مبارك والبرادعي .. ليس هناك خيار ثالث!

محمد عبد المجيد في الأربعاء ٢٤ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أ

أوسلو في 25 فبراير 2010

 

مسكينٌ الدكتور محمد البرادعي فقد ظن قبيلَ وصولِه إلىَ أرض مصر أنَّ المَعْركة ستقتصرعليه ضد نظام الطاغية الذي سيسقط حَتماً بالضربةِ القاضيةِ أوّ بالضربات المتلاحقةِ، لكنه اكتشف مع هدير الحبّ الذي استقبلته به جماهيرٌ كادَ اليأسُ يضمَّها إلىَ أحضان فقر ومرض وبطالةٍ وحياةٍ بائسةٍ أنَّ العَدُوَّ قد يتخفىَ في صورةِ مُعَارض للنظام، لكن مشاعرَه الخفية تنطق كلها بدعم الاستبداد.

الحقدُ والحَسَدُ والشماتة والغيرة كلها خصومٌ غيرُ مرّئية، لكن ظروفاً استثنائية تمُرُّ بها الأمة تستخرج عُنوَة تلك المشاعرَ الكريهة لتفصح عن شخوص مُزَيَّفةٍ رفعتْ شعارات وطنية ودينية ضد الطاغيةِ، ثم سَجَدَتْ له بعيداً عن عيون المتطفلين!

الدكتور محمد البرادعي لم يأت من عطارد أو بلوتو، لكنه واحدٌ من ملايين المصريين في الخارج الذين أتعبت قلوبَهم متابعاتٌ لمحنةِ الوطن، فالمغتربُ الذي انفصل تماماً عن وطنِه الأم قد يفهم الوطنَ الجديد، لكنه سيعجز حتماً عن وصفِ مشهدٍ واحدٍ لجُذوره!

والمهاجرُ الذي اصطدم مع وطنه الجديد ولم يتمكن من استبدال ذرة واحدة لحاضره بماض التصق به كما يلتصق الخفاشُ بوجهِ خائفٍ ساقه قدَرُه لكهفٍ مظلم، هو خاسرٌ للاثنين معا: الغياب والإياب!

أما النموذج الذي انسجمت في أعماقه الحضارتان اللتان تضمّان بتناغم شديدٍ ماضيه وحاضرَه لتصنع مستقبلا متوازنا لا تصطدم فيه التناقضات إلا لِمَاماً، ويمكنه أنْ يجلس في سيارته التي تنهب شوارعَ العاصمة النمساوية ويستمع إلى أم كلثوم أو نازك أو رجاء عبده، أو يتمشى بجوار نهر الدانوب ويدندن لنفسه موسيقىَ النهر الخالد أو النيل نجاشي، أو يتابع على الشاشة الصغيرة أخبار العالم بالروسية أو اليابانية أو اللاتفية أو الماندارينية أو البرتغالية ثم ينتقل بعدها دون أي إحساس بالانتقال ليشاهد على قناة عربية فيلما قديما لليلىَ مُراد وحسين صدقي، أو ينتهي من قراءة كتاب بالألمانية لجونتر جراس ثم يُكمل كتاب عبقرية التاريخ لجمال حمدان أو وحي القلم للرافعي أو مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي، فهو النموذج القادرُ على العودة إلى وطنه الأم وتقديم عطاءٍ قد يعجز المقيمون عن الإتيان بمثلِه ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا!

في الغربة تتضح معالمُ الطريق في الوطن، وفيها تنبعث من جديد مفاهيم نقية للقومية والوطنية والتسامح الديني وحُب الأرض التي خرج منها المهاجرُ وظلت همومُها هاجسَه حتى لو تمكن بصعوبة بالغة من وصف مشهد أسرة فقيرة يعيش أفرادُها العشرة في غرفة صغيرةٍ وقذرة بواحدة من العشوائيات، أو وصف حياة يومية لمعتقل مصري لم يَمْثل أمام عدالة(!!) القضاء، فأمر وزير الداخلية الشمسَ أنْ تتجنبه، أو تشرق لدقائق معدودة على جسده الذي يرتع فيه الروماتيزم، أو إعادة عملية حسابية دقيقة لربةِ أسرةٍ وضع زوجُها في يدِها وهو يطرق خجلا مصروفَ الشهر كله، وطلب منها أن تتصرف .. وتقلب عاليه سافله حتى لا يتضور الأولادُ جوعا قبل السادس عشر من الشهر، شريطة أن لا تكشف ليوسف بطرس غالي أسرار معجزة الحياة لمن لم تمسك قط آلة حاسبة!

كنت متوجساً بعض الشيء، ثم متفائلا، برادعياً، مع قدر قليلٍ من التشاؤم المطلوب لكل صاحب قلم، ثم أنفرجت أساريرُ نفسي مفسحة المجال لحلم العثورعلى قائد، ومفصِحَة عن راحةٍ عميقة لم تعرف طريقها إلى قلبي أو عقلي لأكثر من ربع قرن.

مصرُ في حاجة إلى رئيس لم تتلوث يداه برشوة أو محسوبية أو انخراط في أعمال غير مشروعة أو تلوث ذهني من مجتمع صنعه طاغية، وأصبح الشرفُ فيه حالة تعثرعليها بشق الأنفس.

الدكتور محمد البرادعي هو الرئيس الذي ينبغي أنْ يلتف حوله المصريون ولو اختلفوا معه، وانتقدوا بعضا من أفكاره، ففي أيام معدودة بَهَتَ جمال مبارك، وخفتَ وهْجُه المزيف، وبدا أمام العائد إلى وطنه الأمّ كأنه فزّاعة لا تخيف أطفالا ألقاها الوالد المستبد ليجسَّ بها القابلية للمهانة لدى الشعب.

أمامنا فرصة تاريخية لن تتاح مرة أخرى قبل ربع قرن عندما يُعَرّي أقفيتنا البيبى دوك المصري الذي لن يختلف عن نظيره الهاييتي عندما تسلم في سن التاسعة عشرة الحُكم في اليوم التالي لوفاة والده الديكتاتور فرانسوا ديفالييه بعدما علّمَه شيئين: اذلال شعبه ونهب أمواله.

إن مشاعر بعض قوى المعارضة المصرية نحو المغتربين الوطنيين ليست أكثر من كراهيةٍ وحسد وغيرة، وهي أيضا اعتقاد خاطيء بأنَّ المقيمَ أكثر وطنية من المغترب، وأنَّ يده التي تحترق في النار تلامس الواقع أكثر من اليد الناعمة في بلاد العالم الآخر.

لم أقابل في حياتي وطنيين تشتعل أجهزتهم العصبية مع كل نشرة أخبار كالمغتربين والمهاجرين الذين منعهم مبارك من الادلاء بأصواتهم في انتخاباته المزيفة، فالمغتربون امتدادٌ للمقيمين، وليس كلُّ مغترب متزوجاً من شقراء، ويجلس أمام المدفئة يلاعب بأناملِه كلبَه، ويشاهد مصر بحجم تلفزيونه الحديث المعلق بجوار لوحة لبيكاسو أو ادفارد مونك!

علىَ قوى المعارضة أن تنضم كلها، وبدون استثناء، للدكتور محمد البرادعي، ومن أخفى البديلَ الذي كان يراه أصلح من الوطني العائد من النمسا فعليه أنْ يحجبه حتى يصل الدكتور البرادعي إلى قصر الرئاسة.

مشاعرُ الغيرة تقتل المصريين إذا ظنوا أن قاماتهم بلغت الجبالَ طولا، وأنَّ معارضتهم للطاغية تمهيدٌ لدور كبير في حكومة قادمة بعد إزاحة مبارك.

الإخوان المسلمون أيضا أمام خيار تاريخي ووطني وديني، وأيّ لعب الآن بالثلاث ورقات لسحب البساط من تحت الرئيس محمد البرادعي لحساب الرجل الذي سَفّفهم ترابَ الأرض، وجعل قضبانَ الزنزانات في السجون والمعتقلات تعرفهم كما تعرف نحنحة الشاويش ذي الشارب الكثّ قبل أنْ يُغلق عليهم لصباح اليوم التالي أبواباً صدئة هو لعب قذر لا يليق بمن تغطي زبيبة الصلاة جبهَته كلها وتكاد تسقط ما بين حاجبيه!

القول بأنَّ المهم تغيير المادة 76 فربما يظهر مرشح آخر من الإخوان المسلمين لينافس مبارك والبرادعي هراء، ودعابة سخيفة، وضربٌ تحت الحزام، لأن الإخوان المسلمين ارتضوا لعبة القط والفئران الكثيرة ردحا طويلا من الزمن، ولا يمرّ أسبوعٌ حتى يصطاد الأمنُ بعضاً من الفئران، فيدخل الجميعُ جحورَهم حتى يأتي موعدُ الوجبةِ الجديدة.

الدكتور محمد البرادعي أعطى الأمان للاخوان والأقباط والنساء والمعارضة وحتى للمتوّجسين خيفة من الدور الأمريكي، فمبارك وجورج بوش توحدا على ضرورة إبعاده عن وكالة الطاقة الذرية، ولم تعد لدينا حجة واحدة لخيار آخر.

سيرفض الطاغية قطعا تغييرَ مواد الدستور، فهو على استعداد لهدم المعبد على نفسه وعلى البلد كلها كالطفل الذي يُكَسّر كل اللعب في غرفته إنْ أخذت عُنوة واحدة منها، ولن يجد الدكتور البرادعي أمامه حلا إلا بالطلب من مبارك أن يترك القصرَ مع أسرته في خلال أربع وعشرين ساعة ، ولكن هذا لن يحدث قبل أن يتأكد البرادعي أنَّ بقايا قوى المعارضة والإخوان المسلمين لن يتحالفوا مع الطاغية إذا وعدهم بجزء من الكعكة لاحقا.

أتوقع في خلال فترة قصيرة أن يأمر مبارك أجهزة أمنه وحمايته بالقيام بعملية إرهابية كبيرة يقنع بها الغرب وأصدقاءه والطيبين الساذجين من أبناء شعبنا أن الوطنَ السجنَ الآمنَ في أغلالِه أفضل من الوطن الحر العاكس لعرقنةِ أرض الكنانة.

وضعُ شروطٍ للدكتور محمد البرادعي بحجة أن المقيمين أكثر معرفة بأحشاء الشارع المصري واحتياجاته وقضاياه وهمومِه من المغترب الذي سيقضم الكعكة دَفعة واحدة دون أن يبذل جهدا في عَجْنها، وعملها، وخبيزها، وعرضها هي شروط مناهضة لأماني شعبنا، فنحن كلنا أمام طاغية لم تعرف مصرُ من قبل مثيلا له، وضعْفُه في إتحادِنا، وسقوطه مرهونٌ بتوحّدنا حول الدكتور محمد البرادعي، والتعجيلُ بتحرير مصر مشروط بانهاءٍ أو اخفاءٍ لبعض الوقتِ مشاعر الكراهية التي يحملها المصري لأخيه المختلف عنه في التوجه، والحزب، والعقيدة، والمذهب، والدين، والجماعة، والفكر، ونهج المعارضة.

أغلب الظن أن عودة الدكتور محمد البرادعي ستتبعها تحركات وطنية في الجيش والمخابرات العامة والحربية ومباحث أمن الدولة وبين الضباط الأحرار الذين سيعصون أوامرَ الطاغية، وإذا خرجت مظاهرة من مئة ألف مصري، وما أسهل أن يستدعيها البرادعي، فأغلب الظن أن رصاصة واحدة لن تنطلق من عسكري في الجيش أو الشرطة ولو هدَّدَهم مبارك بقطع رؤوسهم.

القضية الآن في عام ونصف قبل الانتخابات الهزلية، مع افتراض عدم تغيير الدستور، هي أن الفترة طويلة نسبية، والنظام يخطط بذكاء أو بغباء، ولكن بقسوة قد تحرق مصرَ، وتشعل حربا أهلية، وتنفخ في الفتنة الطائفية.

قناعاتي اليقينية تؤكد لي أن الشعب الآن في أوج قوته، وأن مبارك نمرٌ من ورق لا يحتاج لأكثر من نفخة واحدة، لكن الانتظار الطويل قد يقلب المعايير، ويهدأ الحراك، وتحمي بقايا المعارضة ظهْرَ النظام بثمن بخس، ويعتاد الشعبُ عبر أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة على لهجة وعودٍ لا تتحقق، ونبرات صوت لم تعد تلمس الوجدان.

ليس أمام الدكتور البرادعي في الوقت الحالي غير توجيه الحديث المباشر إلى الطاغية، والطلب منه أن يتخلى عن السلطة دون مقاومة، وأن يوجه حديثه للجيش والمخابرات ومباحث أمن الدولة بعدم التدخل خشية الاضرار بمصالح مصر، والدعوة للانتفاضة والعصيان المدني.

الدكتور محمد البرادعي يملك الآن الفضائيات كلها، وأجهزة الإعلام العربية والدولية، ويحمل اسماً يمتد من القاهرة إلى لجنة جائزة نوبل مرورا بكل لجان حقوق الانسان والقوى الدولية وعلاقاته المباشرة مع أقطاب العالم برمته.

وبامكانه أن يطلب من مبارك وأسرته الرحيل بهدوء، أو التعرّض لاحتمال القاء القبض عليه وعلى كل زبانية سلطته، ولن تستطيع أي قوة في مصر أن تقترب من الدكتور البرادعي.

إنني لا أخاف عليه من كلاب القصر أكثر من خوفه عليه من القوى الوطنية المعارضة التي تأكل من مناهضة الطاغية، وتشبع عندما يعارضها ظاهريا، وتهضم إذا بقي الوضعُ كما كان عليه طوال عهد مبارك.

من يَمُدّ في عمر مبارك الآن بعد عودة البرادعي ستلعنه مصرُ وشعبُها وأجيالٌ قادمة ولو بعد حين، أما قرود القلم في مكاتب التحرير الكبرى بصحف القصر فهؤلاء مستعدون لكتابة مانشيتات عريضة تؤيد الرئيسَ الجديد فور صعود أسرة مبارك سلم الطائرة التي ستقلهم من شرم الشيخ إلى سويسرا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة في حماية طائرات أمريكية وإسرائيلية.

على الدكتور البرادعي أن لا يعترف بأيّ خط أحمر في محاوراته الآن، لا الجيش، ولا المخابرات، ولا القضاة، ولا حتى ضباط أمن الدولة مع وعد منه بالعفو عمن سيرفض الأمرَ باطلاق الرصاص على المتظاهرين الغاضبين.

الطاغية مبارك بدأ مزادَ شراء الأصوات الساقطة، وترويض كلاب جديدة لسُلطته، وتخويف أناس لا يزالون في حيرة من ميزان القوىَ بين الرئيس الجديد الدكتور محمد البرادعي والرئيس المغادِر نهائياً.

على قوىَ المعارضة التي تشترط على الدكتور البرادعي مشاركتَها تأجيل شروطها حتى يسقط مبارك، فهو العدو الأول لمصر والمصريين، وأيّ نقاش أو حوار أو جدال مؤجل إلى حين تنتهي مصر من كابوس جثم فوق صدرها ثمانية وعشرين عاما.

أيها المصريون،

لا تخذلوا مصرَكم مرة أخرى فقد طال صَمْتُكمّ على النظام العفن، فراجعوا أنفسَكم، وتخيّروا قيمَ العدل والمساواة والتسامح، وضعوا أيديَكم في يديّ الدكتور محمد البرادعي، وطهّروا بلدَكم إلى الأبد من عدوكم .. من مبارك!

 

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو النرويج

اجمالي القراءات 10659