1-
كنتُ أقرأ قبل أيام في كتاب "المجتمع والدولة في الوطن العربي" الذي أعده عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم المنفي من وطنه الآن، وشارك فيه غسان سلامة الباحث والأكاديمي ووزير الثقافة اللبناني السابق، وعبد الباقي الهرماسي عالم الاجتماع والأكاديمي ووزير الثقافة التونسي السابق، وخلدون النقيب المفكر والأكاديمي الكويتي.
ولفت نظري في هذا الكتا&Egravig;تاب، أنه في صفحة 139، يتحدث عن عراق اليوم، وعراق الخلاف السياسي العراقي بعد انتخابات 2010 ، علماً بأن هذا الكتاب صدر عام 1988؛ أي قبل أكثر من عشرين عاماً من الانتخابات العراقية الأخيرة (7/3/2010)!
-2-
فكيف تمّ ذلك؟
وهل التاريخ يعيد نفسه؟
والجواب: نعم!
إن التاريخ يعيد نفسه، متى توفرشبيه بالأشخاص، وتوفرت الظروف العامة المختلفة نفسها، والبلد نفسه؛ أي متى كانت خشبة المسرح، والممثلون، وكاتب المسرحية، هم أنفسهم، مع تغيير الأسماء، وتجديد الديكور. فالمسرحية التي شاهدها العراقيون في القرن السابع عشر، لا يكون ديكورها هو نفسه الآن. أما ما تبقى فهو نفسه.
دعونا نقرأ ما كان قائماً في العراق، منذ القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر، وحين تهاوت الإمبراطورية العثمانية، في الحرب العالمية الأولى، وانتهى الاحتلال العثماني للعالم العربي عام 1918. وبدأ في العراق الاحتلال البريطاني، ثم مجيء الهاشميين، وتتويج فيصل بن الحسين ملكاً على العراق عام 1921.
-3-
المهم، كيف وصف عام 1988 المفكرون الأربعة السالف ذكرهم، المشهد السياسي العراقي الآن 2010؟!
لنقرأ، ولنضحك، ونبكي، ونردد:
"لقد انتقل العراق من تحت الدلف، إلى تحت المزراب":
يقول التاريخ:
"كان العراق في أواخر العهد العثماني ، موزعاً بين ثلاث ولايات: البصرة في الجنوب بما فيها الكويت الحالية، وبغداد في الوسط، والموصل في الشمال (من تكريت جنوب تركيا الحالية بما فيها كردستان). وكان العراق ، مثله مثل مصر إلى حد كبير، قد اعتمد العثمانيون على حكمه على بقايا المماليك الجورجيين، كحكام وإداريين محليين."
إلى هنا، ولا غبار.
ثم يستمر التاريخ في التلاوة:
"وفى مراحل ضعف الإمبراطورية، عاث هؤلاء المماليك فساداً في ولايات العراق، وساموا أهلها في الحضر والريف كل ألوان الظلم والاستغلال. وكان نزاع بعضهم مع بعض، ومع الوالي أو الباشا العثماني على السلطة الامتيازات مستمراً."
هنا، نرى أن عراق الأمس قبل قرون، وفي ظل حكم المماليك العبيد، كان كعراق اليوم تقريباً. فكما عاث المماليك في العراق فساداً في ولايات العراق، عاث السياسيون منذ 2003 إلى الآن فساداً، وربما أكبر من فساد المماليك. وكما كان نزاع المماليك مع بعضهم على السلطة والامتيازات مستمراً. فكذلك الأمر مع الزعماء السياسيين الآن في العراق. فالسلف يتنازع مع الخلف، ويرفض تسليمه الحكم أو الاعتراف له بالفوز بـ 91 مقعداً، ويُشكك في هذه النتيجة. وهو جالس على كرسي الحكم. ويوقِّع اتفاقيات مع شركات أجنبية مختلفة. والخلف يُهدد بالشكوى للأمم المتحدة، والنجدة من أهل السُنَّة الذين صوتوا لقائمته. ثم يأتي طرف آخر، ويُجري استفتاءً على من سيكون رئيس الحكومة القادمة. وتكون نتيجة الاستفتاء، أن زعيماً آخر ممن لم يحصل ائتلافه في الانتخابات الأخيرة إلا على 70 مقعداً فقط، هو المهدي المنتظر!
-4-
ويقول لنا تاريخ المماليك في العراق، في القرون الماضية:
"كان أهالي البلاد يتعرضون لغزوات دورية من القبائل البدوية الساعية للسلب والنهب. وكان العراق أيضاً محطاً للأطماع الدائمة للدولة الصفوية الفارسية المجاورة، والمنافسة للإمبراطورية العثمانية، وقد احتلت أجزاء منه عدة مرات (كان أهمها عام 1663 حين احتلت جيوش الشاه عباس مدينة بغداد). وكانت المواصلات بين الولايات العثمانية الثلاث (في العراق الحالي) صعبة وغير آمنة ."
فماذا تغيّر في المشهد العراقي الآن؟
ماذا تغيّر، فيما لو وضعنا مكان القبائل البدوية السالبة الناهبة، موجات الإرهاب القاتلة المدمرة، ووضعنا مكان الدولة الصفوية الفارسية (إيران الأمس)، إيران اليوم؟
لقد كان السلطان العثماني يبيع ولايات العراق على شكل "باشالكات" (مفرد "باشالك") ؛ أي المنطقة التي يحكمها الباشا. واليوم يفعل سلطان إيران الشيء ذاته، وربما أكثر من ذلك. فالسلطان العثماني، لم يكن يريد من العراق غير ذهبه. أما السلطان الإيراني فيريد الذهب، وما قبله، وما بعده.
لقد قال مساعد للسيستاني بالأمس، إن رجال دين بارزين من إيران، ومن بينهم المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، قاموا أخيراً بافتتاح مكاتب تمثيل لهم في النجف، ويقوم البعض بالحصول على الضريبة الشيعية المعروفة باسم "الخمس"، وإدراج أسماء الطلبة في معاهد دينية، يديرها نواب لهم. وقال مساعد السيستاني: عندما يغادر الأميركيون، سوف يلعب الإيرانيون بنا كما يشاءون. مشيراً إلى المخاوف داخل مدينة النجف، وفي أماكن أخرى داخل العراق، من ازدياد نفوذ طهران بعد رحيل الولايات المتحدة من العراق. (جريدة "الشرق الأوسط"، 8/4/2010)
-5-
وبعد، فلم نكن نتصور قط، أن يكون عراق اليوم الجديد، بنخبه السياسية المتصارعة على المصالح والمنافع، كمثل عراق قرون خلت، يحكمه مماليك عبيد، لأسياد جُدد.
إن أمريكا أو غير أمريكا، ممن نستنجد بهم من وقت لآخر، يستطيعوا اقتلاع نظام ديكتاتوري طاغٍ ومستبد، فما أهون ذلك عليهم. ولكنهم لا يستطيعوا أن يأتوا بنخب سياسية خبيرة وعادلة وشفافة، تملأ فراغ الديكتاتور.
فسقوط الطاغية كالطوفان المدمر، الذي عندما ينهار، يكون قد جرف أمامه كل الفسائل السياسية المُبشِّرة بالخير مستقبلاً.
وهو ما تمَّ في العراق.