مقدمة:
1 ـ فى الحث على تزكية النفس لتفوز فى الآخرة لا يكتفى القرآن الكريم بالترغيب ،أى بذكر نعيم الجنة ورزق أهل الجنة ،بل يقرن الترغيب بالترهيب ، بالتخويف من عذاب النار.
والسياق القرآنى يتوازن فيه الحديث عن الجنة و النار ، كما يتوازن تأكيد الحرية الدينية بتقرير المسئولية وعذاب من يكفر و النعيم الذى ينتظر من يموت مؤمنا قد تزكى.
وعلى سبيل المثال يبدأ رب العزة بتقرير الحرية فى الايمان أو الكفر ، فيقول : (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) بعدها مباشرة تأتى مسئولية من يختار الكفر وما ينتظره من عذاب هائل: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) ثم نعيم من يختار الهدى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) ( الكهف 29 ـ ).
2 ـ وهناك بعض الناس يهش ويبش عند تقرير القرآن الكريم للحرية المطلقة فى الفكر والدين و المعتقد وحرية الدعوة للحق أو الباطل ،ولكنه يمتعض عندما يذكر القرآن الكريم تفاصيل العذاب المروع لمن يختار الضلالة ويأبى الهداية.
هذا الصنف من المخلوقات يتناسى أن الحرية فى القانون الوضعى قرينة المسئولية ، وهى كذلك فى القانون الالهى ، فأنت ( حرّ ) فيما تقول وفيما تعتقد وفيما تفعل فلا بد أن تكون مسئولا عما تقول وعما تعتقد وعما تفعل .
والله جل وعلا الذى خلقك حرا فى هذا العالم شاء أن يجعل يوما للحساب والمساءلة بعد تدمير هذا العالم ومجىء البشر للقاء الله جل وعلا للمحاسبة على ( حريتهم ) التى كانت معهم فى اليوم ( السابق ) ( يوم الدنيا ). ( هود 7 ) ( الملك 2 )( ابراهيم 48 ـ )
الحرية قرينة المسئولية حتى فى الحديث العادى فى مصر حين يصمم أحدهم على أمر برغم معارضة الآخرين يقولون له بلهجة التهديد : ( أنت حرّ ) أى تتحمل وحدك مسئولية ما تصمم عليه .
3 ـ الأهم من هذا أنه لا يمكن للانسان أن يسمو خلقيا ويتطهر إلا بالتزكية التى تجعله رقيبا على نفسه متقيا ربه فى السّر والعلن .
حياة الضمير أو( النفس اللوامة)ـ تتجلى أكثر فى فلسفة القرآن الأخلاقية و التشريعية ، فمعظم تشريعات القرآن مناط التطبيق فيها لضمير المؤمن نفسه ،ليس خوف المجتمع أو العقوبة الدنيوية أو الضبطية القضائية ، ولكن الرهبة من عذاب الآخرة أو ( التقوى )أى خوف الله جل وعلا (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ )(الزمر 13) وخوف النار (وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(آل عمران 131 : 132).
وبسبب العذاب المروع الخالد الذى ينتظر العصاة الظالمين الكافرين فإن العقوبات فى الاسلام ليس للانتقام ولكن للاصلاح فى الدنيا لينجو الجانى من العقوبة الأكبر فى الآخرة إذا تاب وأناب ، ولذلك تسقط العقوبات المقررة فى الاسلام بالتوبة ـ وذلك ما سنعرض لتفصيلاته فى مبحث تطبيق الشريعة القرآنية .
ولكن الذى يهمنا هنا أن ثنائية الجنة والنار والثواب والعقاب ونعيم الجنة و عذاب الجحيم لها مقصد تشريعى لاصلاح الفرد والمجتمع ، أساسه أن يعيش الفرد يزكى نفسه ، وأن يقيم المجتمع معالم العدل والقسط ، ومن أجل إقامة القسط نزلت كل الرسائل السماوية ( الحديد 25 ). وهذه الدولة الاسلامية تضمن حرية الدين والمعتقد ليكون البشر أحرارا فى دينهم حتى ليتسنى لهم أن يكونوا مساءلين أمام الله جل وعلا وحده يوم القيامة عن اختيارهم العقيدى فى الدين باعتبار أن الدين لله تعالى وحده ، يحكم فيه وحده فى يوم القيامة الذى اسمه يوم الدين .
ومن أسف أن كل هذا السمو فى التشريع القرآنى قد أضاعه المسلمون باديانهم الأرضية وباستغلالهم اسم الاسلام العظيم فى الفتوحات و الحروب الأهلية ، وتلك هى (الفتنة الكبرى) التى لا يزالون فيها يعمهون.
وفى الحلقة السابقة توقفنا مع تفاصيل رزق المؤمنين فى الجنة . وهنا نتوقف مع المقارنات القرآنية لرزق المؤمنين فى الجنة وعذاب الظالمين الكافرين فى الجحيم .
اولا : مقارنة إجمالية بين رزق الجنة وعذاب النار
1ـ فى سياق واحد وتنويعات مختلفة يأتى حديث القرآن الكريم عن الجنة والنار واصحابهما.
ونعطى أمثلة :
1/ 1 : فالكارهون لما نكتب من أبحاث قرآنية نوعان : علمانى ينكر الاسلام جملة وتفصيلا ، ومتدين متعصب لدين أرضى يرفض ما يأتى فى القرآن الكريم مخالفا لدينه الأرضى. وكلاهما يسعى فى آيات الله القرآنية معاجزا ؛ المتدين المتعصب لدينه الأرضى يسعى فى القرآن معاجزا بزعم النسخ وأن القرآن حمّال أوجه ..الخ ، والعلمانى الكافر بالقرآن والاسلام يسعى فى القرآن معاجزا ، يتهم القرآن بأنه وثيقة تاريخية لا تصلح لعصرنا ،أو أنه من تلفيق وصنع محمد بن عبد الله، أو أنه يتناقض مع بعضه ، ويتعسف فى تحريف معانى القرآن ليصل الى غرضه .
وقد أنبأ رب العزة سلفا ومقدما بهم ، وعقد مقارنة بين جزائهم فى النار وجزاء المؤمن بالله تعالى وكتابه واليوم الآخر إيمانا يصدر عنه عمل صالح نافع له وللمجتمع. يقول جل وعلا:(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) (الحج 50 : 51 ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) ( سبأ 4 ، 5) . المقارنة هنا بين مغفرة ورزق كريم للمؤمن و عذاب من رجز أليم لأصحاب الجحيم .
1 / 2 :وفيما يسمى ببلاد المسلمين يسود الاضطهاد الدينى تمارسه الأكثرية ضد الأقلية المسلمة من المذاهب الأخرى ،أو غير المسلمين. ويعانى أهل القرآن المسالمون اضطهادا ظالما لتمسكهم باصلاح سلمى للمسلمين بالاسلام، ويتحد ضدهم المستبدون والمتطرفون معا ، يصدون عن سبيل الله وآياته.وهذه عادة سيئة بدأت بالذين استكبروا من قوم نوح ، وظلت الى الذين استكبروا من قريش ، ولا تزال مع الذين استكبروا من آل سعود وآل كل مستبد .
أى بعد نزول القرآن الكريم ما لبث العرب أن سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم أى تصرفوا نفس تصرفاتهم، وهذا ما سيقال لكل الأجيال التى تلت نزول القرآن :(ابراهيم 45 )، وأصبحوا مثلهم يضطهدون المتمسكين بالكتاب السماوى .
وهنا يعقد رب العزة مقارنة بين الظالمين المعتدين وضحاياهم المؤمنين المرغمين على الهجرة بدينهم والدفاع المشروع عن حياتهم :(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) ( الحج 57 : 59).أى طبقا للايمان والعمل يتحدد الأجر بين عذاب مهين للكافرين المكذبين بالذكر الحكيم و رزقا حسنا ومدخلا مرضيا للمؤمنين المناضلين المهاجرين .
1 / 3 : وقد تأتى مقارنة جزئية فى لمحة سريعة ، حيث ينعم أهل الجنة برزق واسع وجنات تجرى من تحتها الأنهار بينما يعانى أصحاب النار من غذاء ملتهب وشراب من حميم ، والشفاء الذى يأملون فيه هو طعام وشراب أهل الجنة ، ولذلك ينادون أهل الجنة يستغيثون بهم يتسولون الماء او الطعام ، ويردّ عليهم أهل الجنة إنه لا يصلح لهم فقد حرّمه الله تعالى عليهم :( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )( الأعراف 50).
ويأتى وصف أهل النار فى الآيتين التاليتين يخبر مقدما عن مصير المستبدين و المتطرفين من أصحاب أهل الأديان الأرضية من (المسلمين) فى عصرنا:(الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )( الأعراف 51 : 52 ). أولئك المستبدون والمتطرفون يتلاعبون بدين الله جل وعلا يستغلونه فى طموحاتهم الدنيوية ، ويزيفون أديانا أرضية تتحول فيها الشعائر الدينية من خشوع وخضوع لله جل وعلا الى لهو ولعب ورقص وغناء ،وقد غرتهم الحياة الدنيا يعتقدون أنهم فيها مخلدون بلا موت وبلا يوم آخر للحساب . وهم بآيات الله فى القرآن يجحدون ، مع أن الله جل وعلا قد أنزل القرآن مفصلا جاء تفصيله على علم ومنهج ليكون هدى ورحمة ليس للجميع ولكن للمؤمنين الذين يطلبون الهداية به.
أما من ارادوا الدنيا و رضوا بها وإطمأنوا اليها وآثروها على الآخرة وتلاعبوا بالدين يخلطونه بالسياسة ليركبوا ظهور العوام باسم الدين :أولئك مصيرهم ان ينساهم الله جل وعلا يوم القيامة كما نسوا ربهم فى الدنيا:( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )(المجادلة 19).
فالله تعالى يذكر الذين يذكرونه ، يذكرونه جل وعلا بما يستحق من عبادة وتقديس لا يشركون به شيئا ، وهو جل وعلا فى المقابل يذكرهم يوم القيامة برحمته وجنته حيث يتمتعون برزق الجنة ونعيما: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) ( البقرة 152) . المؤمن الذى يذكر ربه لا يجعل له شريكا فى العبادة و التقديس ، وهو لا ينسى ربه ، يذكره حين يهم بالمعصية أو حين يخدعه الشيطان فيسارع بالتوبة و التقوى (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أو ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ أَوْ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ )(آل عمران 135) (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ )(الأعراف 102).
ثانيا :مقارنة تفصيلية بين رزق الجنة وعذاب النار
1 ـ وفى الآية السابقة رأينا كيف يتسول أصحاب النار الماء و الطعام من أصحاب الجنة ، ويرد أصحاب الجنة بالرفض لأن التكوين الجسدى لأصحاب أهل النار لا يسمح لهم إلا بطعام النار وشراب الحميم . ندخل هنا فى مقارنة تفصيلية بين طعام وشراب الفريقين ،أو رزق الفريقين حتى نعرف أهمية تزكية النفس للنجاة من النار وللتمتع برزق أهل الجنة.
2 ـ يقول جل وعلا : (إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )(الصافات 40 : 71)
2 / 1 : وصف رزق أهل الجنة هنا أنه ( معلوم ) ليس بالنسبة لنا فى هذا العالم بل لأصحابه فى الجنة ،وهو نوعان :نعيم (مادى )بتعبير عصرنا ،أى طعام وشراب ومتعة جنسية ، ونعيم معنوى بالتكريم والتشريف ورضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه وسلام الله تعالى عليهم والملائكة وتبادل السلام والتحية فيما بينهم، والتواصل بينهم بالحديث الممتع على أرائك متقابلين ، وقد نزع الله جل وعلا ما قد كان من عداء قديم بين بعضهم فى الحياة الدنيا ، وتلك هى سعادة الأخلاء مع بعضهم البعض حيث يتسامرون ويطاف عليه بشراب طهور ، متصل غير منقطع ، ولديهم زوجات من الحور العين مطهرات من حيث الجسد ومطهرات من حيث الأخلاق .
كل ذلك يأتى التعبير عنه وفق مدركاتنا ،أى باطلاق صفات وأسماء عليها من نفس الأسماء المستعملة لدينا لتقريب المعنى ، ولكن الحقيقة فوق ما نتصور وفوق ما نتخيل ،ولا يمكن أن تخطر على بالنا ، فلا تعرف نفس بشرية ما خفى من نعيم الجنة :(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة 17) ، ولذلك يأتى التعبير بالمجاز ، فالحور العين ( قاصرات للطرف) اى استعارة عن الحياء والخفر ، و (كأنهن بيض مكنون ) اى تشبيه لتقريب الفهم .
2 / 2 :ثم هم فى أحاديثهم سيتذكرون ما كان يحدث لهم فى الدنيا . يتذكر أحد أهل الجنة صاحبا له كان فى الدنيا ، وكيف كان هذا الصاحب ضالا مضلا يريد غواية صاحبه المؤمن ،وكان يتندر عليه منكرا البعث والحساب بعد الموت . ومن خصائص أهل الجنة أنهم يستطيعون رؤية أهل النار والحديث معهم والاطلاع على أحوالهم وهم يتعرضون للتعذيب . وهكذا يتطلع صاحبنا ومعه أصدقاؤه من أهل الجنة الى أهل الجحيم فيرون ذلك الصاحب السابق فى مكانه وسط الجحيم ، فيسائله عن إنكاره السابق للبعث و الحساب و الجنة و النار .ويقول له إنه لو أطاعه لكان معه فى هذا العذاب ،لولا فضل الله تعالى عليه أن قوّى ايمانه فنجا .
وبعد هذا الملح يأتى التأكيد الالهى بأن رزق الجنة هو الفوز العظيم ولمثله فليعمل العاملون . ثم تأتى المقارنة بعذاب أهل الجحيم .
2 / 3 : وتبدأ المقارنة بشجرة الزقوم ، طعام أهل الجحيم ،وأحد أهم عناصر التعذيب فيها ، وأهم بند فى بنود (رزق )أهل النار.
وتأتى أوصافها المرعبة ،فهى شجرة جذورها فى قعر الجحيم ، وتتشعب لتصل ثمارها الى فم كل واحد من أهل النار ليأكل منه كرها ،إذ توصف هذه الشجرة بأنها (فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ ) فهم مجبرون على الأكل منها الى أن تمتلىء منها البطون ، ثم هم مجبرون على أن يشربوا علي ذلك الطعام الملتهب سوائل ملتهبة هى الحميم ، وتلك إحدى دورتى العذاب لأنهم بعد الأكل و الشرب الذى يملأ أجوافهم نارا يعودون الى النار الأصلية لتعصف بجلودهم (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ ).
2 / 4 : ووصف العذاب هنا وفق مدركات البشر لأن حقيقته لا يمكن أن يدركها البشر فى هذا العالم.
ويكفى هنا وصف ثمرة شجرة الزقوم بأنه مثل رءوس الشياطين:(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ). التشبيه يأتى بصورة مرعبة لم نرها بعد ،وهى رءوس الشياطين، وفيه إعجاز فى الفصاحة القرآنية ، فالعادة فى بلاغة التشبيه أن يأتى المشبه به معروفا ، فحين تقول ( هذا الرجل شجاع كالأسد ) فالمشبه به وهو الأسد لا بد أن يكون معروفا بالشجاعة . ولكن الفصاحة القرآنية فى التدليل على مدى العذاب والرعب تأتى لنا بالمشبه به من الغيوب التى لم نرها ، ولكن فى نفس الوقت نحتفظ لها بكل ما نملك من مشاعر الرعب والفزع ، وهى ( رءوس الشياطين ).
2 / 5 : وحتى تكتمل الصورة فلا بد أن يأتى استحقاق أهل النار للعذاب لأن الله جل وعلا ليس ظالما للعباد ،فأولئك يستحقون العذاب لأنهم ظالمون (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) وأنهم كانوا ممن يعبدون (الثوابت الدينية )او ما وجدوا عليه آباءهم ، فقد وجدوا آباءهم ضالين فساروا على آثارهم يهرعون (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ).وهو وصف ينطبق على معظم المسلمين الذين أتخذواالقرآن مهجورا تمسكا بالثوابت وما أجمعت عليه الأمة .
3 :ويقول جل وعلا :(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ) ( الدخان 43 : 57 )
هنا وصف يقارن طعام أو رزق أهل النار برزق أو نعيم أهل الجنة .
3 /1 : والأساس فى رزق أهل النار هو شجرة الزقوم . ووصفها بأنه طعام أو رزق الأثيم ،أى الذى عاش بالإثم ومات عليه ، وحمله فوق ظهره ،وأصبح معذبا به ، يأكل طعامه من شجرة الزقوم ، حيث يغلى فى بطنه كغلى الحميم ، ثم بعد دورة الأكل يتم قذفه الى قعر الجحيم ، ثم يصب الحميم فوق رأسه ، ويقال له بالسخرية (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ )،أى كما كان يسخر فى الدنيا من البعث و العذاب و النعيم تتم السخرية منه وهو تحت العذاب ، ويتم تذكيره بما كان يتندر به على دين الله جل وعلا.
3 / 2 :والملاحظ هنا أيضا استخدام الاسلوب المجازى بالتشبيه:(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)،فهنا تشبيه طعام الزقوم بالمهل ، وهو جمرات البراكين المتقدة من النار الذائبة أو (اللافا أو الماجما)،وهذا هو مبلغ علمنا بالنار الذائبة، وهذا (المهل ) الأرضى لا بد أن يبرد ويتحول الى تراب وتربة غنية فيما بعد .أما طعام الزقوم فهو لا يبرد ، ومستوى حرارته فوق تخيلنا ، وهو خالد فى تأججه وتدفقه وغليانه داخل البطون.
وأيضا يأتى تشبيه غلى البطون ، وهو صورة لا نعرفها ، ولا يمكن أن نراها فى حياتنا الدنيا لأن الحديث هنا عن أشخاص أحياء تغلى بطونهم بأعلى ما يمكن تصوره من درجات الغليان ،وهو (غلى الحميم ). والحميم هو ماء النار فى الجحيم. نحن فى هذه الحياة لنا درجة معينة فى تحمل الألم ، فإذا زاد رحمنا الله جل وعلا منه بالاغماء أو الموت .أما فى النار فمن فيها يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، وكلما نضج جلده تبدل بجلد آخر ليذوق العذاب خالدا مخلدا أبد الآبدين .ومع العذاب الجسدى يأتى العذاب النفسى من الخزى و التلاعن والتبكيت.
3 / 3 :والتفكر فى أن تغلى البطون بماء نارى ملتهب يعطى الصورة المطلوبة من الفزع ، لعل وعسى أن يتوب من لديه متسع للتوبة ، فيزكى نفسه وينجو بها من سوء المصير..
3/ 4 :وتأتى المقارنة برزق ونعيم أهل الجنة حتى تكتمل الصورة .فعلى عكس البغاة الآثمين فإن المتقين ينعمون بالأمن فى (مَقَامٍ أَمِينٍ) يجلسون فى أجمل اللباس مع زوجات من الحور العين ، ويطلبون ما يشاءون من فوكه متمتعين بالأمن .
4 ــ ويقول جل وعلا :ـ(هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) (ص 49 : 68 ) :
4/1 : يبدا الوصف هنا عاما للجنة بأنها ( حسن المآب ) أى هى الدار التى يئوب اليها من كان فى الدنيا متقيا فيجد كل الحسن قد تجمع فيها ، بينما تركز كل السوء فى مآب الظالمين البغاة فى الجحيم.
4 / 2 :وتأتى تفاصيل النعيم التى تتناقض مع تفاصيل الجحيم ، فالجنة مفتوحة أبوابها لأهلها بينما النار مؤصدة مغلقة على أصحابها كلما أرادوا الخروج لاحقتهم مقامع من حديد تلقى بهم فى قاع الجحيم .وأصحاب الجنة فى داخلها يجلسون على أرائك يطلبون ما يشتهون من طعام وشراب ،وحولهم أزواجهم المطهرات من الحور العين ، والرزق المعين لهم لا ينتهى ولا ينفد . هذا وعد الله جل وعلا لمن أراد الآخرة وتزكى لها ، والله جل وعلا لا يخلف الوعد والميعاد.
4 / 3 :وتنتقل الآيات الى الطرف المقابل ، حيث تكون جهنم للطغاة شر مآب وبئس المهاد .والمآب هنا هو المرجع والمصير النهائى حيث الاستقرار الخالد الذى لا خروج منه. والمهاد هنا هو المكان الذى يلتصق بصاحبه ويلتصق به صاحبه ، وهما مقترنان لا يفترقان .
4 / 4 :وتأتى إشارة هنا الى أنواع جديدة من طعام أهل النار ، منه ما ورد ذكره فى القرآن الكريم مرادفا للحميم مثل الغساق ، يقول جل وعلا عن الطغاة اصحاب جهنم ( لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ) ( النبأ 24 : 25 ).ويشير رب العزة الى نوع آخر من طعامهم فبقول (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) ، أى طعام آخر من نفس الشكل يأتى أزواجا ،وربما يكون ذلك الطعام المشار اليه هو الغسلين ، إذ يقول رب العزة عن الكافر فى الجحيم (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ)(الحاقة 35: 37 ).
4 / 5 :وبعد الحديث عن العذاب الجسدى يذكر رب العزة نوعا من العذاب المعنوى وهو تخاصم اهل النار و لعن بعضهم البعض ، وقد تكرر هذا فى القرآن الكريم ، ولكن هنا يتخصص اللعن ليس بين المستكبرين وأعوانهم الذين عاشوا نفس العصر ـ ولكن بين كفرة سابقين وكفرة لاحقين فى بداية تعمير جهنم بأهلها ، فكلما ألقى فى الجحيم فوج واجهه الفوج السابق باللعن ، ثم يتحدون جميعا فى لعن من أضلهم جميعا : (هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ).
ثم يتحدث أصحاب النار فيما بينهم متسائلين عن أفراد من المؤمنين فى الدنيا تعرضوا للتكفير والاتهامات الباطلة ظلما وعدونا ،أطلقها عليهم الظالمون وألصقوها بهم حتى صدقوها ، وطبقا لتلك الاتهامات والاشاعات فلا بد أن يكون مصير أولئك المسضعفين الى النار .ويفتشون عنهم فى النار فلا يجدونهم ،أى كان مصيرهم الى الجنة طالما لامكان لهم فى النار ، ولكن يأبى المستكبرون أصحاب النار الاعتراف بهذه الحقيقة فيتعللون أنه ربما زاغت أبصارهم عن رؤية أولئك الذين كانوا يحسبونهم من الأشرار داخل جهنم:( وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ) .
4 / 6 :هذا حديث عن أحداث ستحدث فى المستقبل ،ولكن منكرها سيكون غدا من أصحاب النار ، لذا يأتى التأكيد الالهى فيقول جل وعلا :( إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ). وهو تأكيد لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن يتزكى ويتطهر.
5 ـ ونتوقف فى لمحات سريعة عن تفصيلات للعذاب :
5 /1 : عن شراب أهل النار يقول جل وعلا : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) الكهف 29 ) اى تحيط بهم النار فاذا عطشوا شربوا ماء النار الذى يشوى وجوههم. وهذا هو الحميم الذى تتقطع منه الأمعاء :(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ) (محمد 15 )
5 / 2 :وبالاضافة الى طعام الزقوم وغسلين وغساق هناك الصديد . إذ من هذا العذاب الأبدى الخالد يتولد داخل الجسم صديد ملتهب يتحول الى قيح متوهج ، سائل مرير آخر لا بد أن يتجرعه الكافر فى دورة عذابه المستمر ، ويكون بلاؤه من تجرع هذا الصديد شديدا ولكنه مرغم على تجرعه ،فقد انتهت بالموت حريته فى الاختيار، وضاعت عليه كل فرص التوبة والاعتذار. اقرأ فى ذلك قوله تعالى عن الكافر وما ينتظره من عذاب (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ . يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (ابراهيم 16 : 17 ). كل لمحة من العذاب كفيلة بموته، ولكن لم يعد هناك موت ، بل خلود فى العذاب ، واصبح يتمنى أمنية مستحيلة أن يأتيه الموت بالراحة من العذاب .!! فقد الماضى والحاضر والمستقبل ، وأصبح لزاما عليه أن يحيا فى هذا العذاب خالدا مخلدا دون نهاية .!!
5 / 3 وبينما يتحلى أهل الجنة بلبس الحرير والفضة والذهب فان لباس أهل النار عذاب لأهل النار . يقول جل وعلا عن لباس أهل الجنة : (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)(الكهف 31) ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)(فاطر 33 ) (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) ( الحج 23 ).
وفى نفس السورة يقول جل وعلا عن لباس أهل النار ( فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ)( الحج 19 ) (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ) ( ابراهيم 49 : 50 )
5 / 4 :عن اعتقال أهل النار فيها بلا أمل فى الخروج يقول تعالى : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)، وهم محاطون محاصرون محبوسون بهذا السرادق النارى ، وهم يدورون دورات عذاب مستمرة وخالدة من قعر النار الى أعلاها .
ويصف رب العزة دورة من دورات العذاب فى جهنم حيث يمكن تخيل الكافرين فيها وهم يدورون فيها من أعلى الى أسفل تحت عذاب مستمر ، وتحول لباسهم الى نار وطعامهم وشرابهم الى جمر ملتهب أو"لافا " أو " مجما " وفق تخيلنا ، ثم يخيل اليهم امكانية الهروب اذا اقتربوا من أبوابها فى دورة العذاب وحينئذ تلاحقهم ملائكة النار بمقامع من حديد فيهوون الى أسفل الجحيم ، ويعاودون الصعود فى الدورة التالية من العذاب فاذا وصلوا أبعد نقطة حاولوا الهرب فتتلقفهم الملائكة بالمقامع فتعيدهم الى قعر الجحيم ، وهكذا الى أبد الآبدين: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ) أى يستحمون بالنار فتصهر جلودهم وبطونهم (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ) (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) الحج 19 : 22 )
فى هذا العذاب الأبدى كلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها ليستمروا فى العذاب ( النساء 56 ) دون راحة أو دون موت ، يقول تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ) ويعلو صراخهم يطلبون من الله تعالى اخراجهم ويأتيهم الرد بأن الله تعالى أعطاهم الفرصة فى العمر فى حياتهم الدنيا، وفرصا متكررة لمن أراد أن يتذكر ولكنهم تحدوا الله تعالى وأنكروا رسله فأصبح عليهم ان يذوقوا ما كانوا يكذبون به : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ. فاطر 36 : 37 )
ثم يتجهون الى رئيس ملائكة الموت واسمه " مالك " يطلبون منه ان يريحهم الله تعالى عليهم بالموت فيرد عليهم يذكّرهم بعنادهم فى الدنيا وتكذيبهم بآيات الله تعالى فى القرآن وسائر كتبه المنزلة : ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون . لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) الزخرف 74 : 78 )
أخيرا : لمجرد التذكرة لأصحاب التدين السطحى والاحتراف الدينى:
1 ـ هذا العذاب المريع من نصيب من أراد الدنيا وآثرها على الآخرة . والناس نوعان ، منهم من يبريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة ، وكان هذا حال الصحابة انفسهم ، يقول جل وعلا يخاطبهم فى أحد المواقف:(مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ) ( آل عمران 152 )
2 ـ مريد الدنيا يرضى بها ويطمئن لها غافلا عن الهدى ، وقد وصف الله جل وعلا نفسيته فقال :(إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) وقال عن جزائهم فى الآخرة:( أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) أى بسبب كسبهم السىء فى الدنيا ينتظرهم عذاب الآخرة ، وقد تعرضنا لبعض تفصيلاته . ويقول تعالى عن الجانب المقابل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) ( يونس 7 : 9 )
3 ـ مريد الدنيا تضيع ثمرة اعماله الصالحة فى الآخرة لأنها لا تصلح إلا للدنيا ، لذا تأتيه المكافأة عليها فى الدنيا ، وينتظره عذاب الآخرة :(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( هود 15 : 16 )
4 ـ يتوقف الأمر على قرار من الانسان ، لو أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فقد زكّى نفسه ليصلح لنعيم الآخرة ، ومن غفل عن تزكية نفسه منشغلا بالدنيا فليس له فى الجنة نصيب ، وينتظره عذاب الجحيم .
5 ـ هل تستحق الدنيا لحظة نعيم فى الجنة أو لحظة عذاب فى الآخرة ؟