فى الخمسينات كانت اذاعه القاهره تقدم برنامجا غنائيا, وفى هذا البرنامج كانت هناك أغنية يقول فيها المطرب:
ياهل البلد ياهل البلد
انا المنادى المعتمد
من المشايخ والعمد
انا عب مجيد عبد الصمد
ياهل البلد ياهل البلد
ومن هذا يتضح لنا ان الأخ عب مجيد عبد الصمد بدأ بتقديم نفسه الى كل من يسمعه من أهل البلد , لبس فقط بأنه (منادى من النوع العادى) ولكنه منادى " معتمد" اى رسمى, وانه يستمد سلطته كمنادى من المشايخ " يقصد مشايخ البلد وليس مشايخ الأضرحه" وكذا من العمد. وبعد ان قدم نفسه بصفته الرسميه يبدأ فى تأديه الوظيفه المكلف بها وهى إخبار الجميع ممن يستمع اليه ان شيخ البلد خلف ولد وسماه حسن ... الخ.....
فى ذلك الوقت ـ ليس وقت الأغنيه بالطبع ولكن الوقت المفروض فيه وقوع احداث البرنامج ـ كان السيد عب مجيد من اهم ادوات الإعلام, هذا بالطبع إن لم يكن الأداة الوحيده من ادوات الإعلام. ولك ان تتخيل اذا لاقدر الله واخطأ السيد عب مجيد فى تأديه المهمه المنوط بها, مثلا إن اخطأ وقال ان العمده بدلا من شيخ البلد هو الذى خلف ولد, او ان الذى خلفه شيخ البلد كان بنتا بدلا من ولد, او انه سماه لاقدر الله حسنين بدلا من حسن, ان حدثت اى من هذه الأخطاء فقل على وظيفه السيد عب مجيد عبد الصمد السلام والرحمه, هذا ان لم تكن هناك عواقبا اشد من ذلك وأخطر ربما تتعلق بحياة ـ او الحاله الصحيه على اقل تقدير ـ للسيد عب مجيد نفسه.
منذ تلك الحقيه من الزمن تطورت ادوات الاعلام ولم يعد شيخ البلد بحاجه الى المنادى المعتمد, فهناك الجرائد والأذاعه ثم التليفزيون والساتلايت والدش ثم الانترنيت وما قد يأتى ربما يكون اعجب ....الخ.
وبالطبع مع حدوث تلك التطورات من تكنولوجيا هذا العصر يصبح من المتوقع بديهيا ان تزداد الدقه الى جانب السرعه فى نقل الخبر ونتوقع الى جانب الخبر ان نجد صورة لكل من شيخ البلد والمحروس الذى سماه حسن وربما وجدنا ايضا صورا للسيده ام حسن والأهل والأقارب اللذين جاؤا للإحتفال وتقديم واجبات الطاعه وما الى ذلك, هذا ما يقوله المنطق, ولكن للأسف ليس كل ما هو منطقيا نجده واقعيا.
فى مصر هناك عدد من الجرائد اليوميه والأسبوعية, ولا اعرف على وجه التحديد عددها, ولا اعتقد ان تكون اكثر من خمسه عشر او عشرون على الأكثر, وبالمقارنه لعدد الجرائد اليوميه صباحيه ومسائيه فى الولايات المتحده الذى يبلغ عددها اكثر من الفين ,فإن كان تعداد السكان فى مصر حوالى ربع عددهم فى امريكا, فنجد ان المنطق يقتضى ان يكون فى مصر ربع ما فى امريكا , اى حوالى 500 جريده يوميه,وهذا قد يكون فى حد ذ اته دليلا او مؤشرا نستدل به على مستوى القراءه و القراء فى مصر بالمقارنه الى المجتمع الامريكى. والجرائد اليوميه او الاسبوعيه تعد جزءا من وسائل الاعلام (the media) فى اى دوله. بالإضافه الى الراديو والتليفزيون والى حد كبير الآن الانترنيت الذى بدأ فى منافسه وسائل الاعلام الاخرى بصفة جديه, ومن المتوقع ان يزداد استعماله الى درجة قد تجعل من الجرائد الضحية الأولى للتقدم التكنولوجى فى هذا المجال مالم تأتى الصحف بشيئ جديد للمنافسه وان كان ذلك من الصعب تخيله على الاقل فى الوقت الحالى.
الحكومه الامريكيه لاتملك ولا تتحكم فى جريدة واحده او شبكة تليفزيون واحده او حتى محطة تليفزيون واحده, وجميع وسائل الاعلام فى امريكا لهم استقلالهم التام عن السلطه, وليس هناك اى خطوط حمراء على مايقولونه او ماينشرونه او مايقدمونه الا فى حدود القانون, وقد يتساءل البعض عما اعنيه بكلمه فى حدود القانون, والمعنى هنا لا يقصد به ((اهانه الرئيس)) مثلا كما هو الحال فى مصر, ولكن نشر ما يمنع القانون نشره, فمثلا ان وقعت فى ايديهم وثيقه سريه مما يحظر القانون نشرها فلاينشرونها, ولكن قد ينوه بعضهم بوجود تلك الوثيقه, وقد ينشر بعض ما جاء بها بطريقه غير مباشره طالما لم يخالف الناشر نص وحرف القانون. كذلك فى حاله الحرب وما يتعلق بالمعارك العسكريه , قد تطلب الحكومه منهم "بصفة غير رسميه" ولكن تناشد فيهم روح الوطنيه فى عدم نشر اخبار بعض التحركات العسكريه وما الى ذلك, اما ماعدا ذلك , فمتاح ومتروك لهم ((الحريه المطلقه)) فى التعبير.
وسائل الاعلام تقدم للقارئ او المستمع او المشاهد نوعين من الأخبار, النوع الأول هو الخبر نفسه , ويقدم ذلك فى دقه متناهيه, والمنافسه بين شبكات الاعلام منافسه حادة وضاريه, ولذلك تجد ان المنافسه تقع فى السبق الصحفى ( وبالطبع اغلبه فى مجال التليفويون) , اى من الذى يسبق فى تقديم الخبر, وكذلك فى الدقه التى لا تحتمل الخطأ, لأن المشاهد (وهو فى هذه الحاله الناخب) هو الذى تسعى وسائل الاعلام الى اجتذابه وارضائه والتأثير عليه , واذكر مرة ان شبكة NBC وهى من أكبر الشبكات التلفزيونيه, كانت قد قدمت فى اخبارها جزءا عن عدم سلامه نوع من السبارات التى كان بها قطعه تسخن وتشتعل وتؤدى الى حريق فى السياره, والخبر كان دقيقا وشركه السيارات المنتجه نفسها اعترفت بهذا الخطأ فى قطع الغيار وبدأت فى سحب السبارات من السوق لتغيير ذلك الجزء, لكن اثناء تقديم الخبر, استعانت مقدمه الخبر بحيله لكى تسارع فى اظهار الحريق فى السياره لضيق الوقت المسموح به لهذا الخبر , وعندما اكتشف ذلك , كانت فضيحه (بجلاجل) للشبكه التليفزيونيه, وعوقبت مقدمه الخبر واعتذرت الشبكه للجماهير وانخفضت اسعار اسهمها فى السوق فى الايام التاليه , ومرة اخرى خلال الانتخابات عام 2004, افادت شبكه CBS فى نشره الاخبار ان لديها وثيقه من الحرس القومى تفيد ان جورج بوش كان قد فى الحرس القومى بتكساس فى فترة مابين تاريخى كذا وكذا , وبعد ان تبينت ان الوثيقه كانت مزوره, حدث لتلك الشبكه ما حدث للأخرى , بل ان دان راذر مقدم الاخبار والذى كان من اكبر ثلاثه من مقدمى الاخبار فى الولايات المتحده ويعمل معهم اكثر من ربع قرن, اضطر للإستقاله واعتبرت هذه فضيحة اعلاميه لاتغتفر.
المثالان السبقان من بين امثله كثيره , يدلان على مدى البارانويا التى تسيطر على مقدمى الاخبار فى الولايات المتحده, وعلى حرصهم ان يكون مايقدمونه من الاخبار على درجة عالية من الدقه والصحه والصدق.
النوع الثانى التى تقدمه وسائل الإعلام هو مايسمى Editorials وهو التعليق على الأخبار,والبرامج السياسه الحواريه وتحليل الخبر والأحداث, وهنا تختلف البرامج وتختلف وسائل الاعلام, وهناك من تلك البرامج عددا لايسهل حصره, وفى تلك التعليقات والتحليلات تتم محاوله التأثير على المشاهد او القارئ من خلال تحليل الخبراء ومقدمى البرامج للأخبار والأحداث ومدى تأثيرها على المشاهد اى على الجمهور الأمريكى او بمعنى اصح على الناخب الذى تهدف شبكات الاعلام دوما ان تجذبه اليها.
فى تلك التحليلات للأخبار تصبح المنافسه على من الذى يتوفع ويتنبأ بتداعيات الاحداث بشكل اكثر دقه, ولاتقتصر تلك البرامج على الأخبار المحليه ولكنها تشمل العالميه ايضا.
تختلف اتجاهات شبكات الاعلام والجرائد من اليمين الى اليسار ,من المحافظين الى الليراليين وقليل منهم يتخذ مكانا وسطا بين الاثنين, ولايخفى على المشاهد اتجاهات وسائل الاعلام كما لايحاول اكثرهم التخفى وراء شعارات زائفه, فمن المعروف مثلا ان اكبر الجرائد شهرة فى الولايات المتحده وهى نيويورك تايمز هى من الجرائد المتطرفه اليساريه او الليبراليه وكل تعليقاتها وكتابها ومحرريها ومعلقيها من الذين يؤمنون تماما بتلك الفلسفه ويعبرون عنها فى كتاباتهم, غير ان الجريده كما قلت مسبقا, عندما تقدم الاخبار, لاتستطيع الا ان تقدم اخبارها فى دقه لاتقل عن الأخرين, وعلى الجانب الاخر فنرى ان جريده مثل وول ستريت جورنال , هى من الجرائد المحافطه وكل تعليقانها تتسم بتلك الفلسفه وذلك الرأى. اما شبكات التليفزيون فلا تختلف هى الأخرى, فمثلا شبكة "فوكس" تتبنى فلسفه محافظه جدا بينما "سى ان ان" فهى اكثر ليبراليه. بينما شبكة مثل (MSNBC) هى اقرب الى الأعتدال مع ميول يساريه بسيطه.
اذا كنت تود ان تقارن بين وسائل الإعلام ومدى حريتها واستقلالها فى امريكا وفى مصر مثلا, فليس ذلك بالشيئ العسير, خذ مثلا اى برنامج حوار سياسى, ولنقل ان ضيف البرنامج هو اعلى سلطة ومركزا فى الدوله, وليكن رئيس الجمهوريه , فسترى ان مقدم البرنامج يبدى احتراما لضيف البرنامج ,ليس لشخصه ولكن لمركزه, لكن هذا الاحترام لا يجعله فى حالة خوف ورعب مستمر, او فى حالة من العصبيه بسبب تواجده امام رئيس الدوله, بل من المستحيل ان تكون الاسئله التى اعدها قد روجعت مسبقا من قبل الرئيس او اى من معاونيه. على العكس , سترى رئيس الدوله, اقوى رجل فى العالم , يجلس امامه وقد يكون متوترا , او عصبيا, فهو يخشى اكثر ما يخشى ان يسأله سؤالا لايعرف اجابته او ان تكون الاجابه التى يقدمها غير صحيحه او دقيقه, فيحاسبه الشعب بعد ذلك عليها. ويختلف اللقاء من مقدم برنامج الى الاخر و فى بعض الحالات نجد رئيس اقوى دولة فى العالم , جالسا كتلميذ امام لجنه الامتحانات, قارن ذلك بما يحدث فى مصر, الاسئله تراجع مقدما بمعرفه هيئه الرئاسه , ويشطب منها ما لايعجبهم او مالايريدون ان يذكر امام الجماهير, مقدم البرنامج يجلس متوترا وفى حالة من القلق مهما حاول اخفاءها, ولايحس المشاهد ان مقدم الرنامج فى حالة سيطره على برنامجه, بل يحس انه فى حالة من الخوف والرعب ان يقول شيئا مخالفا لما اتفق عليه من قبل وربما يفقد بذلك كل شيئ , وترى صاحب العظمه الرئيس فى مقعد القياده كالعاده, بل احيانا نراه يوجه السؤال ويجيب عليه فى نفس الوقت. لذلك فإننى كلما تحدث مبارك او القذافى او الأسد او اى من الأخرين عن الديموقراطيه , تصيبنى حاله من الغثيان, وأود ان يسألهم احدهم ان بقوموا بتعريفهم للديموقراطيه , كى يرى الجميع مدى وعمق جهلهم بها , وانهم يتشدقون بالكلمه كالببغاء.
فى مواسم الانتخابات, لاتتخفى الصحف خلف شعارات زائفه من الحياديه , لكن الصحف هنا دون استثناء تشارك وتقوم بدورها بصفه جديه, وكل جريده بعد ان يتم الاختيار النهائى لمرشحى الرئاسه من الاحزاب المختلفه, تقوم بدراسه المرشحين, ثم تتخذ موقفا واضحا , فتؤبد مرشحا واحدا فى عمليه تسمى ( endorsement) ولاتفعل ذلك بناء على مصالح شخصيه او وعود او رشوه او خلافه, لكنها تفعل ذلك بناء على اقتناع بأن ذلك المرشح هو خير من الاخرين, ثم تقدم كل الاسباب والدلائل التى دعتها الى تأييد ومسانده المرشح , ويحدث ذلك عاده ليس فى الأيام الأولى من الانتخابات, ولكن فى الاسبوع الأخير قبل الانتخاب , مما يعطى تلك العمليه مصداقيه وشفافيه لايمكن للفساد ان يكون له دورا فيها.
فى مقالتى الأخيره كنت قد نوهت الى ان هناك سلطة رابعه لاتقل كثيرا عن السلطات الحكوميه الثلاثه وربما تتفوق عليهم, تلك السلطه او القوه هى وسائل الاعلام ( The media) فى المجتمع الديموقراطى , حيث لها من القوة والنفوذ ما يجعل أولئك الذين انتخبوا يقفون امامها فى انتباه واحترام , وتلك السلطه فى المجتمع الديموقراطى تستمد نفوذها وقوتها ليس من حجم التوزيع او اسم المحرر وشهرته او درجة ثراء اصحابها, ولكن من القارئ او بمعنى اصح الناخب, وهكذا يعرف المجتمع الديموقراطى ويقيم بمعرفه القيمه الفعليه لصوت الناخب , وبمعرفه الناخب للقيمة الفعليه لصوته الانتخابى.