لماذا تميز تراث المسلمين ـ دون المسيحيين ـ بوعظ السلاطين :
وعظ السلاطين (4 ) :

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٤ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
1 ـ موضوع هذا المقال هو تميز تراث وتاريخ المسلمين عن المسيحيين بوجود الوعظ للسلاطين. أى هو نوع من المقارنة بين المسلمين و المسيحيين فى وعظ السلاطين .
وليست المقارنة إطلاقا بين الاسلام والمسيحية ، لأنه طبقا لاعتقادنا القرآنى فان الاسلام الحق هو دين الله جل وعلا الذى نزلت به كل الرسالات السماوية التى جاء بها كل الأنبياء والرسل المصطفين مع اختلاف اللغات والزمان والمكان ، وكلها تدعو الى تقوى الله جل وعلا و تزكية النفس عقيديا بأنه لا اله الا الله ، وسلوكيا بالعبادات والاخلاق الزكية .
2 ـ بيد أن عادة البشر السيئة هى الانقضاض على الدين الالهى بمجرد موت النبى وتحويله الى أديان أرضية بشرية تختلف فيما بينها ولكن تتحد كلها فى تقديس البشر والحجر،وأولهم الأنبياء و القديسين والأئمة والسلاطين، وتسويغ تلك الأديان الأرضية بوحى مزيف وكتب مزيفة مقدسة ، مع الاعتداء على الكتاب الالهى بالتحريف والتحوير و مزاعم التعطيل و الحذف و(النسخ ).
هذا ينطبق على التلاعب الذى حدث فى دين ابراهيم أو ( ملة ابراهيم ) ، وعلاجا له كانت الأنبياء تترى فى ذرية ابراهيم من فرع يعقوب بن اسحاق ( بنو اسرائيل )، وآخرهم المسيح عيسى ابن مريم عليهم جميعا السلام. وحدث نفس التحريف فى ملة ابراهيم فى الفرع العربى من ذرية ابراهيم (فرع اسماعيل ) مما استلزم التصحيح النهائى نزول القرآن الكريم على خاتم المرسلين محمد عليه وعليهم جميعا السلام .
3 ـ ولأن القرآن الكريم هو الكلمة النهائية من الله تعالى للبشر فقد ضمن الله تعالى حفظه الى يوم القيامة ، ليكون حجة على أى تحريف . ولهذا استحال التحريف فى اللفظ القرآنى ، بينما نما و تعمق و تشعب التحريف فى مفاهيم ومعانى و تشريعات القرآن الكريم .
4 ـ وكما عرف العالم أديانا بشرية مختلفة تنتسب الى المسيح من الارثوذكسية و الكاثولوكية والبروتستانتية والتفريعات المختلفة لكل منها فان المسلمين بعد محمد ـ وفى وجود القرآن الكريم ـ انقسموا بين أديان أرضية متشعبة أهمها السّنة و التشيع والتصوف .
وفى حياته عليه السلام لم يعرف عيسى عليه السلام بوجود الكنائس والبابوات والفاتيكان والقسطنطينية ومدرسة الاسكندرية ولاهوتها الكنسى ومصطلحات الكاثولوكية و الارثوذكسية و اليعقوبية والبروتستاتية وتلك الأناجيل التى تتحدث عن سيرته وتلك الكتب المقدسة بألغازها ورموزها وأقانيمها ومصطلحاتها وسائر ما استحدثوه بعد موت المسيح عليه السلام من أديان أرضية .
وفى حياته لم يعرف محمد عليه السلام عقائد تقديس المدينة (المنورة ) والحج اليها ، والحج الى الصنم الأكبر والرجس المسمى بقبر محمد ، كما لم يعرف عليه السلام تقديس الصحابة و آل البيت والأئمة وأولياء التصوف ومصطلحات التشيع والسنة والتصوف وما يعرف بالتفسير و الحديث والسيرة وما يسمى بعلوم القرآن التى تطعن فى القرآن ، كما لم يكن لديه علم بتقديس كربلاء والنجف و(قم ) والأزهر وموالد الحسين والسيدة زينب والسيد البدوى والامام الشافعى والامام الرضى والعباس وأبى حنيفة ..الخ ..لأن (المسلمين ) قد اصطنعوا كل ذلك فى إطار تلك الأديان الأرضية بعد موته .
وكما أقام المسيحيون باسم المسيح نظم حكم ودولا و فتحوا بلادا و قهروا أمما واستعبدوا شعوبا ـ ولا يزالون ـ فإن المسلمين باسم الاسلام ارتكبوا نفس الجرم ـ ولا يزالون يخلطون السياسة بالدين .
وكما تركز استبداد الملوك والسلاطين باستخدام اسم المسيح فى أوربا العصورالوسطى استخدم الخلفاء المستبدون اسم الاسلام فى تغطية عورة الاستبداد والظلم الذى يأباه الاسلام ، وقد تقلص وانتهى استخدام الدين فى السياسة فى الغرب ولكن لا يزال التلاعب باسم الاسلام فى دنيا السياسة حتى الآن .
والعجيب أن القانون الطبيعى و الوضعى يعاقب من يزور ويكذب على الناس ويخدعهم ليأكل من أموالهم بعض النقود ، ولكن الذى يفترى على الله جل وعلا كذبا لينهب الناس ويستعبدهم ويقتلهم ويعذبهم يقف له القانون الوضعى يرفع يده بالتحية ويطأطىء له رأسه بالخضوع و الخنوع .!!
5 ـ الذى يهمنا الآن أن الخلاف الوحيد فى موضوعنا هو أن المسلمين ـ خلافا للمسيحيين ـ قد عرفوا ( وعظ السلاطين ) أملا فى تخفيف نبرة الاستبداد .
لا توجد فى تراث أو تاريخ المسيحية ـ حسب علمنا ـ هذه الناحية ( وعظ السلاطين ) مع إن الاستبداد فى الغرب الأوربى فى العصور الوسطى كان أفظع وأضل سبيلا من بلاد المسلمين .
بل كان العكس هو السائد ، وهو تحالف الكنيسة الكاثولوكية بكل صولتها وصولجانها ورجالها وكهنوتها مع الاستبداد السياسى فى قهر الانسان الأوربى ، مما أدى فى النهاية الى ثورة التصحيح والاصلاح ،أو الحركة البروتستانية التى اخذت اسمها من كلمة ( الاحتجاج ). وهى التى أدت ليس فقط الى انقسامات هائلة فى الكنيسة الأوربية وتغيير سياسى لاحق وهائل ، بل أدت أيضا الى إرساء العلمانية وفصل الكنيسة عن الدولة والتمهيد لقيام الدول الحديثة فى الغرب، والخروج من نفق العصور الوسطى وشرها المستطير.
6 ـ السؤال هنا : لماذا ؟ لماذا أوجد المسلمون (وعظ السلاطين المستبدين ) ولم يوجد هذا فى تاريخ الأوربيين المسيحيين ؟ ونحاول الاجابة ، دون قصد على الاطلاق للهجوم على العقائد المسيحية .
أولا : طبيعة الأناجيل المسيحية :
طبقا لما يقوله المتخصصون فى المسيحية فإن :
1/ 1 ـ تؤمن الكنيسة بأن كاتب إنجيل متى هو التلميذ والرسول متى، وكاتب إنجيل مرقس هو مرقس الذي كان ابن أخت القديس برنابا وتلميذاً للقديس بولس، وأما كاتب إنجيل لوقا فهو لوقا الطبيب وهو أحد تلامذة ومساعدي بولس في رحلاته التبشيرية، بينما كتب إنجيل يوحنا التلميذ يوحنا بن زبدي.
غير أن التحقيق التاريخي لنسب كل إنجيل لصاحبه لم يحدث أبدا؛ خاصة وأنه لا يوجد أي إشارة من بعيد أو من قريب في المتون الإنجيلية إلى كاتبيها، وهذا ما دعى بعض الداراسات التاريخية الحديثة أن تنسب تلك الأناجيل إلى مجهول.
1 / 2 ـ يقرر عدد من مؤرخي النصرانية انتقال روايات شفاهية تبلورت فيما بعد بحركة دائبة في كتابة سيرة المسيح لتلبية حاجات الكنيسة المسيحية الناشئة.
ونكتفي هنا بنقل ما ذكره يواكيم إرميا في كتابه الذي نشرته الكنيسة المصرية بعنوان " أقوال المسيح غير المدونة في بشائر الأناجيل " فيقول : " ينبغي أن نضع نصب أعيننا حقيقتين أساسيتين عن بشائر الإنجيل وكتابتها : أنه لمدة طويلة ، كانت كل التقاليد المعروفة عن المسيح " كلها أقوال شفاهية متناقلة .. واستمرت على هذه الصورة ما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً ، ولم يتغير الوضع إلا في عهد اضطهاد نيرون للمسيحيين ، حينها اجتمع شيوخ الكنيسة وكبارها في خريف عام 64م ، ووجدوا أن الكثيرين من أعمدة الكنيسة قد فقدوا .. ولم يجد المجتمعون أمامهم إلا يوحنا الملقب مرقص زميل الرسول بطرس في الخدمة .. ليسجل كل ما يستطيع أن يتذكره من أحاديث المسيح وتعاليمه ، وكتب مرقص بشارته المختصرة التي تحمل اسمه ، وهي أقدم قصة كتبت عن حياة المسيح .
والحقيقة الثانية : أن قصة مرقس عن المسيح وأقواله قد دفعت غيره ليحذوا حذوه ، وينسجوا على منواله .. وتنشأ بشائر أخرى ...حتى كان هناك عدد لا يستهان به من البشائر ...
ولما رأت الكنيسة أن الأمر جد خطير بدأت في تقصي أسس هذه البشائر الأربعة المعروفة ، واعتبرت ما سواها " بشائر أبو كريفية " ، طوردت وجمعت وأحرقت حتى اختفت ".
1 / 3 ـ نبه المحققون إلى أمر هام هو أن شيئاً من الأناجيل لم يكن يسمى إنجيلاً في الصدر الأول للنصرانية ، إنما سميت " كاروزوتا " أي موعظة ، وذلك باللغة اليونانية التي وجد بها ما سمي فيما بعد بالأناجيل .
وهذه الكتابات أطلق عليها القديس جوستين في منتصف الثاني اسم " مذكرات الرسل " .
1 / 4 ـ بدأت في أواسط القرن الثاني حركة لتكوين كتاب مقدس للنصارى على غرار ما عند اليهود. يقول المدخل الفرنسي للعهد الجديد : " لم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة تدوين أهم ما عمله الرسل وتولي حفظ ما كتبوه ... ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة 150 تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جداً إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة ، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس ، واستعملوها في حياتهم الكنسية ، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس .."
1 / 5 ـ وهذا الذي ذكرته مقدمة العهد الجديد نستطيع أن نجمله بأن حركة تدوين الأناجيل بدأت بعد موت التلاميذ ، وأخذت شرعيتها في أواسط القرن الثاني كما ساعد في تكوين قانونية العهد الجديد مرقيون الهرطوقي سنة 160م حيث دعا لنبذ سلطة العهد القديم ، واحتاج لتزويد كنيسته بأسفار مقدسة أخرى ، فساهم أتباعه في نشر هذه الأناجيل فقد جمع في عهده إنجيلاً ، وراجعه مراجعة دقيقة ليتمشى مع أفكاره ، وجمع إليه رسالة بولس إلى أهل غلاطية، وهي رسالة تؤكد إبطال الناموس ونقده ، ثم أضاف رسائل بولس إلى أهل كورنثوس وتسالونيكي وأفسس وفيلبي وفليمون .
1 / 6 ـ المتفق عليه عند مؤرخي الكنيسة أن الأناجيل الأربعة ورسائل بولس قد أقرت في أواخر القرن الثاني ، وكان أول من ذكر الأناجيل الأربعة المؤرخ أرمينيوس سنة 200م تقريباً ، ثم ذكرها كليمنس اسكندريانوس ودافع عنها واعتبرها واجبة التسليم .
فيما بقيت أسفار العهد الجديد موضع نزاع بين الكنائس طوال القرن الثالث ، وقد قبلت بعض الكتب في الكنائس الشرقية كالرسالة إلى العبرانيين ، بينما رفضها أتباع الكنائس الغربية .
1 / 7 ـ وكما وقع الخلاف في إلهامية بعض الأسفار وقع الخلاف في ترتيب هذه الأسفار في العهد الجديد ، وهذا الخلاف مهم إذ كل رتب الأسفار حسب ما يعتقد لها من قيمة وقداسة وأهمية ، فالخلاف في الترتيب خلاف في قيمة الأسفار .
وأقدم قائمة رتبت الأسفار كانت في أواسط القرن الرابع وهي قائمة أثناسيوس 367م، وكان ترتيبه كالتالي الأناجيل ثم أعمال الرسل ثم الرسائل الكاثوليكية ثم رسائل بولس ثم سفر الرؤيا، ثم أصدر مجمع روما 382م ترتيباً آخر تلى الأناجيل فيه رسائل بولس ثم رؤيا يوحنا ثم الرسائل الكاثوليكية السبعة ، وأما الترتيب الحالي فكان من قرارات مجمع ترنت 1546م .
1 / 8 : وقد بين لنا المحققون من خلال استعراضهم مسيرة الأناجيل ، وتحولها من عمل شخصي إلى عمل قانوني مقدس حقيقة هامة ، وهي أن تقديس هذه الكتب عمل بشري لا يستند إلى دليل من هذه الكتب ، بل هو قرار اختلفت فيه المجامع حتى أقر ، ولو كان من الوحي لما اختلفت فيه المجامع، ولما احتاج إلى قرار كنسي ليصبح مقدساً ووحياً إلهياً .
1 / 9 : ـ اعترفت الكنيسة بأربعة أناجيل، ورفضت عدداً من الأناجيل والكتب، أوصلها صاحب كتاب اكسيهومو ( 1810م ) إلى أربعة وسبعين كتاباً ، وعددها ، فذكر أن منها ما هو منسوب لعيسى وأمه . وللحواريين ، ومنها ما هو منسوب للإنجيليين الأربعة ، وأوصلها بعض الباحثين إلى ما يربو على المائة كتاب ، ومنها ما هو منسوب لجماعات مسيحية قديمة كإنجيل المصريين والناصريين.
وقد سميت بعض هذه الكتب أناجيل كإنجيل بطرس واندرياه ويعقوب وميتاه ( متى ) وإنجيل المصريين لمرقس وبرنابا ، وعددت دائرة المعارف الأمريكية أسماء ستة وعشرين إنجيلاً لا تعترف بهم الكنيسة رغم نسبتهم إلى المسيح وكبار حوارييه.
وقد كانت بعض هذه الكتابات والأناجيل متداولة لدى عدد من الفرق المسيحية القديمة ، وظلت متداولة إلى القرن الرابع الميلادي .
وفي مجمع نيقية 325م أمرت الكنيسة باعتماد الأناجيل الأربعة ورفض ما سواها من غير أن تقدم مبرراً لرفض تلك الأناجيل سوى مخالفتها لما تم الاتفاق عليه في المجمع . وفي ذلك يقول العالم الألماني تولستوي في مقدمة إنجيله الخاص الذي وضع فيه ما يعتقد صحته " لا ندري السر في اختيار الكنيسة هذا العدد من الكتب وتفضيلها إياه على غيره ، واعتباره مقدساً منزلاً دون سواه مع كون جميع الأشخاص الذين كتبوها في نظرها رجال قديسون .... وياليت الكنيسة عند اختيارها لتلك الكتب أوضحت للناس هذا التفضيل ...إن الكنيسة أخطأت خطأ لا يغتفر في اختيارها بعض الكتب ورفضها الأخرى واجتهادها ... "
وأمرت الكنيسة بحرق جميع هذه الأناجيل لما فيها من مخالفات للعقيدة ، وصدر قرار من الامبرطور بقتل كل من عنده نسخة من هذه الكتب .
1 / 10 : وهكذا اختفت معظم هذه الأناجيل ولم يصل منها سوى إنجيل برنابا والإنجيل الأغنسطي ، وثلاث قصاصات من إنجيل مريم وبعض شرائح لاتينية وإغريقية وقبطية من إنجيل برثولماوس وإنجيل نيقوديموس ، كما عثر أخيراً في نجع حمادي بمصر على مقتطفات من إنجيل بطرس وكتاب أعمال يوحنا.
ولعل أهم ما وجد في نجع حمادي مائة وأربعة عشر قولاً منسوباً للمسيح في إنجيل توما الذي يختلف أسلوبه عن الأناجيل الأربعة، إذ لم يسرد قصة المسيح ، بل نقل أقواله ، ويرجع المحقق كويستر هذا الإنجيل إلى منتصف القرن الأول الميلادي ، وأرجعه كيسيبل إلى 140م .
وعثر أيضاً على إنجيل" الحقيقة "والذي اعتبره ايرينوس (180م ) إنجيلاً مزوراً .
2 : المستفاد مما سبق أنه لا يوجد انجيل واحد رسمى متفق على أنه الكتاب السماوى الذى نزل على عيسى إبن مريم عليه السلام باعتباره رسول الله الداعى الى أنه لا اله الا الله . الموجود عدة أناجيل تم اختيارها لمؤلفين من البشر تحكى حياة المسيح وبعض مواعظه ، بنفس ما لدى المسلمين من ( السيرة النبوية ) عن محمد عليه السلام ، وبنفس الترتيب ، كلاهما بدأ روايات شفهية ، ثم تمت كتابتها عبر مؤلفين مختلفين بعد موت كل نبى بأكثر من قرن .
وتحريم معظم الأناجيل يعكس التنازع بين المسيحيين بعد أن تم اختراع الكنيسة والكهنوت وتداخل الدين مع السياسة ، وهى أهم ملامح صناعة الأديان الأرضية ، التى تصيغ ما تراه ملائما لمصالح أصحابها وتنسبه لله تعالى . والعادة أن تتعارض المصالح بسبب الأطماع السياسية و الطموحات القومية والتراث الثقافى من الثوابت التى يراد لها الاستمرار فى الدين الجديد تحت أسماء وعناوين وأشكال جديدة . ومن تعارض المصالح تتفرق الأديان الأرضية وتتعدد .
وهذا ما حدث فى ( المسيحية ) بعد وفاة المسيح عليه السلام.وحدث مع ( المسلمين ) بعد وفاة النبى محمد عليه السلام.
ثانيا : الانجيل طبقا لما جاء فى القرآن الكريم :
1 ـ هناك انجيل واحد فيه التشريع الالهى ، ومطلوب من المؤمنين به أن يطبقوه فى حياتهم ،يقول جل وعلا: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(المائدة47 )، لم يقل رب العزة ( وليحكم أهل الانجيل بما جاء فى الانجيل ) ولكن جاء الحكم بما أنزل الله تعالى فى الانجيل ، ليجعل فارقا بين الدين السماوى الذى أنزله الله تعالى فى الانجيل و ما صاغه البشر فى أناجيلهم المختلفة وأديانهم الأرضية .
2 ـ ما أنزله الله تعالى فى الانجيل الذى أوحى به لعيسى ابن مريم جاء مصدقا لما سبقه من التوراة ، وجاء موصوفا بنفس صفات التوراة من الهدى والنور : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(المائدة 46)
3 ـ نزل القرآن الكريم مصدقا لما أنزله الله تعالى فى التوراة والانجيل وغيرهما من الكتب السماوية السابقة ، وجاء مهيمنا عليها باعتباره محفوظا من لدن الله جل وعلا من محاولات التحريف فى لفظه : (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) ( المائدة 48 )، لذا كانت الدعوة لأهل الكتاب للايمان بالقرآن الكريم الذى نزل مصدقا لما معهم ، وناصحا لهم بعدم التلاعب بالدين طلبا لمتاع دنيوى حقير (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (البقرة 41 : 42 ) كما دعاهم لاتخاذ القرآن الكريم مرجعية لهم عند الاختلاف فيما بينهم : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ( النمل 76 )
4 ـ اختلف وضع أهل الكتاب من بنى اسرائيل والنصارى فى الجزيرة العربية عنه فى الامبراطورية الرومانية البيزنطية .
كانوا فى الجزيرة العربية أحرارا لا يخضعون لدولة أو امبراطورية ، ولم يعرفوا ما عرفه أهل الكتاب فى الامبراطورية البيزنطية من مدارس فكرية وفلسفية تداخلت مع الدين (الأرضى ) وأثرت فيه وتأثرت به ، ولم يعرفوا صراعات سياسية وقومية تخفت وراء الدين ، وتزعمها المصريون ـ أقدم من اعتنق المسيحية وأضفى عليها الطابع المصرى القبطى ـ ضد الرؤية البيزنطية للمسيحية ، وما نتج عن هذا الخلاف من تشعب وعقد عدة مجمعات لرأب الصدع إزداد بها الخلاف تشعبا ،وأدى الى عودة الاضطهاد للمسيحيين المصريين ، أى بعد اضطهادهم على يد الرومان الوثنيين جاء اضطهاد مذهبى على يد الرومان المسيحيين مما جعل الأقباط المصريين يرحبون بفتح العرب المسلمين لمصر.
5 ـ فى فترة الاضطهاد الثانية تلك نزل القرآن الكريم يصحح ملة ابراهيم ويجرى حوارا متصلا مع أهل الكتاب ليصحح عقائدهم التى حرفتها اديانهم الأرضية .
ومن أسف أن من أسلم من أهل الكتاب بعد الفتوحات العربية إتبعوا سنة أسلافهم فى تكوين ديانات أرضية أضاعت الاسلام الحقيقى واتخذت القرآن مهجورا لصالح السنة والأحاديث والتفسير ..الخ ..
6 ـ ومن خلال هذا الحوار القرآنى مع أهل الكتاب نعرف أن التوراة الحقيقية ـ التى ضاع معظم ملامحها فى خضم الاختلاف الدينى فى الامبراطورية البيزنطية ـ كانت موجودة فى الجزيرة العربية ، حيث كان الله جل وعلا يتحدى أهل الكتاب بها داعيا اياهم لقراءتها : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) أى كان هناك تحريف ضئيل يحوم حول التوراة ويأتى بأحكام يخالفها ، فتحداهم الله جل وعلا أن يأتوا بالتوراة الأصلية الصحيحة وأن يتلوها ليكشف زيفهم وتحريفهم فى الدين. لذا تقول الآية التالية : ( فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أى تحذير لهم من الكذب على الله باختراع أحاديث ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، ثم تدعوهم الآية التالية الى اتباع ملة ابراهيم التى جاء القرآن الكريم بتصحيحها: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ( آل عمران 93 : 95 ).
7 ـ أى كان هناك تحريف بسيط وفردى يتناسب وطبيعة الحياة فى الصحراء العربية ، ويختلف عن عراقة التحريف وتعمقه الذى دار فى الامبراطورية البيزنطية ، حيث الحضارة والمدارس الفلسفية و الكهنوت المتأصل و الخبرة فى اختراع الأديان الأرضية وفى استخدامها فى توطيد السلطة المستبدة أو كغطاء للتحرر القومى من تلك السلطة .
التحريف الذى عرفته الجزيرة العربية لم يكن اختراعا لأناجيل بأكملها وتحريم بعضها وتقرير بعضها مع تضييع كامل للانجيل الأصلى و التوراة ألاصلية كما حدث فى الدولة البيزنطية ، ولكنه كان تحريفا بسيطا يدور حول الانجيل الصحيح الموجود فعلا ، ويدور حول التوراة الصحيحة الموجودة .
8 ـ وكانت لهذا التحريف أنواع :
8/ 1 : منه تحريف بتغيير موضع الكلمات فى التوراة ، وهوموصوف فى القرآن الكريم بأنه (تحريف للكلم عن مواضعه )، أو (تحريف للكلم من بعد موضعه ):( مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) ( النساء 46 ) ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ )(المائدة 13 )(ْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ) ( المائدة 41). وبدون الدخول فى تفصيلات تخرج بنا عن الموضوع الأصلى فالتحريف ليس بالحذف أو الاضافة ولكن بتغيير مواضع الكلمات . وهو أمر هيّن بالنسبة لما كان يحدث وقتها خارج الجزيرة العربية.
8 / 2 : منه ما كان كتابة بشرية خارج التوراة الحقيقية يزعم أصحابها أنها وحى سماوى ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (البقرة 78 : 79 ) ،
8 / 3 : أو قراءة لتلك الكتب البشرية بنفس طريقة القراءة و التلاوة للتوراة ليتوهم الناس أن ما يسمعون هو التوراة الحقيقية (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ( آل عمران 78 )
ثالثا :الانجيل والأناجيل بعد الفتوحات العربية الاسلامية
1/ 1 : أدت الفتوحات العربية وما صحبها من تقلبات سياسية وفكرية ودينية الى تغييب او ضياع الانجيل الحقيقى الذى تحدث عنه القرآن الكريم ، بينما ظلت معظم الحقائق الأساسية فى التوراة ، ودخلت فيما يعرف الآن بالعهد القديم . وبدخول ابناء اهل الكتاب فى الاسلام ما لبثوا ان شاركوا فى صنع أديان أرضية للمسلمين، يكررون نفس ما كان القرآن يعيبه على أسلافهم من صنوف التحريف المشار اليها سابقا ومنها الشفاعة و خروج العصاة من النار.
1 / 2 :: ساعد على هذا الترسيخ طول مدة الصراع المسلم المسيحى بين الشرق المسلم والغرب الأوربى. بدأه المسلمون بالفتوحات فوصلت جيوشهم الى مشارف القسطنطينية وحدود فرنسا الجنوبية وجزر البحر المتوسط و سواحل ايطاليا الجنوبية . ثم قامت أوربا بحركة استرداد فيما بين الاندلس غربا و الامبراطورية البيزنطية فى آسيا الصغرى شرقا ، وتطورت الى سقوط الاندلس و احتلال بعض موانى شمال أفريقيا غربا ، ثم قيام الحروب الصلبيبية لتحتل وتقيم لها ممالك فى عمق المسلمين ، وبعد تدمير الدول الصليبية جاءت دورة جديدة من الحرب بين الجانبين بدأها العثمانيون فى آسيا الصغرى فاستولوا على القسطنطينية وانهوا الوجود البيزنطى فى عهد محمد الفاتح وانساحوا فى شرق أوربا الى أن توقفوا عند أسوار فينا . وبعد التوقف جاءت مسيرة الضعف للعثمانيين لتظهر القوة الأوربية فى حركة استرداد جديدة تحت لقب التعمير أو الاستعمار بعد أن إمتلأت خزائنهم باكتشاف العالم الجديد فى امريكا واستراليا . وهذه الكشوفات الجغرافية نفسها كانت على هامش الصراع المسلم الأوربى ، إذ كانت البرتغال واسبانيا ـ بعد تدمير الاندلس ـ تهدفان للوصول للهند وحرمان المسلمين من التجارة الشرقية و التحالف مع ملك الحبشة المسيحى لتهديد مكة و المدينة .
امتد هذا الصراع من القرن السابع الميلادى وصبغ العصور الوسطى بطابعه ، وبه تدعمت سلطة الكنيسة وتكرست سلطة الاستبداد بأكثر ما كان موجودا عند المسلمين الذين عرفوا نوعا من احلام اليقظة اسمه وعظ السلاطين ـ وقد تحققت بعض هذه الاحلام فى دنيا الواقع وفق شروط السلطان المستبد ، على نحو ما سنعرض له.
1 / 3 وتشابهت أديان المسلمين الأرضية مع أديان المسيحيين الأرضية ، وهذا التشابه مع ضياع الانجيل الحقيقى الذى تحدث عنه القرآن الكريم ، ومع تحول العالم وقتها الى معسكرين متحاربين ( المسلمون و الأوربييون المسيحيون ) أدى الى ترسيخ الاعتماد المسيحى على الأناجيل الأربعة المعترف بها كنسيا ، والتى تعطى كل السلطات المطلقة وكل الحقوق للسلطان المستبد ورجال الدين الذين يباركون استبداده ، تحت شعار : ( اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله )(مت 22 23.) أى يوجب الطاعة لقيصر واعطاء الجزية و الضرائب له ، وان يعطى للكنيسة ـ الممثلة للكهنوت الدينى نيابة عن الله ـ ما يجب أن يعطى لله .أما هذا المسيحى الذى يعطى فليست له حقوق ، عليه فقط الواجبات . بل ليس من حقه الاعتراض او المعارضة او مجرد (وعظ السلطان ). وهنا يكمن الفارق بين تشريعات القرآن ومنهاجه السياسى وبين الاناجيل التى تم صياغتها لتخدم الكنيسة و قيصر ..وليس هو الفارق الوحيد على أى حال .
رابعا : بين عيسى ومحمد ، وبين العرب والأمم المفتوحة المقهورة دائما :
1 ـ جاء عيسى عليه السلام رسولا محليا لبنى اسرائيل فقط ، (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) ( آل عمران 49 ) فكان ان تحول الى اله أو الى الله أو جزء من الله ، وأصبحت ( المسيحية ) ـ بهذا التطور الخطير ـ مجموعة من الديانات الأرضية العالمية ، غادرت بنى اسرائيل لتنتشر فى أرجاء الامبراطورية البيزنطية ثم تنتشر بعدها فى العالم .
ساعد على نشرها أنها تحافظ على تقديس التماثيل والصور والأيقونات المقدسة ، اى تعيد إنتاج الديانات الأرضية المحلية بصورة جديدة وتحت ألقاب وأسماء جديدة. وفى نفس الوقت فهى ديانة صديقة للسلاطين ، تضمن لهم تمام التحكم ودوام دفع الجزية دونما اعتراض ، وفى نفس الوقت تضمن ( الخلاص ) والدخول فى ( الملكوت ) لكل من أحب المسيح ونعم برضى القسيس وبركات الكنيسة ، و كل ذلك ميسور الشراء ، وليس عليه بعدها مهما فعل من فساد، فالمسيحى المخلص يؤمن أن المسيح ضحى بنفسه على الصليب فداءا لخطايا البشر ، أى لكى يدخل المسيحى المخلص الملكوت فليس عليه سوى (ألاعتراف ) للقسيس وشراء صكوك الغفران ، ثم يرتكب بعدها ما شاء من الجرائم . وهذا ما أحياه أبناء أهل الكتاب بعد اسلامهم فى أساطير الشفاعة والخروج من النار.
2 ـ هذه النوعية من التدين تناسب ثقافة الاستعباد لدى الشعوب النهرية فى النيل و الرافدين و أوربا ، فهى شعوب عاشت واستمرت وتعودت وأدمنت الخضوع و الخنوع للسلطان والاكليروس . ولكنها لا تناسب الشعوب الصحراوية حيث لا توجد دول ثابتة قاهرة ، ولكن قبائل لها سمة الدولة البدائية المتحركة ، والتى تحتكم الى السيف وتلجأ الى القتال لأى سبب تافه حتى لو كان قتل ناقة البسوس التى أشعلت حرب البسوس.
هذه الطبيعة المتعدية للعرب الصحراويين جعلت أيامهم سلاسل من الغارات الحربية دفاعا او هجوما ، فى سبيل الحق أو الباطل .
3 ـ وتلك الطبيعة الحربية تأثر بها انتشار الرسالة الاسلامية الأخيرة التى نزلت على قلب خاتم المرسلين للعالم كله . نزلت رحمة للعالمين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء 107 ) وإنذرا للعالمين (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان 1). تحولت الرحمة الى عذاب وشقاء للملايين بسبب تعدى العرب وتكوينهم باسم الاسلام امبراطورية تهجر القرآن وتوسع المجال لاختراع أديان أرضية على أنقاضه لتسوغ لها الظلم والفساد . وبدأ هذا التعدى ماديا وعسكريا قاده الأمويون فى قريش ، ثم ما لبث بعد استقرار وتوطيد الامبراطورية العباسية أن تحول التعدى المادى الى تعدى معنوى بإقامة وتدوين وتشريع أديان أرضية تقوم مقام الاسلام ، تحت اسماء جديدة كالتشيع و التصوف والسّنة .
4 ـ لقد أسهمت الطبيعة العربية المتعدية القرشية فى طرد المسلمين من مكة فأقاموا فى المدينة أول دولة اسلامية تطبق القيم الاسلامية فى الحرية والديمقراطية والعدل والاحسان . لم يتركهم التعدى القرشى يعيشون فى أمن فاستمرت الحروب القرشية تهاجم المسلمين فى المدينة ، حيث لم يكن الاذن للمسلمين بالقتال قد جاء بعد ، ثم جاءهم الاذن بالقتال ليردوا الهجوم الحربى عليهم (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) ( الحج 39 : 40 )، ونزل لهم تشريع القتال ليقتصر على الدفاع فقط دون الاعتداء لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ( البقرة 190 ) ، واستمر المسلمون فى دفاعهم ضد الاعتداء .
5 ـ وهذا الصمود ضد قريش وفضح استغلالها للعرب والحج و الكعبة مع روعة القرآن الكريم فى بيانه و محتواه جعل أعراب نجد المسيطرين على طريق التجارة الشرقية ( رحلة الشتاء و الصيف ) يقتنعون بعبث عبادة الأحجار ، فدخلوا فى الاسلام ، وأصبحوا مصدر تهديد لقريش وزعيميها أبى سفيان والعباس بن عبد المطلب . إختارت قريش فى البداية حرب المسلمين حرصا على مصالحها التجارية مع تسليمها بأن الاسلام هو الهدى: (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) ( القصص 57 ) (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ )(الواقعة 81 : 82 ) ثم اضطرت فى النهاية الى الدخول فى الاسلام حرصا ـ أيضا ـ على المصالح التجارية والمكانة السياسية .
6 ـ والأمويون الذين حاربوا الاسلام فى بدايته ،لم يلبث أن تحكموا فى المسلمين وأقاموا تحت اسم الاسلام أكبر دولة تمتد من حدود الهند والصين شرقا الى جنوب فرنسا غربا ، وهم الذين تحولت بهم دولة الاسلام الديمقراطية الحقوقية الى دولة استبدادية ظالمة باغية .
ولم يكن هذا التحول سهلا ، فقد أشعل حربا أهلية بين المسلمين ومعارك طاحنة بينهم من الجمل الى صفين والنهروان وكربلاء وغيرها . وأشعل ثورات الخوارج وامتد بها من الجزيرة العربية الى أواسط أسيا شرقا وشمال أفريقيا غربا ، مما أدى الى سقوط الدولة الأموية فى ريعان شبابها لتحل محلها دولة أشد عتوا هى الدولة العباسية التى خدعت المتشوقين للعدل باسطورة المهدى المنتظر الذى يملأ الارض عدلا بعد أن إمتلأت جورا .
7 ـ وانتصر الأمويون عسكريا على كل أشكال المعارضة المسلحة التى قادها الخوارج والموالى و الشيعة والعلويون من آل البيت ، وتتبعوا بالاضطهاد أى معارضة قولية حادة ، مما أوجد نوعا مهذبا من المعارضة ، أسميناه ( وعظ السلاطين ) .
8 ـ أعتمد ( وعظ السلاطين ) على عدم استفزاز السلطان ، بل الاعتراف به سلطانا ، ووعظه من داخل دينه وهو الاسلام ، مستشهدا بالكتاب الذى يؤمن به السلطان ، وهو القرآن الكريم .
9 ـ وفى القرآن الكريم ذخيرة لا تنتهى للوعظ من مبادىء وقيم للحرية والعدل والمساواة والاحسان ، وفيه تخويف هائل من يوم الحساب ومن العذاب ومسئولية كل فرد عن عمله امام اه ا جل وعلا .
وفى القرآن الكريم ما يشجع الواعظ على الاقدام على وعظ الجبابرة ، فالقرآن الكريم يدعو الي إيجابية التحرك باقامة القسط والعدل ،والبدء بتغيير ما بالنفس من خضوع وخنوع حتى يغير اه ا ما بهم من هذا الخضوع والخنوع ، والوقوف ضد الظلم ولعن المستبدين الفراعنة ، مع التأكيد على أهمية التعاون على البر والتقوى وليس على الاثم والعدوان ، والأهمية القصوى للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا فارق بين حاكم او محكوم ، ثم الأساس العقيدى فى عدم تأليه البشر من الحكام وغيرهم ، والايمان باليوم الآخر عمليا بالعمل الايجابى ، وليس بالعزلة والرهبنة ولكن بالنهوض والتفاعل والتواصى بالحق وبالصبر.
10 ـ وجد المثقفون الأحرار زادا لهم أيضا فى أهم معالم السيرة النبوية لخاتم المرسلين ، سواء ما جاء منها فى القرآن الكريم أو فى الروايات الشفهية ، وتلك السيرة التى كتبها البشر لم تستطع أن تغفل مظاهر الحكم الديمقراطى للنبى محمد مما يعطى بالتالى تناقضا مع حكم السلاطين الذين يزعمون الايمان بالله تعالى ورسوله.
الايمان القولى منهم وتمسكهم بالشعار الاسلامى شجع المثقفين المعارضين على صبغ دعوتهم باسلوب الوعظ ، مستدلين بالقرآن الكريم أساسا ، وبما جاء فيه من آيات الترهيب وعذاب الآخرة و عاقبة الظالمين . وكان أكثرية أولئك المثقفين من الموالى ـ أى غير العرب ، أى ممن دخل آباؤهم الاسلام ، وكانوا من قبل مسيحيين يؤمنون بأن ما لله لله وما لقيصر لقيصر ، فلما أسلموا وقرءوا القرآن تشجعوا على دخول المعارضة القولية من باب الوعظ.
أخيرا :
هذه هى الأرضية التى اختلف بها المسلمون فى القرون الوسطى عن أسلافهم وأقرانهم المسيحيين فى مجال (وعظ السلطان ). واه و تعالى اعلم ..

اجمالي القراءات 16246