سورة المائدة
سورة المائدة والتدبر التناظري لآياتها
زهير قوطرش
في
الإثنين ١٢ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
سورة المائدة والتدبر التناظري لآياتها
في البداية ,أحب أن أنوه إلى أن الهدف من دراستي لسورة المائدة هو تطبيق منهج التدبر التناظري لمعظم آياتها ,أو كما ذكر الأخ أحمد شعبان منهج إيجاد النسق القرآني الذي يربط مواضيع ومقاصد الآيات القرآنية المترابطة فيها ..
وكمحور أساسي للموضوع الذي انطلق منه في تدبري التناظري ,حيث تعمدت تناول موضوع حد السرقة ,ومنه سأنطلق لربط الآيات ربطاً تاً تناظرياً.ومن ثم مناقشة حد السرقة كما جاء في كتاب الله عز وجل.
قال الله تعالى:
)وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(المائدة: 38 – 39
إن هاتين الآيتين تعدان في لفظهما لبنتين أساسيتين من سورة المائدة، التي تضمنت أحكام العقود والمواثيق على اختلاف أنواعها وأشكالها، سواء كانت عقودا بين الله وخلقه على الإيمان به، وتحريم ما حرم، وإباحة ما أباح والقيام بما فرض، بوصفها داخلة في العقد الأول بين الله والإنسان كما ذكر ذلك رب العالمين في بداية سورة المائدةفيقوله عز وجل:
: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد(المائدة:1 .
تعد هاتان الآيتان في مضمونهما التشريعي لبنتين أساسيتين في بناء مجتمع القسط والعدل المتكامل عقديا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، بحيث يتعذر على المرء انتزاع هاتين الآيتين من سورة المائدة لفظا، كما يتعذر إقامة نظام مجتمع القسط والعدل الحق بدون تطبيقهما، أو تطبيق مضمونها في مجتمع غير إسلامي اختلت عقيدته وفسدت نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فمن حيث علاقة الآيتين بسورة المائدة وارتباطهما بها نلاحظ أن هذه السورة قد استهلت بقوله تعالى : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ(، وختمت بحوار بين الله تعالى وبين عبده عيسى عليه السلام عن مدى توفيته بميثاقه: )وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة 116 / 117.
ويجيبه الله سبحانه وتعالى بعد أن بين وفاءه بالعقد والعهد في نفس المشهد الحواري الرائع الرهيب بين الرب الرحيم العظيم المهيمن والعبد المؤتمن الأمين: )قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (المائدة:119.
وبين دفتي السورة – الأمر القرآني بالوفاء بالعقود والموقف الرباني لمساءلة المسيح في اليوم المشهود – تفصيل لما ينبغي الوفاء به من أحكام ومواثيق وعهود، وأمثال تربوية من مواقف الأمم والشعوب ومدى توفيتها أو خيانتها.
كل ذلك بالأسلوب القرآني الذي تلتقي فيه التربية الوجدانية بالتشريع الاجتماعي، والتوجيه الأخلاقي بتفصيل الحلال والحرام في المطعم والمنكح، وتصحيح العقائد والشعائر بتمتين العلاقات بين الأفراد والأمم، ببيان الحدود والعقوبات المقررة للجرائم والاعتداءات، التي يرتكبها الأفراد في حق الأفراد والجماعات والعلاقات، ومن بينها حد السرقة التي هي إخلال بالأمانة وإضرار بالمجتمع واعتداء على المال ونقض للعقود.
وبالتالي فإن سياق هذه السورة كله يدور حول الوفاء في شتى صوره وأشكاله؛ كل ذلك خطابا للمسلمين وتعليما لهم وتذكيرا وتحذيرا من عاقبة نقض العقود والمواثيق وخيانتها، سواء كانت مع الله أو مع خلقه، صغيرة أو كبيرة؛ لأن الذي يخل بالمواثيق الصغيرة في نظره، لا حرمة في نفسه ولا رعاية للمواثيق الغليظة.
ثم يذكر الله المؤمنين بميثاقهم معه يوم قالوا لنبيه سمعنا وأطعنا في نصرة الإسلام وتبليغه للناس )وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور(المائدة:7.
ثم يضرب لهم المثل ببني إسرائيل وخيانتهم: )وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ، فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (المائدة:13 .
ثم يعقب سبحانه بمثل موقف النصارى من مواثيقهم: )وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (المائدة: 14.
ثم يرد الأمر الإلهي للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأن يوفي بعهده، ويبلغ الرسالة التي أؤتمن عليها بموجب العقد الذي التزم به والميثاق الذي واثقه به ربه سبحانه )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين(َالمائدة:67.
كما يرد التهديد للمسلمين إن هم نقضوا العهود وارتدوا عن دينهم بأن الله سوف يأتي بقوم غيرهم يحبهم ويحبونه:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(المائدة54.
وهكذا يتضح لنا أن آيتي حد السرقة ( السارق والسارقة..) هما جزء أساسي وضروري متمم للسورة يتعذر انتزاعه منها؛ لأنه متعلق بعقد للإنسان مع الله ومع خلقه على حفظ الأموال والذمم والدماء وأمن المجتمع. وليس من الطبيعي ولا المعقول ولا المنطقي أن ترد سورة المائدة بدون آيتي حد السرقة ولا أن ترد هاتان الآيتان في غيرها من السور. وهذا من الإعجاز القرآني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
حد السرقة والمجتمع الإنساني
أما من حيث علاقة المضمون التشريعي للآيتين بالمجتمع الإسلامي(مجتمع القسط والعدل) فلابد لتوضيح ذلك من التذكير بأن هذا القرآن جاء لينشئ مجتمعا نموذجيا، وليقيم نظاما للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مرتبطا بنسق كوني متكامل خاضع لله الذي خلق الكون ويعلم ما يصلح له وما يصلحه وما يناسبه من نظم وتشريعات، وعلمه سبحانه وتعالى مطلق غير محدود،
أما المجتمعات الإسلامية التي اختلت فيها الأوضاع الإيمانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولم يطبق فيها حكم القرآن فهي أيضا غير صالحة لإقامة حد السرقة ما لم تستقم فيها هذه الأوضاع على نهج كتاب الله. والمثال صارخ بين أيدينا في دول تقيم الحدود على غير مستحقيها وتستغل إقامتها لحماية اللصوص من المرابين والمضاربين والمقاولين والمرتشين.
لذلك فإقامة حد السرقة بالشكل الصحيح – كغيره من الحدود – مرتبطة ارتباطا وثيقا بإقامة مجتمع العدل والقسط كله كاملا متكاملا في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
.
وليس من المجدي إقامة حد السرقة في مجتمع نظامه الاقتصادي تكون فيه ثروة الشعب دولة بين الأغنياء أو محتكرة بيد السماسرة، وحاجات الأفراد فيه سجينة لدى المستغلين. إذ لابد لإقامة حد السرقة من تحرير حاجات الناس وضمان ضروريات العيش الكريم لهم، فإذا وجدت هذه الحاجات أو حررت كان الذي يتجرأ على السرقة إما ظالما معتديا يقام عليه الحد، أو منحرفا نفسيا وعصبيا يلحق بالمستشفى..
إن مجتمع القسط والعدل ,حيث يتمتع فيه المواطن بثروات الوطن ,ويؤمن للعاطلين عن العمل الحد الكافي من مستوى معيشتهم ليكونوا مواطنين صالحين ,ويحمي الفقراء والمساكين ,بتقديم العون لهم من ضرائب المواطنين .هذا المجتمع في الحقيقة هو المجتمع الذي يطبق شرع الله من هذه الناحية وأستطيع تسميته ب (المجتمع الإسلامي).ولدينا في العالم الكثير من الدول في الغرب ,والتي تفرض دساتيرها وقوانينها تطبيق شرع الله فيما يخص التضامن الاجتماعي وتحقيق القسط والعدل دون أن تسمي تلك المجتمعات دولها بالإسلامية , ولدينا دول تدّعي أنها دول إسلامية ,ولا تطبق شرع الله في تحقيق القسط والعدل ومع كل أسف تطبق بعضها حدود الله على ألئك المساكين الذين يسرقون من أجل الحفاظ على وجدهم أحياء.
إن حماية الموطنين من مختلف الضغوط والانحرافات وإشاعة جو من النظافة الروحية والخلقية والاجتماعية وتنمية روح الجدية والشعور بالمسؤولية شروط ضرورية لإقامة حد السرقة.وهذه المجتمعات بهذه المواصفات موجودة في أكثر الدول الغربية.
أما كيفية إقامة الحد , فقد اختلف السلف حول هذا الأمر ,كتبت فيه مؤلفات اعتمدت على أراء الفقهاء مستندين إلى سنة قولية تناقضت فيها الأحاديث بين قطع اليد من الرسغ أو قطعها من الإبط أو قطع الأصابع , أو الجرح والتعليم كما جاء في الزمخشري ,وهذا برأي أقرب إلى الصواب. وقد تمت مناقشة ذلك على هذا الموقع الكريم في العديد من المقالات التي اعتمدت في دراسة هذا الحد على مبدأ تدبر القرآن بالقرآن ,ووصلت إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الزمخشري.
وفي هذا المقام أحب أن أضيف أن الشرع في القرآن الكريم هو شرع حدودي ,وليس حدي. أي ترك مجالاً للقضاة في دراسة حيثيات القضية المتعلقة بحد السرقة ,وجعل أقصى عقوبتها قطع اليد(أي جرحها والتعليم عليها). والحد الأدنى هو العفو .وبينهما السجن والغرامة .
تخطرني قصة في هذا السياق ,قرأتها في كتاب ألفه المرحوم علي عزت رئيس البوسنة سابقاً . أنه طيلة حياته كانت تراوده أسئلة في جدوى قطع اليد (التعليم عليها) بالنسبة للسارق والسارقة , وكثيراً ما تجنب الخوض في هذا الحد وضرورته .حتى زج فيه في السجن . ويذكر في كتابه , وكأن الله عز وجل أراد أن يزيل شكوكه حول تطبيق حد السرقة. يومها تم فرزه إلى البناء الذي يُسجن فيه اللصوص والمجرمين كعقوبة له. وذكر أنه كان يراقب تصرفات هؤلاء الناس ويستمع باهتمام إلى أحاديثهم .لفت نظره أن كل المساجين الذين امتهنوا مهنة السرقة قبل دخولهم السجن كانوا يتناولون قصصهم وبطولاتهم في عمليات النصب والسرقة أثناء السهرات الليلية , حيث كانوا دائماً يتباهون بخفة اليدين عندهم , وخاصة في فتح الأبواب المغلقة ,والخزائن الفولاذية .ولا حظ أثناء تصوريهم للعمليات التي نفذوها وهم خارج السجن أنهم كانوا يستعينون بحركة اليدين لإثبات براعتهم في هذه المهنة الخسيسة. عندها أدرك الحكمة الإلهية من تشريع قطع اليد للسارق كعقوبة رادعة ,بمعنى التعليم عليها أو تعطيل حركتها .
فسبحان الله كما هو علمه مطلق ,كذلك شرعه.