أحمد كمال أبوالمجد.. ومآثر لا تُحصى

سعد الدين ابراهيم في الأحد ١١ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

طالعت فى هذه الصحيفة، منذ أيام، خبر إعفاء الدكتور أحمد كمال أبوالمجد من موقعه كنائب لرئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان، الذى يرأسه الدكتور بطرس بطرس غالى، الذى ظلّ فى موقعه.

لقد عرفت الرجلين لما يقرب من أربعين عاماً. ولكنى أخصص مقال هذا الأسبوع للدكتور أحمد كمال أبوالمجد. فقد عرفه كل جيلى من الدارسين للدكتوراه فى الولايات المتحدة، خلال ستينيات القرن الماضى (العشرين)، حيث تم تعيينه مُس&Ee;ستشاراً ثقافياً فى العاصمة الأمريكية واشنطن. وكانت تلك السنوات من أكثر ما مرّ على مصر والوطن العربى من نكبات.

فبينما كان عقد الخمسينيات، عقد انتصارات ـ معارك التحرير والتأميم والتصنيع والتنمية والعدالة الاجتماعية. جاء عقد الستينيات ليشهد عودة الاستبداد فى الداخل، والهزائم فى الخارج. فقد استشرت مراكز القوى، وأخمدت الحُريات، ونكّلت بالشُرفاء من كل ألوان الطيف الأيديولوجية ـ من الليبراليين للماركسيين للإخوان المسلمين.

 وامتلأت المُعتقلات بسُجناء الرأى والضمير. وكان آية ذلك التخبط فى اتخاذ القرار، والمُزايدات العنترية، لا فقط بين مراكز القوى فى داخل كل بلد عربى، ولكن أيضاً بينها عبر الأقطار العربية، وهو ما أدى إلى كارثة حرب ١٩٦٧، وهزيمة يونيو الشنعاء، ثم رحيل الزعيم جمال عبدالناصر فى غضون سنوات قليلة بعد ذلك (سبتمبر ١٩٧٠).

وكان د. أحمد كمال أبوالمجد، شاهداً لتلك الحقبة المضطربة من تاريخنا الحديث وضحية من ضحاياها. فقبل تعيينه مُستشاراً ثقافياً لمصر فى واشنطن بعدة شهور، أمر أحد مراكز القوى (على صبرى) باعتقاله، بدعوى أنه مُتعاطف مع الإخوان المسلمين.

 ثم صعد إلى السُلطة مركز قوى مُنافس (زكريا مُحيى الدين) فى ظل نفس القيادة الناصرية، فأمر بالإفراج عن د. أبوالمجد وتم تعيينه مُستشاراً ثقافياً فى واشنطن. وكنت أنا فى هذه الأثناء رئيساً مُنتخباً للطلبة العرب فى الولايات المتحدة وكندا. وذهبت للتعرّف على الرجل فى بداية عهده بهذا الموقع. وكان ودوداً وبليغاً وصريحاً.

وحينما سألته عن الأوضاع فى مصر، أجاب بأن الأمور قى مصر لا تسرّ، حيث لم تعد تحكمها «بوصلة» واضحة. فالذين يُعينون فى مواقع حساسة يُصابون عادة بلوثتين: اللوثة الأولى من «الفرحة» بتعيينهم فى موقع مرموق دون أن يعلموا «لماذا؟»، والثانية، من «اللوعة» حينما يتم إقصاؤهم من نفس الموقع المرموق ـ أيضاً «دون أن يعرفوا لماذا؟»

بعد ذلك بثلاث سنوات (١٩٦٦) وقع لكاتب هذه السطور نفس ما وصفه د.أبوالمجد. ففى آخر يوم من رئاستى لمنظمة الطلبة العرب (٣/٨/١٩٦٦) أمر أحد مراكز القوى فى مصر الناصرية بفرض الحراسة علىّ وعلى أفراد أسرتى بإحدى قرى مُحافظة الدقهلية، وألغيت بعثتى الدراسية قبل أن أتمم دراستى للدكتوراه، وطلب منى العودة فوراً إلى الوطن دون أى ذكر لأسباب هذا القرار.

وقد حاول د. أحمد كمال أبوالمجد من جانبه معرفة الأسباب، دون جدوى. وكان من آيات حكمته نصيحته لى بأن أستمر فى دراستى، وأن أعجّل بالانتهاء منها، تحوّطاً لما يمكن أن تأتى به الأيام. وقد التزمت بالنصيحة، ووجدت عملاً بعض الوقت مكّننى من العيش والاستمرار فى الدراسة.

وما هى إلا عدة شهور، حتى انفجرت حرب يونيو ٦٧ وانشغلنا جميعاً بلعق جراح الهزيمة، وما عسى على كل منا أن يفعله لمواجهتها. وخلال شهور انبثقت حركة المقاومة الفلسطينية وهرع عدد منا إلى البلاد للانضمام إلى صفوفها.

 وتوجهت مع آخرين، من مصريين وعراقيين وسوريين وجزائريين إلى الأردن، حيث انضم عدد منا إلى حركة «فتح» التى كان يرأسها ياسر عرفات، وانضم آخرون إلى حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة د. جورج حبش، وانضم فريق ثالث إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بقيادة الرفيق نايف حواتمة.

وكنا نُحيط د. أبوالمجد علما بخطواتنا، أولا بأول، فكان يُبارك مُبادراتنا بكلمات مُقتضبة، لا تُخل بواجبه كمستشار ثقافى مسؤول عن إكمالنا لدراستنا العُليا. وعاد الرجل إلى مصر وزيراً للشباب فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات. وربما كان له دور فى إلغاء قرار الحراسة، الذى ظلّ مفروضاً علىّ إلى شهر أبريل ١٩٧٤، وهو ما مهّد لعودتى بدورى إلى الوطن فى غضون عدة شهور بعد ذلك.

والتقيت بالوزير أبوالمجد، الذى سرعان ما خرج من الوزارة دون معرفة السبب. ولكنه مع ذلك الوقت كان قد حصّن نفسه ضد «اللوثتين». فلا لعبت برأسه لوثة الفرح والنشوى حينما أصبح وزيراً، ولا لوثة الجزع والأسى حينما خرج من الوزارة.

وكان د. أبوالمجد يعود طائعاً مُختاراً إلى موقعه كأستاذ جامعى فى كلية الحقوق، أو إلى مُمارسة مهنة المُحاماة. وكما كان نظام عبدالناصر ونظام السادات هما من طلباه لشغل مواقع عامة، كذلك فعل نظام مُبارك، حينما عيّنه كنائب لرئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان. وكان الرجل يُلبى نداء الواجب مع كل رئيس. إن الرؤساء الثلاثة هم الذين كانوا يقصدونه، ولم يسع هو إلى أى منهم.

ولأن د. أحمد كمال أبوالمجد كان يلتزم بالقول المأثور «الساكت عن الحق شيطان أخرس» فقد كان لابد أن يصطدم بكل منهم حينما يقول «كلمة حق فى وجه السُلطان».

فكانوا يقصونه عن الموقع الذى طلبوا هم منه أن يشغله. وكان المشهد فى عهد الرئيس مُبارك، هو نفسه حينما اعترض د. أبوالمجد على الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان فى مصر... وهو نفس ما فعله المجلس الدولى لحقوق الإنسان فى جنيف خلال الشهر نفسه. وكما هى العادة فى أنظمة الحكم المُستبدة، فإن السُلطان بعد أن يستنفد أغراضه من أى شخصية مرموقة، فإنه لا يتردد فى التخلص منها، دون شكر أو عرفان. وهذا ما حدث مع د. أحمد كمال أبوالمجد منذ أيام.

ولكن لأن الرجل، فى حد ذاته، يُمثل قيمة وطنية وعربية وعالمية، فإننا لا نشك فى استمراره فى العطاء بلا حدود، وفى قوله الحق فى وجه أى سُلطان جائر، ولن يخشى فى ذلك لومة لائم. فتحية له من منفاى وليمتعه الله بالصحة وطول العُمر، وليكثر الله من أمثاله. فمصر هذه الأيام تحتاج إلى مثله من الرجال أشد ما يكون الاحتياج. آمين.

اجمالي القراءات 11707