ماذا لو اكتشف عالم إسرائيلى علاجاً لفيروس الإيدز مثلاً، هل يمكن أن يخرج علينا ساعتها أحد المسكونين بـ«فوبيا التطبيع» داعياً لمقاطعة هذا الدواء، لأن مكتشفه إسرائيلى؟!
السؤال ذاته يمكن طرحه لو أبدع إسرائيلىٌّ فى الفكر أو الأدب أو الفن، فهل ينبغى أيضاً أن نتجاهله، حتى نبتعد عن مرمى سهام تنظيم (م. م. م) أو «ميليشيات المثقفين المأزومين»، الذين يمارسون على الرأى ا&aacuave; العام وصاية باسم «الثوابت الوطنية»، التى يحددونها، ويرسمون الخطوط الفاصلة بين «التطبيع والتمييع»، ثم يُنصّبون أنفسهم قضاة وجلادين لمن تسول له نفسه رؤية الأمر بشكل مغاير؟!
سنوات طويلة أهدرتها، شأن معظم أبناء جيلى الذين رضعوا كراهية إسرائيل بشكل عاطفى ساذج، حتى أدركت المرء «حالة نضج» بعد تجارب وخبرات تراكمت، وتدرب المرء خلالها على «سعة الصدر»، وتعلم كيف يحب أو يكره، والأهم من هذا ألا يجعل تلك المشاعر مرجعيته فيما يتعلق بمصالح الأمم والشعوب، وفى صدارتها عدم التورط فى مغامرات غير مأمونة، والسقوط فى مستنقع «المارقين» ممن يعادون العالم.
من يحلو لهم وصم «المعتدلين والواقعيين» بتهمة «التطبيع» يستحقون الشفقة أكثر من اللوم، لأن نضجهم السياسى لم يتجاوز بعد «ذهنية التنظيمات السرية»، ومازالوا عاجزين عن رؤية شؤون السياسة بعيون براجماتية، تراعى متغيرات الواقعين الدولى والإقليمى، ولا تقفز على حقائق الجغرافيا وموازين القوى.
مرة أخرى عدنا للمربع الأول بعد افتعال أزمة صاخبة وغير مبررة مع المركز الثقافى الفرنسى بالقاهرة، احتجاجاً على مشاركة فيلم مخرجته إسرائيلية ضمن فعاليات مهرجان «لقاء الصورة» الذى نظمه المركز.
أدرك أن كل حروف اللغة لن تسعف المرء لإقناع تنظيم (م. م. م) بإلقاء مصطلح «التطبيع» خلف ظهورهم، لنتحدث عن ضرورة إنهاء الصراع سلمياً، لأنه لا يوجد صراع أبدى، وأن كل صراع لابد أن تعقبه تاريخياً «تسوية ما»، مع الأخذ فى الاعتبار إمكانية تعايش وتكامل النظامين الإقليميين: العربى والشرق أوسطى، لأنه ليس بوسعنا تجاهل قوى إقليمية كبرى مثل إيران وتركيا وإسرائيل وغيرها.
ولن تستمع لإجابة جادة بل لمحاضرات مدرسية عن الوطنية، إذا حاولت أن تشرح لتنظيم (م. م. م) أن المقاطعة العربية لإسرائيل تعنى ببساطة الذعر من الآخر، والدعوة للانعزال فى عصر لم يعد فيه مجال للعزلة، وأخشى أن يكون هذا الخوف المرضى (الفوبيا) مما يسمى الغزو الثقافى الإسرائيلى أو الغربى بمثابة «عقدة نقص حضارية»، وهو ما قد ينسف قناعتنا بأن الثقافة العربية والإسلامية هى من الأصالة والرسوخ لتكون قادرة على الصمود أمام أى ثقافات أخرى.
ثمة حقيقة أخرى ليس بوسعنا القفز عليها، هى أن منطقتنا تضم خليطا من الثقافات والحضارات واللغات والأقوام والأديان، مما يجعل التعايش خياراً وحيداً والتفاعل بينها وارداً، فذاكرة شعوب المنطقة لا ينبغى أن تبقى للأبد رهينة لثقافة الصراع، بدليل أن تاريخها شهد مراحل مثالية للتعايش، وبالتالى ينبغى إحياء تلك التقاليد بشجاعة، من خلال إشاعة ثقافة السلام بين كل شعوب المنطقة، بما فى ذلك شعب إسرائيل، بغض النظر عن رفضنا لسياسات حكوماتها، فليس من الحكمة معاداة الشعوب وأخذها بجريرة حكامها.
لكن يجب الاعتراف بأن كلا المشروعين الإسرائيلى والعربى- فى طبعتيهما الإقصائية- ليس بوسعهما الاستمرار فى حالة حرب وصراع للأبد، خاصة فى ظل إمكانية التوصل إلى «صيغة ما» للعيش المشترك، كما أن هناك قوى معتدلة داخل إسرائيل ترغب حقاً بالسلام الذى يفترض أنه الأصل فى العلاقات بين الشعوب والأمم، كما أن الحروب لا تخدم مصالح شعوب المنطقة، وما باتت تفرضه الأوضاع الدولية الجديدة.
يبقى فى النهاية حُلمٌ بأن تتحلى النخبة الثقافية والسياسية على الجانبين (الإسرائيلى والعربى) بقدر من الشجاعة لدعم خيار السلام صراحة، والعمل من أجل تفعيل سبل التعاون، والاحتكام للعقل وطاولة التفاوض، باعتبار أن المصالح المشتركة وتفهم ظروف الآخر أمر من شأنه أن يرسخ أجواء آمنة فى منطقة عانت قروناً من الصراعات الدامية ولم تزل، ويشكل قيدا على لجوء أى طرف لاستخدام القوة أو الحرب.
والله المستعان.