مقدمة
1 ـ المستغرب فى موضوع (قتل حجر بن عدى ) شيئان :
الأول : هو كل تلك الضجة المثارة حول مقتله ، مع إن زياد بن أبيه قتل الألوف لآسباب أهون من قتله لحجر بن عدى ، ثم بلغ عدد الأبرياء الذين قتلوا فى عهد الحجاج وحده أكثر من مائة ألف مسلم لمجرد الشبهة السياسية. والتعليل هنا سهل .
• لأن حجر كان أول قتيل بسبب ممارسته السلمية لحرية الرأى ، وجاء قتله فتحا لهذا الباب من أبواب الشّر فى تاريخ المسلمين ، وهو إقدام المستبد على قتل المعارضين المسالمين . وهى عادة فاحشة لا تزال سائدة حتى عصرنا .
• ثم إن حجر بن عدى لم يكن شخصا عاديا. لقد كان صحابيا يتمتع بمستلزمات التكريم فى المعيار السّنى ، فهو من قواد الفتوحات ، شارك فى موقعة القادسية ، وفى فتوحات الشام ، وهوالذى قاد فتح منطقة مرج عذراء فى دمشق التى أصبحت عاصمة لمعاوية والتى تم قتل حجر فيها فيما بعد،(ولم ينتبه أحد الى هذا المغزى).
• ويتمتع حجر أيضا باحترام الشيعة فهو من كبار أنصار على ، وانحاز اليه ضد معاوية، وهو الذى تزعم شيعة الكوفة فى معارضتهم السلمية لمعاوية ، وجاء قتل حجر بسبب تلك المعارضة .
• من هنا اشتد الاستنكار على مقتل حجر ، وربما يكون الشخص الوحيد فى عصره الذى أجمعت الشيعة والسّنة والخوارج على استنكار مقتله ، وهذا لم يحدث مثلا فى إغتيال عمر وعثمان وعلى بن أبى طالب.
الثانى : تفسير موقف معاوية فى قتل حجر بن عدى . فقتله يتنافى مع المشهور عن ( شعرة معاوية) ، وما اتصف به من حلم ومداراة وإيثار للمسالمة ، كما يتناقض مع سياسة معاوية التى أعلنها بقوله (إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا). أى قرر حرية التعبير باللسان طالما تقتصر على المعارضة القولية . وفى هذا الاطار كانت معارضة حجر بن عدى الذى بايع لمعاوية و تمسك ببيعته له الى آخر لحظة. كل ما هنالك أنه مارس حقه فى الاعتراض على سياسة أموية معينة ، وفق المسموح به من المعارضة القولية .
المؤرخون فى العصرين العباسى و المملوكى الذين سجلوا أحداث هذا العصر لم يثيروا هذه القضية ، واكتفوا بالرواية . ونحاول هنا البحث عن الاجابة فى ضوء (وعظ السلاطين ).
2 ـ ففى قصة حجر بن عدى نجد حاكما قدم نفسه واعظا فى خطبته البتراء ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ثم يفعل هو المنكر ، فلما تصدى له أحد الشجعان بالوعظ أخذت ذلك الحاكم العزة بالاثم فقتل الواعظ .
3 ـ نتوقف الآن مع قصة حياة حجر بن عدى والسبب المعلن لمقتله ، ثم أخير السبب الحقيقى للتخلص منه لنجيب على السؤال الثانى فى تعليل التناقض فى سياسة معاوية.
أولا : سيرة حياة حجر وفق ما جاء فى ( الطبقات الكبرى) لابن سعد
1 ـ (هو حجر بن عدى بن جبلة بن عدي بن ربيعة الكندي ولقبه : حجر الخير .وكان حجر بن عدي جاهليا إسلاميا ، يقال أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أخيه هانئ بن عدي. وشهد حجر القادسية ، وهو الذي افتتح مرج عذرى بدمشق .وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء .وكان من أصحاب علي بن أبي طالب وشهد معه الجمل وصفين .) أى كان صحابيا ، ومن قواد الفتوحات ، ومن كبار أنصار على .
2 ـ ( فلما قدم زياد واليا على الكوفة دعا بحجر بن عدي فقال : تعلم أني أعرفك وقد كنت أنا وإياك على ما قد علمت ـ يعني من حب علي بن أبي طالب ـ وإنه قد جاء غير ذلك ، وإني أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة فأستفرغه كله، املك عليك لسانك وليسعك منزلك ، وهذا سريري فهو مجلسك ، وحوائجك مقضية لدي ، فاكفني نفسك فإني أعرف عجلتك ، فأنشدك الله يا أبا عبد الرحمن في نفسك. وإياك وهذه السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستزلوك عن رأيك ، فإنك لو هنت علي أو استخففت بحقك لم أخصك بهذا من نفسي . فقال حجر قد فهمت . )
أى حين تولى زياد ولاية الكوفة بعد موت واليها المغيرة بن أبى شعبة ـ بادر زياد بنصح حجر بن عدى ، مؤكدا له إنه كان مثله من شيعة (على ) ولكن الوضع اختلف الآن ، ويرجوه أن يكف عن معارضته وعن تزعمه لشيعة الكوفة مقابل أن يعلى زياد من مكانته.وخلط زياد هذا الترغيب والرجاء بالتهديد بأنه سيضطر لقتله لو لم يكف عن المعارضة. ولم يعط حجر وعدا لزياد بالكف عن المعارضة .
3 ـ ( ثم انصرف( أى حجر ) إلى منزله فأتاه إخوانه من الشيعة، فقالوا : ما قال لك الأمير؟ قال :قال لي كذا وكذا ، قالوا ما نصح لك ، فأقام وفيه بعض الإعتراض .وكانت الشيعة يختلفون إليه ويقولون إنك شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر. وكان إذا جاء إلى المسجد مشوا معه . فأرسل إليه عمرو بن حريث وهو يومئذ خليفة زياد على الكوفة وقال له : أبا عبد الرحمن ما هذه الجماعة ؟ وقد أعطيت الأمير من نفسك ما قد علمت ؟ فقال للرسول: تنكرون ما أنتم فيه ؟ إليك وراءك أوسع لك .فكتب عمرو بن حريث بذلك إلى زياد ، وكتب إليه إن كانت لك حاجة بالكوفة فالعجل . ).
أى بعودة حجر لبيته اجتمع به رفاقه من الشيعة وحرضوه على التمادى فى المعارضة ، وكانوا يسيرون معه فيما يشبه المظاهرة تحديا لزياد وعصيانا لأوامره فى أحكامه العرفية. ولأن زياد كان يحكم البصرة والكوفة معا فقد كان يمضى نصف العام هنا ونصفه الآخر هناك. وفى غيبته كان يولى نائبا عنه . وتصادف أن نصح زياد حجرا وحذّره ، ثم سافر الى البصرة تاركا فى الكوفة نائبه عمرو بن حريث. وشهد عمرو بن حريث هذا مظاهرة حجر وعصيانه لتحذيرات زياد ، فأرسل يعظ حجر ويذكره بلقائه مع زياد ، فأعرض حجر عن النصيحة . ولما كان الموضوع أكبر من طاقة نائب زياد على الكوفة فإنه بعث لزياد يستعجل مجيئه ليتصرف بنفسه.
4 ـ ( فأغذ زياد السير حتى قدم الكوفة ، فأرسل إلى رءوس الكوفة :عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله البجلي وخالد بن عرفطة العذري حليف بني زهرة وإلى عدة من أشراف أهل الكوفة ، فأرسلهم إلى حجر بن عدي ليعذر إليه وينهاه عن هذه الجماعة وأن يكف لسانه عما يتكلم به ، فأتوه فلم يجبهم إلى شيء ولم يكلم أحدا منهم ، وجعل يقول : يا غلام اعلف البكر . فقال له عدي بن حاتم : أمجنون أنت ؟ أكلمك بما أكلمك به وأنت تقول يا غلام اعلف البكر؟ فقال عدي لأصحابه : ما كنت أظن هذا البائس بلغ فيه الضعف كل ما أرى .! فتركه القوم وأتوا زيادا فأخبروه ببعض وكتموا بعضا وحسنوا أمره وسألوا زيادا الرفق به، فقال لست إذا لأبي سفيان .! فأرسل إليه الشرط والجنود فقاتلهم حجر بمن معه من أنصاره ثم انفض عنه أنصاره ، فقبض عليه الجند وعلى بعض أصحابه ، وأتوا بهم الى زياد . فقال له زياد : ويلك ما لك ؟ فقال إني على بيعتي لمعاوية لا أقيلها ولا أستقيلها . فجمع زياد سبعين رجلا من وجوه أهل الكوفة فقال : اكتبوا شهادتكم على حجر وأصحابه، ففعلوا ، ثم بعث بحجر وأصحابه بتلك الشهادات الى معاوية .) رجع زياد مسرعا ،وبعث وفدا من زعماء القبائل لنصح حجر ، ولكن حجرا لم يأبه بهم أيضا . فرجعوا الى زياد ، يطلبون منه الرفق به ، فرفض زياد ،وأرسل فرقة من الجند قاتلت حجرا واتباعه ، وقبضت عليه وعلى بعض أتباعه بينما فرّ الآخرون. وجىء بحجر لزياد موثقا فأقر بأنه على بيعته لمعاوية وليس خارجا (على النظام الحاكم ). ولكن زيادا استشهد سبعين رجلا من كبار أهل الكوفة ضد حجر وأصحابه وبعث بهم وبالشهادات الى معاوية فى دمشق .
5 ـ (وبلغ عائشة الخبر فبعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي إلى معاوية تسأله أن يخلي سبيلهم . فقال عبد الرحمن بن عثمان الثقفي يا أمير المؤمنين جدادها جدادها لا تعن بعد العام أبرا ، فقال معاوية لا أحب أن أراهم ولكن اعرضوا علي كتاب زياد ،فقرىء عليه الكتاب وجاء الشهود فشهدوا . فقال معاوية بن أبي سفيان أخرجوهم إلى عذرى فاقتلوهم هنالك. قال فحملوا إليها. فقال حجر : ما هذه القرية؟ قالوا :عذراء .قال: الحمد لله أما والله إني لأول مسلم نبح كلابها في سبيل الله ، ثم أتي بي اليوم إليها مصفودا .ودفع كل رجل منهم إلى رجل من أهل الشام ليقتله ، ودفع حجر إلى رجل من حمير فقدمه ليقتله .فقال : يا هؤلاء دعوني أصلي ركعتين ، فتركوه ،فتوضأ وصلى ركعتين فطول فيهما ، فقيل له : طولت ..أجزعت ؟ .. فقال : ما توضأت قط إلا صليت وما صليت صلاة قط أخف من هذه ، ولئن جزعت لقد رأيت سيفا مشهورا وكفنا منشورا وقبرا محفورا .وكانت عشائرهم جاؤوا بالأكفان وحفروا لهم القبور. ويقال بل معاوية الذي حفر لهم القبور وبعث إليهم بالأكفان . وقال حجر : اللهم إنا نستعديك على أمتنا فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا . فقيل لحجر : مد عنقك . فقال إن ذاك لدم ما كنت لأعين عليه . فقدم فضربت عنقه . وكان معاوية قد بعث رجلا من بني سلامان بن سعد يقال له هدبة بن فياض فقتلهم ، وكان أعور ، فنظر إليه رجل منهم من خثعم فقال : إن صدقت الطير قتل نصفنا ونجا نصفنا .فلما قتل سبعة أردف معاوية برسول بعافيتهم جميعا فقتل سبعة ونجا ستة أو قتل ستة ونجا سبعة .قال وكانوا ثلاثة عشر رجلا .وقدم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية برسالة عائشة وقد قتلوا ، فقال يا أمير المؤمنين أين عزب عنك حلم أبي سفيان ؟ فقال غيبة مثلك عني من قومي... . ولما أتي بحجر فأمر بقتله قال : ادفنوني في ثيابي فإني أبعث مخاصما .).
شاع الخبر حت بلغ السيدة عائشة فأرسلت رسولا لمعاوية تسأله أن يطلق سراح حجر وأصحابه .ووصل رسول عائشة بعد مقتل حجر وبعض أصحابه ، فعفا معاوية عنهم فأطلق سراح الباقين ..
6 ـ منهج ابن سعد فى الطبقات أن يدور حول الشخصية التى يترجم لها من حيث النسب و النشأة و العلم ،و مروياته ومظهره فى الزى و اللحية وصلاته و سلوكياته الى وفاته . مقابل ذلك يهمل ابن سعد التفصيلات التاريخية السياسية ورواياتها . وقد قام الطبرى فى تاريخه فيما بعد بجمع تلك الروايات على اختلافها وتداخلها وربما تناقضها. ثم جاء ابن الأثير ففحص روايات الطبرى وانتقى منها ما يراه صحيحا ، وغالبا كان يكتفى برواية واحدة فى الحدث التاريخى الواحد ، وقلما يروى فيه روايتين مختلفتين.
لذا نستقى بعض التفصيلات المنسية فى تاريخ حجر من تاريخ ( الكامل ) لابن الأثير.
ثانيا : السبب المباشر لقتل حجر وفق ما جاء فى (الكامل) لابن الأثير :
1 ـ السؤال الهام هنا : ما هو فحوى المعارضة القولية لحجر و التى لم يتحملها زياد ؟ وهل كان حجر على حق فى التمسك بها الى درجة التضحية بحياته ؟ وبالتالى يكون زياد متجنيا وقاتلا لانسان برىء سياسيا ووفق شرع الاسلام ؟
2 ـ نتعرف على الاجابة من تلك الأحداث التى رواها ابن الأثير نقلا عن الطبرى عن عام 42 هجرية . يقول ابن الاثير: (فكتب معاوية إلى المغيرة ليلزم زيادًا وحجر بن عدي وسليمان بن صرد وشبث بن ربعي وابن الكوا بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلاة.وإنما ألزمهم بذلك لأنهم كانوا من شيعة علي. ). أى إن معاوية يأمر والى الكوفة المغيرة بن أبى شعبة بأن يلزم شيعة على بحضور الصلاة فى المسجد ، وعلى رأسهم حجر بن عدى . فهل كان هذا حرصا من معاوية على أن يكونوا من الأبرار الذين تتعلق قلوبهم بالمساجد أم هو غرض آخر يريد إذلالهم واستفزازهم ؟
3 ـ كان معاوية يريد استفزازهم للتخلص منهم . كيف ؟ لأن حضورهم الصلاة مع الأمير تعنى إجبارهم على الاستماع للعن (على ) وهى سياسة الأمويين الثابتة فى الصلاة. وبذلك يكون محبو (على ) بين أمرين إما أن يتحملوا ويسكتوا ، وإما أن يثوروا ، ويعطوا حجة للتخلص منهم .وبهذه الطريقة تم قتل حجر وارهاب شيعة الكوفة.
يقول ابن الأثير عن سبب قتل حجر: ( وسبب ذلك أن معاوية استعمل المغيرة بن شعبة على الكوفة سنة إحدى وأربعين ، فلما أمّره عليها دعاه ، وقال له: .... ولست تاركًا أيصاءك بخصلة: لا تترك شتم علي وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب لأصحاب علي والإقصاء لهم ، والإطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم..) أى بدأ معاوية العدوان بجعل لعن الامام (على ) على المنابر سياسة يلتزم بها الولاة ، بالاضافة الى تفضيل شيعة عثمان والأمويين واضطهاد شيعة (على ) .وفى العام التالى لتولية المغيرة تم ألزام حجر وأصحابه بأن يحضروا المسجد لاذلالهم بإسماعهم لعن إمامهم .
4 ـ وتمسك المغيرة فى ولايته على الكوفة بهذه السياسة ، مما استفز شيعة (على ) وزعيمهم حجر فكان يحتج عليه علنا فى المسجد حين يبدأ بلعن عليا . تقول الرواية (فأقام المغيرة عاملًا على الكوفة وهو أحسن شيء سيرة غير أنه لا يدع شتم علي والوقوع فيه والدعاء لعثمان والاستغفار له، فإذا سمع ذلك حجر بن عدي قال: بل إياكم ذم الله ولعن! ثم قام وقال: أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ومن تزكون أولى بالذم. فيقول له المغيرة: يا حجر اتق هذا السلطان وغضبه وسطوته فإن غضب السلطان يهلك أمثالك. ثم يكف عنه ويصفح.) أى كان حجر يرد عليهم بلعنهم وبالشهادة بالفضل لعلى . وكان يستمر المغيرة فى اللعن ويستمر حجر فى الرد عليه ، ويستمر المغيرة فى نصح أو وعظ أو تحذير حجر وتخويفه من السلطان معاوية ، وحجر لا يسكت ، والمغيرة يصفح عنه ويتحمل رده عليه.
5 ـ ولم يكن ممكنا أن يستمر هذا المسلسل .لا بد أن ينفجر أحدهما ، إما المغيرة وإما حجر . وحدث الانفجار فى نهاية حكم المغيرة للكوفة ، وكان قد بلغ عمره السبعين ، وجاء الانفجار من حجر . تقول الرواية عن المغيرة : ( فلما كان آخر إمارته قال في علي وعثمان ما كان يقوله ، فقام حجر فصاح صيحةً بالمغيرة ، سمعها كل من بالمسجد ، وقال له: مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا فقد حبستها عنا وليس ذلك لك ، وقد أصبحت مولعًا بذم أمير المؤمنين. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبرّ ، مر لنا بأرزاقنا فإن ما أنت عليه لا يجدي علينا نفعًا! وأكثروا من هذا القول وأمثاله. فنزل المغيرة ) .صرخ حجر محتجا ومطالبا بأرزاق الناس أو مرتباتهم ، ليسانده من بالمسجد ، وفعلا ساندوه فاضطر المغيرة للنزول من على المنبروتركهم .
6 ـ ومن الطبيعى أن يحتج قوم المغيرة وأصحابه على تهاونه مع حجر ، وفعلا وجهوا له اللوم ، ورد عليهم الداهية العريق بالجواب السديد ، تقول الرواية :(فاستأذن عليه قومه ، ودخلوا ، وقالوا: علام نترك هذا الرجل يجترىء عليك في سلطانك ويقول لك هذه المقالة فيوهن سلطانك ويسخط عليك أمير المؤمنين معاوية ؟ فقال لهم المغيرة: إني قد قتلته . سيأتي من بعدي أمير يحسبه مثلي فيصنع به ما ترونه يصنع بي فيأخذه ويقتله! . إني قد قرب أجلي ولا أحب أن أقتل خيار أهل هذا المصر فيسعدوا وأشقى ، ويعز في الدنيا معاوية ويشقى في الآخرة المغيرة. ). أى ان المغيرة بحلمه وسكوته شجع حجرا على التطاول على السلطة ، وسيأتى أمير بعد المغيرة فيتصرف حجر معه بنفس الطريقة حين يلعن عليا . وعندها سيقتله ذلك الأمير. والمغيرة يرى أنه قد قرب أجله ولا يريد أن يتحمل تبعة قتل حجر فى سبيل تثبيت ملك معاوية . وتحققت نبوءة المغيرة ، إذ مات المغيرة وتولى زياد الكوفة ، تقول الرواية (ثم توفي المغيرة وولي زياد فقام في الناس فخطبهم عند قدومه ثم ترحم على عثمان وأثنى على أصحابه ولعن قاتليه.فقام حجر ففعل كما كان يفعل بالمغيرة. ). وانتهت القصة كما نعرف .
ثالثا :السبب الحقيقى : ( يسألونك عن التوريث )
1 ـ لازلنا نحمل على كاهلنا نفس السؤال : لماذا ؟.
لماذا يخطط معاوية لقتل حجر بهذه الطريقة ؟ لماذا يرغمه هو وأصحابه على حضور الصلاة جماعة ويستفزهم بالاستماع الى لعن (على بن أبى طالب ) بينما يعلن أنه لا يحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بينه وبين ملكه ؟ لماذ يعطيهم حرية الصراخ و يجعلهم يصرخون ـ وهم على حق ـ ثم يفاجئهم بالقتل ؟
وحتى نفهم أكثر سياسة معاوية نقرأ الرواية التالية . فقد أراد زياد قتل رجل فهرب منه الرجل ولجأ لمعاوية يستجير به ،فأجاره معاوية وأنقذه من زياد . فكتب زياد لمعاوية محتجا على أن فى ذلك تضييع لهيبة الملك والسلطان ، فكتب له معاوية أنه لا ينبغى أن نسوس الناس بسياسة واحدة ، ولكن تكون أنت للشدة وأكون أنا للرفق ، فيستريح بيننا الناس . أى اختار معاوية أن يخبىء مخالبه وأنيابه فى ولاته ، هم يقومون عنه بالقتل والقمع، وهو الذى يبتسم ويصفح ويحلم ويداوى الجراح . وفى النهاية هو الذى يكسب حب الناس ، ويتحمل الولاة عنه الكراهية بدلا منه .
بتطبيق هذه السياسة (المعوية )( نسبة لمعاوية لا للأمراض المعوية ) على قتل حجر بن عدى نرى معاوية قد استغل واليه المغيرة ليقوم عنه بقتل حجر وارهاب الشيعة ، ولكن المغيرة كان أكثر مكرا من أن يتحمل عن معاوية هذه الجريمة أمام الله تعالى وأمام التاريخ ، خصوصا وهو نهاية العمر. وجاء زياد فوقع فى الجريمة .
نعود للسؤال : لماذا ؟ لماذا يخطط معاوية لقتل حجر بن عدى ؟
السبب هو التوريث .
قتل حجر يقع ضمن مخطط التوريث ، فلا بد من ارهاب الشيعة مقدما لكى يمر توريث معاوية ابنه يزيد الخلافة من بعده .
2 ـ سار معاوية فى خطة مزدوجة ذات خطين متوازيين فى نفس الوقت ، هما التخلص المادى أو المعنوى من أى شخص محتمل أن ينافس ابنه يزيد فى الخلافة ، وإرهاب الشيعة و التخلص من قادتهم تمهيدا للتوريث .
حمل عام 46 هجرية خبر إغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، تقول الرواية : ( وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ، ومالوا إليه ، لما عندهم من آثار أبيه ، ولغنائه في بلاد الروم ، ولشدة بأسه ، فخافه معاوية وخشي على نفسه منه ، وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله ، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يوليه جباية خراج حمص. فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها فمات بحمص ، فوفى له معاوية بما ضمن له. ). عاش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد يحمل شهرة أبيه خالد بن الوليد بطل الفتوحات . ولم يكتف بشهرة أبيه إذ أصبح من أبطال القواد فى الحرب المستمرة بين الروم والأمويين ، وكان يعود من غزواته بازدياد مستمر فى شهرته . وبهذه الشهرة يكون منافسا خطيرا ليزيد فى حالة التوريث . لذا كان لا بد من التخلص منه .
وكان السم أفضل وسائل معاوية فى الاغتيال . بالسم قتل الأشتر النخعى قائد (على ) قبل أن يتولى حكم مصر من قبل على. وبعدها بالسم تم قتل (الحسن بن على ) والذى كان مفروضا أن يلى الخلافة بعد معاوية تنفيذا للاتفاق بينهما فى عام الجماعة . وفى كل حالات الاغتيال يقوم طرف آخر بتلك المهمة القذرة .
3 ـ لم يستعمل معاوية وسيلة القتل ليتخلص من زعماء الأمويين منافسى ابنه يزيد ، والذين هم أحق منه (امويا ) بالحكم بما لهم من سوابق سياسية فى وصول البيت الأموى للحكم من عهد عثمان الى عهد معاوية . الى جانب معاوية كان يوجد إثنان من كبار بنى أمية ، ومن أعمدة ملك معاوية ، وهما سعيد بن العاص ومروان بن الحكم . هما منافسان قويان ليزيد ، و(يزيد ) بالنسبة لهما لا شىء . ومعاوية لا يستطيع التخلص منهما بالقتل لحاجته لهما وللحفاظ على وحدة البيت الأموى . إذن لا بد من طريقة أخرى لتحييدهما مع الابقاء على حياتهما ، وهى زرع العداوة بينهما . كيف يزرع بينهما العداوة وهما ابناء عم وأقرب لبعضهما من قرابتهما لمعاوية ؟.
إعتاد معاوية بذر الشقاق بينهما بأن يعزل أحدهما ويولى الاخر مكانه ، ويأمر أحدهما بالانتقام من الآخر . ففى عام 53: كان عزل سعيد عن المدينة واستعمال مروان مكانه . تقول الرواية ( وفيها عزل معاوية سعيد بن العاص عن المدينة واستعمل مروان.وكان سبب ذلك أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص أن يهدم دار مروان ويقبض أمواله كلها ليجعلها صافيةً ويقبض منه فدك وكان وهبها له ، فراجعه سعيد بن العاص في ذلك فأعاد معاوية الكتاب بذلك ، فلم يفعل سعيد ووضع الكتابين عنده ، فعزله معاوية وولى مروان ، وكتب إليه يأمره بقبض أموال سعيد بن العاص وهدم داره ، فأخذ الفعلة وسار إلى دار سعيد ليهدمها ، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك أتهدم داري ؟ قال: نعم ، كتب إلي أمير المؤمنين ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت. فقال: ما كنت لأفعل. قال: بلى والله. قال: كلا. وقال لغلامه: ايتني بكتاب معاوية ، فجاءه بالكتابين ، فلما رآهما مروان قال: كتب إليك فلم تفعل ولم تعلمني ؟ فقال سعيد: ما كنت لأمن عليك وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا. فقال مروان: أنت والله خير مني. وعاد ولم يهدم دار سعيد وكتب سعيد إلى معاوية: العجب مما صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا! إنه يضغن بعضنا على بعض فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره من الأخبثين وعفوه وإدخاله القطيعة بيننا والشحناء وتوارث الأولاد ذلك فوالله لو لم نكن أولاد أب واحد لما جمعنا الله عليه من نصرة أمير المؤمنين الخليفة المظلوم واجتماع كلمتنا لكان حقًا على أمير المؤمنين أن يرعى ذلك. فكتب إليه معاوية يعتذر من ذلك ويتنصل وأنه عائد إلى أحسن ما يعهده . ).الذى حمل معاوية على هذا السقوط الأخلاقى مع ركنى دولته هو تخطيطه للتوريث . وربما لم يفطن مروان و سعيد بن العاص لما يعده معاوية على مهل .
4 ـ الذى فهم غرض معاوية ولعب به وعليه هو المغيرة بن أبى شعبة .
نحن الآن مع المغيرة قبيل عام 50 تقريبا ، وهو العام الذى توفى فيه ، على أصح الروايات .
ويبدو أن معاوية قد برم بالمغيرة لأنه لم ينجح فى ولايته على الكوفة فى استثارة حجر بن عدى وأصحابه وقتلهم . لذا أراد عزل المغيرة وتولية سعيد بن العاص مكانه . كان المغيرة فى آخر أيامه يريد الاستقرار واليا على الكوفة لا يتركها إلا بالموت . فعلم نية معاوية فى عزله عن الكوفة .قال المغيرة لأصحابه: ( الرأي أن أشخص إلى معاوية فأستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية.). لذا بادر المغيرة بالذهاب الى دمشق ليخدع معاوية بآخر سهم فى جعبته . قال المغيرة لأصحابه حين وصل إليه: (إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبدًا. ).
قبل أن يقابل معاوية ذهب المغيرة رأسا ليزيد بن معاوية ، وقال له: ( إنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنما بقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيًا وأعلمهم بالسنة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة. قال: أوترى ذلك يتم ؟ قال: نعم.) فوجىء يزيد بأن ما يحلم به وما يخطط له أبوه سرا يأتى المغيرة له ويشجعه عليه : (فدخل يزيد على أبيه ، وأخبره بما قال المغيرة ، فأحضر المغيرة وقال له : ما يقول يزيد ؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد منك خلف، فاعقد له ، فإن حدث بك حادثٌ كان كهفًا للناس وخلفًا منك . ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال: ومن لي بهذا ؟ قال: أكفيك أهل الكوفة ويكفيك زيادٌ أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.) المغيرة هنا أدخل نفسه مع معاوية فى التخطيط لتحقيق الحلم ، وبالتالى لم يعد بوسع معاوية التخلى عنه ، لذا : ( قال: فارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى. فودعه ورجع إلى أصحابه.) رجع منتصرا وهم فى انتظاره فى قلق : ( فقالوا: مه ؟ قال: لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمه محمد وفتقت عليهم فتقًا لا يرتق أبدًا ). أى إنه فى سبيل أن يبقى واليا على الكوفة عاما أو أكثر شجع معاوية على اتخاذ خطوة يعلم أنها ستزلزل المسلمين . وكله يهون ..فى سبيل الكرسى الملعون ..!
5 ـ ونعود للمغيرة بعد رجوعه للكوفة ، فقد جهز وفدا من بنى أمية واتباعهم ،وأرسلهم وفدا الى دمشق تحت قيادة ابنه موسى بن المغيرة ليطالبوا معاوية بأن يعهد لابنه بولاية العهد وتوارث الحكم . تقول الرواية : ( وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم أنه شيعة لبني أمية أمر يزيد ، فأجابوا إلى بيعته ، فأوفد منهم عشرة ويقال أكثر من عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة ، وقدموا على معاوية ، فزينوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا بإظهار هذا وكونوا على رأيكم. ) أى أدخلهم معاوية فى مخططه للتوريث ، يتحركون وقت أن يريد . ثم اختلى بموسى بن المغيرة قائد الوفد وسأله : (: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم ؟! .قال: بثلاثين ألفًا. قال: لقد هان عليهم دينهم. .!! ).وهناك روايات أخرى تختلف فى التفاصيل ولكن تتفق فى اساسيات الموضوع وهو دور المغيرة فى تشجيع معاوية على التحرك العلنى نحو تحقيق حلمه بتوارث السلطة فى عقبه .
وفى عام 56 هجرية أعلن معاوية البيعة لابنه يزيد ، وأصبح التوريث ممكنا بعد قتل حجر بن عدى وارهاب الشيعة وشراء زعماء القبائل ومن بقى من الصحابة بالمال.
وبالتوريث نفهم ضرورة مقتل حجر .ولكن حجر لم يكن الضحية الوحيدة لتوريث يزيد بن معاوية . اشتعلت معارك و مذابح من كربلاء الى عين الوردة الى موقعة الحرة الى انتهاك حرمة الكعبة ..ولا زلنا ندفع الثمن..
ختاما :
ليس هذا الموضوع منقطع الصلة بالحاضر ، خصوصا فى مصر فى عهد مبارك ، حيث يعيش المصريون والمهتمون بمصر فى قضية أو محنة التوريث .
نتحدث عن هذا فى حلقة قادمة .