أحداث سنة 73
أخبرنا ابن ناصر الحافظ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو العباس الكديمي قال: أخبرنا السلمي عن محمد بن نافع مولاهم عن أبي ريحانة أحد حجاب عبد الملك بن مروان قال:
كان عبد الملك ( يعنى الخليفة عبد الملك بن مروان ـ وهو الذى أعاد إقامة الدولة الموية وأكّد سلطانها ) يجلس في كل أسبوع يومين جلوسًا عامًا ( أى للنظر فى شكاوى الناس ) فبينا هو جالس في مستشرف له ( يعنى بلكونة ) وقد أدخلت عليه القصص ( أى الشكاوى ) إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة ( يعنى شكوى لم يكتب صاحبها اسمه فيها )فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يأمرجاريته تغنينى ثلاثة أصوات ( يعنى ثلاثة ألحان ) ثم ينفذ فىّ ما يشاء من حكمه, فاستشاط ( عبد الملك ) من ذلك غضبًا وقال: يا رباح ( صاحب الشرطة ) عليّ بصاحب هذه القصة. فخرج الناس جميعًا وأدخل عليه غلام كما أعذر ( يعنى حديث العمر ـ مراهق ) كأهنأ الصبيان وأحسنهم ، فقال له عبد الملك: يا غلام هذه قصتك ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين . قال: وما الذي غرك مني ؟ ( أى جعلك جريئا على سلطانى ) والله لأمثلن بك ( أى لأجعلنك أمثولة يرتدع بها الاخرون ) ولأردعن بك نظرائك من أهل الجسارة، عليّ بالجارية. فجيء بجارية كأنها فلقة قمر وبيدها عود. فطرح ( أى وضعوا ) لها كرسي وجلست، فقال عبد الملك: مرها يا غلام ، فقال: غني لي يا جارية بشعر قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام أو دنا ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعًا قبل أن يظهر الهوى بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا بطون الهوى مقلوبة بظهور
فغنته وأجادت ، فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقًا ( أآ قام بتقطيع ثيابه من شدة النشوة ) ، ثم قال له عبد الملك: مرها تغنيك الصوت الثاني ، فقال: غني بشعر جميل ( وهو جميل بن معمر بن الحارث بن ظبيان ، الذى اشتهر بحب بثينة ، وقد كان شاعرا وهب شعره فى حب بثينة ، ومات سنة 65 ):
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي القرى إني إذًا لسعيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به مع الناس قالت ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبًا ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى منى إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية وسقط مغشيًا عليه ساعة ثم أفاق ، فقال له عبد الملك: مرها فلتغنك الصوت الثالث.
فقال: يا جارية غني بشعر قيس بن الملوح:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجزة غزال غضيض المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذب نأى ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية فطرح ( أى ألقى ) الغلام نفسه من المستشرف فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع.
فقال عبد الملك: ويحه لقد عجل على نفسه ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل. وأمر فأخرجت الجارية من قصره . ثم سأل عن الغلام فقالوا: غريب لا يعرف إلا أنه منذ ثلاث ينادي في السوق ويده على رأسه:
غدًا يكثر الباكون منا ومنكم وتزداد داري من دياركم بعدا
التعليق
هذه القصة الرائعة فى رومانسيتها لا أعتقد فى حدوثها تاريخيا. لقد كان ابن الجوزى من كبار الوعاظ ومن كبار القصّاصين الذين يخترعون الحكايات. ومفردات هذه القصة من الطرب المجنون أو (الوجد ) والموت عند سماع الأغانى و تقطيع الثياب عند الغناء لم يكن معروفا فى العصر الأموى ، ولكنه انتشر فى القصص اللاحقة فى كتب الصوفية وخصوصا احياء علوم الدين للغزالى. وأصبح تقطيع الثياب بحجة الطرب الشديد ـ أى الوجد الصوفى ـ عادة فى أواخر العصر العباسى منذ حياة ابن الجوزى فى القرن السادس الهجرى الى أن استشرت فى العصر المملوكى فى القرن السابع وما بعده. ابن الجوزى فى كتابه ( تلبيس ابليس ) عاب على الصوفية فى عهده اختراعهم لتقطيع الثياب عند سماعهم للأغانى, أى لم يكن ذلك معروفا من قبل.
المهم أنه اخترع اسنادا لهذه الحكاية الخيالية ، أى قال : حدثنى فلان عن فلان عن فلان.. وأتى بهذه القصة الخيالية التى لم يذكرها المؤرخون السابقون لابن الجوزى. لم يذكرها ابن سعد فى الطبقات الكبرى ولا الطبرى مما يدل على أنه اخترعها ونسبها كذبا لرواة موتى ماتوا دون ان يعرفوا ما اسنده اليهم ابن الجوزى فيما بعد . وكما كان ابن الجوزى يكذب فى الأحاديث فهو يكذب فى التاريخ. وكله عند العرب صابون!!