أتذكر هنا أنه حين ألقي القبض علينا واعتقالنا بالتهمة الكوميدية "انكار السُنّة" سنة 1987 كانت الصحافة الرسمية والحزبية تنهش أعراضنا وتفترى الأكاذيب علينا، وتنقل فتاوى الشيوخ الأنذال بتكفيرنا واستباحة دمائنا حتى كنا نخشى الخروج من السجن نفسه خوفا من الاغتيال. كنت فى التحقيق أمام نيابة أمن الدولة العليا أؤكد لهم من الذاكرة وبالآيات القرآنية التناقض بين القرآن والتشريع السلفى ومنه أن حد الردة لا وجود له فى الاسلام. وتنقل صحيفة "اللواء الاسلامى" فقرات التحقيق معى وتذيعه على الملأ وعليه تعليقات الشيوخ الأنذال بتكفيرى، وسخريتهم من انكارى حد الردة قائلين ان منكر السنة يقول ذلك خوفا من تطبيقه عليه. كانت القضية رسميا تحت عنوان يقول" قضية القرآنيين " فحولتها الحملات الصحفية وهجوم الشيوخ الأنذال الى مصطلح جديد هو "منكر السنة". من بين الفرسان القلائل الذين دافعوا عنى دون معرفة مسبقة بى كان الدكتور فرج فودة يرحمه الله تعالى في مقال رائع له في جريدة "الأهالي" بعنوان: "أحمدك يارب" سخر فيه من أجهزة الدولة التى قبضت على كاتب كل جريمته أنه يستشهد فى أبحاثه بالقرآن ويكرر ما قاله أبوحنيفة فى عدم الاعتداد بالأحاديث.
بعد الافراج عنى وعن اخوتى القرآنيين، توثقت الصلة بينى وبين فرج فودة. وفى سنة 1992 اتفقنا على اشهار حزب جديد باسم "حزب المستقبل" يقف ضد تيار التطرف الدموى الذى كان يستبيح دماء الأقباط وأموالهم في موجة عنف لم تعرفها مصر حتى في العصور الوسطى عصور التعصب . ونشرت الصحف البيان التمهيدي الرسمي عن الحزب ومؤسسيه وكان اسم فرج فودة رقم 2 بينما كان اسمى رقم 6. وفورا اصدرت ندوة علماء الأزهر والتي تمثل التطرف السلفى الوهابى بزعامة عبد الغفار عزيز بيانا دمويا في تكفير فرج فودة وتكفيرى والتحذير مسبقا من صدور الموافقة الرسمية على الحزب الجديد. نشرت جريدة " النور " التى كان يمتلكها الحمزة دعبس هذا البيان بفتواه الدموية في يوم الاربعاء الأول من يونية 1992 ورأيته على مكتب فرج فودة صبيحة ذلك اليوم . قال : لا بُدَّ أن أردَّ عليهم . قلت له "لا تفعل. انهم لا يستحقون" .
كان مقررا أن يسافر فودة الى فرنسا بعد عيد الأضحى مباشرة ليعود بعد اسبوعين ليستأنف اجراءات اقامة الحزب حيث كان قد حصل على موافقة على تأسيسه كما كان مقررا أن اسافر الى بلدتي لأقضي عيد الأضحى مع اهلي .ثم نلتقى معا لمباشرة اعلان الحزب . يوم الاثنين التالي اغتالوا فرج فودة اثناء خروجه من مكتبه واصابوا ولده الصغير بجراح خطيرة وطالت الجراح صديقا آخر لفرج كان معه.
كتبت في عمودى في جريدة "الأحرار" متسائلا من قتل فرج فودة؟ وقلت ان القاتل الحقيقى هم أولئك الذين أفتوا بقتله وبعد موته توضأوا بدمه وهم يتحدثون عن سماحة الاسلام. قلت ان القاتل الحقيقى هو الذى يفتى بالقتل ولا بُدَّ ان يمثل في قفص الاتهام باعتباره شريكا ومحرضا على الجريمة . ونشرت الجماعة الاسلامية بيانا لها في اذاعة لندن تقر فيه بمسئوليتها عن قتل فرج فودة ، وانها قتلته تطبيقا لفتوى العلماء.
وقف الشيخ محمد الغزالي يدافع عن القتلة في المحكمة التي حولها الطاغوت السلفي الى محاكمة للقتيل وليس القاتل. قال الغزالي ان القتلة افتأتوا فقط على السلطة حين بادروا بقتل فرج فودة وهو مستحق للقتل باعتباره مرتداً.
قبل ذلك كانت العلاقة بينى وبين الغزالي تدخل طور الاستحسان .كان يهاجمنى فى جلساته الخاصة التى يحضرها اصدقاء لى ، وقالوا لى انه نشر مقالا عرض فيه بى تحت لقب " أغلمة العلم " ـ اغلمة جمع غلام ـ ولكن جهد الأصدقاء المشتركين جعله يقرأ بعض كتبى وبعض مقالاتى التى كانت تنشر فى بعض الصحف المصرية الرسمية والحزبية، وتغيرت نظرته لى وكما قيل كان يأمل خيرا فى مستقبل الأزهر اذا تم تجاوزالمشاكل بينى وبينهم وعدت الى الأزهر لأعيد حركة الاجتهاد التى بدأها الامام محمد عبده. وكان على نفس الرأى الشيخ عبدالله المشد رئيس لجنة الفتوى فى الأزهر وآخرين من الشيوخ غير الأنذال. بدأ الغزالى بنفسه توطيد هذه العلاقة من طرف واحد حين نقل كثيراً من آرائى في كتابه المشهور عن (السُنَّة بين أهل الفقه وأهل الحديث) ليمهد لقبول آرائى فى المجتمع الأزهرى والفقهى. ورددت عليه التحية بأحسن منها حين راجعت له رسالة دكتوراه عن "علم الحديث في القرن السادس الهجري" كتبها باحث في كلية دار العلوم ، وكان الغزالي احد أعضاء لجنة المناقشة.وقد ارتعب من حجم الرسالة وعنوانها فارسلها لى ـ عن طريق صديق مشترك لا يزال حيا يرزق ـ لأتفحصها عنه ولأسجل ملاحظاتى عليها. وكتبت له تقريرا كاملا عنها منهجيا وموضوعيا، وبهذا التقرير كان الشيخ الغزالى فى أثناء مناقشة الرسالة هو الفارس من بين أعضاء اللجنة يصول ويجول على الباحث المسكين . وليرد على التحية بأحسن منها نشر الغزالي كتابه " تراثنا الفكرى " يشيد بى وينقل عنى مقالا قديما اقحمه في السياق. كما اقحم في الكتاب فتوى عن انكار السنة صيغت خصيصا من الشيخ المشد رئيس لجنة الفتوى في الأزهر للدفاع عنى، وكان لا بد من نشرها وتوثيقها علنا فقام الغزالي بوضعها في كتابه. وانتظر أن أرد تحيته فاذا بشهادته المسمومة ضد فرج فودة تطيح بكل جهود الشيوخ الشرفاء في التقريب بيننا.
هاجمت الغزالي بقسوة في مقالات متتابعة في جريدة "الأهالى " كان منها : "الغزالي ينهزم أمام فرج فودة بعد موته"، " الغزالي يرد على الغزالي "،وفى هذا المقال نشرت ماكتبه الغزالى نفسه فى تأكيد حرية العقيدة فى الاسلام وبأن مايعارض ذلك ليس الا أكاذيب، وهذا ماتناثر فى كتابه "السنة بين اهل الفقه والحديث" والذى تاثر فيه بكتاباتى واتهموه من اجله بانكار السنة، وكتبت أيضامقالا آخر اهاجمه وغيره من الشيوخ وأحلل موقفهم من فرج فودة تحت عنوان: " لأنه كفر بهم ". ومقالات أخرى أحدثت أثرا طيبا جعل صديقى الدكتور محمد أبو الاسعاد ـ رحمه الله تعالى ـ يطلب منى ان اكتب بحثا خاصا يوضح حقيقة حد الردة ومنشأه وعلاقته بالاسلام ، ويتعهد بنشره على نفقته.
كنت قد كتبت بحث "حرية الرأي بين الإسلام والمسلمين "؛ للملتقي الفكري الثالث للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان في أوائل مايو 1992 ونشرته مجلة القاهرة . ثم صدر كتاب حد الردة سنة 1993 ، ثم نشرته بعد عامين مجلة القاهرة في العدد 152سنة 1995. واحدث كتاب حد الردة صدى هائلا خصوصا بعد نشر جريدة الأحرار فصوله فى أعداد متتالية، وتتابعت عليه التعقيبات والاستشهادات، وتشجع آخرون يهاجمون حد الردة فى مقالات اوفى كتب ، فاصدر جمال البنا كتابه ( كلا ثم كلا لفقهاء التقليد ) يؤكد ما قلته من ان حد الردة صناعة فقهية تتناقض مع الإسلام وكان ذلك بعد عام من صدور كتابي حد الردة. وعلي الجانب الآخر لم يستطع فقهاء التطرف مواجهة كتابي حد الردة؛ فكتب د . محمد سليم العوا يقول إن عقوبة الردة مجرد تعزير من حق الحاكم وليست حدا مشروعا له حكم الحدود ؛ وأجهد نفسه في كتابه ( أصول النظام الجنائي الإسلامي : 151 : 170 ) كي يثبت ان عقوبة الردة مجرد تعزير ؛ وهو يعلم ان عقوبة التعزير في الفقه اقل من أربعين جلدة. فكيف يستقيم هذا مع عقوبة قتل المرتد ؟ ثم كيف يكون لولي الأمر ان يحكم بغير ما انزل الله خصوصا فيما يخص الدماء وحق الحياة . ومعروف ان التيار المتطرف يهاجم الحكومة بحجة أنها تحكم بغير ما أنزل الله . و ثارت معركة تجديد الفكر عندما لم يقتنع فقهاء التطرف بالردود التي حاولت ان تقف أمام كتابي حد الردة، وواكب هذا قضية نصر أبو زيد، وقد نشرت عدة مقالات ادافع عنه في الأهالي وروزاليوسف ثم صدر كتابي ( الحسبة بين القرآن والتراث) الذي صدر في طبعتين سنة 1995 (المحروسة) (النداء الجديد ) ونشرته مجلة القاهرة في العدد 158 في العدد1996 .
و أسفر هذا الجهد مع جهد جمال البنا عن قيام حركة استنارة متواضعة داخل الأزهر وخارجه تنادى بتجديد الفقه وتنقية الأحاديث وتمتعض من شفاعة البشر وعصمة النبي خارج الوحي ؛ وتواجه هذه الحركة المستنيرة ( جبهة علماء الأزهر) المتشددة . واضطر كبارالشيوخ فى الأزهر فى النهاية لمواكبة الركب ـ متأخرين كالعادة ـ فتحدثوا على استحياء عن حرية الفكر فى الاسلام دون الاشارة الى حد الردة، ثم اضطرتهم اسئلة الصحفيين الى الاشارة الضمنية لعدم الاعتداد بحد الردة، واخيرا جاءت الفتوى من مجمع البحوث عام 2002 تنفى حد الردة وقتل المرتد اكتفاءا باستتابته ...
فما قولكم - دام فضلكم - اذا رفض التوبة؟ هل ستستمر استتابته الى يوم القيامة؟ وهل سيتفرغ لهذه المهمة الجليلة فحول المشايخ العظام وكبار الفقهاء الأبرار؟ وماذا ستكون الأسئلة سوى سؤال وحيد يرفض الاجابة عنه مقدما؟
هل حينئذ ستتحول اجراءات محاكمته الى اوبريت غنائى فىعرض مستمرلا ينتهى .. يقول له الشيوخ "توب" فيرد عليهم باغنية عبد الحليم حافظ "وانا كل ما اقول التوبة ياعينى ترمينى المقادير يابوى" يقول له الشيوخ " توب "فيرد عليهم باغنية اخرى"توبة ان كنت أحبك تانى توبة بس قابلنى مرة وتبقى آخر نوبة وبعدها توبة’" يقول له الشيوخ فى استرحام " ياابنى حرام عليك عايزين نروح ناكل ، توب بقى وخلصنا " فيغنى لهم أغنية عايدة الشاعر:"راح أتوب ازاى ياعينى راح اتوب "..
ليست هذه نكتة ، انها الاجابة الوحيدة للنكتة الحقيقية التى جعلها الشيوخ فتوى تقول ان المرتد يجب استتابته فقط. انها نكتة مأساوية تذكرنا بقول المتنبى فى كافور الاخشيدى
ومثلك يوتى من بلاد بعيدة ليضحك ربات الحداد البواكيا
المتنبى هو القائل أيضا :
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
وبعد .. فقد تم نشر الترجمة الأنجليزية لهذا الكتاب على الانترنت منذ شهور، وهذه هى المرة الأولى التى تظهر فيها طبعته العربية على الانترنت متاحة للجميع .
نسأل الله تعالى الهداية والجنة.
احمد صبحى منصور. يناير 2005
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "حد الردة"
* هناك فرق بين دين الإسلام وتدين المسلمين.
* الإسلام هو إخلاص الإيمان والطاعة لله تعالى وحده، والسلام مع الناس، وبهذا المعنى جاء الإسلام بكل اللغات التى تحدث بها الأنبياء السابقون قبل محمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، ثم نزل باللغة العربية فى القرآن الكريم خاتم الرسالات السماوية, هذا هو ما يخص دين الله تعالى.
* أما ما يخص التدين، أو موقف الناس من دين الله تعالى، فهو أمر آخر، فالتدين صناعة بشرية تحمل ملامح البشر وضعفهم وطموحهم وغرائزهم وفضائلهم وسيئاتهم وحسناتهم. ولكن العامل الأساسى فى التدين- حسبما يظهر فى التاريخ الدينى، هو السياسة، ومؤسساتها الدينية التى تقوم بإخضاع التدين لرغبات الحاكم، أو المؤسسات الدينية البديلة الطامعة فى الحكم التى تسوغ الخروج على الحاكم.. ومن هنا يعج التراث بالتناقضات التى تعبر عن الحاكم والمحكوم، والثائر والحاكم الطاغى، أو كما قال تعالى عن التراث الدينى المخالف للقرآن الكريم والذى يجد فيه المعرضون عن القرآن ما يتخيرون من الأحكام المتناقضة ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيّرُونَ﴾ (القلم 37، 38) وهذه هى المشكلة فى التناقض بين الدين والتدين.
* الدين هو الحق الإلهى، والتدين هو التراث الدينى الذى كتبه البشر وفيه حسناتهم وسيئاتهم.
وقبل نزول القرآن طغى التدين على الدين، إذ أوكل تعالى للبشر حفظ الدين، فكان أن حرفوا الرسالات السماوية فيما استحفظهم الله تعالى عليه، ثم أنزل الله تعالى القرآن محفوظاً بقدرته جل وعلا يقول تعالى: ﴿إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر 9) ﴿وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت41، 42) ولذلك كان القرآن حكماً ومهيمناً على الكتب السماوية السابقة التى قام تدين أصحابها بالتحريف فيها، يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (المائدة 48). وتلك هى وظيفة القرآن وخاتم النبيين بالنسبة لأهل الكتاب، وذلك معنى قوله تعالى له: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ. بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل 43، 44)، وتكرر ذلك فى قوله تعالى فى نفس السورة: ﴿تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل 63، 64). أى كانت وظيفة القرآن هى إصلاح ما أحدثه أهل الكتب السماوية السابقة من تحريفات أدت إلى مشاكل.
* وبعد أن تم القرآن الكريم نزولاً مات النبى عليه الصلاة والسلام، ونفذ المسلمون أوامره بالاكتفاء بالقرآن وحده، وعدم كتابة وتدوين غير القرآن، مع كتابة القرآن بالرسم المعجز الموحى به إليه، ولذلك أحرق عثمان فى خلافته المصاحف التى كتبت بخلاف ذلك الرسم القرآنى الرسولى، فسمى ذلك الرسم بالرسم العثمانى نظراً للجدل الذى صاحب ذلك وقته، وهو نفس الرسم والشكل الذى تختلف به كتابة المصحف حتى فى عصرنا عن الكتابة العربية الأخرى، وتلك إحدى وجوه الإعجاز الإلهى فى حفظ القرآن إلى أن تقوم الساعة.
* ولكن دخل المسلمون فى السياسة ودروبها ومشاكلها وأزماتها وحروبها وضغائنها وانقساماتها منذ بيعة السقيفة إلى الملك الوراثى الأموى العضوض إلى إسالة الدماء أنهاراً فى صراعات سياسية بدأت من اغتيال عمر وعثمان وعلى ولم تنته بكربلاء وموقعة الحرة والنهروان ودير الجماجم.. ولن تنتهى بأيلول الأسود ومذابح العسكر والأصوليين فى الجزائر.
* لماذا لم تنته؟ ولماذا لن تنتهى؟
لأن الجريمة إذا تحصنت بتسويغ شرعى فقد تحولت إلى شرف وفريضة دينية. ومن هنا فإن قتل المسلم المخالف فى المذهب الدينة أو السياسى هو فى تشريع القرآن جريمة. إلا أنه يتحول إلى واجب دينى فى شريعة التدين.. وهذا هو التناقض بين القرآن والتراث، أو بين الدين السامى وتدين المسلمين، أو بين الإسلام والمسلمين.
إن المسلمين حين جرفتهم السياسة باعدت بينهم وبين القرآن، وبدلاً من الاحتكام إلى القرآن والرجوع إليه فعلوا العكس، وهو صناعة تشريع بشرى يقوم على عمودين، الأول هو إلغاء الأحكام القرآنية التى لا تتفق مع أهوائهم، والثانى، هو اختراع أحاديث تسوغ لهم ما يشاءون من تشريعات تخالف القرآن، مثل حد الردة وحد الرجم، وتوسعوا فى تلك الأحاديث لتلبى الطلب عليها فى الأهواء العقيدية الخرافية المخالفة للقرآن لدى الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم، ولتلبى الخلافات الأصولية بين السنة والشيعة وباقى الطوائف والفرق الإسلامية، والخلافات المذهبية فى داخل الفقه الشيعة والفقه السنى.. وبذلك أصبح الحديث وأقاويل المسلمين عن القرآن أو ما يعرف بالتفسير هو الديوان الحى الذى يجسد الواقع العملى لتدين المسلمين فى كل عصر.. هذا من ناحية الاتساع والنظرة الأفقية وأما من الناحية الرأسية فقد حرصوا على نسبة الآراء إلى النبى عليه الصلاة والسلام وكبار الصحابة لدى أهل السنة، أو لدى النبى و"على" وبنيه لدى الشيعة، أو إلى من جعلوهم أولياء مقدسين يتمتعون بالعلم اللدنى المأخوذ من الله تعالى رأساً، عند الصوفية.
* ومن هنا.. أصبح ذلك التراث المخالف للقرآن مقدساً كالقرآن، أو على الأصح بدرجة تزيد على القرآن، لأنه إذا تعارضت آيات قرآنية مع إحدى مقولات التدين فإن الانتصار يكون لأحاديث التراث ومقولاته.. والدليل على ذلك ما ستقرأه عزيزى القارئ فى هذه الكتاب الذى يبرئ الإسلام من حد الردة . وطالما تتمتع هذه المقولات بأحاديث منسوبة للنبى، وطالما توفر غطاءً تشريعياً للجرائم والطموحات السياسية للمنتفعين بها.. فإن دماء المسلمين ستظل تسيل أنهاراً لأن استحلال الدماء والأموال الإسلامية يؤكده تدين المسلمين عن طريق فتاوى وأحاديث وأقاويل تحظى بالتقديس.
* وبهذا نعرف أساس الأزمة.. وتعرف أيضاً أساس الحل.. أساس الأزمة هو المرويات التى تنسب للنبى ما يخالف القرآن الكريم وأساس الحل هو الاحتكام للقرآن الكريم.
﴿أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الّذِيَ أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصّلاً﴾ (الأنعام 114).
وصدق الله العظيم
د/ أحمد صبحى منصور
1420 هـ- 1999 م
==========================================
مقدمة الطبعة الأولى لكتاب "حد الردة"
لابد أن نبدأ بوضع النقاط فوق الحروف كى ننصف الإسلام العظيم من بعض المسلمين.
والبداية أن نجعل فارقاً بين الإسلام والمسلمين.
فالإسلام دين الله العظيم الذى يأمر بالعدل والإحسان ويحث على السمو الأخلاقى، والقرآن هو الوثيقة الحقيقية الوحيدة لذلك الدين الإلهى والسنة الحقيقية للرسول هى التطبيق العملى والحرفى للقرآن الكريم، وقد كان النبى "خلقه القرآن" أو كان كما وصفه رب العزة على "خلق عظيم" وذلك الخلق مستمد من "القرآن العظيم".
ومن الطبيعى أن هناك فجوة بين تشريعات القرآن العظيم وذلك التطبيق العملى للسنة النبوية وبين سلوكيات وتشريعات بعض المسلمين خلال المراحل التاريخية التالية لعصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة..
ومع الأسف فإن عصر النبوة والخلافة الراشدة لم يشهد سوى تدوين القرآن الكريم وتطبيقه سلوكياً، أما العصور التى شهدت الملك العضوض والحكم الاستبدادى الأموى والعباسى فقد شهدت التدوين لتراث المسلمين وشهدت أيضاً المحاولات السياسية لصبغ ذلك التراث بالصبغة الدينية وعلاج تلك الفجوة بين تشريعات القرآن وبين سلوكيات الخلفاء والفقهاء. وتركز ذلك العلاج باصطناع أحاديث منسوبة للنبى تخالف تشريع القرآن وتخالف أيضاً ما كان عليه سلوك النبى..
وفى عصور الفتن التى شهدت التدوين- تمت ولادة حد الردة تعبيراً عن ظروف سياسة استلزمت سفك الدماء، ولأن شرع القرآن لا يجيز قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، لأنه لا يوجد مبرر فى القرآن لقتل النفس خارج الحق القرآنى وهو القصاص فى القتل، فإن فقهاء الدم ابتدعوا حد الردة ووضعوا له حديثين تستطيع بهما الخلافة الاستبدادية مطاردة خصومها السياسيين بغطاء شرعى مزيف.
والتيار الدينى السياسى المعاصر ينهمك فى المطالبة بتطبيق الشريعة وليس لديه وقت وليست له الدوافع أيضاً لكى يتساءل عن ماهية الشريعة المراد تطبيقها، هل هى شريعة القرآن أم شريعة الفقهاء فى العصر العباسى. والتيار الدينى السياسى المعاصر يستريح أكثر لشريعة الفقهاء العباسيين لأنها تعطيه السلاح البتار فى مواجهة خصومه السياسيين ونقصد به حد الردة، لذلك يكون سهلاً على رموز التيار الدينى السياسى أن يرفعوا سلاح التكفير وسلاح الردة لإرهاب خصومهم السياسيين، فإذا طالبوهم ببرنامج سياسى عملى لترجمة شعار (الإسلام هو الحل) ومبدأ (الحاكمية الإلهية) فإن التيار الدينى يرد عليهم بالتكفير ويرهبهم بحد الردة..
وإذا طالبوا التيار الدينى بالاتفاق على اجتهادات فقهية مستنيرة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تضع شعار (تطبيق الشريعة) موضع التنفيذ فإن التيار الدينى يتهمهم بمعارضة تطبيق الشريعة ويتهمهم بالكفر ويخيفهم بحد الردة..
وقد دفع المفكر المصرى الدكتور فرج فودة حياته ثمنا لأنه تشجع وتحدى التيار الدينى السياسى فى مؤلفاته ومناظراته وطالبهم ببرنامج سياسى محدد مفصل ، ثم طالبهم فى آخر مناظرة بالإسكندرية قبيل اغتياله بالاجتهاد فى الإتيان بقوانين عصرية مستمدة من الشريعة الإسلامية.. وكان ردهم عليه الاغتيال..
وهم بذلك يقدمون برنامجهم الحقيقى فى التعامل مع خصومهم فى الفكر وفى السياسة.
وقد نجحوا فى تحويل محاكمة المتهمين بقتل فرج فودة إلى محاكمة فرج فودة نفسه وإلى مناسبة لإرهاب خصومهم العلمانيين، فطلب الدفاع عن المتهمين شهادة رموز التيار الدينى السياسى، وقد أفتى كبيرهم أن من يعارض تطبيق الشريعة مرتد مستحق للقتل وأن من يقوم بقتله من الأفراد يعتبر مفتئتاً فقط على السلطة وليست عليه عقوبة ان قتل المرتد..!!
وانتقلت تلك الفتوى الدامية إلى الرأى العام عبر أجهزة الإعلام، وهللت لها صحف التيار الدينى السياسى، وهلل لها أعوانهم فى الصحف القومية، وثار جدل سياسى وفكرى حول حد الردة ما بين مؤيد ومعارض، وتكشف للرأى العام من خلال مقالاتى أنه لا يوجد فى القرآن الكريم ما يؤيد حد الردة، وأنه يقوم على حديثى آحاد تفيد الظن ولا تفيد اليقين.. وتبين للرأى العام أن الرسول لم يقتل أحداً من المنافقين وهم الذين نزل القرآن يحكم بكفرهم. ولو كان هناك حداً للردة لطبقه الرسول..
وكاتب هذه السطور ينتمى للتيار الأصولى، ولكنه مع الأصول الحقة، وهو ينادى بأن الإسلام يحتاج الآن إلى من يعانى فى سبيل إظهار حقائقه، وليس محتاجاً لأولئك الذين يتاجرون باسمه العظيم فى دنيا السياسة والمطامع الدنيوية، وحقيق بكل من يحب الله ورسوله ودين الإسلام أن يبرئ الإسلام من الأوزار التى التصقت به فى عصور الاستبداد، ومنها على سبيل المثال "حد الردة".
إن ما يعرف بحد الردة يقوم على حديثين فقط، ورد أحدهما فى البخارى وهو الذى يدعو إلى قتل من بدل دينه، وورد الآخر فى صحيح مسلم وهو الذى يقول أنه لا يحل دم المسلم إلا بثلاث: قتل النفس والثيب الزانى والتارك لدينه المفارق للجماعة؟
ومنهج هذا الكتاب فى موضوع حد الردة يبدأ بتتبع الموضوع فى القرآن الكريم وعصر الرسول عليه الصلاة والسلام ثم فى عصر الراشدين وبعدها فى عصور الأمويين والعباسيين ويناقش الحديثين اللذين قام عليهما حد الردة مناقشة أصولية يبحث فيها حال الرواة والسند والعنعنة ثم أقوال المحققين فى التشريع القائم على أحاديث الآحاد ومنها أقوال الأزهر، وفى الخاتمة يقدم المؤلف تصويراً للأخطار التى ستترتب على تطبيق حد الردة ليضع بذلك شهادته للتاريخ، ولينصف الإسلام من أوزار بعض المسلمين..
والله تعالى المستعان...
د. أحمد صبحى منصور
أغسطس 1993
==========================================
الفصل الأول
حد الردة فى ضوء القرآن الكريم
أولاً: كلمة "حد" تعنى فى القرآن الشرع والحق ولا تعنى العقوبة
جاءت كلمة "حدود" فى القرآن الكريم (14) مرة. وكلها تعنى حقوق الله وتشريعاته، ولا تعنى العقوبة كما يدل مصطلح حد الردة أو "حد الزنا" وتطبيق "الحدود" فى الشريعة..
جاءت مرتين بمعنى شرع الله وأوامره فى قوله تعالى: ﴿الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ﴾ (التوبة 97). وفى قوله تعالى: ﴿وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ﴾ (التوبة 112).
وجاءت مرة فى تشريع الصيام فى آية ﴿أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَىَ نِسَآئِكُمْ﴾ وفى نهايتها يقول تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا﴾ (البقرة 187).
وجاءت مرتين فى تشريع الميراث، يقول تعالى ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا﴾ (النساء 13، 14)..
وجاءت تسع مرات فى تشريعات الله تعالى فى الزواج والطلاق..
- منها مرة فى موضوع، الظهار أى إذا ظاهر الرجل على امرأته وحرمها على نفسه، فلا يرجع إليها إلا بعد تقديم الكفارة، ويقول تعالى بعدها ﴿تلك حدود الله﴾
- ومنها أربع مرات فى أية واحدة تتحدث عن الطلاق الأول للزوجة والطلاق الثانى يقول تعالى فيها ﴿الطّلاَقُ مَرّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمّآ آتَيْتُمُوهُنّ شَيْئاً إِلاّ أَن يَخَافَآ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ (البقرة 229).
- ومنها مرتان فى الآية التى تتحدث عن الطلاق للمرة الثالثة وحتمية أن تتزوج شخصاً آخر ﴿فَإِنْ طَلّقَهَا فَلاَ تَحِلّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة 230).
- ومنها مرتان فى تحريم إخراج المطلقة من بيتها قبل العدة ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ (الطلاق 1).
هذه هى المواضع التى جاء فيها لفظ "الحدود" وكلها تعنى شرع الله وليس منها ما يتعلق بالعقوبات المنصوص عليها فى القرآن مثل السرقة والزنا والقصاص وقطع الطريق والقذف.. وليس منها ما يتعلق بالعقوبات التى استحدثها العصر العباسى لشرب الخمر والردة وترك الصلاة..
وذلك يدل على أن العصر العباسى وفقهاءه قد نحتوا لهم مسميات خاصة لا تتفق وتشريعات القرآن..
وذلك يدل أيضاً على أن عصر الرسول المرتبط بالقرآن أساساً لم يعرف مدلولاً اسمه "حد السرقة" أو "حد الزنا" وسائر العقوبات المنصوص عليها فى القرآن لأن القرآن حين ذكر عقوبة الجلد للزانى لم يستعمل كلمة حد الزنا ، وكذلك حين تحدث عن جريمة السرقة أو القذف أو القتل.. ويمكن مراجعة ذلك فى القرآن.
وهذا يؤكد على ذلك الفارق الجوهرى بين دين الله الحق ونوعيات التدين للبشر فى عصورهم المختلفة. فالله تعالى ينزل الدين نقياً خالصاً للسمو بالناس والترقى بهم، أما البشر فهم حين يتدينون فإنهم يضعون بصماتهم على الدين فتظهر تلك الفجوة بين الدين الحق وتدين البشر، ويضع البشر صورة قانونية تشريعية للتدين الذى يمارسونه، ويقوم الفقه بتلك المهمة، وطبيعى أن يحدث اختلاف بين مذاهب الفقه والتشريع القرآنى الأصيل لأن مذاهب الفقه تتأثر بالظروف الاجتماعية والنفسية والسياسية لصاحب المذهب وأتباعه..
ولذلك ليس غريباً أن يخترع الفقه مدلولات جديدة لم يذكرها تشريع القرآن، وليس غريباً أن يخترع عقوبات تخالف تشريعات القرآن ومنها ما اصطلحوا على تسميته بحد الردة..
وقبل أن نتعرض لموقف التشريع القرآنى من حد الردة نبدأ بموقف القرآن من التكفير.. فالتكفير هو أساس التشريع الفقهى فى قتل المرتد.. فلابد أن يسبق "إقامة الحد على المرتد" اتهامه بالكفر وإقامة محكمة تفتيش عن سريرته وعقيدته.
فهل يصح فى تشريع القرآن أن يتهم المسلم إنساناً بالكفر؟.
هذا هو المبحث التالى..
ثانياً: موقف القرآن من التكفير
لا يصح للمسلم أن يكفر غيره أو أن يقيم له محاكم تفتيش
منح الله تعالى البشر الحرية فى الإيمان به أو الكفر بذاته العلية، والدليل على ذلك واضح فى حياة البشر وفى أقوالهم وأفعالهم فى تاريخهم الماضى والحاضر..
والقرآن- كلام الله العزيز- فيه الإثبات على حرية البشر المطلقة فى الإيمان والكفر، يتضح ذلك فى قصص القرآن عن المشركين كما يتضح أيضاً فى حوار القرآن مع المشركين لإقناعهم بالعقل والمنطق، ولو لم يسمح الله لهم بالحرية ما كان ذلك الحوار وما كانت محاولة الإقناع، بل أن القرآن يؤكد على حرية البشر فى أن يؤمنوا أو أن يكفروا، وفى المقابل فإن مسئوليتهم تجاه هذه الحرية تتجلى يوم الحساب حيث سيحاسبهم رب العزة على اختيارهم، يقول تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ (الكهف 29).
بل إن القرآن الكريم لم يصادر أقوال المشركين فى العيب فى ذات الله، فاليهود قالوا ﴿إن الله فقير ونحن أغنياء﴾، وقالوا ﴿يد الله مغلولة﴾ وقال مشركو مكة وهم يرفضون إعطاء الصدقة ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ﴾ (يس 47).
أثبت القرآن هذه الأقوال ولم يصادرها، فصارت مع الرد القرآنى عليها ضمن آيات القرآن التى يتعبد المسلم بتلاوتها.
ومن الطبيعى أن يرد القرآن- كلام الله العزيز- على الأقوال التى تخالف دين الله تعالى، وهذا حق الله تعالى، وليس فقط لأن تعالى هو رب البشر وخالقهم وصاحب الدين الحق ولكن لأنه أيضاً تعامل مع البشر بمنطق العدل، فقد أعطاهم حرية الإيمان والكفر، وحرية إعلان الكفر وحرية العيب فى ذاته الإلهية العلية والتقول على الله تعالى، وفى مقابل ذلك فإن من حقه أن يصفهم بالكفر والعصيان وأن يرد على افتراءاتهم وأقوايلهم وينفى عن ذاته العلية اتخاذ الولد والشريك، وتلك قضايا تخصه جل وعلا، ومن حقه الرد عليها..
إلا أن عدل الله تعالى تجلى فى التعامل مع طوائف البشر. فحين يحكم بالكفر فإنه تعالى يضح حيثيات الاتهام وأسباب الوصف فيقول مثلاً ﴿لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ ﴿لّقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ (المائدة 72، 73).
فالحكم من الله ليس عاماً وإنما هو خاص بمن يقول ذلك القول، وفى نفس الوقت فإن الذى يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحاً من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين فهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62).
ويقول تعالى: ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَىَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة 69).
أى أن الله تعالى ليس منحازاً لأحد، فمن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فهو من أولياء الله أصحاب الجنة، ومن يجعل لله ولداً أو يجعل إلهاً مع الله فإن الله تعالى يحكم عليه بالكفر..
وذلك هو ما يخص الله تعالى، فهو صاحب الدين وهو صاحب ومالك يوم الدين وهو الذى يرد على البشر إن أحسنوا فى العقيدة أو أساءوا فيها.
إلا أن الله تعالى لم يعط أحداً من البشر الحكم على الآخرين الأحياء بالكفر، بل أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكون حوارهم بالحكمة والموعظة الحسنة مع معاصريهم ومع تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة ، وذلك ما كان مأموراً به خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام...
فالله تعالى يأمر بأن يكون الجدال مع أهل الكتاب بالتى هى أحسن، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (العنكبوت 46).
فالجدال مع أهل الكتاب ممنوع إلا إذا كان بالتى هى أحسن... أى كان نقاشاً موضوعياً بالحجة دون إساءة، أما "الذين ظلموا" فلا جدال معهم حتى لا يتطور الأمر إلى إساءة متبادلة، والله تعالى نهى عن الجدال الذى ينتهى إلى إساءة ويقول: ﴿وَلاَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيّنّا لِكُلّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ مّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام 108). وعن الظالمين- أو بمفهومنا المتعصبين- يقول تعالى للنبى قال تعالى: ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الحج 68، 69). أى أنه لا مجال للجدال العقيم مع المتعصب، والأفضل الإعراض عنه وذلك شأن المؤمن دائماً، ويقول الله تعالى فى حال المؤمنين مع المتعصبين المتحفزين الظالمين ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (القصص 55).
وبالمناسبة فتلك الآية الكريمة نزلت فى حال مؤمنى أهل الكتاب ونزلت مثلاً لكل مؤمن فى الحوار أو الجدال بالتى هى أحسن وتحاشى الجدل مع المتعصبين.
ولذلك فإن الجدال بالتى هى أحسن هو سمة الحوار بين المؤمنين بالقرآن ومؤمنى أهل الكتاب وذلك معنى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾.
وحتى لا يقع المسلم فى اتهام أهل الكتاب بالكفر فإن القرآن يفرض صيغة محددة للحوار فيقول تعالى ﴿وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أى نؤمن معاً بالله الواحد ونؤمن بما أنزل إليكم وما أنزل إلينا، ونحن له مسلمون، ولم يقل مثلاً "وأنتم كافرون" لأنه ممنوع اتهام المسلم لغيره بالكفر...
ولم يأت الأمر مثلاً بأن يستشهد المؤمن فى حواره مع أهل الكتاب بما قاله رب العزة عن أولئك الذين قالوا إن الله تعالى ثالث ثلاثة أو أن الله هو المسيح ابن مريم.. لأن ذلك هو قول الله تعالى ذاته فى الرد عليهم، أما نحن فما علينا إلا أن نحاور بالتى هى أحسن ونرجئ الحكم فى العقائد إلى يوم الدين يوم الحساب أمام الله تعالى..
وقد تحدثت سورة آل عمران عن ميلاد عيسى عليه السلام وبعثته ثم قالت: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ. إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ﴾ (آل عمران 58: 60).
وبعد ذلك التوضيح عن بشرية المسيح عليه السلام ورسالته فماذا يكون موقف النبى إذا جاءه أهل الكتاب يجادلونه؟ هل يتهمهم بالكفر؟ هل يرميهم بالضلال؟ هل يتوعدهم بالجحيم؟..
تعالوا بنا نقرأ الآية التالية لنعرف الإجابة فى تلك السورة المدنية التى نزلت فى عصر قوة المسلمين وشوكتهم ﴿فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران 61).
أى من جادلك فى طبيعة المسيح من بعد ما جاءك فيه من العلم أى بالقرآن فادعهم إلى المباهلة، أى الاحتكام إلى الله تعالى فى الدنيا، بأن يخرج الفريقان ومعهم الأبناء والنساء ويبتهلون إلى الله تعالى أن يلعن الكاذب منهما.. لم يقل القرآن للنبى إذا جادلوك فاحكم عليهم بالضلال والكفر ودخول الجحيم.. ولكن ابتهل إلى الله لكى تكون اللعنة من نصيب الكاذب من الفريقين، ومن الطبيعى أن كل فريق يعتقد الصدق فى نفسه..
أى أنه تصعيد وتأجيل للحكم إلى رب العزة لأنه وحده هو الذى يحكم بالكفر أو بالإيمان على عباده البشر، أما النبى فلا يملك أن يحكم بكفر أحد.
والقرآن فى دعوته لأهل الكتاب يضع أسلوب الحوار الراقى الذى يجب على المسلمين اتباعه، ويقول تعالى للنبى قال تعالى: ﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران 64).
فهذا هو الخطاب الراقى لأهل الكتاب أن ندعوهم إلى كلمة سواء نلتزم بها سوياً، أن نعبد الله وحده دون شريك وألا نتخذ كهنوتاً وأرباباً من البشر، فإن رفضوا فلا نتهمهم بالكفر ولا نتحدث بأسمهم أو باسم الله ولكن نتحدث باسمنا فقط، فنقول لهم اشهدوا إذن بأننا أسلمنا لله وحده..
لم يقل: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وأنتم كافرون، لأنه ليس من حق المسلم اتهام غيره بالكفر، وحسبه أن يعلن خضوعه لله ، وحسبه شرفاً أن يكون فعلاً عند الله كذلك..
والخلاصة أن الله تعالى هو وحده صاحب الحق فى أن يقول عن بعض أهل الكتاب ﴿لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾.
وهو وحده تعالى صاحب الحق أن يقول عن أهل الكتاب ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ﴾ (آل عمران 113، 114).
الله وحده هو الذى ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ﴾ وهو الأعلم بحقيقة الإيمان عند الأفراد والطوائف والأمم، والله تعالى يقول ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ﴾ (النساء 25).
أما نحن البشر فإذا كنا ندعى الإيمان حقاً فيجب أن نلتزم بأوامر الله تعالى فى أن نقول للناس حسنا ﴿وقولوا للناس حسنا﴾ (البقرة 83).
وأن نجادلهم بالتى هى أحسن، وهل هناك أروع من قوله تعالى فى آداب الدعوة والحوار ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمّن دَعَآ إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت 33، 34).
وقد يقول قائل:- إن الله تعالى أمر رسوله أن يقول ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ أى اتهمهم بالكفر وقال لهم ﴿يا أيها الكافرون﴾.
والجواب: إن أعداء النبى فى مكة كانوا يفخرون بكفرهم ولم يعتبروا ذلك الاتهام بالكفر نقيصة بأى حال، بل دأبوا على اتهام النبى بالسحر والجنون والكذب واعتبروا الإيمان بالقرآن جريمة تستوجب الإيذاء والحرب..
وإذن فإن قول النبى لهم ﴿يا أيها الكافرون﴾ ليس فيه إساءة لهم بل هو خطاب لهم بنا يحبون وبما يفخرون، والمهم إن فحوى الخطاب تقرر حرية العقيدة فى آيات السورة التى تنتهى بقوله ﴿لكم دينكم ولى دين﴾.
والأهم من ذلك هو آداب الحوار مع أولئك الذين كانوا يفخرون بكفرهم ويعتبرون الإيمان بالله ورسوله، هل كان الله تعالى يأمر رسوله فى الحوار معهم أن يتهمهم بالضلال ويحكم عليهم بدخول النار..
لنقرأ أسلوب الحوار الذى أمر الله به رسوله ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ﴾ (سبأ 24) لم يأمره- وهو رسول الله- أن يقول للمشركين "أنا على هدى وأنتم فى ضلال، وإنما أمره أن يقول أحدنا على هدى والآخر فى ضلال.
وتقول الآية التالية ﴿قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ لم يقل: لستم مسئولين عن إجرامنا ولسنا مسئولين عن إجرامكم.
بل نسب الجرم لنفسه- وهو النبى- ولم ينسب إلى المجرمين إلا مجرد العمل.. إلى هذا الحد بلغت آداب الحوار مع المشركين المعاندين، وتقول الآية التالية ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ﴾ (سبأ 26).
أى يؤجل الحكم بينهم وبينه إلى لقاء الله تعالى يوم القيامة.
وذلك بالنسبة للنبى فى حواره مع المشركين..
فلم يكن من خصائص النبى أن يتهم أعداءه الأحياء الكفر.. وبالتالى فلم يكن من خصائصه أن يتهم مسلماً حيا بالكفر..
ومن الطبيعى أن من يتهم غيره بالكفر يضع نفسه فوق النبى، بل ويتقمص الدور الإلهى الذى هو لله وحده..
بين الجهاد والتكفير
الجهاد بالقرآن الكريم سلميا من أهم ملامح الجهاد الاسلامى، يقول تعالى " ولو شئنا لبعثنا فى كل قرية نذيرا. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا. الفرقان51-52." أن القرآن هو الرسول القائم بيننا طالما ظل هناك قرآن يتلى، وطالما هو محفوظ بقدرة الله جل وعلا الى قيام الساعة. ومهمة القرآن أن يظل حجة الله تعالى على الناس الى قيام الساعة. النبى بشر مات ولكنه كرسول قام بتبليغ القرآن الذى سيظل رحمة للعالمين من عهده الى آخر دقيقة فى هذه الدنيا. محمد كبشر كان محدودا بالزمان والمكان والقرآن بعده يظل علما للهداية وحكما على الناس – خصوصا المسلمين ـ اذا تلاعب بهم الشيطان . والشيطان لم يقدم استقالته . سيظل يؤدى مهمته فى اضلال الناس الى قيام الساعة.
القرآن الكريم شرح مهمة ابليس وهى اضلالهم عن الطريق المستقيم أى وحى الله تعالى الحق، وخداع الناس بالأمنيات الباطلة أى بدخول الجنة مهما عصوا "الأعراف16-17 ""النساء 118-120". وهذه المهمة الشيطانية لها وسائل محددة تماثل وسائل الهداية ونقصد بها الوحى. فكما يوحى الله تعالى للأنبياء كذلك يوحى الشيطان لأوليائه. عن القرآن يقول تعالى :"وانه لتنزيل رب العالمين . نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين"... " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغى لهم وما يستطيعون ، انهم عن السمع لمعزولون.".وبعدها يقول تعالى عن الوحى الشيطانى "هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم . يلقون السمع وأكثرهم كاذبون."الشعراء 192-195،،،210 ـ 212 ،، 221-223."
تختار الشياطين أكثر البشر كذبا واثما "أفاك أثيم" ليتسلط على الناس ببث أكاذيبه يقنعهم أنها من عند الله تعالى أو رسوله. يسميها وحيا أو مناما أو هاتفا فى يقظة أو منام. ويلقى اليه الناس اسماعهم ، وأكثرالمستمعين كاذبون يروى ويحكى عنه مصدقا له ،أو يكتب عنه ما يقول وينسخها أى يكتبها ويشاء الله تعالى أن يسمح بهذا التصرف فتتكاثر كتب الوحى الكاذب ونسخها "الحج 52-55". اولئك هم اعداء الأنبياء أو شياطين الانس بتعبير القرآن الكريم .يقول تعالى عنهم:" وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا شياطين الانس والجن يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون". ثم يقول تعالى عن المستمعين المبهورين بهذا الوحى الضال:"ولتصغى اليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون." ثم يجعل الله تعالى القرآن الكريم حكما على هذا الوحى الكاذب فيقول:" أفغير الله ابتغى حكما؟ وهو الذى أنزل اليكم الكتاب مفصلا ؟." الأنعام 112-113 "
وهكذا يكون الجهاد بالقرآن ضد اولئك الذين افتروا على الله تعالى كذبا وكذبوا بآياته، وهم الذين جعلهم الله تعالى اظلم الناس جميعا: "فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته." الاعراف 37 يونس 17"".
الجهاد هنا فكرى عقلى بالقرآن ليواجه الأكاذيب التى ينسبونها لله تعالى ووحيه ورسوله. ليس موجها للأشخاص مثل الجهاد القتالى ولكنه موجه للوحى الكاذب نفسه يحتكم فيه لكتاب الله تعالى، محذرا الناس منه، وللنصح والتذكير وليس للسب والتكفير. ومن منتجات هذا الوحى الكاذب حد الردة موضوع هذا الكتاب. وما نفعله هنا هو ذلك الجهاد القرآنى السلمى للتحذير وليس للتكفير.
قبل طرد ابليس من الملأ الأعلى – بسبب عصيانه الأمر الآلهى بالسجود لآدم – قال ابليس متحديا رب العزة جل وعلا عن ذرية آدم ـ أى عنا :"..لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين."الأعراف16-17." ومع أن الله تعالى كشف الاعيبه وأوضح وسائله الا أنه ينجح دائما فى خداع الأكثرية من البشر حتى الآن والى قيام الساعة ، والسبب انه لا يقدم لهم نفسه كشيطان عدو للرحمن ولكن من خلال اسلام مغشوش يحمل اسم الاسلام زورا وبهتانا عبرأحاديث منسوبة لله تعالى ورسوله الكريم، ولا تخلو من زخرف القول وما تشتهيه النفس وتتمناه. وهنا يكون جهادا واجبا أن نبرىء الاسلام من هذا الزيف باللجوء للقرآن والاحتكام اليه فى هذا الغش والزيف املا فى هداية المخدوعين بزخرف الشيطان وغروره.
والله تعالى أخبر مقدما فى القرآن الكريم بما سيقوله للبشر الضالين يوم القيامة وقد خدعهم ابليس جيلا بعد جيل بسبب التقليد وعبادة المتوارث والتراث دون فهم او تعقل. سيقول تعالى لهم جميعا يوم القيامة يذكرهم بمانسوه" ألم أعهد اليكم يابنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وأن أعبدونى هذا صراط مستقيم. ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون.""يس 60 -63 . وفى جهنم سيجدونه بينهم :" وقال الشيطان لما قضى الأمر ان الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لى عليكم من سلطان . الا ان دعوتكم فاستجبتم لى، فلا تلومونى ولوموا أنفسكم..""ابراهيم23" لم يدعهم بنفسه أو بصوته وانما بلسان اتباعه الذين ينشرون وحيه الكاذب المناقض لكتاب الله تعالى... وحتى ننجو من هذا المصيرلا بد من عرض عقائدنا على كتاب الله لننظف منها الأحاديث المفتراة ، وهذه وظيفة العلماء الذين قال الله تعالى عنهم:"يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" المجادلة 11" وهى أيضا وظيفة الأشهاد الذين يجاهدون بالقرآن سلميا فى هذه الدنيا لأظهار الحق وازهاق الباطل .وقد وعدهم الله تعالى بالنصرفى الدنيا وأن يكونوا شهداء على أقوامهم فى الآخرة " "انا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار."غافر 51-52".
والخلاصة هنا أن الجهاد لتوضيح الحق القرآنى وتبرئة الاسلام من مفتريات الشيطان لا صلة له بالتكفير لأنه يواجه العقائد ويسعى لانقاذ الأشخاص من الضلال بالقرآن وليس لتكفيرهم..
أما الكهنوت فله شأن آخر.
فمن طبيعة الكهنوت أن يدعى التحدث باسم الله، ولذلك فإنه حيث يوجد الكهنوت يوجد اتهام بالكفر وتوجد محاكم التفتيش، وتوجد صكوك الغفران، وليس فى الإسلام كهنوت، ولنتذكر أن الله تعالى دعا أهل الكتاب لنبذ الكهنوت حين قال ﴿قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران 64).
وذلك هو واقع الإسلام.. لا مجال فيه للأرباب والكهنوت والوسائط، أما واقع المسلمين التاريخى فقد عرف تقديس الأولياء والعلماء والأئمة، بحيث أصبح من المقرر أن انتقادهم يعتبر هجوماً على الإسلام. وتلك نفس عقيدة الكهنوت الذين يعتبرون أنفسهم وأئمتهم الممثلين للدين والمتكلمين باسمه.
ولذلك فإنه من الإنصاف للإسلام أن نبرئه من أعمال المسلمين التى تخالف كتاب الله العزيز.التبرئة من "اعمال" وصفات وعقليات وليس تكفير اشخاص أحياء.
والخطورة فى وجود الكهنوت أنه حين يحكم بكفر إنسان يقيم له المحاكم التفتيشية ويحكم عليه بالقتل.. وتلك مخالفة أخرى لتشريع القرآن فالنبى نفسه لم يحدث أن أقام محاكم تفتيش للمنافقين فى المدينة وقد كان فيها الحاكم المطاع، وكان المنافقون يمثلون المعارضة السياسية والدينية، وكانوا يتآمرون عليه فى أوقات السلم وأوقات الحرب، بما يستوجب فى الدولة الديمقراطية أن يحاكموا بتهم قد تصل إلى درجة الخيانة العظمى.
ونأخذ أمثلة من القرآن الكريم لموقف النبى من المنافقين والمشركين.
- كان بعضهم يسارع إلى اعلان الردة والكفر ويحزن الرسول لذلك، ولكن لم يكن له أن يحاكمهم أو يقيم عليهم حد الردة أو يعقد لهم محاكم تفتيش، كان يكتفى بالحزن ويقول له ﴿يَأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ (المائدة 41).
ويطمئنه ربه بأن أولئك الذين يسارعون فى الكفر والردة لن يكون لهم حظ فى الآخرة وذلك يكفى فى عقابهم ويغنى عن اضطهادهم فى الدنيا، يقول تعالى لرسوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِنّ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (آل عمران 176، 177).
- إن المرتد لا يمكن أن يضر الله شيئاً، ويكفيه ما سيناله من عذاب القيامة إذا مات على كفره، وبعض المنافقين كان يتطرف فى كفره إلى درجة التآمر على النبى وعلى المؤمنين فى أوقات الحروب، ومع ذلك فإن النبى لم يعقد لهم محاكم تفتيش، يقول تعالى عن تآمرهم على النبى ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء 81).
أى كانوا يقدمون للنبى فروض الولاء ويدخلون عليه فى مظهر الطاعة فإذا خرجوا من عنده تآمروا عليه وكذبوا عليه وتقولوا عليه ما لم يقل، والله تعالى الذى يخبر رسوله بمؤامراتهم يخبره أيضاً بأنه يسجل عليهم تآمرهم ويكتب عنده أقوالهم ويأمر النبى بالإعراض عنهم وأن يتوكل على الله وكفى بالله وكيلا، لم يقل له ربه أقم لهم محاكم تفتيش واحكم عليهم بالردة والقتل والخيانة العظمى..
- وكانوا يتآمرون على المسلمين والنبى فى الوقت العصيب، وقت المعارك مع المشركين، يتأرجحون فى الولاء بين المسلمين والمشركين، وتلك خيانة عظمى، ويتضمنون للغالب أو يتظاهرون بذلك، يقول تعالى عنهم ﴿الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (النساء 141).
يقول الله تعالى للنبى والمؤمنين معه عنهم ﴿فالله يحكم بينكم﴾ أى تأجيل للحكم إلى يوم القيامة، لأنه ليس هناك مجال فى دولة الإسلام الحقيقية لأى نوع من محاكم التفتيش وليس هناك فى تشريع الإسلام الحقيقى ما يعرف بحد الردة.. وإلا كان النبى أول من طبقه وأول من ينفذه فى المنافقين الذين قال عنهم رب العزة ﴿إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً﴾ (النساء 145).
إن تأجيل الحكم إلى يوم القيامة فيما يخص العقائد وحقوق الله تعالى من الأمور المقررة فى القرآن، ومن أهم خصائص العقيدة الصحيحة فى الإيمان بالله واليوم الآخر..
وذلك ما نزلت به الرسالات السماوية وقاله الأنبياء والمرسلون، وأخبر به رب العزة فى القرآن الكريم..
- لقد قال الله تعالى لعيسى عليه السلام ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَىَ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (آل عمران 55).
فالله تعالى هو الذى سيحكم بين النصارى فى اختلافاتهم الدينية يوم القيامة، ولو آمنوا بذلك لما عرف تاريخ العصور الوسطى إقامة محاكم التفتيش وحرق المتهمين بتهمة الهرطقة..
- والله تعالى يقول عن اليهود ﴿إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنّ رَبّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (النحل 124).
فالحكم لله تعالى يوم القيامة فيما يخص اختلافات اليهود فى السبت وغيره.
ومشركو قريش وغيرها كفروا بالقرآن وموعد محاكمتهم يوم القيامة الذى هو يوم (الدين) حيث يكون الملك لله وحده، وهو تعالى وحده صاحب الدين ومالك يوم الدين، ولذلك يقول تعالى عن الكافرين بالقرآن ﴿وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ (الحج 55).
وكانوا إذا جاءوا يجادلون بالتى هى أسوأ يقول له ﴿وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ. اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الحج 68، 69).. أى تأجيل الحكم بينهم وبين النبى إلى يوم القيامة.
ولذلك كان الله تعالى يأمر الرسول بالصبر إلى أن يأتى الوعد الحق يوم القيامة ويتحقق ما وعده ربه به وتقام المحاكمة الكبرى يوم الحساب يقول الله تعالى للنبى ﴿فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَـإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ (غافر 77).
ويقول له ربه ﴿وَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَىَ مَا يَفْعَلُونَ﴾ (يونس 46). فالجديد فى المحاكمة الكبرى أن الله تعالى هو الشهيد على ما يفعلون وهو الوكيل- أى الذى يتوكل ويعتمد عليه- المؤمنون.
وكفى به تعالى شهيداً وكفى به تعالى وكيلا..
وإذا استوعب المؤمن هذه المعانى أحس بالإشفاق على الذى يغويه الشيطان ويوقعه فى الضلال، لذلك فإن الله تعالى يأمر المؤمنين بالغفران لمن يضل، يقول تعالى: ﴿قُل لّلّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (الجاثية 14، 15).
والمؤمن إذا تفكر فى العذاب الذى ينتظر الضالين فى الآخرة تحول إشفاقه عليهم إلى صفح وغفران، إذ يكفيهم ما ينتظرهم من هول يوم القيامة، ولن يفكر بتاتاً فى اضطهادهم أو محاكمتهم، يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر 85).
فالساعة آتية وفيها يوم الحساب، وما عليك إلا أن تصفح، وليس مجرد الصفح، بل الصفح الجميل..
فأين ذلك السمو من دعاة محاكم التفتيش؟!!
وبعض من يصيبهم الحماس الدينى يهتف متهماً الآخرين بالكفر، بل ربما يرفع هتافه للسماء، وكان ذلك يحدث وقت نزول القرآن كما يحدث الآن، ونزل القرآن يرد ﴿وَقِيلِهِ يَرَبّ إِنّ هَـَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاّ يُؤْمِنُونَ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف 88، 89)..
فالرد عليهم أن تقول لهم سلام عليكم، وأن تصفح عنهم، فسوف يعلمون يوم القيامة..
إن محاكم التفتيش على عقائد الناس الأحياء وخطرات نفوسهم شىء فوق طاقة البشر ولذلك فهى دائماً محاكم ظالمة، وليس فقط فى أنها اعتدت على خصوصيات الله تعالى وتفرده وحده بالحكم فى العقائد، وليس فقط فى أنها تخالف شرع الله تعالى فى تأجيل الحكم فى اختلاف العقائد إلى يوم الدين ولكن لأنها أيضاً أقحمت نفسها فى مجال السرائر وما تخفيه الصدور..
فالله وحده الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وذلك ما قاله رب العزة فى الحديث عن المحاكمة الكبرى يوم القيامة أو يوم التلاقى ﴿لِيُنذِرَ يَوْمَ التّلاَقِ. يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىَ عَلَى اللّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ. يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ. وَاللّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنّ اللّهَ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (غافر 15: 20). يوم التلاق، هو يوم لقاء الله تعالى، يوم يقوم الناس لرب العالمين، أى يوم القيامة. فى ذلك اليوم يبرز الناس للقاء الله حيث لا يخفى على الله منهم شىء وحيث يتحقق الملك لله وحده، وحيث تجزى كل نفس ما كسبت، وحيث لا ظلم لأن الله وحده هو الذى يقضى بالحق وهو الذى يعلم الغيب.
إن من خصائص هذا اليوم الكبر أن الله تعالى يحاسب الناس على سرائرهم، يقول تعالى ﴿يوم تبلى السرائر﴾ أى يوم يمتحن الله ما فى السرائر..
ويقول عما تخفيه الصدور ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّ السّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولـَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء 36).
هنا تكون المحاكمة عادلة لأنها تعلم السرائر وما تخفيه الصدور، وذلك ما اختص الله تعالى به ذاته، وحرم منه رسوله خاتم النبيين الذى لم يكن يعلم سرائر أصحابه، حتى كان من بين أصحابه من هم أشد الناس نفاقاً، إلا أنهم مردوا على النفاق إلى درجة الإدمان، وإلى درجة أنهم خدعوا النبى نفسه بمظهرهم المؤمن، والله تعالى يقول للنبى والمؤمنين ﴿وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة 101). قال تعالى للنبى عن أولئك الذين (مردوا على النفاق) (لا تعلمهم) لأن علم السرائر من خصائص الله علام الغيوب..
أما الكهنوت فيرفع نفسه فوق الأنبياء حين يدعى علم السرائر والغيوب ويضع نفسه فى مقام رب العزة حين يحاكم باسم الله تعالى- زوراً وبهتاناً- من يخالفه فى العقائد.. إن الله تعالى يقول للنبى ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران 176).
أى أن الله تعالى يجعل قضية الإيمان والكفر من اختصاص الله تعالى وليست خصائص النبى، فليس على النبى إلا التبليغ والإنذار والتبشير.. فإذا حزن لأن بعضهم ارتد فالله ينهاه عن الحزن لأن القضية تخص الله تعالى ولأن أولئك الذين يسارعون فى الكفر لن يضروا الله شيئاً، ولأن الله تعالى يريد أن يحرمهم من الجنة ويريد أن يعاقبهم بالنار..
إن الله تعالى يقول للنبى ﴿فَذَكّرْ إِنّمَآ أَنتَ مُذَكّرٌ. لّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ. إِلاّ مَن تَوَلّىَ وَكَفَرَ. فَيْعَذّبُهُ اللّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ. إِنّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ. ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ (الغاشية 21: 26).
إن السيطرة على عواطف الناس ومعتقداتهم فوق طاقة النبى نفسه، لذلك قال الله تعالى ﴿لست عليهم بمسيطر﴾ والدليل الواضح على ذلك أن سيطرة النبى على المدينة سياسياً لم تكفل له السيطرة الدينية على سكانها فكان منهم المنافقون، بل إن المؤمنين تآلفوا واجتمعوا حول النبى بإرادة الله تعالى وتدبيره، وليس بجهد النبى وإمكاناته، يقول تعالى: ﴿وَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّآ أَلّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ أَلّفَ بَيْنَهُمْ إِنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال 63). إن الذى يستطيع التحكم فى القلوب هو الله جل وعلا.. وقد شاء رب العزة أن يترك القلوب حرة فى أن تؤمن أو أن تكفر، فى أن تطيع أو أن تعصى فى أن تحب أو أن تكره، ومنع النبى من أن يتطرف فى حماسه للدعوة فيقع فى إكراه الناس على الإيمان، فقال تعالى للنبى ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبّكَ لآَمَنَ مَن فِي الأرْضِ كُلّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النّاسَ حَتّىَ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس 99).
ولذلك فإن محاكمتهم وعقابهم من شأن الله تعالى وحده ومن حق الله تعالى وحده ، والذى يغتصب لنفسه ذلك الحق الإلهى فقد جعل نفسه إلهاً مع الله مع أنه لا إله إلا الله.
والتاريخ يثبت أن محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين فى العقيدة يأتى دائماً فى العصور التى يسيطر فيها الكهنوت وتقديس البشر من الأئمة والأولياء والأحبار والرهبان لارغام الآخرين على الاستسلام لهذا الضلال ، بينما ينعدم ذلك فى عصور التدين الصحيح المرتبط بحرية التدين وعدم الاكراه فى الدين..
ففى عصر الرسول والخلفاء الراشدين لم يعرف المسلمين محاكم التفتيش أو حد الردة المزعوم.. مع أن الدولة البيزنطية كانت تضطهد الأقباط المصريين وتقيم لهم محاكم التفتيش بسبب الخلاف فى طبيعة المسيح عليه السلام، لذلك كان ترحيب المصريين بالفتح العربى لأنهم كانوا يتوقون لمن ينقذهم من الاضطهاد الرومانى الدينى..
ثم ما لبثت العدوى أن انتقلت للمسلمين فى عصور الاستبداد والخلفاء غير الراشدين فعرف المسلمون محاكم التفتيش وحد الردة وذلك لأسباب خاصة لا شأن للإسلام بها، بل هى فى الدفاع عن مقولات الكهنوت الباطلة من تقديس البشر وتسويغ الاستبداد الدينى والسياسى.
إن الله تعالى لم يضع تشريعاً لمعاقبة الذين يسارعون فى الكفر بعد الإيمان لأنهم كما قال الله تعالى ﴿لن يضروا الله شيئا﴾.
أما الكهنوت الدينى والسياسى فهو يلجأ لمعاقبة الخصوم لأن أولئك الخصوم سيضرونهم شيئاً وأشياء..
والعادة أن الكهنوت يقوم على أسس خرافية تجافى العقل وتعارض الحق وتنافى دين الله تعالى، وحيث تنعدم الحجة فالسبيل الوحيد هو استعمال القوة.. ولذلك يقيم الكهنوت يوماً للحساب قبل يوم الحساب ويقعد محاكم التفتيش قبل يوم القيامة ويزعمون أنهم يحكمون باسم الله مع أنهم فى الحقيقة يغتصبون حقوق الله..
لقد وضعوا تشريعات لمحاكم التفتيش تحت عنوان "استتابة المرتد".
وأعطوا أنفسهم حق الاستتابة. مع أن التوبة لا تكون من العبد إلا إلى ربه وحده فالله وحده هو الذى يتوب على التائب ولم يعط الله تعالى حق الاستتابة لغيره.
إن الله تعالى يقول للمؤمنين ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ ويقول ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً﴾ .
والله وحده هو الذى يتوب على النبى والمؤمنين ﴿لَقَدْ تَابَ الله عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رّحِيمٌ﴾ (التوبة 117).
وليس للنبى نفسه حق الاستتابة أو غفران الذنوب والله تعالى يقول للنبى ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ. وَللّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (آل عمران 128، 129).
ولأنه لا إله إلا الله فإنه لا يتوب على البشر ولا يملك الاستتابة إلا الله وحده وبذلك أمر الله رسوله أن يقول ﴿قُلْ هُوَ رَبّي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ (الرعد 30).
أى إليه وحده أتوب..
وذلك ما كان النبى يقوله..
أما الكهنوت فيرفع نفسه فوق النبى، فإذا كان النبى ليس له فى الأمر شىء فللكهنوت كل شىء، وإذا كانت الاستتابة والتوبة على البشر ومحاكمتهم على عقائدهم لله وحده فإن الكهنوت يجعل نفسه شريكاً مع الله ويعطى لنفسه حق محاكمة خصومه وحق عقابهم أيضاً تحت عنوان "استتابة المرتد".
وفى العصور التى ساد فيها الكهنوت السياسى والدينة كتب الفقهاء فى استتابة المرتد، ونقل ذلك عنهم الشيخ سيد سابق فى كتابه (فقه السنة) فيقول بوجوب استتابة المرتد ولو تكررت ردته ويمهله فترة زمنية يراجع فيها نفسه وتفند وساوسه وتناقش فيها أفكاره فإن عدل عن موقفه وبرئ من كل دين يخالف دين الإسلام قبلت توبته وإلا أقيم عليه حد الردة وقتل..
ويقول (وقدر بعض العلماء هذه الفترة بثلاثة أيام وترك بعضهم تقدير ذلك مع تكرير التوجيه والنقاش حتى يغلب على الظن أنه لن يعود إلى الإسلام، وحينئذ يقام عليه الحد وقيل يجب قتله فى الحال..)
وقد جعلوا السبب الموجب للاتهام بالردة مائعاً غير محدد يسهل تفسيره حسب الهوى، وهو إنكار معلوم من الدين بالضرورة. (والمعلوم من الدين بالضرورة) مصطلح فقهى متأخر غير محدد وغير متفق عليه، ولم يعرفه عصر الرسول ولا عصر الخلفاء الراشدين ولا توجد قائمة متفق عليها بذلك المعلوم من الدين بالضرورة فى القرآن، ولا توجد تلك القائمة بالمعلوم من الدين بالضرورة فى كتابات الفقهاء أنفسهم.. والدليل على ذلك أن كل فقيه يضع أمثلة للمعلوم من الدين بالضرورة، مجرد أمثلة قابلة للزيادة والنقصان، ومجرد قائمة تعبر عن رأى ذلك الفقيه وعصره ومستواه وعقليته..
والشيخ سيد سابق فى كتابه (فقه السنة) أورد أمثلة للمعلوم من الدين بالضرورة يعبر فيها عن آرائه وموقفه من بعض مظاهر حياتنا السياسية، يقول فى المرتد الذى ينكر المعلوم من الدين بالضرورة والذى يستحق القتل،(.. إنه يستحل المحرم الذى أجمع المسلمون على تحريمه ويحرم الحلال الذى أجمع المسلمون على حله، أو يسب النبى ويسب الدين ويطعن فى الكتاب والسنة ويترك الحكم بهما ويفضل القوانين الوضعية عليهما، أو يدعى الوحى، أو يلقى المصحف فى القاذورات أو كتب الحديث مستهيناً بهما مستخفاً بهما..إلخ)
لم يكن من بنود المعلوم من الدين بالضرورة فى العصور السابقة وفى كتابات الفقهاء السابقين الحكم بالكتاب والسنة على القوانين الوضعية، لأن تطبيق الشريعة لم يكن شعاراً سياسياً فى العصرين العباسى والمملوكى، أى أن الشيخ سيد سابق جاء بمعلوم جديد من الدين بالضرورة لم يعرفه الفقهاء السابقون، لأن عصر السيد سابق يموج بحركة علمانية تتخذ موقفاً من دعوة التيار الدينى لتطبيق الشريعة، وحينئذ نفهم لماذا يهددهم الشيخ بحد الردة لأنهم عنده أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة هى فى الحقيقة قائمة تزيد وتنقص حسب الأحوال وحسب رأى كل فقيه وكل عصر، وتبدأ من الإلحاد والكفر لتشمل إلقاء كتب الحديث فى القاذورات. كما قال الشيخ سيد سابق أو إلقاء كتب الفقه أيضاً كما يقول كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) الذى يضيف أن البصاق على كتب الفقه أو تطليخها به من مسوغات الاتهام بالردة وبالتالى القتل، حتى لو كان البصاق طاهراً!!
يعنى أن بعض الناس الذين جعلوا من الدين مملكة خاصة بهم يريدون أن يفرضوا به رأيهم وكتبهم على الناس، وإن أعرضوا هددوهم بمحاكم التفتيش والقتل..
وليس عجيباً بعد هذا أن يتضمن المشروع المقدم لمجلس الشعب لتطبيق الشريعة الإسلامية حد الردة، ويضع تعريف حد الردة بأنه (إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة).. ويظل ذلك المفهوم المطاط سيفاً على رقبة كل من يخالف الفقهاء، إلا أن المشروع كان كريماً مع الضحايا فأعطى ثلاثين يوماً لاستتابة المرتد قبل قتله أو بمعنى آخر إعلان عبوديته للفقهاء والكهنوت وإلا فالقتل بتهمة الردة..
إلا أن خطورة الاتهام بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة لا تتوقف على مجرد إنه اتهام مطاط وليس محدداً ببنود معينة معلومة للكافة لا تقبل الزيادة والنقصان والإضافة والحذف، ليس ذلك هو وجه الخطورة الوحيد.
ولكن يضاف إليه أن مفردات الاتهام نفسها قابلة أيضاً للتفسير والتأويل والمط حسب الهوى..
فالشيخ سيد سابق يقول مثلاً أن المرتد هو الذى يطعن فى الكتاب والسنة، وذلك اتهام مطاط فى حد ذاته ففى القرآن الكريم قضايا فكرية وكلامية اختلف فيها المسلمون ولا يزالون مثل قضية الاستواء على العرش ورؤية الله والقضاء والقدر وكل فريق يستشهد بما يؤيد وجه نظره من القرآن وكل فريق يمكن أن يتهم الآخر بأنه يطعن فى الكتاب.
وبالنسبة لمدلول السنة فإنه أكثر غموضاً، فأئمة الحديث كل منهم جمع وصحح من الأحاديث ما اعتبره سنة الرسول، وكلهم مختلفون، ثم جاء من بعدهم فكانوا أكثر اختلافاً وذلك يعطى كل فريق الحجة فى أن يتهم خصومه بأنهم يطعنون فى السنة، وبالتالى يقيم لهم محاكم التفتيش، وقد امتلأ تاريخ المسلمين فى العصرين العباسى والمملوكى بمئات من محاكم التفتيش والتكفير، وانغمست فيها السلطات الحاكمة حسب توجهاتها السياسية والفكرية وكان الفريق المسيطر يتهم غيره بالزندقة ويحاكمه ويدينه بهذه التهمة.
بل إن تلك الخصومات الفكرية بين المسلمين جعلتهم يرون تطبيق حد الردة على الزنديق دون إعطائه فرصة المحاكمة حتى لا يتمكن من الدفاع عن نفسه وتبيين حجته، أى يحرمونه من الاستتابة!!
ويقول كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) بقتل الزنديق بعد الإطلاع عليه بلا طلب توبة منه، وهو الذى كان يسمى منافقاً فى زمن النبى ولابد من قتله وإن تاب..!!
وقد يتصور القارئ أن ذلك الزنديق كافر ملحد لا يؤمن بالله ورسله وكتبه، كلا.. إنه مؤمن بالله وكتبه ورسله، ولكنه مفكر صاحب رأى، إلا أن خطأه الأعظم أن آراءه تخالف آراء أصحاب السطوة من الفقهاء، وتخالف ما اعتبروه عندهم هم معلوماً من الدين بالضرورة لذلك يستحق القتل حتى ولو تاب، ولأنه صاحب حجة ومعه الأدلة والبراهين فإن الكهنوت الفقهى يحرمه من المحاكمة التى يتفضل بها على المرتد الكافر العادى، والسبب أن المرتد العادى ليست لديه حجة يخشى منها الكهنوت الفقهى، أما من اتهموه بالزندقة فلديه الحجة والبرهان ولأنهم لا يستطيعون مواجهته بالحجة فى المحاكمة فلا داعى لمحاكمته والأفضل قتله سريعاً..
يقول الشيخ سيد سابق أن الزنديق هو الذى يعترف بالإسلام ظاهراً وباطناً، إذن هو مؤمن بالقلب واللسان، فكيف يكون زنديقاً؟ يقول الشيخ مستدركاً "لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين بالضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة".
أى هو زنديق لأنه اجتهد وجاء بآراء جديدة تخالف ما وجدنا عليه آباءنا وليس مهما إن معه الدليل، إنما المهم أن أدلته تخالف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة..
ويقول الشيخ "وأن الشرع كما نصب القتل جزاءاً للارتداد ليكون مزجرة للمرتدين فكذلك نصب القتل للزندقة ليكون مزجرة للزنادقة وذبا عن تاويل فاسد فى الدين لا يصح القول به، فكل من أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير وأنكر الصراط والحساب سواء قال لا أثق بهؤلاء الرواة أو قال أثق بهم لكن الحديث مؤول ثم ذكر تأويلاً فاسداً لم يسمع من قبله فهو الزنديق، وقد اتفق جمهور المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجرى هذا المجرى".
إنها قضايا خلافية، اختلف فيها المسلمون- ولا يزالون، اختلفت المعتزلة والحنابلة حول رؤية الله وخلق القرآن واختلف الجميع فى الشفاعة وعذاب القبر وسؤال القبر، وفى القضايا الخلافية يعزز كل فريق رأيه بتأويل الآيات ووضع الأحاديث ومهاجمة أدلة وبراهين الطرف الآخر.. وهكذا كان الجدل والمناظرات الفكرية فى عصر ازدهار الحركة الفكرية للمسلمين، فلما جاء عصر الجمود والتقليد أراح الفقهاء المتأخرون أنفسهم من عناء الجدل والبحث وأقاموا جدارا أسمه (المعلوم من الدين بالضرورة) ورفعوا سلاح التكفير والاتهام بالزندقة والقتل فى وجه كل من يحاول الاجتهاد والتفكير ونام الفقهاء المتأخرون تحت جدار المعلوم من الدين بالضرورة ولا يزالون نائمين..
أفيقوا أيها الناس..
فأعظم الظلم أن تقتل النفس التى حرم الله قتلها ثم تنسب ذلك لدين الله تعالى..
ثالثاً: موقف القرآن من الفتوى
بقتل النفس خارج القصاص
أول حرب عالمية فى التاريخ حدثت بين ابنى آدم حين قتل أحدهما الآخر.. ولم يكن القتيل قد ارتكب جريمة فى حياته، أى قتله القاتل بدون سبب موجب للقتل..
وقد حكى رب العزة قصة تلك الجريمة الأولى فى تاريخ البشر.. ومن سياق القصة نفهم المراد منها..
يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة 27، 28).
كان مفهوم القتل وإزهاق النفس معلوماً لدى الأخوين، وكان مفهوم الخطأ فى القتل للنفس البشرية معلوماً أيضاً، خصوصاً لدى الأخ الضحية الذى آثر عدم الدفاع عن نفسه لأنه يخاف الله رب العالمين وقال لأخيه ﴿إِنّيَ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِينَ﴾ (المائدة 29).
ولم يكن أثم القتل وذنبه بعيداً عن عقل الأخ المعتدى، لذلك فإنه بعد أن هدد أخاه بالقتل لبث فترة متردداً ثم أصدر فتوى بأن يقتل أخاه،أو استحل قتل أخيه ، أو بتعبير القرآن ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (المائدة 30). ولأنها أول جريمة فى التاريخ ولأن آدم أباهما كان لا يزال حياً لم يمت بعد، ولأن جثة القتيل كانت أول جثة فى تاريخ البشر فإن الله تعالى بعث غراباً يعلم القاتل كيف يدفن جثة أخيه القتيل ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ﴾ (المائدة 31).
إن محور القضية يتركز فى قوله تعالى عن القاتل ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وبمعنى آخر، إن التركيز هنا ليس على جريمة القتل فحسب، بل على ما هو أخطر من القتل وهو الإفتاء بالقتل ظلماً،أو استحلال القتل المحرم أو تشريع القتل لنفس لا تستحق القتل.
والتعبير القرآنى هنا بالغ الدلالة وهو ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أى أباحت وشرعت وأصدرت فتوى بقتل أخيه، وبعد ذلك التشريع جاء التنفيذ فقتله.. وبعدها كانت النتيجة ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾!!
ولأن محور القضية فى التنبيه على خطورة الإفتاء بالقتل ظلماً فإن الله تعالى بعد أن ذكر القصة انتقل مباشرة إلى الهدف منها فقال ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً..﴾ (المائدة 32).
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾ أى من أجل ما سبق فى القصة من استباحة ابن آدم قتل أخيه الذى لا يستحق القتل.
﴿كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ﴾ أى فرضنا فى التشريع فى التوراة.
﴿أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ﴾ أى من قتل نفساً لم ترتكب جريمة قتل أو قتل نفساً خارج القصاص، وذلك هو المعنى الظاهر..
﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ والفساد فى الأرض هنا وصف لجريمة قتل النفس غير المستحقة للقتل، لذلك جاءت كلمة فساد مجرورة بالكسر..
﴿فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً﴾ وهنا نقف أمام مشكلة: كيف يكون قتل نفس واحدة مساوياً لقتل الناس جميعاً؟ أو بمعنى آخر لنفرض أن شخصاً قتل رجلاً واحداً، وأن رجلاً آخر قتل مليون رجل فهل يتساوى هذا وذلك فى مقدار الجريمة؟.
بالطبع لا...
إذن فالقرآن هنا لا يتحدث عن مجرد جريمة القتل، وإنما يتحدث عن الجريمة الأخطر والأفدح وهى الإفتاء بالقتل ظلماً، أو بالتعبير القرآنى الذى هو محور القصة ﴿فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾ أى فالذى يفتى بقتل نفس لم تقتل نفساً أو غير مستحقة للقتل أو قتل نفس خارج القصاص فكأنما قتل الناس جميعاً، لأنه باختصار أصدر فتوى قابلة للتنفيذ والتطبيق فى كل عصر وفى كل مكان.. أى أصدر فتوى تقتل الناس جميعاً.
ذلك أن السبب الوحيد لقتل النفس هو القصاص، أو قتل القاتل قصاصاً، وذلك حكم الله، فإذا تجاوزنا حدود الله وشرع الله وحكمنا بغير ما أنزل الله فقد أصدرنا حكماً بالإعدام على الناس جميعاً، إذن فقوله تعالى مَن ﴿قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ لا تتحدث عن مجرد القتل ولكن عن جريمة أخطر وهى الإفتاء بقتل من لا يستحق القتل، ولذلك جاء الوصف بالفساد لتلك الجريمة فقال ﴿أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ﴾ ولذلك فإن تشريع القتل خارج القصاص أشد أنواع الفساد.
ثم يوضح القرآن المقصود وإنه الإفتاء الظالم وليس مجرد القتل فيقول تعالى ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً﴾ ومن الطبيعى أنه لا يمكن للقاتل أن يعيد القتيل للحياة، إذن فالمراد واضح وهو أن الجرم الأكبر هو الإفتاء بالقتل ظلماً ومن حارب الإفتاء بالقتل وأثبت إنه تشريع ما أنزل الله به من سلطان فإنه ينقذ الناس جميعاً من تلك الفتاوى المدمرة والسامة، أو كأنه أحيا الناس جميعاً..
فالذى يصدر تلك الفتاوى الإجرامية يقتل الناس جميعاً، والذى يحاربها ويظهر بطلانها ينقذ من شرها الناس جميعاً.. ذلك معنى قوله تعالى ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً..﴾ (المائدة 32).
وقد ذكر رب العزة ذلك التشريع الإلهى فى التوراة فقال عن بنى إسرائيل والتوراة ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ﴾ (المائدة 45).
أى ليس هناك مبرر لقتل النفس إلا إذا قتلت النفس نفساً أى فى القصاص..
وفى التشريع الخاص بنا نحن المسلمين نزل تخفيف واستثناء ينجو به القاتل من القتل إذا رضى أهل القتيل بالدية فيقول تعالى: ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة 178). فالتخفيف هو الأداء للدية بإحسان بعد عفو أهل القتيل أصحاب الدم.
إذن فقاعدة ﴿النّفْسَ بِالنّفْسِ﴾ نزل فيها استثناء هو إعطاء الدية أى أن القاتل لا يقتل فى كل الأحوال..
ولكن قاعدة القصاص سارية سواء كانت بأن يدفع القاتل نفسه أو ماله، ولذلك يقول تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة 179).
وحتى فى القتال فى سبيل الله فإن القصاص هو القاعدة الأساسية لأن تشريع الله تعالى حياة للناس وعدل وإحسان.
فالله تعالى يمنع الاعتداء ويجعل القتال فى الدفاع عن الدولة فقط ضد من يهاجمها يقول تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة 190).
وجاء تشريع القصاص فى القواعد الأصولية للقتال فى قوله تعالى: ﴿الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ﴾ (البقرة 194).
أى يحرم الله تعالى على المسلمين مجاوزة القصاص فى حربهم مع المعتدين فإذا قتلوا من المسلمين عشرة فيحرم على المسلمين أن يقتلوا منهم أكثر من عشرة.. وذلك هو تشريع القصاص الذى هو حياة لنا ولغيرنا..
وإذا كان ذلك فى تشريع القتال مع العدو الذى يعتدى علينا فالأمر يكون أكثر أهمية فى التعامل مع الإنسان الآدمى الذى لا يرفع سيفاً، إذ لا مبرر لقتله إلا فى حالة واحدة، وهى أن يرتكب هو جريمة قتل ويصمم أهل القتيل على القود منه أى على قتله ويرفضوا أخذ الدية.
ومن أفظع الظلم أن نحكم بقتل نفس لسبب آخر خارج القصاص ثم ننسب الفتاوى الظالمة لدين الله تعالى، ودين الله تعالى منها برىء.
والله تعالى جعلها قاعدة تشريعية وكررها فى القرآن ثلاث مرات ليتعظ بها كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال فى الوصايا العشر فى سورة الأنعام ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام 151).
وقال فى سورة الإسراء ضمن وصايا أخرى ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فّي الْقَتْلِ إِنّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ (الإسراء 33). أى أن الله جعل لأهل القتيل المظلوم سلطاناً يتمكنون به من قتل القاتل وأخذ الدية منه، ويحذر أهل القتيل من الإسراف فى القتل، أى قتل شخص آخر غير القاتل، أو تعذيب القاتل عند قتله أو التمثيل به..
ويقول تعالى فى سورة الفرقان فى حديثه عن صفات "عباد الرحمن" ﴿وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً﴾ (الفرقان 68).
ويلاحظ أن التعبير القرآنى جاء بصيغة واحدة فى تلك القاعدة القرآنية ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ﴾، ﴿وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ﴾.
ومعناه أن الله تعالى حرم قتل النفس، وتلك هى القاعدة الأساسية، والاستثناء الوحيد هو القصاص الذى نزل فى كلام الله الحق الذى لا ريب فيه والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذى هو تنزيل من حكيم حميد..!!
يقول تعالى عن القرآن ﴿وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ﴾ (الإسراء 105). فالحق الذى نستطيع به الاستثناء من القاعدة القائلة ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالحَقّ﴾ هو كلام الله تعالى الحق فى القرآن الحق الذى نزل بالحق أى هو القصاص، ومن يناقض القرآن فهو باطل وافتراء يبرأ منه الله ورسوله، وإذا تعلق ذلك الافتراء بقتل الناس بدون وجه حق فهو الفساد فى الأرض والله تعالى لا يحب الفساد..
وسنة الرسول الحقيقية هى التطبيق العملى لتشريع القرآن ولا يمكن أن تتناقض مع القرآن، وذلك ما طبقه الرسول فى تعامله مع المرتدين من المنافقين وغيرهم..
رابعاً: حد الردة فى ضوء السنة الحقيقية
للرسول
سنة الله تعالى هى سنة رسوله . الله تعالى ينزل الشرع وحياً والرسول يبلغه وينفذه ويكون النبى أول الناس طاعة واتباعاً لأوامر الله تعالى.
والله تعالى أمر النبى بأن يقول ﴿إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ﴾ (الأحقاف 9). والإيمان بالرسول معناه الإيمان بكل ما نزل عليه من القرآن والإيمان بأنه اتبع ذلك الوحى وطبقه وكان أول الناس إيماناً به وتنفيذاً له..
والرسول يوم القيامة سيتبرأ من أولئك الذين زيفوا عليه ما لم يقل وهجروا القرآن الذى كان يتبعه النبى فى حياته ﴿وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً. وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾ (الفرقان 30، 31).
والذى نريد إثباته أنه ليس هناك فجوة أو أدنى تناقض بين القرآن وسنة الرسول الحقيقية فهما شىء واحد.. ومع أن هذه بديهية لا تحتاج الإثبات إلا أننا فى عصر يحتاج إلى إثبات البديهيات وتأكيدها..
إن القاعدة التشريعية الكلية فى القرآن الكريم تقول ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ﴾ (البقرة 256).
ودعاة الكهنوت يفهمونها فهماً خاصاً ينفذون منه إلى تسويغ حد الردة المزعوم، فهم يحرفون معناها بأن الهدف منها أنه لا إكراه على دخول الدين، أما إذا دخل الدين أى الإسلام فقد أصبح مكرهاً ومجبراً على تنفيذ التشريعات الدينية، فإذا أراد الخروج من الدين واجهة حد الردة، وأدرك أنه محبوس فى القفص..
وهذا التحريف لمعنى قوله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ يعنى أن الله تعالى نسى كلمة فى الآية أى أن الآية هى "لا إكراه فى دخول الدين" أى سقطت كلمة "دخول" واكتشف العباقرة ذلك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، والحمد لله الذى حفظ القرآن من أى تحريف وإلا كانت أصابع الكهنوت قد حرفت فيه ما شاءت..
إن المعنى الواضح فى الآية إنه لا إكراه فى الدين، فى كل الدين، فلا ينبغى أن يكون هناك إكراه فى دخول الدين ولا إكراه فى الخروج من الدين ولا إكراه فى إقامة شعائر الدين فيما يخص حقوق الله، فالله تعالى يريد أن تعبده بدافع من اختيارك حباً فى الله ورغبة فى طاعته وليس للرياء أو خوف الإكراه، والمنافقون كانوا يقدمون الصدقات بهذه الطريقة وكانوا يصلون الصلاة رياءاً، فمنع الله تعالى النبى من أخذ الصدقة ولم يقبل صلاتهم، يقول تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾ (التوبة 54). وفى نفس الوقت قال عن صنف آخر تاب وصدق توبته ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (التوبة 102). أى أخذ منهم الصدقة لأنهم يبذلونها عن طيب خاطر حتى يغفر لهم الله تعالى..
ونعود إلى قوله تعالى ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾ الذى يمنع الإكراه فى دخول الدين والخروج منه ويمنع الاكراه فى إقامة حقوق الله من العبادات، ونقول إن تحريف معنى الآية وقصره على أنه لا إكراه فى دخول الدين فقط كان يستوجب أن يقال فيه "لا إكراه على الدين" فهنا يكون المعنى خاصاً بدخول الدين فقط..
والقرآن الكريم استعمل تعبير "الإكراه على" فى قوله تعالى ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ﴾ (النور 33). أى على الدخول فى طريق البغاء..
ولو أراد الله تعالى أن يقصر الإكراه على دخول الدين فقط لقال (لا إكراه على الدين) ولكنه أراد منع الإكراه فى كل ما يخص الدين فقط ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ﴾.
والمهم أن القاعدة الكلية فى التشريع الإلهى هى منع الإكراه فى الدين فى دخوله وفى الخروج منه تأسيساً على حرية البشر التى كفلها لهم الله تعالى فى الإيمان أو الكفر وتأسيساً على أنهم سيقابلون الله تعالى يوم القيامة ليحاسبهم على اختيارهم.. ومن هذه القاعدة التشريعية الكلية تفرعت أحكام تشريعية تعكس التقلبات الدينية والسياسية فى عصر نزول القرآن، تلك التى تصاحب حركة كل مجتمع، ونزوع أبنائه للخير أو الشر، للهداية أو الضلال للإيمان أو الإلحاد، دخولهم فى الدين أو ارتدادهم عنه..
لقد عرضنا لموقف النبى حين كان يحزن بسبب أولئك الذين يسارعون فى الكفر بعد الإيمان، وما كان يملك أن يحاكمهم أو يقيم عليهم حد الردة لأنه ليس فى الإسلام حد ردة..
بل أن القرآن الكريم ذكر موضوع الردة تحديداً فى أربعة مواضع ولم يجعل فيها للمرتد عقوبة يقيمها عليه الحاكم، بل أوكل أمره لله تعالى يعاقبه فى الدنيا والآخرة.
يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ ارْتَدّواْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ مّن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشّيْطَانُ سَوّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىَ لَهُمْ﴾ (محمد 25).
أى خدعهم الشيطان.. وتقرأ الآية بعدها لتبحث عن حد الردة المزعوم فلا تجد إلا تخويفاً لهم مما سيحدث عند الموت بالوفاة الطبيعية ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (محمد 27). وعند يوم الحساب حين يحبط أعمالهم ﴿ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اتّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ (محمد 28). أى تأجيل العقوبة لله تعالى يوم القيامة.
وجاءت المواضع الأخرى فى تحذير المؤمنين من الوقوع فى الردة كأن يقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ﴾ (المائدة 54). يعنى إذا ارتددتم فسيأتى الله بقوم غيركم يكونون أفضل منكم، وذلك المعنى جاء فى قوله تعالى ﴿وَإِن تَتَوَلّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لاَ يَكُونُوَاْ أَمْثَالَكُم﴾ (محمد 38)
وهذا هو كل ما هنالك.. يستبدلهم بقوم آخرين، لأنه تعالى غنى عن العالمين ولو كفر أهل الأرض جميعاً فلن يضروه شيئاً..
ويقول تعالى يحذر المؤمنين من دسائس بعض أهل الكتاب ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ (آل عمران 100).
ثم يقول تعالى يحببهم فى الإيمان ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ﴾.
ويقول تعالى يحذر المؤمنين من محاولات المشركين لاضطهادهم وفتنتهم ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة 217).
لم يقل "ومن يرتد منكم عن دينه فجزاؤه القتل وحد الردة" وإنما جعل العقاب فى الآخرة إذا ظل يحيا مرتداً إلى نهاية حياته.. أى يظل المرتد حياً يعيش إلى أن يلقى مصيره بعد الموت.
وجاء معنى الردة فى القرآن كثيراً فى الحديث عن الصحابة المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم. والمنافقون من أصحاب النبى كانوا صنفين: منهم من عرفه النبى ومنهم من لم يعرفه إلا الله تعالى..
والصنف الأخير من الصحابة المنافقين هو الذى أدمن النفاق ومرد عليه وحافظ على نفاء مظهره الأيمانى وعلى شكله الإسلامى فخفى أمره على النبى والناس جميعاً، وهذا الصنف توعدهم الله بعذاب عظيم وأخبر أن النار فى انتظارهم لأنهم لن يتوبوا، قال تعالى: ﴿وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة 101)، فالله تعالى وحده هو الذى سيعذبهم مرتين فى الدنيا ثم فى الآخرة!! والمعنى الواضح انهم سيظلون فى حالة عداء للاسلام الى أن يموتوا. كان نزول الوحى يجعلهم يبالغون فى كتمان عدائهم خوف أن ينزل الوحى يفضحهم كما كان يفضح الصنف الآخر الذى كشف مشاعره وحركته ضد الاسلام ، المتوقع انهم بعد موت النبى وانقطاع الوحى نزولا أن تتاح لهم الفرصة للكيد للاسلام كيف شاءوا متمتعين بالثقة التى اكتسبوها وهم حول النبى يدمنون النفاق واظهار الطاعة. لذا حكم الله تعالى مقدما بأنه تعالى سيعذبهم مرتين فى حياتهم ، ولن يتوبوا وسيكون فى انتظارهم يوم القيامة عذاب عظيم!!
أما الصنف الآخر من الصحابة المنافقين فهو أهون خطرا اذ كشف نفسه ولم يستطع كتمان كراهيته، فكان يقع فى الكفر بلسانه ويقع فى التآمر ثم يسرع للنبى يحلف له إنه ما قال وما فعل..
وهذا الصنف كان معروفاً للنبى والمؤمنين، وكان القرآن ينزل يفضح تآمرهم ويثبت كفرهم وردتهم، ومع ذلك يأمرالله تعالى النبى بالإعراض عنهم، ويقول تعالى عن بعضهم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ (التوبة 74).
يعنى أنهم وقعوا فى الردة حين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بالكيد للمسلمين ولكن لم يفلحوا، وتلك هى شهادة الله عليهم، فهل أقام لهم النبى محكمة تفتيش؟ أو هل أقام عليهم حد الردة المزعوم؟.
إن الله تعالى هو الذى يتولى عقابهم إن ظلوا على النفاق وهو الذى يقبل توبتهم إن تابوا ﴿فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ﴾.
ويقول تعالى عن طائفة أخرى من الصحابة المنافقين ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ (النساء 137).
أى تعودوا دخول الإسلام ثم الخروج منه، ثم فى النهاية اختاروا الكفر والتطرف فيه وعقابهم عند الله الذى لن يغفر لهم يوم القيامة. وهنا أيضا حكم مستقبلى عليهم واخبار بأنهم سيظلون على تطرفهم فى الكفر الى أن يموتوا ميتة طبيعية دون قتل بحد الردة.
وبعضهم تكاسل عن الخروج مع النبى فى غزوة تبوك، وكان عقابة الدنيوى أن حرمهم الله شرف الجهاد مع النبى مستقبلاً، وهو عقاب يتمناه المنافقون، ثم عقاب آخر لا يهتم به المنافقون أيضاً، وهو ألا يصلى النبى على أحدهم إذا مات ولا يقوم على قبره مستغفراً له وداعياً الله أن يرحمه..
يقول تعالى: ﴿فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ولا تصل علىأحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون﴾ (التوبة 84 -83).
أى حكم الله تعالى بكفرهم، ومع ذلك يظل أحدهم يعيش إلى أن يموت، وكل عقابه منع الرسول من الصلاة عليه والدعاء له ، ونفهم من الآية أن النبى كان يصلى عليهم صلاة الجنازة أذا ماتوا ويدعو لهم بالغفران .
ويذكرنا ذلك بصنف آخر من المنافقين كان يتندر على المسلمين أثناء تبرعهم فى غزوة تبوك، فإذا تطوع غنى بالصدقة اتهموه بالرياء وإذا تطوع فقير بما يملك سخروا منه ﴿الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة 79).
أى أن كل عقابهم هو أن الله تعالى سيعذبهم عذاباً أليماً فى الآخرة.
ولم يعقد النبى لهم محكمة تفتيش، ولم يقم عليهم حد الردة المزعوم، بل كان يستغفر لهم ونزل القرآن يخبر النبى إنه مهما استغفر لهم فلن يغفر الله لهم ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة 80).
أى حكم الله تعالى بكفرهم وفسقهم، ومع ذلك كان النبى يستغفر لهم وكان يصلى عليهم إذا ماتوا حتى نهاه الله عن الصلاة عليهم وقال له ﴿وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾ (التوبة 84).
وكانوا يحاولون إرضاء المؤمنين وخداعهم بمعسول القول مع استمرارهم على الكفر وحرب الله ورسوله فقال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ. أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة 62، 63).
أى توعدهم الله بالخلود فى النار لأنهم حاربوا الله ورسوله.. وذلك هو عقابهم.
وكانوا يؤذون النبى ويتهمونه بأنه "أذن" أى يسمع لهذا وذاك، ونزل القرآن يدافع عن النبى ويتوعدهم بالعذاب الأليم يوم القيامة.. دون أى إشارة لمحاكم تفتيش أو حد الردة يقول تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة 61). ومتى سيكون العذاب الأليم؟ يوم القيامة..
وكانوا يستهزئون بالله تعالى ورسوله الكريم وكتابه الحكيم وينزل القرآن يحكم بكفرهم ويعلن عدم قبول اعتذارهم، ويؤجل عذابهم إلى يوم القيامة ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوَاْ إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ﴾ (التوبة 64).
فالله تعالى هو الذى ينبئ بما فى قلوبهم وهو الذى يفضح تآمرهم وهو الذى يحكم بكفرهم، وهو الذى يعفو عن طائفة منهم وهو الذى يعذب طائفة أخرى حسبما يعلم من إمكانية التوبة لدى هذا وذاك..
أما النبى فليس له من الأمر شىء..
لأنه نبى الله وليس إلهاً مع الله..
وكانوا يتحركون فى المدينة بحرية يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويمنعون الصدقة والزكاة فتوعدهم الله تعالى بالعذاب واللعنة يوم القيامة ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ﴾ (التوبة 67، 68).
إن الله تعالى هو الذى شهد على تحركهم بالفساد فى مجتمع المدينة وهو الذى يتولى عقابهم، أما النبى فليس له من الأمر شىء..
ويقول تعالى عن المتخلفين عن الخروج مع النبى فى غزوة تبوك ﴿وَجَآءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. لّيْسَ عَلَى الضّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىَ الْمَرْضَىَ وَلاَ عَلَى الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (التوبة 90، 91). ومتى ذلك العذاب الآليم؟
ويقول تعالى عن طائفة منهم ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (التوبة 95).
كان المنافقون المتخلفون عن الغزوة بدون عذر يخشون من أن يعقد لهم المسلمون محاكم، فبادروا يحلفون ويقسمون بالأيمان المغلظة بأنهم لهم العذر حتى يعرض عنهم المسلمون فأمر الله تعالى- بعد أن أخبر سلفاً بما سيحدث- أمر بأن يعرضوا عنهم ولا يتعرضوا لهم لأن مصيرهم إلى جهنم.. وفى نفس الوقت نهى المؤمنين عن أن يرضوا عنهم ﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَرْضَىَ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة 96).
إن الله تعالى قد حدد سياسة معينة للنبى يتصرف بها مع المنافقين المرتدين، هذه السياسة هى الإعراض عنهم يقول الله تعالى للنبى عنهم ﴿أُولَـَئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾ (النساء 63).
فهنا نوع من الإعراض الإيجابى الذى يشمل الوعظ والنصح دون ضغط أو تخويف ثم تركهم إلى ما يختارون فى النهاية، وهذا الإعراض يتناقض مع محاكم التفتيش..
وحين كانوا يدخلون على النبى يقدمون له فروض الطاعة ثم يخرجون من عنده يتآمرون عليه قال له ربه بعد أن أخبره بتآمرهم ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً﴾ (النساء 81).أى أمره بالاعراض عنهم متوكلا على الله تعالى.
وذلك كله يؤكد أن النبى ما أقام محاكم للمنافقين المرتدين، وما عرفت دولة الإسلام الحقيقية فى عهده ذلك الحد المزعوم للردة..
إن الله وحده هو الذى يعلم ما فى القلوب من إيمان حقيقى أو زائف.. وهو الذى فضح المنافقين وأخبر عن سرائرهم، ولولا أن القرآن نزل يخبر عما تطويه جوانحهم ما علم النبى والمؤمنين حقيقتهم..
ولقد كان النبى يتعامل مع المؤمنين حسب الظاهر، فهم الذين أعلنوا إيمانهم وهم الذين أسلموا ظاهراً ووقفوا مع النبى، أما الإيمان الحقيقى والإسلام القلبى فمرجعه إلى الله تعالى يحكم عليه وعليهم يوم القيامة.
لذلك يقول تعالى للمؤمنين ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ﴾ (النساء 136).
﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ﴾ أى آمنوا حسب الظاهروهو اختيار الايمان بمعنى الأمن أى أن تكون مسالما يأمن الناس جانبك ويثقون فيك.
﴿آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أى آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان إيماناً بالقلب الخاشع.
ويقول تعالى ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ (التحريم 6)، ويقول تعالى: ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً﴾ (التحريم 8).
فالخطاب هنا للمؤمنين حسب الظاهر لكى يكون إيمانهم حقيقياً ومقبولاً عند الله ولكن هذا الإيمان الظاهر يعطى صاحبه كل حقوق المسلم طالما يعيش فى سلام مع الناس حسب المعنى الظاهرى للإسلام، وهو السلام حتى لو اكتفى بمجرد النطق بكلمة السلام وقت الحرب، فلو كان شخصاً مجهولاً ودارت حرب بين المسلمين وبين قوم ذلك الشخص المجهول، فإن مجرد نطقه بكلمة السلام يعصم دمه أثناء المعركة.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء 94).
أى أنه مجرد أن يلقى أحدهم السلام- أو تحية الإسلام- فى وقت الحرب فإن ذلك يعصم دمه، فيكفى أنه شخص مسالم يقلى السلام لنعتبره مسلماً حسب الظاهر نحفظ دمه وماله وقت الحرب، وبالتالى فإنه وقت السلم يكون أولى بحقن دمه وماله.
بل إن المشرك المعتدى وقت الحرب إذ كف يده واستجار بالمسلمين فى المعركة فإن ذلك يكفى لحقن دمه وتأمينه إلى أن يبلغ داره آمناً بعد أن يسمع كلام الله ليكون ذلك حجة عليه يوم القيامة بأن الدعوة بلغته وعلم بها، وأعطى الفرصة للتفكر والنجاة، يقول تعالى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّىَ يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاّ يَعْلَمُونَ﴾ (التوبة 6). إلى هذه الدرجة بلغ الرقى الحضارى فى التشريع القرآنى، وبلغ الحرص على صيانة الدماء والنفوس حتى لو كانت عند الله مشركة أو جاحدة. وأولى الناس بصيانة دمائهم هم المؤمنون ظاهراً، فأعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى أن تقتل مؤمناً..
وتحديد المؤمن هنا يرجع للشكل والمظهر.. والمؤمن هو المأمون الجانب أى المسالم الذى لا يعتدى على أحد..
يقول التشريع القرآنى للمؤمنين ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَئاً﴾ (النساء 92). أى لا يمكن التصور بأن مؤمناً مسالماً يقتل مؤمناً مسالماً إلا على سبيل الخطأ.
فما الحكم إذا قتل أحدهم مؤمناً؟ (مؤمناً حسب الظاهر طبعاً أى سالماً لا يعتدى على أحد)
نقصد قتل ذلك الإنسان المسالم متعمداً مع سبق الإصرار والترصد، حجة أنه مرتد أو فى قلبه مرض أو أى حجة خارج القصاص يقول تعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ (النساء 93).
أى جزاؤه الخلود فى النار وغضب الله ولعنته والعذاب العظيم.
وسؤال آخر: فما الحكم فيمن يقتل ملايين المؤمنين متعمداً أو يقتل الناس المؤمنين جميعاً؟ والإجابة: هل يمكن لشخص واحد أن يقتل بنفسه ملايين المؤمنين متعمداً أو يقتل الناس المؤمنين جميعاً؟ والجواب: نعم إذا أفتى بقتل النفس التى لا تستحق القتل.. أو أفتى بقتل المرتد والزانى وتارك الصلاة.. إلى آخر تلك الفتاوى السامة التى تحكم بغير ما أنزل الله، وبغير ما سارت عليه سنة الله تعالى ورسوله الكريم.
==========================================
الفصل الثانى
حد الردة فى كتب التراث وتاريخ المسلمين
أولاً: السيرة النبوية تنفى وجود الردة
بدأ تدوين المغازى أو السيرة النبوية قبل كتابة الأحاديث المنسوبة للنبى ، ولذلك كانت الحقائق التاريخية فى السيرة أقرب للصدق وأقرب للواقع القرآنى من أغلب الأحاديث. مع التأكيد على أن حقائق القرآن مطلقة لأنها الاهية، اما مايقوله التاريخ فى السيرة النبوية وغيرها فهى أخبار لا تخلو من الكذب وتحتاج الى جهد الباحثين لفحصها وتمحيصها ومعرفة الصحيح والكاذب منها. وجهد الباحثين فى الاختيار والتمحيص ليس الا جهدا بشريا قابلا للخطأ والصواب شأن الروايات التاريخية نفسها وكلها ان صحت فهى حقائق تاريخية بشرية. المهم ان تلك السيرة ليست جزءا من الدين الالهى لأن الدين الألهى لا يمكن أن يكون مؤلفه من البشر. ان الله تعالى هو مالك الدين وهو الذى جعل لهذا الدين يوما هو يوم الدين، وهو الذى ارسل الرسل بالكتاب الالهى الذى يعبر عن دينه والذى على أساسه سيحاسب البشر يوم الدين.
ويرتبط بالسيرة ما اصطلح على تسميته بأسباب النزول، وهى الروايات التى قالها علماء التفسير الأوائل فى سبب نزول بعض الآيات، وجدير بالذكر أن مجالس العلم الأولى فى عصر الخلفاء الراشدين دارت حول المغازى أو سيرة الرسول وأسباب النزول والتفسير أو التعليق على آيات القرآن الكريم، وكان أساتذة تلك المجالس العلمية من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وابن عمرو وزيد بن ثابت.
* ومن خلال البحث فى السيرة النبوية وأسباب النزول المرتبطة بالقرآن الكريم نتأكد من عدم وجود حد الردة المزعوم.
* إن سيرة ابن هشام هى أقدم كتب السيرة وأكثرها ثقة واحتراماً، والبحث فيها يثبت أن النبى- من خلال الروايات المنقولة عنه- لم يعرف حد الردة ولم يعامل المنافقين إلا بالتى هى أحسن.
- يذكر ابن هشام فى تأريخه لغزوة (أحد) أن جيش المسلمين اجتاز حديقة لأحد المنافقين وهو مربع بن فيظى وكان أعمى فقام يحثى التراب فى وجوه المسلمين ويقول للنبى: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى (أى بستانى)، وأخذ حفنة من تراب فى يدى وقال: والله لو أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم، فقال لهم النبى : لا تقتلوه..
- وحين قال عبد الله بن أبى بن أبى سلول زعيم المنافقين: أما والله إن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال عمر للنبى: مر به عباد بن بشر ليقتله، فقال له النبى: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟
- وعاش عبد الله بن أبى بن سلول زعيم المنافقين يمارس دوره فى الكيد للمسلمين كيف شاء حتى مات، ولما مات دعى النبى للصلاة عليه فاعترض عمر وأخذ يقول للنبى: يا رسول الله أتصلى على عدو الله عبد الله بن أبى بن سلول القائل كذا يوم كذا والذى فعل كذا يوم كذا، فتبسم النبى وقال: إنى قد خُيرت فاخترت، قد قيل لى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم. فلو أعلم أنى زدت على السبعين غفر له لزدت، ثم صلى عليه النبى ومشى فى جنازته حتى قام على قبره، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَلّ عَلَىَ أَحَدٍ مّنْهُم مّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ﴾..فما صلى بعدها على منافق.
ويذكر ابن هشام أن بعض المنافقين استهزأ بالرسول حين خرج بالجيش لمواجهة الروم فى غزوة تبوك وتوقعوا أن يأسر الروم الرسول والمسلمين وعرف النبى بمقالتهم، فجاءوا إليه يعتذرون، ويقولون يا رسول الله كنا نخوض ونلعب، فنزل قوله تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾..
ولم يتعرض لهم النبى ..
وهذه بعض الأمثلة مما ذكره النيسابورى فى كتابه (أسباب النزول)
- يقول: اجتمع نفر من المنافقين وأخذوا يسبون النبى وعندهم غلام من الأنصار اسمه عامر بن قيس فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن أشر من الحمير، فأتى عامر للنبى فأخبره فاستدعاهم وسألهم فحلفوا له أن عامراً كاذب، وحلف عامر أنهم كاذبون وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق من كذب الكاذب، فنزل قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ﴾.
- ويقول أنه خرج بعض المنافقين مع الرسول إلى غزوة تبوك فكانوا إذا خلوا إلى بعضهم سبوا الرسول وطعنوا فى الدين، فنقل ما قاله حذيفة إلى الرسول فقال لهم النبى: ما هذا الذى بلغنى عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئاً.. فنزل قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾.
ويروى النيسابورى رواية أخرى لقوله تعالى عن المنافقين ﴿وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾ وهى أن بعضهم تآمر على قتل النبى ليلة العقبة وكان قائد النبى فى تلك الليلة عمار بن ياسر وسائقه حذيفة، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل فالتفت فإذا هو بقوم ملثمين فقال: إليكم يا أعداء الله، فأمسكوا وارجعوا، ومضى النبى حتى نزل منزله..
- ويروى النيسابورى روايات متعددة فى سبب نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىَ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُواْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾. ومنها رواية تقول أنها نزلت فى معركة انهزم فيها المشركون وهرب منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين فلما غشيه بالسلاح قال الهارب: إنى مسلم إنى مسلم، فكذبه وقتله وأخذ متاعه فقال له النبى: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً من القتل، فقال له الرسول: فهلا شققت عن قلبه فتنظر أصادق هو أم كاذب؟!!
ورواية أخرى تقول أن المسلمين لحقوا رجلاً فى غنيمة له فقال لهم: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت الآية .
* إذن هى حقيقة الاهية قرآنية مطلقة تؤكد أن النبى لم يعرف حد الردة ولم يتعامل به مع المنافقين الذين شهد الله تعالى على كفرهم وتآمرهم..
* وهى أيضاً حقيقة تاريخية فى سيرة النبى تؤكد أن النبى لم يعرف حد الردة ولم يتعامل به مع المنافقين الذين شهد الله تعالى على كفرهم وتآمرهم..
* وقد اضطر بعضهم للاعتراف بهذه الحقيقة ففى كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) يقول الشيخ الغزالى مستنكراً (متى أمر رسول الله بقتل المنافقين؟ ما وقع ذلك منه، بل لقد نهى عنه) .
* فإذا كان النبى قد نهى عن قتل المنافقين وهم قد ارتدوا عن الإسلام فماذا يقول علماء الأصول فى تراث المسلمين عن مدلول ذلك فى أصول التشريع؟ يقول الإمام الشاطبى فى كتابه (الموافقات) عن السنة النبوية فى المسألة السادسة تحت عنوان (فعل الرسول دليل على مطلق الأذن وتركه دليل على مطلق النهى): من أنواع الترك: منع النبى من قتل أهل النفاق وقال عليه السلام فى ذلك: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه..) . والحديث السابق رواه مسلم فى صحيحه.. والمستفاد من ذلك أنه طالما نهى النبى عن قتل أهل النفاق فذلك يعتبر دليلاً على مطلق النهى عن قتل المنافقين، وطالما شهد الله تعالى على أن المنافقين ارتدوا عن الإسلام، إذن فهو نهى عن قتل المرتد. وبالتالى دليل لنا على أن حد الردة يناقض التشريع الإسلامى بشهادة علماء الأصول فى التراث.. وسبق أن أثبتنا أنه يناقض تشريع القرآن.. ولكن المغرمين بحد الردة من الفقهاء حين يعوزهم الدليل من القرآن والأصول يحتجون بأن أبا بكر حارب المرتدين.
تعالوا بنا إلى حرب الردة..
ثانياً: بين حرب الردة وحد الردة:
الشائع أن أبا بكر حارب المرتدين لأنهم منعوا الزكاة..... وذلك تبسيط مخل بالموضوع.. إن تقديم الصدقات فى عهد النبى كان يتم طواعية، والله تعالى منع الرسول من أخذ صدقات المنافقين لأنهم لا يستحقون شرف التطوع فقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاّ أَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصّلاَةَ إِلاّ وَهُمْ كُسَالَىَ وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاّ وَهُمْ كَارِهُونَ﴾.
وبعضهم عاهد الله إن رزقه ليتصدقن وليكونن من الصالحين فلما رزقه الله أعرض وبخل، فقال عنه رب العزة: ﴿وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ. فَلَمّآ آتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىَ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ﴾.
ويروى النيسابورى فى أسباب نزول هذه الآية أن ثعلبة قال للنبى: ادع الله أن يرزقنى مالاً، فقال له: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه، فقال ثعلبة: والذى بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقنى لأوتين كل ذى حق حقه، فدعا له النبى، وكثرت أغنام ثعلبة حتى ضاقت بها المدينة فخرج بها عن المدينة وانشغل بها عن الصلاة، ورفض أن يعطى الصدقة المفروضة، ونزلت فيه الآيات، فعاد للنبى يعرض عليه صدقاته فرفضها النبى ثم رفضها أبو بكر ثم عمر إلى أن مات فى خلافة عثمان .
وعاش أبو بكر حياته مع النبى وعايش تعامل النبى عليه السلام مع المنافقين وكيف كان يرفض صدقاتهم تنفيذاً لأم الله تعالى..ولذلك فلا تتصور أن يكون نهوضه لحرب المرتدين لمجرد أنهم منعوا الزكاة. لأن الأمر كان أعقد من ذلك بكثير..
* يقول ابن كثير فى تاريخه أنه بعد وفاة النبى عليه السلام ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب واشتد النفاق فى المدينة، وكان خطر الأعراب حول المدينة هائلاً، وانضمت إلى مسيلمة الكذاب قبائل حنيفة واليمامة، وانضم إلى طليحة الأسدى قبائل أسد وطئ وآخرون فادعى النبوة مثل مسيلمة، ونفذ أبو بكر وصية الرسول عند الموت بإرسال حملة أسامة بن زيد فأصبحت المدينة بلا جيش قوى يحميها، فتشجع الأعراب المحيطون بالمدينة وبدءوا يتجمعون حولها مما جعل أبو بكر يكون مجموعات حراسة حول المدينة يقودهم على والزبير وطلحة وسعد ابن أبى وقاص وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف..
وفى ذلك الوقت العصيب جاءت وفود القبائل التى رفعت راية العصيان تفاوض أبا بكر على أن لا تؤدى الزكاة، ورفض أبو بكر، وقد أشار الصحابة ومنهم عمر على أبى بكر بأن يصالحهم على ذلك إلى أن تتحسن أحوال المسلمين فرفض أبو بكر وقال: والله لو منعونى عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. والواضح أن أبا بكر قد فهم الأمر على حقيقته، وأنه ليس مجرد منع الزكاة بل هى ثورة وتهديد للدولة الجديدة ورغبة فى القضاء عليه، ولذلك فإن أبا بكر أدرك أن أولئك المتفاوضين إنما هم طلائع جيش قادم على الأبواب، فأخبر أهل المدينة بأن أولئك المتفاوضين حين يرجعون إلى أقوامهم سيخبرونهم بقلة الجيش فى المدينة..
وهكذا جعل أبو بكر يقوى الحراسة على المدينة تحسباً للهجوم القادم، وألزم أهل المدينة بالاستعداد الحربى فى الداخل، وأمرهم بالحضور فى المسجد على أهبة التحرك، أى أعلن الطوارئ القصوى، وبعد رجوع وفد التفاوض بثلاثة أيام وصلت للمدينة طلائع جيش المرتدين، بينما بقى قلب الجيش عند (ذى حسى) وأرسلت قوة الحراسة على المدينة تخبر بالهجوم القادم فأمرهم أبو بكر بأن يلزموا أماكنهم. وخرج سريعاً بأهل المدينة المجتمعين فى المسجد، واشترك الجميع فى مواجهة الهجوم حتى هزموهم وطاردوهم إلى حيث قبع قلب الجيش فى (ذى حسى) وفوجئ المسلمون بالكمين ولكن استطاعوا الانتصار..
وقبلها أغارت قبائل الأعراب على المدينة ومعها عناصر من المرتدين من قبائل عبس وذبيان وكنانة ومرة، وقد صدهم المسلمون، ولكن خطرهم كان لا يزال قائماً بسبب قربهم من المدينة، وبعد انتصار المسلمين على الجيش الأول للمرتدين بعثوا حملة إلى أولئك الأعراب ولكنهم استطاعوا هزيمة المسلمين فى بداية الأمر، فبات أبو بكر يعبئ المسلمين ثم هاجم الأعراب آخر الليل وهزمهم وطاردهم إلى (ذى القصة) وكان ذلك أول الفتح وبعدها تمكن المسلمون فى كل قبيلة من الهجوم على المرتدين فى داخل القبيلة وأخضعوهم. ثم رجع أسامة بن زيد بالجيش منصوراً فقوى به المسلمون فى المدينة، وقد استخلفه أبو بكر على المدينة وخرج بالجيش إلى بقايا المرتدين فى (ذى حسى) و(ذى القصة) فهزمهم.. وبعدها أرسل أحد عشر جيشاً لمطاردة المرتدين فى كل أنحاء شبه الجزيرة العربية..!!
* والسؤال هنا: أين ذلك كله من حد الردة..؟
إن حرب الردة هى حركة مسلحة استهدفت القضاء السياسى على الدولة الإسلامية، وقد واجهها أبو بكر بنفس السلاح ليدافع عن الدولة الناشئة، وبعد إخمادها دخل أبو بكر بالعرب إلى عصر جديد بالفتوحات فى العراق والشام.
وما يفعله أبو بكر ليس مصدراً للتشريع، ولذلك خالفه عمر وبعض الصحابة فى اجتهاده السياسى، ونرى أنه أصاب فى موقفه السياسى والحربى، واستطاع أن ينقذ الإسلام والمسلمين من تلك الهجمة القبلية المتخلفة..
ولكن لا شأن لحرب الردة بحد الردة..
إن حد الردة يتحدث عن شخص مسالم لا يرفع سلاحاً، دخل فى الإسلام، أو عاش مسلماً ثم أراد أن يخرج منه، دون أن يحارب المسلمين.. فالفرق شاسع بين حرب الردة وحد الردة.. وإذا كانت حرب الردة قد وقعت فى خلافة أبى بكر فإن حد الردة اخترعوه فيما بعد، وأبو بكر فى دفاعه عن وجهة نظره، لم يقل "من بدل دينه فاقتلوه" لأن حديث الردة لم يكن قد اخترع فى ذلك الوقت.تعالوا بنا الى نشأة حد الردة المزعوم..
ثالثاً: نشأة حد الردة:
بين الأوزاعى وعكرمة:
- يقوم حد الردة المزعوم على مجرد حديثين روى أحدهما عكرمة مولى ابن عباس والآخر أعلنه الأوزاعى بدون سند وبدون رواة فى موقف عصيب.. ثم ما لبث أن رواه مسلم فى "صحيحه" بعد أن منحه السند والعنعنة..
- ونبدأ بالأوزاعى ودوره فى اختراع حديث الردة القائل "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
- لقد عاش الأوزاعى فى الدولة الأموية وناصرها وخدمها ثم أدرك الدولة العباسية ومالأها وخدمها أيضاً.. ووجدت فيه الدولتان الأموية والعباسية خير من يمثل فقيه السلطة الذى يفتى لها بما تريد، لذلك عاش مكرماً فى عهد الأمويين، فما جاء أعداؤهم العباسيون يفتكون بالأمويين وعملائهم ظهر لهم الأوزاعى يعرض خدماته، فعفوا عنه لأنهم فى حاجة ماسة له.. فتمتع بالنعيم العباسى بعد أن تمتع بالنعيم الأموى..
إن الأمويين فى بداية الأمر لم يحتاجوا إلى فقهاء السلطة، فمعاوية لم يحتج فتوى حين قتل حجر بن عدى الكندى بسبب كلمة قالها، ولم يحتج معاوية لاتهام حجر بالردة أو إلى مبرر يتمسح بالشرع كى يقتله، وبزيد بن معاوية لم يحتج إلى فتوى حين قتل الحسين وآله فى كربلاء، ولم يحتج إلى فتوى تبيح غزو المدينة وانتهاك حرمتها، ولم يحتج إلى فتوى تبيح له حصار مكة وانتهاك حرمة الكعبة وضربها المجانيق..
إلا أن تلك الفظائع التى حدثت فى سنوات متتالية تركت أثراً هائلاً لدى المسلمين استغله بنجاح أعداء الأمويين من الشيعة والخوارج والموالى.. ولم يعد مجدياً أمام الجهاز الدعائى الأموى تبرير مقتل آل البيت وانتهاك حرمة مكة والمدينة بمجرد القصص والروايات، وكان القصص من المهام الرسمية فى الدولة الأموية ويمثل جهاز الإعلام فى عصرنا..
وكانت الطريقة الوحيدة هى التمسح بالمشيئة الإلهية، وذلك ما يفعله الظالم والعاصى فى تبرير ظلمه وعصيانه.. وهكذا بدأت الدعاية الأموية تتخذ مجرى جديداً يقول أن الله شاء أن يموت الحسين وآله قتلى فى كربلاء، وأن مشيئة الله اقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام والمدينة. وإن الاعتراض على ذلك اعتراض على مشيئة الرحمن وخروج على الإسلام ويستحق القتل..
وبذلك بدأ القول بالجبرية ليبرر مظالم الأمويين السابقة واللاحقة.
وبدأ حسن البصرى فى مقاومته تلك الدعوى بطريقة لينة خوفاً من الحجاج. إلا أن الحسن البصرى تشجع حين ظهر معبد بن خالد الجهنى وقال معلناً مقالته المشهورة "لا قدر والأمر أنف" ليرد على دعاوى الأمويين بأن ظلمهم يسير بقدر الله ومشيئته فقال معبد الجهنى أنه لا دخل لقدر الله فى تلك المعاصى وأن أمور الأمويين تجرى بالإكراه والاستبداد والظلم رغم أنوف المسلمين أى "لا قدر والأمر أنف".
وانتقل معبد الجهنى إلى البصرة وقابل الحسن البصرى وقال له: يا أبا سعيد هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجرى أعمالنا على قدر الله، ورد عليه الحسن البصرى: "كذب أعداء الله" وقد شارك معبد فى ثورة ابن الاشعث على الحجاج الثقفى وأسره الحجاج ومات تحت التعذيب بعد سنة 80 هـ.
وسمى مذهب معبد الجهنى بالقدرية التى تعنى مذهب الإرادة الحرة ومسئولية الإنسان عن أعماله، واشتق اسم القدرية من قول معبد "لا قدر والأمر أنف".
وحمل راية القدرية بعد الجهنى غيلان الدمشقى الذى انضم إلى الثائرين على الخليفة هشام بن عبد الملك، وأسره الأمويين وسجنوه . وكان غيلان الدمشقى من الفصحاء فاجتذب الكثيرين من الأتباع، لذا خشى هشام من قتله بدون محاكم فسلط عليه الأوزاعى فقيه الأمويين فى دمشق ودارت مناقشة أو محاكمة أفتى بعدها الأوزاعى لهشام بأن يقتل غيلان وصاحبه المسجون معه، وحتى ذلك الوقت لم يذكر الأوزاعى حديث الردة فأمر هشام بإخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما ثم قطع لسان غيلان فمات .
وهنا نتوقف مع الأوزاعى ونشأته فى ظل الدولة الأموية وخدمته لها ثم لأعدائها العباسيين فيما بعد.
ولد عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعى فى بعلبك سنة 115 ونشأ بالبقاع فى حجر أمه وكانت تنتقل به من بلد إلى بلد، وتأدب أى تعلم بنفسه، وقد كان شديد الطموح، وقد أدرك أن طريقه للوصول للجاه تأتى عن طريق الشهرة بين الناس والتزلف لبنى أمية، وإذا كان صعباً على الفقيه فى العراق أن يحظى بحب الناس مع حب بنى أمية، حيث تسود الكراهية للأمويين، فإن الوضع فى الشام مختلف، إذ أن أهل الشام هواهم مع الأمويين، لذلك كان سهلاً على الأوزاعى أن يحصل على الحظوة الشعبية والحظوة الأموية معاً.
وكان من السهل على الأوزاعى أن يستميل إليه أفئدة الناس بادعاء الزهد وسبك الكرامات- قبل ظهور التصوف بقرن من الزمان، وكان الرأى العام يحتفل بالزهاد ويحضر مجالسهم، وكان الأمويين فى نفس الوقت يحتاجون إلى وجود شيخ شعبى يقدم لهم إلى جانب الفتوى الملائمة المسوغ الشرعى لحكمهم الظالم، واستغل الأوزاعى تشوق المجتمع لقصص الزهاد والصالحين فأسرف فى تأليف الكرامات والوحى لنفسه فيقول "رأيت رب العزة فى المنام فقال أنت الذى تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقلت بفضلك يا رب، ثم قلت: يا رب أمتنى على الإسلام، فقال: وعلى السنة" فهنا وحى كاذب يدعيه الأوزاعى لنفسه ويقبله منه عصره، وقد سبق به الأوزاعى ما قاله الصوفية بعده بقرن من الزمان، وهو فى ذلك المنام الذى ادعاه يجعل رب العزة يزكيه ويمدحه. وقد أشاعوا أن بعض الناس رأى مناماً يقال فيه "أن الأوزاعى خير من يمشى على الأرض" وتنتهى الأسطورة بادعاء أن من رأى هذا المنام لابد أن يموت، حتى لا يوجد الدليل على تلك الرؤيا أو تلك الدعوى أو ذلك المزعم.
وكان واضحاً أن الأوزاعى يقوم بهمة القصص. تلك المهنة التى ابتدعها الأمويين وجعلوا لها ديواناً رسمياً يبثون من خلاله دعايتهم وبياناتهم السياسية والدينية، وفى إحدى تلك المجالس حكى الأوزاعى عن نفسه قال "أردت بيت المقدس، فرافقت يهودياً فلما صرنا إلى طبرية، نزل فاستخرج ضفدعاً فوضع فى عنقه خيطاً فصار الضفدع خنزيراً، فقال أبيعه إلى هؤلاء النصارى، فذهب فباعه واشترى طعاماً فأكلناه ثم ركبنا، فما سرنا، غير بعيد حتى جاء القوم يطلبوننا، فقال لى: أحسبه صار فى أيديهم ضفدعاً، فحانت منى التفاته إليه فإذا بدنه فى ناحية ورأسه فى ناحية، فوقفت وجاء القوم فلما نظروا إليه فزعوا ورجعوا عنه فقال لى الرأس: أرجعوا؟ قلت نعم. فالتأم الرأس إلى البدن وركب وركبنا فقلت له لا أرافقك أبداً أذهب عنى".
وتلك الأسطورة لو قالها شخص عادى لاستحق السخرية من الناس ولكن حين يقولها شيخ يحظى بتصديق الناس له واعتقادهم فى دينه فلابد أن يصدقوه..- وقد استطاع الأوزاعى أن يقنع الناس بتقواه فوصفوه بأنه كان من شدة الخشوع كأنه أعمى وقالوا "أنه كان يعظ الناس فلا يبقى أحد فى مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه وما رأيناه يبكى فى مجلسه قط، وكان إذا اختلى بكى حتى يرحمه الناس" فكيف يبكى فى خلوة وكيف يرحمه الناس وهم لا يرون بكاءه..
والمستفاد من ذلك أن هناك من يشيع تلك الأخبار عن الأوزاعى حتى يعتقد الناس فى خشوعه وخوفه من الله. وكانت زوجته من ضمن فريق الدعاية، فقد دخلت امرأة عليها فرأت الحصير الذى يصلى عليه الأوزعى مبلولاً فقالت المرأة لعل الصبى تبول هنا؟ فقالت لها زوجة الأوزاعى: هذا أثر دموع الشيخ فى سجوده وهكذا يصبح كل يوم!!
ولذلك كان الأوزاعى فى الشام معظماً مكرماً كما يقول المؤرخ الشامى ابن كثير وكان أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد أمر الوالى العباسى عبد الله بن على بعد القضاء على الأمويين بأن يقتل الأوزاعى باعتباره من عملائهم فقال له أصحابه دعه عنك والله لو أمر أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك..
وقد حكى ابن كثير قصة ذلك اللقاء بين الأوزاعى والقائد العباسى عبد الله بن على عم الخليفة السفاح والجبار الذى أباد بنى أمية بالشام، يقول ابن كثير عن الأوزاعى "كان له فى بيت المال على الخلفاء إقطاع ـ اى ارضا زراعية أقطعوها له أى أعطوها له ـ صار له من بنى أمية وقد وصل إليه من خلفاء بنى أمية وأقاربهم وبنى العباس نحو السبعين ألف دينار".
أى استفاد من الدولتين أعطوه الإقطاعيات والزراعية والأموال.
ويقول ابن كثير "ولما دخل عبد الله بن على- عم السفاح أول خليفة عباسى- الذى أجلى بنى أمية عن الشام وأزال الله سبحانه وتعالى دولتهم على يده دمشق فطلب الأوزاعى فتغيب عنه ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه".
أى أن القائد العباسى بعد أن أقام مذابح للأمويين وبعد أن نبش قبور الموتى من الخلفاء السابقين منهم، وبعد أن نكل بأعوان الأمويين استدعى الأوزاعى، فاختفى الأوزاعى ثلاثة أيام ثم حضر بين يديه وقد أعد ما سيقوله فى ذلك اللقاء العصيب لينجو برقبته من جبار بنى العباس وعم الخليفة السفاح نفسه.
وينقل ابن كثير رواية الأوزاعى نفسه عن ذلك اللقاء "قال الأوزاعى دخلت عليه وهو على سريره وفى يده خيرزانه والمسودة- أى القادة العباسيون وكانوا يلبسون السواد- عن يمينه وشماله معهم السيوف مصلته والعمد الحديد- أى الأعمدة الحديدية- فسلمت عليه، فلم يرد، ونكت بتلك الخيرزانة التى فى يده، ثم قال: يا أوزاعى ما ترى فيما صنعناه من إزالة أيدى الظلمة عن العباد والبلاد، أجهاداً ورباطاً هو؟ فقلت: يا أيها الأمير سمعت يحيى بن سعيد الأنصارى يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمى يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". قال الأوزاعى فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم ثم قال: يا أوزاعى ما تقول فى دماء بنى أمية؟ فقلت: قال رسول الله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة" قال الأوزاعى: فنكت بها أشد من ذلك ثم قال: ما تقول فى أموالهم فقلت: إن كانت فى أيديهم حرام فهى حرام عليك أيضاً وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعى، قال: فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: أن أسلافك لم يكونوا يشقون على ذلك وإنى أحب أن يتم ما ابتدأونى به من إحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف؟ فقلت: إن ورائى حرماً محتاجون إلى القيام عليهم وسترهن وقلوبهن مشغولة بسببى . قال الأوزاعى وانتظرت رأسى أن يسقط بين يدى، فأمرى بالانصراف فلما خرجت إذ برسوله من ورائى وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير استنفق هذه، قال الأوزاعى: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفاً، وقال الراوى عن الأوزاعى، وكان فى تلك الأيام، الثلاثة صائماً، فقال إن الأمير لما بلغه ذلك عرض عليه الفطر عنده فأبى أن يفطر عنده.
اخترنا أن ننقل هذه الرواية الطويلة التى يحكيها الأوزاعى عن نفسه، وقد عرفنا جرأته على الكذب والاختلاق، ولكنها مع الشك فى بعض أجزائها إلا أنها تعطينا مشاعر الخوف لدى الأوزاعى، ذلك الخوف الذى لا يتفق مع تلك الردود الجريئة للأوزاعى خصوصاً وهو فقيه من فقهاء السلطة السابقة يريد أن ينجو من السلطة القادمة وقسوتها فى الانتقام، ولذلك لا نتصور أن يواجه جبار بنى العباس عبد الله بن على بأن يقول له مثلاً عن الأموال التى سلبها من الأمويين أن كانت فى أيديهم حراماً فهى حرام عليك أيضاً وإن كانت لهم حلالاً فلا تحل لك إلا بطريق شرعى.
إلا أن ذلك الخوف يفرض على فقيه من نوعية الأوزاعى أن يختفى أياماً يجهز فيها دفاعه عن نفسه وتملقه للسلطة الجديدة واستعداده لخدمتها وذلك بشتى الطرق، وإن كان قد جرؤ على أن يدعى أنه يرى الله تعالى فى المنام ويجعل رب العزة يزكيه ويمدحه فإن من السهل عليه أن يدعى حديثاً نبوياً يخترعه اختراعاً يبيح به للسلطة العباسية أن تقتل خصومها بتهم ثلاث: القصاص، والزنا بعد إحصان والخروج عن الجماعة والدين..
ويلاحظ أن الأوزاعى ذكر حديث "إنما الأعمال بالنيات" وحرص على أن يذكر إسناده وروايته بالتفصيل ولكنه حينما ذكر حديث الردة "لا يحل دم امرئ مسلم" فإنه لم يذكر له إسناداً لأنه لم يكن إسناد حتى ذلك الوقت أو بمعنى آخر لم يكن حديثاً على الإطلاق وإنما اختراع حديث قدمه الأوزاعى هدية يبرهن به للسلطة الجديدة على استعداده لخدمتهم.
ومن الطبيعى أن يقتنع عبد الله بن على بأهمية الإبقاء على الأوزاعى لأنه لن يستفيد من قتله شيئاً، بل ربما يثور عليه أهل الشام الذين يحبونه، ثم أن وجود الأوزاعى فى خدمته أفضل لتأكيد السيطرة على الشام.
ويذكر ابن كثير أن الأوزاعى اجتمع بالخليفة المنصور العباسة حين دخل المنصور الشام وقد أحبه المنصور وعظمه.. ولذلك وصلته الأعطيات والإقطاعيات من العباسيين كما كانت فى عهد الأمويين.
لقد ظلت هيبة الأوزاعى فى الشام تحتل قلوب أهله حتى أن الذهبى فى كتابه "ميزان الاعتدال" تحرج من نقد الأوزاعى فى ترجمته له واكتفى بأن يقول عن مسرور بن سعيد رواية الأوزاعى "غمزه أى هاجمه وطعن فيه- ابن حيان، فقال: يروى عن الأوزاعى المناكير الكثيرة..
أى أن الأوزاعى يروى أحاديث منكرة..
وأفظعها حديث الردة "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
لأنه أعطى اثنين من المبررات لقتل النفس لا تستحق القتل، وقد وافق ذلك هوى الدولة العباسية لأنها بهذا الحديث المفترى وجدت غطاءاً تشريعياً للتخلص من خصومها الأمويين ثم الفرس..
لقد جاءت الدولة العباسية بمفهوم جديد للسلطة يخالف المفهوم الأموى، فإذا كانت الدولة الأموية تعول أساساً على قانون القوة فإن العباسيين الذين وصلوا للحكم تحت ستار الدعوة للرضى من آل محمد أو تحت شعار أنهم آل البيت كان لهم مفهوم جديد للسلطة هو قانون الشرع. فالخليفة الجديد يحكم بالسلطة الإلهية المستمدة من كونه من آل بيت النبى، والخليفة المنصور العباسى خطب يوم عرفة فقال: "يا أيها الناس إنما أنا سلطان الله فى أرضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه على فيئه أقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه ".
أى يحكم بالحق الإلهى وذلك ما كان سائداً فى العصور الوسطى وفى أوروبا باسم The Divine Right Of Kings ومن الطبيعى أن يؤسس أحكامه على أدلة تشريعية، وإذا كان عسيراً أن يجد هواه فى القرآن فإنه يمكن أن يخترع له فقهاء السلطة ما يريد من الأحاديث والفتاوى....
ولذلك فإن استئصال الأمويين فى السنوات الأولى للحكم العباسى كان بفتوى وحديث الردة الذى يحل دم المسلم بإحدى ثلاث وكلها تنطبق على فلول بنى أمية، فقد قتلوا آل البيت فى كربلاء وقتلوا كل ثائر من ذرية الحسين وآخر ضحاياهم كان إبراهيم المهدى صاحب الدعوة العباسية الذى قتله مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين فى الشام.. إذن ينطبق عليهم من وجهة نظر العباسيين قاعدة النفس بالنفس، ثم انهمك الأمويون فى عصرهم الأخير فى المجون والانحلال الخلقى وكان رائدهم فى ذلك بعض الخلفاء الأمويين مثل يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد ، أى كان من السهل اتهامهم بالزنا بعد إحصان، ومن السهل أيضاً اتهامهم بترك الدين ومفارقة الجماعة خصوصاً وقد اشتهروا بإماتة الصلاة وعدم إقامتها، وكانت صياغة الحديث بهذا الشكل تعبر عن فهم الأوزاعى لمتطلبات السلطة العباسية الجديدة واحتياجاتها فى التخلص من خصومها تحت غطاء شرعى مصطنع والدليل على ذلك رواج حديث الأوزاعى واستخدام السلطة العباسية له فى مواجهة خصومها الجدد وهم الفرس...
فالموالى الفرس هم الذين أعانوا العباسيين على إقامة ملكهم، وكان أبو مسلم الخرسانى وجنده هم القوة الضاربة للعباسيين، وحين جاء وقت توزيع الغنائم والمكاسب السياسية استأثر العباسيون بكل شىء وقتلوا أبا مسلم الخرسانى، فثارت ابنته فى خراسان وظهرت طائفة الأبومسلمية تحارب العباسيين فى شرق فارس، وكان لهم أتباعهم فى بغداد وفى البلاط العباسى، وبينما واجه العباسيون ثورات الموالى فى شرق فارس بإرسال الجيوش الجرارة فإنهم تتبعوا عملاء الثوار فى بغداد وعمدوا إلى التخلص منهم باتهامهم بالردة أو الزندقة، ولذلك نشط الخليفة المهدى العباسى فى تتبع الزنادقة وقتلهم بالتهم الثلاث الواردة فى حديث الأوزاعى، وكانت شهرة الفرس بالانحلال الدينى والأخلاقى مما يساعد على اتهامهم وقتلهم وفقاً لذلك التشيع الأوزاعى. والسطور الأولى فى تاريخ الخليفة المهدى العباسى تؤكد حرصه على إبادة الزنادقة وأنه تتبعهم فى كل مكان. والمهدى هو ابن الخليفة أبو جعفر المنصور، ولهذا لا تعجب إذا أصبحت للأوزاعى حظوة عند الخليفة المنصور العباسى أو بتعبير ابن كثير "وقد أحبه وعظمه".
ولا نعجب أيضاً إذا عامل المنصور العباسى فقيهاً آخر بالاضطهاد والعنت ثم قتله، إنه الإمام أبو حنيفة الذى يعتبر صورة معكوسة للأوزاعى..
لقد نشأ الأوزاعى فى الشام ينتمى إلى العرب ويخدم السلطة الأموية، أما أبو حنيفة فقد نشأ فى العراق منتمياً إلى الفرس ويناوئ السلطة الأموية وجاءت الدولة العباسية وسرعان ما أصلح الأوزاعى شئونه معها وصار صاحب حظوة عند الخليفة المنصور.
أما أبو حنيفة الذى ناوأ الدولة الأموية وتحقق أمله فى القضاء عليها فإنه لم يلبث أن حدثت الفجوة بينه وبين الخليفة المنصور فاضطهده وقتله بالسم.
فى حياته فى الدولة الأموية كان أبو حنيفة يناصر الثورات الشعبية العلوية ضدها ومنها ثورة زيد بن على زين العابدين سنة 121 وانتبهت له الدولة الأموية، وأراد الوالى على العراق ابن هبيرة أن يختبر ولاءه للأمويين لأنه لم يكن لديه دليل واضح على اشتراكه الفعلى فى ثورات العلويين، وفى ذلك الوقت كان العراق يموج بقلاقل ضد الأمويين فجمع ابن هيبرة فقهاء العراق ومنهم أبو حنيفة وأسند لكل واحد منهم عملاً وجعل فى يد أبو حنيفة الخاتم أو السلطة على كل الفقهاء، فلا أمر إلا بإذنه، ووافق الفقهاء على خدمة الدولة ماعدا أبو حنيفة، فهدده ابن هيبرة بالضرب والعذاب فأبى، فقال له الفقهاء: "إنا ننشدك الله أن تهلك نفسك فإنا أخوتك وكلنا كارهون لذلك الأمر" فقال أبو حنيفة: "لو أرادنى أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل فى ذلك، فكيف وهو يريد من أن يكتب دم رجل يضرب عنقه وأختم أنا على ذلك الكتاب؟ فوالله لا أدخل فى ذلك أبداً...!" وأمر ابن هيبرة بضرب أبى حنيفة وحبسه، فلما يأس منه فأطلق سراحه، فهرب أبو حنيفة إلى مكة، وظل فيها إلى أن قامت الدولة العباسية، فجاء للكوفة فى خلافة أبى جعفر المنصور .
- وكان طبيعياً أن تحتفل به الدولة العباسية لمواقفه مع آل البيت ومقاومته للدولة الأموية وكونه من ضحاياها، لذلك قربه الخليفة المنصور وكان يستشيره، إلا أن محاولة المنصور استغلال أبى حنيفة وجبروت المنصور فى التنكيل ببنى عمه العلويين عند ثورة محمد النفس الزكية سنة 145 جعل العلاقة تسوء بين الخليفة والفقيه الحر..
فقد اتهم المنصور أبا حنيفة بأنه يثبط القواد العباسيين عن حرب محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، وراح المنصور يخطط للإيقاع بأبى حنيفة فى نفس الوقت الذى كان أبو حنيفة يفتى بما يعتقده حقاً وهو يعرف أن الخليفة لا يريد إلا الفتاوى التى تساعده فى حكمه..
كان المنصور قد اشترط على أهل الموصل أنهم إذا ثاروا عليه فإن دماءهم حلال، وثار أهل الموصل سنة 148 فجمع المنصور الفقهاء وفيهم أبو حنيفة وقال لهم: أهل الموصل قد شرطوا ألا يخرجوا علىّ وهاهم قد خرجوا وحلت لى دماؤهم، فقال الفقهاء: إن عفوت فأنت أهل للعفو وإن عاقبت فبما يستحقون، ولكن أبا حنيفة قال: يا أمير المؤمنين ليس لك أن تشترط عليهم سفك دمائهم، أرأيت لو أن امرأة أباحت جسدها بغير عقد نكاح أيجوز لها ذلك؟ فقال الخليفة: لا. وأمر الخليفة بانصراف الفقهاء ثم قال لأبى حنيفة: لا تفت الناس بما هو شين على إمامك فتقوم الثورات وتبسط أيدى الخوارج .
ويلاحظ أن أولئك الفقهاء الذين نافقوا المنصور هم نفس الفقهاء الذين أبدوا استعدادهم لخدمة ابن أبى هبيرة والى العراق للأمويين وكان منهم ابن أبى ليلى وابن شبرمة وابن أبى هند، وكانوا أعلام الفقهاء فى العراق. ومن الطبيعى أن يحقدوا على أبى حنيفة استقلاله واستقامته لذلك استجابوا لدعوة أبى جعفر المنصور فانطلقوا يهاجمون أبى حنيفة ويتهمونه بإنكار الأحاديث، تلك الأحاديث التى اصطنعوها لخدمة السلطة العباسية، وتطرف ابن أبى ليلى فى النيل من أبى حنيفة حتى يقول فيه أبو حنيفة: "إن ابن أبى ليلى ليستحل منى مالا استحله من حيوان"!!
وأتت تلك الحملة ثمارها إذ هيأت الفرصة للمنصور فى اغتيال أبى حنيفة بالسم بعد أن سجنه وضربه مائة وعشرة أسواط سنة 150 هـ .
ولكن ما علاقة ذلك بالأوزاعى.
إن الاختلاف بين الأوزاعى وأبى حنيفة فى الشخصية والسيرة الذاتية والمواقف من السلطة الحاكمة انعكس على المنهج الفكرى لكل منهما..
أبو حنيفة كان حريصاً على صيانة الأنفس والدماء وكان بنفس القدر يرفض الأحاديث الكاذبة وإذا اتهموه بأنه يكذب الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله كان يقول: "ردى على كل رجل يحدث عن النبى بخلاف القرآن ليس رداً على النبى ولا تكذيباً، ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل" .
أما الأوزاعى الذى عاصر أبى حنيفة فقد كان يحدث عن الرسول مناكير أى أحاديث ينكرها من يسمعها كما قال الذهبى فى ميزان الاعتدال، وكان يفترى أحاديث عن رب العزة وبنفس القدر كان يفتى للحاكم باستحلال الدماء، كما أفتى لهشام بن عبد الملك الأموى بقتل غيلان الدمشقى، ثم أفتى للعباسيين باستحلال دماء الأمويين، ولذلك عاش فى كنف الأمويين ثم العباسيين، بينما لقى أبو حنيفة الاضطهاد من الأمويين ثم من العباسيين.
ومن الطبيعى أن يحدث تنافر بين أبى حنيفة والأوزاعى.
فالأحاديث التى كان يرويها- أو يفتريها الأوزاعى- كان يرفضها أبو حنيفة، وكانت بينهما مناقشات وحوارات فى رفع الأيدى عند الركوع وعند القيام منه.. وكان أبو حنيفة يقدم الرأى والقياس أى اجتهاده الشخصى على أحاديث الأوزاعى وغيره..
وكان الأوزاعى يرد عليه ويقول: إننا لا ننقم على أبى حنيفة أنه رأى- أى يقول بالرأى- كلنا يرى- أى كلنا يقول بالرأى والاجتهاد- ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبى فيخالفه إلى غيره .
الأوزاعى يعتقد أنه طالما اخترع حديثاً فقد أصبح حديثاً قاله الرسول، وأبو حنيفة كان يقول فى الرد على الأوزاعى وغيره من فقهاء السلطة "ردى على كل رجل يحدث عن النبى بخلاف القرآن ليس رداً على النبى ولا تكذيباً له ولكنه رد على من يحدث عنه بالباطل"!!.
حديث الأوزاعى فى صحيح مسلم
عمل فقهاء الدولة العباسية على نشر حديث الأوزاعى وجعلوا له إسناداً بعد أن ذكره الأوزاعى بدون إسناد، وشاع الحديث على الألسنة إلى أن ذكره مسلم فى صحيحه بعد موت الأوزاعى بقرنين من الزمان وبدون إشارة إلى الإوزاعى فى سلسلة الرواة والسند.
وقد ذكر مسلم رواته على النحو الآتى:
حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة عن حفص بن غياث وأبو معاوية عن وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله (ابن مسعود) قال: قال رسول الله: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزانى والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة..
- وصيغة الحديث نرى فيها الصنعة الأوزاعية التى تتيح للدولة العباسية قتل الثائرين عليها من الرجال.
ولكن الأحكام التشريعية الإسلامية فى العقوبات يأتى فيها النص على الرجال والنساء معاً كقوله تعالى: ﴿الزّانِيَةُ وَالزّانِي﴾ ﴿وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ﴾ ﴿وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّىَ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيلاً. وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رّحِيماً﴾.
أو يأتى لفظ (الذين) ليشمل الذكر والأنثى كقوله تعالى: ﴿وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ ﴿إِنّمَا جَزَآءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتّلُوَاْ أَوْ يُصَلّبُوَاْ أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
أو يأتى بتحديد أكثر كقوله تعالى: ﴿يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أما فى حديث الأوزاعى الذى ذكره مسلم فهو يتحدث تحديداً عن الرجل الذى هو امرؤ مسلم (يشهد) (الثيب الزانى) (التارك لدينه المفارق للجماعة).
وعليه فإن المرأة لا عقوبة عليها فى الأحوال الثلاثة..
وبالتالى تصبح العقوبات القرآنية التى تحدثت عن النساء لاغيه..!!
ولو رجعنا إلى الظروف التى نطق فيها الأوزاعى بذلك الحديث واخترعه فيها اختراعاً وهو مهدد بالقتل ونساؤه حوله لعرفنا لماذا أسقط النساء من العقوبة، وكان يتمنى أن يفرغ سريعاً من اللقاء مع جبار بنى العباس عبد الله بن على ليعود إليهن وقد قال له عبد الله: كأنك تحب الانصراف؟ فقال: إنى ورائى حرماً وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن وقلوبهم مشغولة بسببى..!!
لذلك كانت صيغة الحديث ضد الرجل فقط، أما المرأة فهى تحتاج إلى من يقوم عليها ويسترها ويكفى أن قلبها مشغول على رجلها..تلك هى الحالة النفسية التى كان عليها الأوزاعى حين اخترع الحديث وحين نطق به.
ثم كيف يكون ذلك الامرئ المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ثم يكون تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة؟ إن الحديث يستعمل لفظ المضارع (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله) أى أنه مسلم فى ذلك الوقت وأنه يقر بالشهادة فكيف يكون فى نفس الوقت تاركاً لدينه مفارقاً للجماعة؟.إن الراوى لو استعمل لفظ الماضى فقال (لا يحل دم امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله..) لقلنا أنه كان يشهد بالإسلام ثم طرأت عليه الردة.. ولكن كيف يكون مرتداً وهو يشهد فى الحال شهادة الإسلام؟..
ثم ما معنى المفارق للجماعة؟
قد يكون لها معنى سياسى، فالتارك للجماعة يساوى فى مصطلحات العصرين الأموى والعباسى أن يكون من الخوارج الثائرين على الجماعة ، ولكن المعنى الدينى لا يتفق وصحيح الإسلام..فالمسلم قد يفارق جماعته وآله وبلده ويتركهم مهاجراً إلى الله تعالى فهل يكون حينئذ مستحقاً للقتل..؟
يجوز ذلك فى منطق قريش المشركة. ويجوز أيضاً فى منطق الكهنوت فى كل عصر وأوان..ولكن هل يمكن أن تتخيل أن النبى يمكن أن يقول هذا الكلام؟
لن نناقش تعارض ذلك الحديث مع القرآن والسنة الحقيقية للرسول ، فقد سبق أن تعرضنا لذلك. ولكن نركز فقط على نقطة محددة هى أسلوب النبى وعصره فى اختيار اللفظ وضرورة اتساق اللفظ مع الظروف التاريخية لعصر النبوة..
لقد هاجر النبى والمسلمون إلى المدينة وتركوا جماعتهم فى مكة وكانت قريش تتهم النبى بأنه "مفارق الجماعة" وخرج على دين الآباء والأجداد، وكانت تتآمر لقتل النبى وأصحابه، فهل يعقل أن يحكم النبى بنفس منطق أعدائه وأن يستعمل نفس ألفاظهم؟
ثم أولئك الذين ذكرت كتب السيرة أنهم ارتدوا ولحقوا بقريش هل حكم النبى بقتلهم لأنهم بدلوا دينهم وفارقوا الجماعة...؟
ثم صلح الحديبية والذى رضى فيه النبى على أن يرد من يلحق به من المؤمنين المهاجرين وفى نفس الوقت يعطى الحرية لمن يرتد عن الإسلام لأن يلحق بالمشركين.. هذا الصلح هل يتفق مع قول الأوزاعى "التارك لدينه المفارق للجماعة"..؟
وبعد مناقشة المتن فى حديث الأوزاعى نناقش الرواة والسند الذين جاء بهم مسلم.. ماذا قالوا عن الرواة المذكورين فى حديث مسلم والأوزاعى؟
لقد بدأ بأبى بكر بن أبى شبية واسمه الحقيقى عبد الرحمن بن عبد الملك وقد مات فى حدود 220 هـ، وقال عنه الحاكم "ليس بالمتين" وقال عنه أبو بكر بن أبى داود "ضعيف" وقال عنه ابن حيان "ربما أخطأ" .
حفص بن غيث ولقبه أبو عمر النخعى كان قاضياً للدولة العباسية، ومن الفقهاء المتعاونين معها، وقد مات سنة 194. قال عنه أبو زرعه: ساء حفظه بعد ما استقضى، أى بعد أن تولى القضاء، وبمعنى آخر فقد الثقة فيه بعد أن اختارته الدولة قاضياً..
وقال عنه داود بن رشيد: حفص بن غيث كثير الغلط..
وقال عنه ابن عماد: كان عسراً فى الحديث جداً، وقال عنه عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال عنه أبى: أنه أخطأ.. وقال ابن حيان عن أحد مروياته فى الحديث: لم يحدث بهذا الحديث أحد إلا حفص بن غياث كأنه وهم فيه.. أى انفرد بحديث لم يقله أحد غيره، ولأنه غير ثقة فقد اتهمه ابن حيان بالوهم .
أما أبو معاوية الضرير، فقد قال عنه الحاكم أنه احتج به الشيخان أى مسلم والبخارى وقد اشتهر عنه الغلو، أى التطرف أو التشيع.. حيث كان الغلو مرادفاً للتشيع فى ذلك الوقت..
وقال عنه ابن معين: أبو معاوية أحاديث مناكير وقال عنه العجلى: أنه ثقة ويرى الإرجاء، أى مدحه بأنه ثقة ولكن اتهمه أنه من المرجئة، وتلك تهمه تعيب الراوى وقال عنه يعقوب بن شيبة: أنه ثقة وربما دلس، وكان يرى الإرجاء.. أى أنه مدحه ثم اتهمه بالتدليس وبأنه من المرجئة.
وقال عنه أبو داود: كان مرجئاً. وقال عنه أبو معاوية البجلى: فيه جهالة
- والراوى التالى هو وكيع: واسمه وكيع بن الجراح، أبو سفيان الرؤاس الكوفى.. قال عنه ابن المدنى كان وكيع يلحن وقال فيه: كان فيه تشيع..
ونصل إلى الأعمش أهم أولئك الرواة وأشهرهم..
واسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلى الكوفى الأعمش توفى سنة 148 قال عنه الذهبى: ما نقموا عليه إلا التدليس وهو يدلس..
وقال عنه ابن المبارك: إنما أفسد حديث الكوفة أبو إسحاق والأعمش..
قال عنه ابن جرير بن عبد الحميد أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وإعيمشكم هذا وقال عنه أحمد بن حنبل: فى حديث الأعمش اضطراب كثير وقال أنه كان يروى عن أنس مع أن روايته عن أنس منقطعة لأنه ما سمع من أنس..
وقال عنه أبو داود روايته عن أنس ضعيفة.
وقال عنه ابن المدنى: الأعمش كان كثير الوهم.
أما الحاكم النيسابورى فقد جعله من المدلسين وأورد فيه رأى الشاذكونى القائل: من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش ولا عن قتادة إلا إذا قالا: سمعناه..
وبقى من الرواه عبد الله بن مرة ومسروق.
قال الذهبى عن ابن مرة: لم يصح، وقال أبو حاتم عن مسروق ليس بالقوى
أى أن فقهاء السلطة العباسية حين اختاروا لحديث الأوزاعى رواة فإن الشكوك لاحقت أولئك الرواة، وربما أسهم بعض أولئك الرواة فى شيوع الحديث على الألسنه وروايته وهذا بالنسبة للرواة الذين عاشوا فى عصر العباسيين مثل الأعمش وأبى معاوية الضرير وحفص بن غياث وأبى بكر بن أبى شيبة.. والحديث عند محققى الحديث يلحقه الشك ويسقط إذا كان أحد رواته متهماً، فكيف إذا كان الجميع متهمين؟
وبذلك نكون قد انتهينا من حديث الأوزاعى، ويبقى لنا الحديث الآخر الذى اخترعه عكرمة مولى ابن عباس، والذى ذكره البخارى هو الآخر فى صحيحه.
وقد يضطرب القارئ حيث يكتشف أن فى "البخارى" أحاديث كاذبة، ولكن القارئ إذا هدأ وناقش الأمر بهدوء لوصل للحقيقة، فإن البخارى فى نهاية الأمر بشر وليس إلهاً وليس معصوماً من الخطأ والنسيان، وإذا كان قد ذكر فى مقدمة كتابه (الصحيح) أنه اختار محتوياته التى تبلغ حوالى 3 ألاف حديث من بين (600 ألف حديث) فإن هناك نسبة للخطأ البشرى لابد من افتراضها ـ مع افتراض حسن النية فى تدين البخارى نفسه ـ .. وذلك ما يسلم به كل باحث اذا كان واثقا من حسن تدين البخارى وانحيازه للاسلام.. وبلا شك فإن حديث الردة "من بدل دينه فاقتلوه" والذى رواه البخارى عن عكرمة مولى ابن عباس ضمن تلك الأحاديث الكاذبة..
- على أن علماء الأصول والجرح والتعديل كانت لهم مآخذهم على البخارى ومسلم، فقد قال عن البخارى شيخه وأستاذه محمد بن يحيى الذهلى: أن البخارى مبتدع، والسبب فى ذلك أن البخارى كان يقول أن القرآن مخلوق.. وكان شيخ البخارى يخالفه فى ذلك ويقول كلام الله غير مخلوق، ويقول عن البخارى: "اتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه" وذكر الذهلى قول ابن عباس "من زعم أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق" .
وبالطبع فإن رأى الذهلى فى تلميذه البخارى سببه اختلاف الرأى فى مشكلة خلق القرآن، إلا أن بعض المحققين كانت لهم مآخذ على البخارى فى موضوع الأحاديث نفسها
، وممن هاجم البخارى أو بتعبير المحدثين "جرحه" أبو حاتى الراوى فى كتابه الجرح والتعديل وجعله الذهبى ضمن الضعفاء والمتروكين فى كتابه الذى يحمل نفس الاسم.
وقال المحققون أنهم انتقدوا على البخارى (110) حديثاً منهم (32) حديثاً وافقه مسلم على تخريجها و(78) حديثاً انفرد بها البخارى، واتهموا (80) راوياً من رواة البخارى بالضعف وعدم الثقة، واتهموا (160) راوياً من رواة مسلم بالضعف وعدم الثقة، وقال الحاكم النيسابورى عند أحد رواة البخارى وهو عيسى بن موسى غنجار "احتج به البخارى فى الجامع الصحيح غير أنه يحدث عن أكثر من مائة شيخ من المجهولين غير المعروفين الذين يحدثون بأحاديث مناكير" .
ويقول ابن الصلاح فى كتابه علوم الحديث "احتج البخارى بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس، وكإسماعيل ابن أبى اويس، وعاصم بن على، وعمرو بن مرزوق، وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة، واشتهر الطعن فيهم .
ومن النص السابق نعلم أنهم أخذوا على البخارى روايته عن عكرمة مولى ابن عباس، وأن عكرمة سبق أن اتهمه وجرحه الكثيرون، وعكرمة هو صاحب حديث الردة القائل "من بدل دينه فاقتلوه".
كان عكرمة عبداً لعبد الله بن عباس سمع عنه ونقل عنه أقواله فى التفسير، وظل عبداً لابن عباس حتى توارثه أولاده ثم باعوه، أو أطلقوا سراحه، وقد اتاح له ذكاؤه وتفرغه فى خدمة ابن عباس أن يحفظ عنه الكثير. وكان العلم هو الطريق الوحيد أمام الموالى ليبرزوا به فى مجتمع يسيطر عليه الأشراف العرب، خصوصاً وقد كان الأمويين معروفين بالتعصب للعرب ضد الموالى ، وإذا كان العرب قد انشغلوا بالحروب والثورات والسياسة فقد وجد أبناء الموالى فرصة للتفرغ للعلم والتفوق فيه وإثبات أنفسهم من خلاله، وساعدهم على ذلك أنهم أبناء أمم عريقة فى العلم والحضارة..وهكذا كان أكثر العلماء فى التابعين من الموالى..وكان منهم عكرمة..
إلا أن عكرمة كما يظهر فى تاريخه كان حانقاً على الأرستقراطية العربية بقدر ما كان يميل إلى رأى الخوارج الذين لم يروا فارقاً بين العرب والموالى، ولم يشترطوا كون الخليفة من قريش حسب الحديث الذى ذاع وانتشر..
والمحصلة النهائية لسيرة عكرمة العلمية والشخصية هى افتراؤه لأحاديث ادعى أنه رواها عن سيده عبد الله بن عباس ومنها حديث "من بدل دينه فاقتلوه"..
ونتوقف من ناحيتين أساسيتين فى تاريخ عكرمة: مذهبه، واتهامه بالكذب.
فقد كان عكرمة يرى أن الخوارج، وذلك ما قاله المحققون فى بحث سيرته وإن اختلفوا فى تحديد الفرقة الخارجية التى كان عكرمة يميل إليها، حيث لم تكن الفوارق الفكرية بين طوائف الخوارج قد تحددت وتميزت فى عصر عكرمة.
روى ابن المدينى أن عكرمة كان أباضياً، ولكن ابن المدينى يضيف فيقول أن عكرمة أيضاً كان يرى رأى نجدة الحرورى..
ويقول أحمد بن حنبل أن عكرمة كان يرى رأى الخوارج الصفرية، وأنه لم يدع موضعاً إلا خرج إليه فى خرسان والشام واليمن ومصر وأفريقيا، أى شمال أفريقيا، أى ذهب يدعو إلى مذهب الخوارج دون تعيين لفرقة خارجية معينة.
ويقول يحيى بن بكير "إن عكرمة قدم مصر متجهاً إلى المغرب، فأخذ عنه خوارج المغرب.. أى كان داعية وأستاذاً وإماماً للخوارج فى المغرب..
وكان عكرمة فى تجواله فى الأقاليم يخدع الولاة ويدعى أنه يأتى لأخذ العطايا منهم، يقول ابن يسار "رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته خرجان فيهما حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام له، فقيل له ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقال الحاجة..".
وبينما كان يحسن الظن به ولاة الأقاليم البعيدة فإن والى المدينة كان يعرف اتجاهه السياسى المناوئ للدولة الأموية، يقول مصعب الزبيرى "كان عكرمة يرى رأى الخوارج فطلبه والى المدينة فتغيب عند دار ابن الحصين حتى مات عنده" وقال معصب الزبيرى أيضاً أن عكرمة كان يدعى أن ابن عباس كان يرى رأى الخوارج.. أى نسب إلى ابن عباس بعد موته ما كان ابن عباس يرفضه فى حياته..
ومن الطريف أن عكرمة مات فى نفس اليوم الذى مات فيه الشاعر المشهور كثير عزة فترك أهل المدينة جنازة عكرمة إلا العبيد والموالى السودان، وعجب الناس من اتفاقهما فى الموت واختلافهما فى العقيدة، إذ كان عكرمة يرى رأى الخوارج ويكفر أى حكم بالكفر- بالنظرة- أما كثير عزة فهو شيعى يؤمن برجعة على وأبنائه..
والسبب فى كراهية أهل المدينة لعكرمة المشهور بعلمه أنهم اعتبروه داعية للخوارج الحرورية والأباضية..
وقد اشتهر الخوارج من أتباع نجدة الحرورية بالإسراف فى سفك الدماء، يقول الملطى عن نجدة الحرورى "خرج نجدة من جبال عمان فقتل الأطفال وسبى النساء وأهرق الدماء واستحل الفروج والأموال، وكان يكفر السلف حتى قتل..".
وقال الملطى عن الأباضية أنهم أصحاب أباض بن عمر وقيل أنه عبد الله بن يحيى ابن أباض، خرجوا من سواد الكوفة فقتلوا الناس وسبوا الذرية وقتلوا الأطفال وكفروا الأمة وأفسدوا البلاد والعباد وقال عنهم: فمنهم اليوم بقايا بسواد الكوفة.
وقال عن الصفرية أنهم أتباع المهلب بن أبى صفرة (والصحيح أنهم أتباع زياد بن أبى صفرة) وقد خرجوا على الحجاج وقد هزمهم الحجاج وأبادهم .
ونلمح صدى أراء الخوارج فى أقوال عكرمة، روى ابن المدينى أن عكرمة وقف بباب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر.".
كما نلمح صدى عنف الخوارج وجرأتهم على الدماء فى قول عكرمة وقت الحج وقد ازدحم الناس حول الكعبة "وددت أن بيدى حربة فأقتل بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً..".
وأخيراً نلمح صدى ذلك كله فى الحديث الذى رواه البخارى عن عكرمة "من بدل دينه فاقتلوه..".
والسؤال المطروح هنا: ما هو حكم الأصوليين فى الراوى صاحب الهوى والداعى إلى بدعته؟ خصوصاً إذا كانت تلك الدعوة إلى تكفير المسلمين واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم وقتل أطفالهم.
يقول الإمام مالك: "لا يؤخذ العلم من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه.." .
أما ابن الصلاح فى كتابه "علوم الحديث" فيقول اختلفوا فى قبول رواية المبتدع الذى لا يكفر ببدعته فمنهم من رد روايته مطلقاً لأنه فاسق ببدعته، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن يستحل الكذب فى نصرة مذهبه، وبعضهم يقبل روايته إذا لم يكن داعية ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته، وهذا هو مذهب الأكثرية من العلماء، وقال أبو حاتم البستى: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة ولا أعلم فيه خلافاً.." .
وعكرمة كان يدعو إلى رأى الخوارج الدامى.. وكان أيضاً يكذب ولكن اتهامه بالكذب قضية أخرى..
إن اتهام عكرمة بالكذب ظاهرة واضحة فى تاريخه.
قال عنه ابن سيرين "إنه كذاب". وقال عنه ابن أبى ذئب "رأيت عكرمة وكان غير ثقة". وقال عنه محمد بن سعد فى الطبقات الكبرى "ليس يحتج بحديثه، ويتكلم فيه الناس". وقال عنه سعيد بن جبير "إنكم لتحدثون عن عكرمة بأحاديث لو كنت عنده ما حدث بها". وقال عنه سعيد بن المسيب "لا ينتهى عبد ابن عباس حتى يلقى فى عنقه حبل ويطاف به" وكان سعيد بن المسيب يقول لمولاه (برد) لا تكذب على كما كذب عكرمة على ابن عباس. وكان ابن عمر يقول لمولاه نافع "لا تكذب على كما كذب عكرمة على ابن عباس".
وبسبب كثرة أكاذيبه على ابن عباس بعد موت ابن عباس فإن على بن عبد الله ابن عباس جعل فى يديه وقدميه قيوداً وحبسه على باب الحش "دورة المياه" فسئل عن ذلك فقال: إن هذا الخبيث يكذب على أبى..!!. وقالوا أن مسلم تجنب الرواية عن عكرمة فروى له بعض الروايات مقروناً بغيره أى لم يروا له منفرداً،.. وأعرض مالك عن الرواية عنه إلا فى حديث أو حديثين وقال مطرف: سمعت مالكاً يكره أن يذكر عكرمة ولا أرى أنه روى عنه، وقال ابن حنبل أن مالكاً روى عن عكرمة حديثاً واحداً أما البخارى فقد روى عنه وانتقده المحققون فى ذلك كما سبق..
مناقشة حديث عكرمة فى "صحيح البخارى":
- روى البخارى ذلك الحديث عن طريق الرواة الآتى أسماؤهم "حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال أتى على رضى الله عنه بزناقدة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهى رسول الله ، ولقتلتهم لقول رسول الله: من بدل دينه فاقتلوه .
- والحديث يرويه عكرمة عن سيده ابن عباس ، فقد تضخمت الأحاديث المروية عن ابن عباس حتى لقد أسند له أحمد بن حنبل (1696) حديثاً.. هذا مع أن الآمدى فى كتاب "الأحكام فى أصول الأحكام) يقول أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ويقول ابن القيم فى كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب" أن ما سمعه ابن عباس من النبى لم يبلغ عشرين حديثاً .
وذلك الأقرب للصواب من خلال سيرة ابن عباس فى كتب التاريخ، فابن عباس أسلم مع أبيه قبيل فتح مكة وقابل الرسول بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة، ومات النبى بالمدينة وابن عباس فى مكة فى العاشرة من عمره، وفى رواية أنه كان فى الخامسة عشر من عمره.. أى رأى النبى مدة يسيرة وكان فيها طفلاً ملازماً لوالده فى مكة، فكيف يروى عنه مئات الأحاديث؟
وقد روى عكرمة حديث من بدل دينه فاقتلوه، وقد نسبه لابن عباس ضمن ما نسبه إليه من مئات الأحاديث، وقد روى ذلك الحديث عن عكرمة أحد الزهاد المشهورين فى عصره وهو أيوب السختيانى واسمه أبو بكر بن تميمة، ولم يذكره الذهبى فى ميزان الاعتدال مع شهرته، وقد ترجم له ابن سعد فى الطبقات الكبرى وابن الجوزى فى المنتظم ، وروى ذلك الحديث عن أيوب السختيانى تلميذه حماد بن درهم وقد ترجم له ابن الجوزى فى المنتظم وابن سعد فى الطبقات الكبرى، ولم يذكره الذهبى أيضاً فى ميزان الاعتدال. ويروى الذهبى- مع ذلك- فى ترجمة لعكرمة أن حماد بن زيد روى أن شيخه أيوب السختيانى سئل: هل كان عكرمة يُتّهم: أى كان مطعوناً فيه؟ يقول حماد بن زيد عن شيخه أيوب: فسكت ساعة ثم قال: أما أنا فلم أكن أتهمه. أى كانوا يتهمون عكرمة فى مجلس أيوب السختيانى ومع ذلك كان أيوب يصمم أنه لا ينبغى اتهامه. وقد قال يحيى بن سعيد أن عكرمة كان لا يحسن الصلاة فرد عليه أيوب وكان- أى عكرمة- يصلى.. أى كان أيوب يدافع عنه فى كل مجلس..
ويروى أن يحيى بن سعيد الأنصارى ذكر عكرمة فقال: أنه كذاب، فرد عليه أيوب السختيانى: لم يكن يكذب..
وأيوب السختيانى يعلل بذلك روايته عن عكرمة وأخذه عنه الأحاديث. وما رواه أيوب عن عكرمة نقله بعده تلميذه حماد بن زيد بن درهم ثم نقل الحديث عن حماد شيخ آخر هو محمد بن الفضل وكنيته أبو النعمان المتوفى سنة 224 وهو شيخ البخارى ولقبه عارم، "وعنه روى البخارى حديث عكرمة فى قتل المرتد، وجدير بالذكر أن أبا النعمان عارم قال فيه أبو حاتم أنه اختلط عقله فى آخر عمره، واعترف البخارى بأنه تغير عقله وقال عنه أبو داود: استحكم به اختلاط عقله". وقال فيه الدارقطنى: تغير- عقله- بآخره، وقال ابن حبان اختلط فى آخر عمره وتغير حتى كان لا يدرى ما يحدث به فوقع فى حديثه المناكير الكثيرة فيجب التنكب عن حديثه ولا يحتج بشىء منها..
وذلك ما قيل عن أبى النعمان محمد بن الفضل الملقب بعارم، والذى كان أول السلسلة فى رواة حديث "من بدل دينه فاقتلوه" وكان عكرمة آخرها، فأول السلسلة خلط وهذيان عقل، وآخر السلسلة كذب وافتراء، وأما ما بينهما (حماد بن زيد، وأيوب السختيانى) فهما من الزهاد الذين لديهم استعداد لتصديق كل ما يقال..
* ونتوقف مع متن الحديث:
ويقول فيه عكرمة أنه جئ لعلى بن أبى طالب بزنادقة فأحرقهم.. ولم يحدث فى تاريخ على بن أبى طالب أن أحرق خصومه، بل كان مشهوراً بتفادى سفك الدماء ما أمكن ويظهر ذلك فى تاريخه فى حروبه وفى تعامله مع الخوارج، وحتى فى وصيته قبل موته بقاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجى..
وإذا عرفنا كراهية الخوارج لعلى أدركنا لماذا وضع عكرمة تلك العبارة فى سياق ذلك الحديث لتشويه سيرة على وليصل بعد ذلك إلى غرضه الأساسى فى إيقاع الاقتتال بين المسلمين طبقاً لقوله "من بدل دينه فاقتلوه..".
والخوارج يرون كفر ما عداهم، ويستحلون دماء المسلمين جميعاً حتى النساء والأطفال.. وعكرمة يفتى بهذا الحديث لكل من يستطيع سفك الدماء أن يقتل ما استطاع وبتهمة أن الضحية بدل دينه.. والعبارة تتسع للتأويل حسب الهوى..
- وجاءت العبارة عامة "من بدل دينه فاقتلوه" لتشمل المسلمين والنصارى واليهود فمن بدل دينه من اليهود والنصارى ودخل الإسلام فاقتلوه، وذلك حتى يفرح عكرمة !!
- وجدير بالذكر أنها المرة الوحيدة التى يحتوى فيها حديث على كلمة الزنادقة، وهى كلمة فارسية- وعكرمة فارسى- وهى تعنى بالفارسية (زند وكرو) أى القائل بدوام الدهر، وقال الإمام ثعلب: ليس فى كلام العرب زنديق.. ولكن أدخل عكرمة هذه الكلمة فى الأحاديث ضمن ذلك الحديث المفترى الذى نسبه للرسول عليه السلام.
رابعاً: هل يصح قتل الناس بأحاديث الآحاد..؟
قام حد الردة المزعوم على مجرد حديثين أثبتنا كذبهما بمعايير الجرح والتعديل ومن خلال أدلة من كتب التراث نفسها، كما أثبتنا من قبل تناقضهما مع تشريع الإسلام الحقيقى فى القرآن الذى هو الفيصل فى سنة الرسول عليه السلام..
ولكن:
دعنا نفترض أن حديثى الردة حديثان صحيحان، ودعنا نفترض أن القرآن الكريم لا يعارضهما ولا يؤيدهما فهل يصح الاعتماد على حديثين فى تأسيس تشريع؟
وهل يصح إقامة تشريع سنده الوحيد حديثان من أحاديث الآحاد؟
وهل يصح أن تقتل الناس بتهمة الردة اعتماداً على حديثين فقط؟
وهل تهون حياة الناس إلى هذا الحد؟
دعنا نرجع إلى آراء العلماء.. ونكتفى بهم والفضل ما شهدت به العلماء...!!
ونبدأ الموضوع بلمحة عن الحديث المنسوب للنبى عليه السلام..
فحين مات النبى عليه السلام لم يكن مع المسلمين إلا القرآن الكريم كتاباً مكتوباً مدوناً وأوصى النبى بالتمسك به. وذلك ما أورده البخارى ومسلم فى حديث يرويه كلاهما عن الصحابى عبد الله بن أوفى.
وقالوا إن عبد الله بن أوفى كان أحد الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة وقال فيهم الله تعالى ﴿لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة﴾ (الفتح 18) وشهد عبد الله بن أوفى مع النبى ست غزوات، وجرح يوم حنين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة..
سئل عبد الله بن أوفى هل أوصى رسول الله؟ قال: لا. قيل فلم وقد كتبت الوصية على الناس؟ فقال: وصى بكتاب الله..
وقال الحافظ بن حجر فى شرح هذا الحديث فى كتاب فتح البارى :
"أى التمسك به والعمل بمقتضاه، ولعله أشار إلى قوله صلوات الله عليه "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله" واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه أعظم وأهم ولأن ما فيه تبيان كل شىء أما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به".
والحديث رواه مسلم فى سياق حجة الوداع إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا. وفى رواية أخرى عن جابر لما خطب الرسول يوم عرفة: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله".
وقد تلاعبوا بذلك الحديث فقالوا كتاب الله وسنتى، مع أن سياق الحديث فى البداية يدل على التمسك بشى واحد "تركت فيكم ما إن تمسكتم به.." و(به) يرجع إلى شىء واحد هو الكتاب ولو كان مع الكتاب شىء آخر لقال "ما إن تمسكتم بهما..".
ويروى البخارى حديث رفيع: قال دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال له شداد بن معقل أترك النبى من شىء قال ما ترك إلا ما بين الدفتين، دخلنا على محمد بن الحنفية فقال ما ترك إلا ما بين الدفتين.."
أى سئل ابن عباس وابن الحنفية (محمد بن على بن أبى طالب) عما تركه النبى فرد كلاهما بأنه المصحف "ما بين الدفتين".
ثم تكاثرت الرواية على النبى وبدءوا فى كتابة أحاديث عنه مع أنه عليه السلام قال فيما يرويه أحمد ومسلم والدارمى والترمذى والنسائى "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه".
ونهى أبو بكر عن رواية الأحاديث، وجاء فى تذكرة الحفاظ للذهبى أنه قال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه".
وتشدد عمر فى رفض كتابة الأحاديث، وقال فيما يرويه البيهقى وابن عبد البر "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا..".
ولكن تكاثرت روايات الأحاديث بعد دخول المسلمين فى الفتنة الكبرى والحكم الاستبدادى الأموى ثم العباسى حيث احتاج كل فريق لتعزيز موقفه بالأحاديث وبعد أن أسالوا دمائهم أنهاراً كان سهلاً عليهم أن يجترئوا فى الكذب على رسول الله..
وأفزعت كثرة الأحاديث الكاذبة نفراً من العلماء فهبوا لتنقيتها وتمحيصها ونشأ ما يعرف بعلم الجرح والتعديل وتمحيص أحوال الرواة..
وقد قسموا الأحاديث إلى قسمين: متواتر وآحاد.
فالمتواتر هو أخبر به جماعة بلغوا فى الكثرة مبلغاً يستحيل معه تواطؤهم على الكذب وهو بهذا يفيد اليقين. وهو بهذا لا يدخل فى موضوع الجرح والتعديل وعملية الإسناد، لأن الجرح والتعديل قائم على الشك فى الحديث رواته، والمتواتر منزه عن الشك..
ولذلك قالوا أن إثبات التواتر فى حديث ما عسر جداً. وقال الشاطبى: أعوز أن يوجد عن رسول الله متواتر، وقال ابن حبان السبتى أن الأحاديث كلها المروية عن الرسول أحاديث آحاد، وقال النووى فى التقريب: المتواتر من الأحاديث المعروفة فى الفقه وأصوله قليل جداً لا تكاد توجد..
أما أحاديث الآحاد فهى كل المرويات عن الرسول من أحاديث فى نظر أغلبية المحققين، ولذلك يقسمون أحاديث الآحاد حسب درجتها من الصحة إلى صحيح وحسن وضعيف وكلها تفيد الظن ولو كانت عندهم صحيحة، إلا أنهم فى ذلك التقسيم مختلفون لأنه علم قابل للشك واختلاف وجهات النظر..
والملاحظ أن أحاديث الآحاد كانت تتكاثر وتتوالد كلما تباعد الزمن عن عهد الرسول ، فقد كانت فى عهد الأمويين أقل منها فى العصر العباسى الأول، وعلى سبيل المثال فإن الإمام مالك كتب الموطأ فى أواخر عهد المنصور العباسى أى فى سنة 148، وعدد أحاديثه (1008 حديثاً) بعضها منسوب للنبى وبعضها منسوب للصحابة فقط.
بعد أن غربلها ونقل وأسقط منها الكثير.
وبعده بقرن من الزمان جمع البخارى (600) ألف حديث اختار منها البخارى ما بين (3: 4) آلاف حديث، ومات البخارى سنة 256 هـ وبعد البخارى زاد تضخم الأحاديث إلى درجة أن كتب ابن الجوزى (ت سنة 597) فى الأحاديث الموضوعة.. وهكذا تضخمت أحاديث الآحاد بمرور الزمن لأن كل زمن كان يصنع من الأحاديث ما يعبر عن أحوال الناس فيه..
وكل تلك الأحاديث غريبة عن العصر المضىء عصر النبى عليه السلام، وهى بنفس القدر تعبر عن العصور التى صيغت فيها. لذلك كان المحققون فى العصور المتأخرة كالسيوطى (ت 911) أكثر تساهلاً فى قبول الأحاديث وتصحيحها وأكثر دفاعاً عن الباطل منها.
- ثم جاء عصر الصحوة الإسلامية فكان الإمام محمد عبده لا يأخذ بحديث الآحاد مهما بلغت درجته من الصحة فى نظر المحدثين، ولذلك فإنه مثلاً استنكر حديث اليهودى الذى سحر النبى مع أن ذلك الحديث مذكور فى البخارى ومسلم وأحمد والنسائى..
وحديثا الردة المطعون فيهما من أحاديث الآحاد.. فهل يمكن الأخذ بهما؟ وهل يمكن لهما الاستقلال بالتشريع؟
إن كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الذى تحدث عن حد الردة يقول أن الحدود الشرعية التى اتفق عليها الفقهاء "هى ثلاثة فقط (السرقة- الزنا- القذف) أى ليس هناك اتفاق على ما يسمى بحد الردة.. أى أن بعض الفقهاء لم يأخذ بحديثى الردة المطعون فيها، وبمعنى آخر ليس هناك إجماع بين الفقهاء حول حد الردة.
والشيخ محمد الغزالى الذى تحمس لحد الردة جاء فى كتابه "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" ما يؤكد على نفى حد الردة.. يقول "أحصيت أكثر من مائتى آية تتضمن حرية التدين وتقيم حدود الإيمان على الاقتناع الذاتى وتقصى الإكراه عن طريق البلاغ المبين" إلى أن يقول "فأما تصوير الإسلام بأنه يتحرش بالآخرين ويتعطش لدمائهم فهو افتراء على الله والمرسلين، ومع أننا أشبعنا هذا الموضوع بحثاً فى كتبنا الأخرى فإن الحاجة إلى الكلام فيه لا تزال ماسة، ذلك أن حديث الإفك لا ينقطع"، ثم يقول "وفى هذه الأيام النحسات شاعت الخلافات فى أرجاء الأمة وقتل بعضها بعضاً بل أن حصيلة القتلى فى الفتن الداخلية أربى من القتلى فى محاربة الاستعمار الصليبى" وتأسيساً على ما قاله الشيخ الغزالى فإن حد الردة المزعوم يناقض الآيات القرآنية التى تتضمن حرية التدين وتنفى الإكراه فى الدين، والفقرات التى نقلناها من كلامه تنطبق تماماً على المروجين لحد الردة المزعوم والمتخصصين فى اتهام الغير بالكفر والردة والمتعطشين لدماء المسلمين، ويقول الغزالى أن الحديث يسقط إذا كانت به علة فادحة أو كان شاذاً، وحديثاً الردة ينطبق عليهما الاثنان معاً طالما أن سيرة النبى باعتراف الغزالى تنفى أن النبى قتل واحداً من المرتدين.
والغزالى يقول أن حديث الآحاد- حتى لو كان صحيحاً- فإنه لا يفسد اليقين "أما الزعم بأنه يفيد اليقين كالأخبار المتواترة فهى مجازفة مرفوضة".
ويعنى أنها مجازفة أن نسفك دماء المسلمين اعتماداً على حديث صحيح يفيد الظن فكيف إذا كان حديثاً كاذباً؟
والشيخ الغزالى يوضح الأمر بالنسبة للأحاديث الضعيفة فيتسامح معها بشرط أن تكون بعيدة عن العقائد والتشريع يقول: "من حق المهتمين بالأحاديث الضعيفة أن يذكروها بعيدة عن دائرة العقائد والأحكام التشريعية فإن الدماء والأموال والأعراض أكبر من أن نتداول فيها شائعات علمية"!!.
وعليه فإن حديثى الردة- وهما من الشائعات العلمية- ينبغى ألا يقام عليها تشريع يسفك دماء المسلمين ظلماً وعدواناً..
ثم يهاجم الشيخ الغزالى المتمسكين بالأحاديث الباطلة ويقول "وقد ضقت ذرعاً بأناس قليلى الفقه والقرآن كثيرى الظن فى الأحاديث يصدرون الأحكام ويرسلون الفتاوى فيزيدون الأمة بلبلة وحيرة، ولازلت أحذر الأمة من أقوام بصرهم بالقرآن كليل وحديثهم عن الإسلام جرئ واعتمادهم على مرويات لا يعرفون مكانها من الكيان الإسلامى" .
وهو بذلك يضع النقاط فوق الحروف فى موضوع الردة المعتمد على مرويات قل من يعرف مكانها من الكيان الإسلامى.
والشيخ الغزالى استشهد بفتوى الأزهر فى كتابه "تراثنا الفكرى" والفتوى تتحدث عن الذى ينكر استقلال السنة بالإيجاب والتحريم أى التشريع هل يعد كافراً أم لا..
يقول الشيخ الغزالى فى كتابه المذكور: "بيد أن بعض الفتية يوقدون فى عصرنا هذا فتناً محرمة بسوء مسلكهم" إلى أن يقول "أننى أذكر هذا الكلام وبين يدى فتوى أصدرها الأزهر الشريف حسماً لفتن شديدة أشعلها فتية أغرار باسم إقامة السنة وتحت عنوان السلفية وقد توسع الفتوى فى شرح الأحكام والأدلة حتى تسد الطريق أمام أصحاب الشغب والغرض".
وأتى الشيخ بنص الفتوى: "السيد الأستاذ رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فهل من أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم يعد كافراً أم لا؟ نرجو الإفادة بالرأى مع الاستدلال وشكراً:
الفتوى:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد..
تنقسم الأحكام عند الجمهور إلى خمسة أقسام:
1- الواجب: وهو ما يثبت طلبه من المكلف بنص صريح قطعى الثبوت وقطعى الدلالة، بمعنى أن له معنى واحداً فلا يختلف فى معناه المجتهدون من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.
2- الحرام: هو ما طلب الشارع من المكلف تركه بدليل قطعى الثبوت وقطعى الدلالة من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.
3- المندوب: ما طلب الشارع فعله طلباً غير حتم ولا جازم يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
4- المكروه: ما طلب الشارع تركه طلباً غير حتم ويثاب على تركه ولا يعاقب على فعله.
5- المباح: ما خير المكلف بين فعله وتركه، أو لم يرد دليل فيه بالتحريم.
وتنقسم السنة إلى متواترة وآحادية:
فالمتواترة ما رواها جمع عن جمع يستحيل أو يبعد أن يتفقوا على الكذب، قال الحازمى فى شروط الأئمة الخمسة ص 37: "وإثبات التواتر فى الحديث عسر جداً"، وقال الشاطبى فى الجزء الأول من الاعتصام ص 135: "أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر"، وعلى الرغم من ندرة الحديث المتواتر واختلاف علماء السنة على ثبوته وعدده، يرى الجمهور أن من أنكر استقلال السنة المتواترة بإثبات واجب أو محرم فقد كفر.
والسنة الأحادية هى ما رواه عدد دون المتواتر عن النبى ، وقد اختلف العلماء فى استقلال السنة الأحادية بإثبات واجب أو محرم..
فذهب الشافعية ومن تبعهم إلى أن من أنكر ذلك فى الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج والزكاة فهو كافر، ومن أنكر ذلك فى الأحكام العلمية كالإلهيات والرسالات وأخبار الآخرة والغيبيات فهو غير كافر لأن الأحكام العلمية لا تثبت إلا بدليل قطعى من كتاب الله وسنة رسوله المتواترة.
وذهب الحنفية ومن تبعهم إلى أن السنة الآحادية لا تستقل بإثبات واجب أو محرم سواء أكان الواجب علمياً أو عملياً وعليه فلا يكفر منكرها، وإلى هذا ذهب علماء أصول الفقه الحنفية فقال البرذوى: "دعوى علم اليقين بحديث الآحاد باطلة لأن خبر الآحاد محتمل لا محالة ولا يقين مع احتمال ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه وأضل عقله"، وبهذا أخذ الشيخ محمد عبده والشيخ أبو دقيقة وغيرهما، ويقول المرحوم الإمام محمد عبده: "القرآن الكريم هو الدليل الوحيد الذى يعتمد عليه الإسلام فى دعوته أما ما عداه مما ورد فى الأحاديث سواء صح سندها أو اشتهر أم ضعف فليس مما يوجب القطع"، كما ذكر الشيخ شلتوت فى كتابه "الإسلام شريعة وعقيدة" قوله: "إن الظن يلحق السنة من جهة الورود (السند) ومن جهة الدلالة (المعنى) كالشبهة فى اتصاله والاحتمال فى دلالته".
ويرى الإمام الشاطبى فى كتابه "الموافقات" أن السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم لأن وظيفتها فقط تخصيص علم القرآن وتقييد مطلقه وتفسير مجمله ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الآحادية.
يؤيد آراء من سبق ذكرهم ما جاء فى صحيح البخارى باب الوصية وصية الرسول قبل وفاته: عن طلحة بن مصرف قال: "سألت عبد الله بن أبى أوفى: هل أوصى رسول الله قال: لا. قلت كيف وقد كتب على الناس الوصية أو أمروا بها ولم يوصى قال: أوصى بكتاب الله، قال ابن حجر فى شرح الحديث أى التمسك به والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله. واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه فى تبيان كل شىء إما بطريق النص أو بطريق الاستنباط فإذا اتبع الناس ما فى الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به.
وحديث سلمان الفارسى: "الحلال ما أحله الله فى كتابه والحرام ما حرمه الله فى كتابه وما سكت عنه فهو عفو لكم".
وأجاب الشاطبى عما أورده الجمهور عليه من قوله تعالى ﴿وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم﴾ بأن المراد من وجوب طاعة الرسول إنما هو تخصيصه للعام وتقييده للمطلق وتفسيره للمجمل وذلك بالحديث المتواتر، وإن كل ما جاء به النبى يجب أن يكون من القرآن لقول عائشة رضى الله عنها عن النبى "كان خلقه القرآن"، وأن معنى قوله تعالى ﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء﴾ أن السنة داخلة فيه فى الجملة، وأكد الشاطبى ذلك بقوله تعالى ﴿ما فرطنا فى الكتاب من شىء﴾ وقد رد على ما استدل به الجمهور مما روى عن النبى قوله "أيوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان من حلال فيه أحللناه وما كان من حرام حرمناه إلا من بلغه منى حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله" أن من بين رواة هذا الحديث زيد ابن الحباب وهو كثير الخطأ ولذلك لم يرو عنه الشيخان حديثاً واحداً. وجاء بمسلم الثبوت والتحرير: "خبر الواحد لا يفيد اليقين لا فرق فى ذلك بين أحاديث الصحيحين وغيرهما".
ومما سبق يتضح أن الإيجاب والتحريم لا يثبتان إلا بالدليل اليقينى القطعى الثبوت والدلالة، وهذا بالنسبة للسنة لا يتحقق إلا بالأحاديث المتواترة، وحيث أنها تكاد تكون غير معلومة لعدم اتفاق العلماء عليها فإن السنة لا تستقل بإثبات الإيجاب والتحريم إلا أن تكون فعلية أو تضاف إلى القرآن الكريم.
وعلى هذا فمن أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم فهو منكر لشىء اختلف فيه الأئمة ولا يعد مما علم من الدين بالضرورة فلا يعد كافراً".
وقد أصدر هذه الفتوى الشيخ عبد الله المشد رئيس لجنة الفتوى بتاريخ 1/2/1990 . وبناء على فتوى الأزهر فإن السنة لا تستقل وحدها بإصدار تشريع يوجب شيئاً لازماً، وبالتالى فإنها لا تستقل بإصدار تشريع فيه سفك دماء الناس، خصوصاً إذا كان ذلك التشريع معتمداً على مجرد حديثين مطعون فيهما وكلاهما يخالف القرآن وما كان عليه رسول الله عليه السلام.
وعليه فإن الفتوى السابقة للأزهر تنفى حد الردة وتلغى العمل به.
**************************
الخاتمة
حد الردة حكم بقتل الناس جميعا:
سيطر المعتزلة على الخلافة العباسية فى عصر المعتصم والواثق واضطهدوا ابن حنبل وأتباعه، وفى عهد الخليفة الواثق حوكم أحمد بن نصر الخزاعى امام الخليفة الواثق وقتله الخليفة بيده معتقداً أنه يتقرب إلى الله بدمه ومتهماً إياه بالردة أو أنه زنديق.
وكان المعتزلة يرون أن القرآن مخلوق وأن رؤية الله تعالى مستحيلة وكان الحنابلة يرون أن القرآن غير مخلوق لأنه كلام الله تعالى وأن رؤية الله جائزة، وكان لكل فريق أدلته من تأويل الآيات ومن الأحاديث التى توافق مذهبه.
وننقل من تاريخ ابن الجوزى الحنبلى محاكمة ابن نصر الخزاعى إمام الخليفة الواثق يوم السبت غرة رمضان 231 قال له الخليفة: ما تقول فى القرآن. قال: هو كلام الله. قال: أفمخلوق هو؟. قال: هو كلام الله. قال: أفترى ربك فى القيامة؟. قال: كذا جاءت الرواية. قال: ويحك يرى كما يرى المخلوق هو؟. قال: هو كلام الله. قال: المحدود المجسوم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.. ما تقولون فيه؟. فقال عبد الرحمن بن إسحق القاضى: هو حلال الدم. وقال جماعة الفقهاء كما قال، فظهر ابن أبى داود (شيخ المعتزلة) أنه كاره لقتله، وقال: يا أمير المؤمنين شيخ لعل به عاهة أو تغير عقله، يؤخر أمره ويستتاب. فقال الخليفة الواثق: ما أراه إلا مؤذناً بالكفر قائماً بما يعتقده منه. ودعا الخليفة الواثق بالصمامة (سيف عمرو بن معد يكرب) وقال: إذا قمت فلا يقومن أحد معى فإنى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد رباً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها، ثم أمر بالنطع (كساء يجلس عليه المحكوم عليه بالإعدام حتى لا يلوث المكان بدمه) فأجلسه عليه وهو مقيد، وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه، حتى ضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنصب إلى الجانب الشرقى أياماً وفى الجانب الغربى أياماً، وعلقت ورقة فى أذنه فيها: "بسم اله الرحمن الرحيم: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون الواثق بالله أمير المؤمنين إلى القول بخلق القرآن ونفى التشبيه فأبى إلا المعاندة فعجله الله إلى ناره..".
أى أن الخليفة الواثق حكم بكفره وقتله بيده وحكم أيضاً بدخوله النار..!!
أى أن الخليفة الأحمق ما ترك لله تعالى شيئاً..
وظل رأس أحمد بن نصر مصلوباً ببغداد، وظل جسده مصلوباً بسامراء إلى أن أنزل وجمع بين رأسه ويديه ودفن فى مقبرة..
- وأشاع الحنابلة كرامات حول رأس أحمد بن نصر وأشاعوا كثيراً من الأحاديث التى تعزز مذهبهم، وتؤكد على أهمية تغيير المنكر باليد وكان أحمد بن نصر فى حياته من المشهورين بتغيير المنكر باليد، وفى النهاية رأى الخليفة المتوكل العباسى أن يقتنع بفكر الحنابلة فاستطاعوا اضطهاد خصومهم من الصوفية واستطاعوا اضطهاد النصارى واليهود..
- ومرت الأيام وأصبحت للصوفية المكانة والسيطرة، فاضطهد الصوفية خصومهم من فقهاء الحنابلة، وفى القرن الثامن الهجرى كان ابن تيمية أكبر فقيه حنبلى يواجه اضطهاد الصوفية وأعوانهم من الفقهاء، وكان يخرج من السجن إلى النفى س، إلى محاولات القتل، وانعكس ذلك على فتاويه فصار أكثر حدة فى الحكم على خصومه وأكثر جرأة فى الإفتاء بقتلهم..
ونظرة سريعة إلى فتاوى ابن تيمية نزاه يوزع القتل على كل من يخالفه فى الرأى، فصاحب البدعة يستحق القتل، ومن السهل أن ترمى كل فرقة الفرقة الأخرى بأنها صاحبة بدعة، وإذا عرفنا أن المسلمين فرق وطوائف شتى أدركنا أن ابن تيمية يعطى مبرراً تشريعياً لأن تقتل كل طائفة غريمتها بتهمة الردة..
ويفتى ابن تيمية بتكفير المسلم الذى يجهر بالنية فى الصلاة حتى لو كان فى جهره يعتقد أن ذلك مما يأمر به الله تعالى.. ويدعو ابن تيمية إلى قتله..
ويفتى ابن تيمية بقتل المسلم الذى لا يلتزم بالصلاة فى وقتها أو يؤخر صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس أو يؤخر صلاة الظهر والعصر إلى بعد غروب الشمس.
ويفتى بقتل المسلم الذى يحضر المسجد ولا يشارك فى صلاة الجماعة.
ويفتى بقتل المسلم الذى يخالف رأى ابن تيمية فى قصر الصلاة فى السفر. وفى كل ذلك يشترط الاستتابة.
بل إنه يفتى بقتل أى مسلم بدعوى أنه منافق يبطن الكفر ويظهر الإسلام، أى يعطى الحجة لأى فرد لكى يقتل من يشاء من المسلمين بهذه التهمة وبدون استتابة فيقول ابن تيمية "أما قتل من أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو المنافق الذى تسميه الفقهاء بالزنديق فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب".
أى لا تجديه التوبة.. طالما رأى الفقهاء أنه زنديق..
أى يفتى بقتل الناس جميعاً..
ولم يستطع ابن تيمية تنفيذ تلك الفتاوى إذ أخمد الصوفية وأعوانهم من الفقهاء والمماليك حركته وتسيد التصوف وخرافاته العصرين المملوكى والعثمانى، ثم صحا المسلمون على الاستعمار الأوروبى يدق عليهم الأبواب..
وبدأت حركتان للنهضة.. حركة فى الجزيرة العربية قام بها الوهابيون تحارب التصوف ورموزه وتعيد دعوة ابن تيمية وتعتمد على الفقه الحنبلى والتشدد السلفى.. وحركة فى مصر تتطلع للأخذ عن أوروبا قام بها محمد على الذى أسس فى مصر الدولة الحديثة وأرسل البعوث لأوروبا فى نفس الوقت الذى قضى فيه على الرموز القديمة من المماليك والحامية العثمانية وسلطة الشيوخ فى الأزهر.. بل أرسل جيوشه تقضى على الدولة الوهابية وتدمر عاصمتها الدرعية، وتخلص بهذا من بقايا الجند العثمانيين، وبدأ فى إنشاء جيش عصرى حديث..
ومرت الأيام ورحل الاستعمار العسكرى، وقامت الدولة السعودية الثالثة وبرزت بتأثيرها النفطى فى المنطقة. فى نفس الوقت الذى تراجع فيه الدور المصرى فى الثمانينيات مما أتاح للفقه السعودى السلفى أن ينتشر وأتيح لفتاويه أن تعمل.
وتلونت الصحوة الدينية المعاصرة بالفقه البدوى الحنبلى المتشدد. وركزت على الجانب العقابى واحترفت الحظر والتحريم ورفعت شعار حرب الردة ترهب به الخصوم..
ومن الطبيعى فى هذا الجو أن يكون الإسلام العظيم متهماً بالإرهاب والتطرف وسفك الدماء..
هذا مع أن الله تعالى أرسل رسوله الكريم رحمة للعالمين وليس لسفك دماء العالمين. هذا مع أن المسلم إذا ذبح دجاجة استأذن الله تعالى وذكر اسمه. ولكن محترفى التدين يحكمون بقتل الناس جميعاً وباسم الله وبالمخالفة لتشريع الله..
إن مفهوم الردة كما تعلمناه فى الأزهر هو قول كفر أو اعتقاد كفر أو فعل كفر، وبهذا المفهوم يكون من السهل أن تتهم الناس جميعاً بالردة ويكون من السهل أن تحكم بقتلهم جميعاً..
وقد كان ذلك مجرد سطور فى كتب الفقه التراثية المقررة علينا فى سنوات الدراسة الإعدادية بالأزهر..
ولكنهم نشروا هذا الكلام على أنه الإسلام وأتاحت لهم الدولة السيطرة على أجهزة الإعلام فنشأ جيل جديد قد رضع التطرف على أنه الإسلام، ولأنه جيل قد صودرت أحلامه وضاعت حقوقه الطبيعية فى العثور على عمل ومسكن وحياة كريمة فقد كفر بالدولة وكفر بالمجتمع وحكم بكفر الجميع، وبالتالى استحل دماء الناس جميعاً، وعرفت مصر لأول مرة فى تاريخها أن يقوم بعض أبنائها بالقتل العشوائى فى الشوارع فتنفجر القنابل ويموت الأبرياء من الأطفال والنساء والصغار والكبار.
وهذا القاع الذى وصلنا إليه له بداية.. هى فتوى بقتل نفس بغير حق.. ويترتب على هذه الفتوى استباحة قتل الناس جميعاً مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً﴾.
صدق الله العظيم
ودائماً صدق الله العظيم
د. أحمد صبحى منصور