ، وفى نفس التخصص القانونى ، وله أيضا سيرة حياة وظيفية فى خدمة السلطان القائم . ولكن الاختلاف الواضح حتى الآن ، هو الاستعداد الذى ابداه سعد زغلول للتضحية فى شيخوخته ، ولقد تحمل النفى مرتين ، بينما يتردد حتى الآن ـ وقت كتابة هذا المقال د. محمد البرادعى فى النزول للشارع وقيادة المظاهرات ، مع علمه بأن وجوده الى جانب الشباب فى المتظاهرات سيحميهم من ضرب العسكر وسيشد من أزرهم .
6 ـ أخشى أن طريق الاصلاح طويل لأن الفساد وصل للنخاع، ووصل للنخبة المطالبة بالاصلاح.والأمل فى شباب الانترنت والمظاهرات .
أخيرا :
1 ـ ونأتى لعظة السلطان . أضحى معروفا أن مبارك يقترب من النهاية ، لا زلنا نطالبه ونعظه بالاصلاح ، وهو حتى الآن مستمر فى الطغيان والاستبداد والفساد.
2 ـ خلق مبارك مجموعة من (رجال الأعمال) جعلهم واجهة لحكمه ، واستطاع بهم تكوين ثروة لم يحصل عليها مستبد مصرى من قبل .
فهل يثق مبارك فى ( رجال الأعمال ) العاملين فى خدمته ؟
3 ـ رجل الأعمال الحقيقى مهما بلغت أمانته وحصافته فهو جبان لذا يقال إن رأس المال جبان ـ يقصدون أصحاب المال و ليس المال نفسه . وعليه فلو افترضنا أن المحيطين بالرئيس مبارك هم رجال أعمال حقيقيون وفى غاية الأمانة والاستقامة فهم بالسليقة جبناء ، ولن يتحملوا مخاطر من أجل مبارك أو غير مبارك ،أى أنهم عند أى مخاطرة سينفضون من حول مبارك ، وسيكون بقاؤهم حوله مرهونا ببقائه قويا مهابا متسلطا . فإذا لمحوا أى بادرة ضعف سيطيرون . وهذا لا يعيبهم فى شىء لأن عذرهم مقبول مقدما وهو إن راس المال جبان .
فما بالك إذا كان أولئك مجرد لصوص ومفسدين فى الأرض ، يرون مكسبهم الحقيقى فى الافلات بما سرقوه ، ولن يستطيعوا الافلات بما سرقوه إلا حين يضعف أو يغيب زعيمهم الذى يخيفهم بسلطانه وصولجانه ، فيأخذ منهم معظم ما يسرقون .
هذه الطغمة من الحاشية المفسدة ستعمل على إبقاء مبارك بين الحياة والموت ، ليظل تحت رحمتهم ـ يسلبون باسمه ما يستطيعون ، فإذا جاءت اللحظة الحاسمة هربوا بما جمعوا لأنهم ليسوا رجال أعمال ولكن فئران سفينة غارقة .
والعظة الأخيرة لمبارك : بقى لك وقت ضئيل تنقذ فيه نفسك وعائلتك وتصلح فيها ما فات من أمرك . وإلا فستدفع الثمن حيا وميتا ، فى الدنيا والآخرة.
4 ـ وبعد هذه الوقفات مع مبارك ومعاوية نعود لوعظ السلاطين فيما مضى من القرون والسنين .