(1 )
جيلنا الآن تعدى الأربعين من العمر، فتح عينيه على ثورة 1952 ، ونشا على حب عبدالناصر ثم تقديسه ، ثم فجعته النكسة وهتف فى جنازة عبدالناصر" سنبكيك الى آخر العمر يا أعظم الرجال " ثم نظر باستخفاف الى أنور السادات وامتعض من ثورة التصليح أو التصحيح ، ثم انخرط مع السادات فى حرب أكتوبر المجيدة ، ثم خرج منها يواجه التضخم والغلاء ويبحث عن شقة فى بولاق الدكرور وعين شمس والمطرية ، ودخل فى حسبة معقدة يوازن بها بين ضآلة المرتب والإحتياجات الضرورية لكى يعيش محترما ..هذا فى الناحية السياسية ، اما فى الناحية الاقتصادية البحتة ، فان جيلنا هوالذى أدرك فـــى بدايته فى الخمسينات عصر النكلة والمليم .. وشهد فى بداية الستينات انقراضهما ، ثم شهد فى عصر الانفتاح انقراض التعريفة (5 مليم) ثم القرش صاغ (10 مليم) وهو الآن يشهد بداية الإنقراض للشلن (50 مليم) وللعشرة قروش(100 مليم) ويخشى اذا تأخر الإصلاح الإقتصادى أن يقيم تأبينا لوداع الجنيه (1000 مليم) !! واذا حدث ذلك ـ لاقدر الله ـ فان جيلنا هذا سيدخل التاريخ لأنه الجيل الوحيد ـ المعروف حتى الآن ـ الذى عايش ارتفاعا للإسعار تبلغ نسبته أكثر من المائة ضعف ولأنه سيكون الجيل الوحيد الذى أدرك انقراض كل العملات المصرية وعجزها عن الوفاء بشراء السلع الضرورية ، وتلك كارثة .
وبعيدا عن نظريات السادة دكاترة الإقتصاد الذين أوصلونا الى كل هذا الحضيض فإن الحل بسيط للغاية لايحتاج الى تلك العبقريات التى أضاعت جيلنا والأجيال الأخرى فى تجارب فاشلة خرجنا منها الى الإفلاس والتسول . لقد ظلت العملة المصرية ثابتة والأسعار مستقرة طيلة العصر الملكى (الفاسد) فى أغلب الأوقات، والسبب ليس عبقرية فى السلطة الحاكمة ولكنه السير التلقائى فى الطريق السليم ، وهو قانون السوق والعرض والطلب وترك الحرية للإنسان لينتج ويفكر ويعمل ، وفى النهاية فان الفلاح لن يلتهم وحده كل المحاصيل التى ينتجها ، وصاحب المصنع لن يرفض بيع انتاجه للجمهور، وإنما يصب الإنتاج كله فى البلد واذا حدث نقص فى سلعة ما وازداد عليها الطلب سارع المنتجون بالإتجاه لإنتاجها فيغمرون بها السوق وينخفض سعرها ، وهكذا يقوم السوق بإصلاح نفسه بنفسه، وما على الحكومة الا أن تقدم الخدمات وتجمع الضرائب ، ذلك ما كان سائدا فى مصر والعالم قبل أن تظهر النحلة الشيوعية ، والتى ما لبثت أن اعتنقتها الثورات فى العالم الثالث ومنها مصر. ولأن " فلسفة الثورة" كانت تغيير كل شىء والتدخل فى كل شىء والتحكم فى كل شىء فقد جاء البلاء ، وزاد فيه أن عمل العسكريون فى الوظائف المدنية ، وكان ذلك من المضحكات المبكيات ، فكيف تنفق الدولة على تعليم الضابط ليكون كفئا فى تخصصه العسكرى الميدانى ثم ينتقل بعدها مديرا لمؤسسة أو وزيرا فى وزارة أومحافظا فى مديرية أو رئيسا لمجلس مدينة ؟ إنه بحكم تكوينه العسكرى لايعرف الا طاعة الأوامر واصدارها، ثم انه ليس لديه الصبر على التعامل مع الجمهور والاستماع إلى المناقشات ، وأسرع طريق لديه للتفاهم مع المواطنين هو الضرب بالشلوت وطوابير التكدير . فى مواجهة هذا العسف العسكرى فى التعامل مع المدنيين فى المصالح الحكومية أصبحت الطريقة المثلى هى وضع الأمور فى يد موظف بيروقراطى يفهم سر المهنة ويكون من أهل الثقة، أى يثق به المدير العسكرى أو الوزير العسكرى المتحكم فى المؤسسة الحكومية ، وذلك الصنف المفضل للعسكريين غالبا مايكون من أهل النفاق الذين يحسنون الإفساد فى الأرض تحت شعار : كله تمام يا أفندم!!
وفى نفس الوقت يقوم عباقرة الإقتصاد الموجه الحكومى باختراع اللوائح والقرارات التى يمكنيمكن بها للموظف المتحكم فى الشركة أن يسرق ويفسد بالطرق الملتوية ، فيقع تحت يد جهات الرقابة ويكون ملف الايقاع به جاهزا عند اللزوم حتى لا يتمرد على أولى نعمته. الإنسان الذى يضع اللوائح هو نفسه الذى يستطيع اختراقها اذا أراد ، وهو الذى يحتمى وراءها اذا أراد تعقيد المصالح وتعطيلها، وطالما هو موظف يتحكم فى مصالح وتصاريح بالملايين فكيف نطالبه بالأمانة ومرتبه بالملاليم ؟ يستطيع تعطيل مصلحة بالآلاف ويستطيع تسهيلها مستخدما نفس اللوائح. ولا ننتظر منه أن يكون ملاكا يعطى الاخرين تسهيلات تدر عليهم أرباحا بالملايين وهو لا يكفيه مرتبه الى آخر الشهر. وبهذا دب الفساد ، وليس السبب مجرد فساد كبار صغار الموظفين و وصغار كبار الموظفين ، ولكنه التدخل الحكومى فى كل شىء عن طريق موظفين لا تكفيهم مرتباتهم الشهرية ، ويقال لهم ، الق بنفسك فى البحر واياك أن تبتل بالماء. .
ولقد كسبنا من تلك اللوائح علوما كاملة فى تقنين الإقتصاد الشمولى ماكان أغنانا عنها لونفضت الحكومة يدها من عمليةالإنتاج وتركته لطموح الأفراد ، لقد إكتشف العالم عقم الشيوعية وتدخل الدولة فىالإقتصاد لتوجهيه ضد مصالح السوق وقوانينه . ورأى العالم كيف إفتقر العالم الشيوعى وعجزعن توفيرالطعام للناس ، ومع أننا نعايش الفقر الا أننا لازلنا نتردد ونتلكأ فى تنفيذ اصلاحات السوق.
سنة 1962 كان مرتب خريج الجامعة 12 جنيها . وكان ثمن سندوتش الطعمية 5 مليمات ، وثمن كيلو اللحم 28 قرشا ، وكان يستطيع الحصول على شقة فى وسط البلد بالقاهرة.
وفى 1972 وصل مرتب خريج الجامعة الى 17 جنيه ، وأصبح ثمن السندوتش 10 مليمات ، ووصل ثمن كيلو اللحم الى 70 قرشا ولكن كان بإمكانه أن يعيش (مستورا) فى شقة يمكنه العثور عليها بسهولة فى حدائق القبة والجيزة . ثم جاء طوفان الغلاء بعد انتصار اكتوبر واكتسح كل شىء ، واليوم ( سنة 1992) مرتب الخريج الجامعى حوالى 70 جنيها وثمن السندوتش 50 قرشا، وكيلو اللحمة أكثر من عشرة جنيهات سيرتفع الىعشرين جنيها بعد إلغاء مشروع تسمين العجول البتلو ، ويستطيع هذا الخريج الجامعى ـ اذا توظف ـ أن يسكن فى شقة فخمة فى وسط البلد بالقاهرة بشرط ان يكون ذلك فى احلام اليقظة فحسب . كل الأمور متاحة أمامه لكى يحلم بمرتب يكفيه وشقه تؤويه وعروس تؤنسه ، إذ أن الدولة ـ مشكورة ـ لم تتدخل بعد بقوانينها وقرارتها لتتحكم فى أحلام اليقظة التى لم يعدأمام الشباب الضائع سواها..وبعض الشباب الضائع تمرد على أحلام اليقظة فلبس عمامة الدين وانطلق يدمر المعبد على من فيه .
ودكاترة الإقتصاد فى قصورهم المترفة لايزالون يخططون ويفكرون ..
دعهم يفكرون ويفكرون .. فالتتار قادمون !!
( 2 )
نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار المصرية فى 6 يوليو1992 . وكان يتحدث عن تدهور مستوى المعيشة فى مصر وقتها بسبب تخبط الاقتصاد الشمولى فى أواخر أيامه فى مصر و تردد الحكومة المصرية فى الأخذ بآليات السوق و الاصلاح الاقتصادى.
كان عبد الناصر فى الخمسينيات قد أمم الاقتصاد المصرى ومصّر الشركات الأجنبية ، وبالتاميم والتمصير تحكمت الحكومة فى كل الموارد الاقتصادية ، وفى لقمة عيش المواطن. والتزمت الدولة بالتعليم والتوظيف والسكن للشباب . التزمت بالخدمات فى مقابل مصادرة الحرية. وقالوها صراحة : الخبز قبل الحرية. جاء السادات بالانفتاح كسياسة فوقية علوية مطلوب منها أن تتعامل مع نفس القوانين والقواعد والتعليمات التى لا زالت منذ عهد عبد الناصر. وبينما كان من الواجب تغيير البنية التشريعية فى ضوء توضيح كامل ومحدد لدور الدولة فى التدخل الاقتصادى ، وأنه للتسهيل وليس التعقيد ، فان القوانين الجديدة التى صدرت فى عصر الانفتاح الساداتى كان مقصودا بها ارضاء ذوى النفوذ مع بقاء القوانين القديمة كما هى. فى وسط هذه الغابة التشريعية التى يناقض بعضها بعضا أصبح من الممكن رفض أى مشروع ومن الممكن الترحيب به. وبينهما تقع دروب الفساد بالرشوة والعمولة و توثيق المصالح والروابط بين من يملك السلطة ومن يملك الثروة، حتى أصبحا فى عهد السادات مبارك وجهين لعملة واحدة ، ثم اصبحا فى عهد مبارك وجها واحدا لعملة واحدة.
وضع السادات أسس الفساد الاقتصادى ورحل وجاء مبارك ليجد الأرض ممهدة لجعل الفساد منهج حياة.. وتحولت البلاد الى رآسمالية من نوع جديد ، تقوم على النهب من البنوك و من مدخرات المصريين وأصحاب المعاشات ، وواكب ذلك بيع القطاع العام ـ اى الثروة المصرية ـ ومن الطبيعى أن يخضع لنفس المعيار ليتحول بيع القطاع العام الى نهب القطاع العام.
والمحصلة النهائية لهذه المرحلة المعاصرة من حكم العسكر بعد أكثر من خمسين عاما تتلخص اقتصاديا فى الاتى:
1 ـ الثروة المصرية العينية استولى عليها العسكر بالتأميم وادارها بمنطق التحكم العسكرى فخسرت و أصبحت عبئا على الدولة و ليست مصدر انتاج للدولة. ثم قام العسكر ببيع أصولها وما تبقى منها فكان البيع نهبا للأصول والفروع. أى أن العسكر نهبوا الثروة المصرية خلال نصف قرن من الزمان.
2 ـ الثروة البشرية المصرية ـ وهى أعز ما تملكه مصر ـ تضاعف عددها . والتعليم هو تصنيع حقيقى للانسان به يتحول من جاهل متخلف الى عالم عبقرى. التعليم فى عصر عبد الناصر سار على سياسة المستشار الانجليزى ( دنلوب ) فى أوائل القرن العشرين وقت الاحتلال البريطانى ، وهو الحفظ والحشو والتلقين لتخريج موظفين لتنفيذ الأوامر وخدمة الحاكم سواء كان انجليزيا مستعمرا أو مصريا عسكريا. ثم تحول التعليم الآن الى تخريج الجهل ممثلا فى شهادات جامعية لا يحسن صاحبها القراءة والكتابة ، خصوصا بعد أن فقد التعليم ميزته السابقة فلم يعد مؤهلا للتوظيف. وأصبح من المفجع وجود أغلبية من الشباب بين السكان تزيد على العشرين مليونا من القوى العاملة ، لو كانوا فى دولة عصرية لأحالوها الى جنة رخاء ، ولكن هذا الشباب ساخط وضائع وحائر بين البطالة والمخدرات والتطرف . كل ذلك لكى يسعد ويتنعم حوالى عشرة آلاف شاب من أبناء المسئولين المترفين.
3 ـ فى عصر عبد الناصر صودرت الحرية مقابل الخدمات التى تكفلت بها الدولة من تعليم ومستشفيات و توظيف ومواصلات واسكان و بطاقة تموينية ودعم وتحكم فى الاسعار . فى عصر مبارك ازداد التعذيب وازداد الفساد فاصبح بالمليارات وضاعت الخدمات ووصلت الأسعار الى ما يفوق خيال الجائعين .. اى لا حرية ولا خدمات. ويكفى النظام الحاكم أنه يتكفل فقط بايواء وإطعام عشرات الألوف من المصريين فى أماكن أمينة.. فى السجون والمعتقلات!!
4 ـ فى عصر عبد الناصر كانت سلخانة التعذيب قائمة تمارس عملها بأمانة ، ولكن كان هناك أمل فى المستقبل وعاش معظم المصريين فى عزة وكان اسم مصر عاليا يساوى مكانتها ، وكان كل مصرى يحس بالأمن الاقتصادى ، أمامه التعليم المجانى الذى يستطيع من خلاله الوصول لأعلى المناصب وأن يصبح من الطبقة المتوسطة أو العليا وفق تكافؤ الفرص فى التعايم والتوظيف حيث كانت هناك عدالة حقيقية فى دخول الجامعة طبقا لكتب التنسيق و فى التوظيف حسب الكفاءة.
كل ذلك ضاع فى عصر مبارك ، فلا تعليم ،ولا توظيف ولاعدل ولا أمل..
5 ـ الفارق بين شخصيتى عبد الناصر ومبارك انعكس على عهديهما. فالعادة أن المستبد يضع ملامحه الشخصية على عهده وعصره. كان عبد الناصر مستبدا عنيدا وزعيما ذا شخصية كارزمية نافذة على المستوى الاقليمى والعالمى ، و ومع جبروته إلا انه كان مهتما بمصالح الفقراء عادلا بشأنهم . أما مبارك فهو مستبد عنيد وزعيم ذو شخصية كارزمية بين أفراد عائلته والمقربين من وزرائه وخدمه. ومع جبروته إلا إنه كان ولا يزال عادلا بين ابنيه فأعطى لأحدهما الثروة وللآخر السلطة.
6 ـ لا يمكن لأى اصلاح أن يقوم مع الديكتاتورية والاستبداد. ولا يوجد فى الدنيا من يسمى بالمستبد العادل. لأنه بمجرد أن يستبد بالأمر فقد أفسد فى الأرض وأضاع العدل. ومهما كان المستبد حريصا على العدل و مراعاة حال الفقراء فانه لن ينجح مطلقا مهما فعل طالما ظل مستبدا بالأمر. الفساد هو قرين الاستبداد. وفى النهاية يدفع الشعب الثمن وهو يهتف للمستبد !!
عند كتابة المقال سنة 1992كانت كل الأمور وقتها متاحة للشباب ـ فى أحلام اليقظة فقط ـ فى العثور على عمل بمرتب يكفى وشقة مناسبة وعروس صالحة للاستهلاك الآدمى..
الآن فى 2006 وبعد التحول الرأسمالى وبيع أو ( سرقة ) القطاع العام ـ أصبحت أحلام اليقظة مستحيلة..
بعد مصادرة الأحلام وبيع ما تبقى من مصر .. ماذا سيحدث بعد أربعة عشر عاما أخرى ، أى فى 2020 ؟
الاجابة سيعيشها الجيل القادم.. كان الله تعالى فى عونه