نظرة متأملة للأسماء الشهيرة بساحة المعارضة المصرية، والتي تتأهب للقفز على سفينة البرادعي التي لم تبحر بعد، كفيلة بأن تكشف لنا جسامة المعضلة المصرية. . معضلة تعثرها في طريق التطور والحداثة. . نعم النظام السياسي المصري أبعد من أن يكون قادراً على السير بمصر في طريق الحداثة المنشودة، لكن المحك الحقيقي هو في الإجابة عن سؤال يبدأ بكلمة "لماذا؟". . لماذا بعد ستة عقود مما سميناه بداية "حركة مباركة"، ثم "ثورة مباركة" أعقبتها -بعد هزيمة وبيلة- م&Ccee;ا أطلقنا عليه "ثورة تصحيح"، ومن بعدها تبديل لم ينقطع للوزراء والمسئولين، وكلهم من أبناء هذا الشعب وصفوته، بل ويعد أغلبهم وبكل المقاييس من خيرة رجالاته. . ومع ذلك وفي أحسن الظروف وأعلى التقييمات، لم نحقق من التقدم في بعض المجالات سوى خطوات قليلة، فيما أصابتنا في مجالات أخرى انهيارات، تصل في بعضها حد الكوارث، وعلى رأسها بالطبع وضع الأقليات الدينية، وعشوائية الحياة والشارع المصري؟!!
من قبيل الاستسهال المبتذل التسرع إجابة على سؤال "لماذا؟"، القول بفساد رجال الحكم واستبدادهم. . فالتساؤل هكذا سيظل معلقاً، وسيزداد حدة وغموضاً. . لماذا لا يصل إلى الحكم غير هؤلاء، إن كان ما ننعتهم به صحيحاً؟. . ولماذا نفترض دوماً أن المطرودين أو المهمشين من قبل النظام، هم دوماً وعلى مر كل هذه العقود، هم الصالحين الأتقياء والأكفاء، فهذا ما تعنيه (ضمنياً على الأقل) تلك الاتهامات التي تصدر عنهم للحكم، مصحوبة بكل ما نشهد من ضوضاء وصراخ؟!!
"لماذا؟" أيضاً يشتد صراخ من هم خارج دائرة الحكم، بكيل الاتهامات واللعنات على من هم داخله؟. . هل لمجرد ما يرصدونه من تقصير وعدم كفاءة، أم أيضاً وبالإضافة إلى ذلك، هناك الصراخ الناتج عن عدم تلبية الحكام لمطالب وتوجهات لهؤلاء الصارخين، قد يتمثل في الاستجابة لبعضها التخلف والفساد بعينه، ناهيك عن الدوافع الشخصية، التي لا موجب لدينا لنبرئ منها لا أهل الحكم ولا أهل المعارضة بصورة مطلقة؟!!
عشرات وربما مئات "لماذا؟" تقفز إلى الذهن، ونحن ننظر بعين إلى دائرة الحكم والحكام، وبالعين الأخرى إلى ساحة المعارضة، سواء إلى مكوناتها فرادى، من أحزاب وتجمعات شرعية أو محظورة، أو إلى جبهاتها التي لا تتكون إلى لتنحل بأسرع مما تجمعت. . نظرة إلى حركة "كفاية"، المفترض أنها تقدم نفسها لنا كبديل لما تنادي برفض استمراره. . ونظرة الآن للتيارات التي بدأت أخيراً تتجمع، لتمهد الطريق للبرادعي، أو لتقفز على كتفه، بعد الفشل المتكرر لأغلب عناصرها، في القفز أو ركوب أي موجة سابقة. . مجرد نظرة عابرة إلى تلك التجمعات، كفيلة بوضعنا أمام حقيقتنا عارية بلا رتوش أو حتى تستر وتعمية. . هؤلاء وأولئك هم نحن جميعاً، هم ممثلونا وصفوتنا، سواء كانوا داخل دائرة الحكم أم خارجه، وليس هذا الطرف أفضل من ذاك إلا بمقدار، لا يحدده علو الصوت، ولا سلطان السيف والثروة!!
هنا قد نجد الإجابة الموجعة لتساؤل "لماذا؟". . "لماذا" نحن متخلفون وحكامنا عاجزون وفاسدون؟. . فالإجابة التي قد نتوصل إليها ببساطة هي: لأن هذا هو حالنا جميعاً!!
أليست الحكومة والنظام الشرعي هو ذاك الذي يمثل الشعب بكامله، وليس تياراً أو مكوناً واحداً منه؟. . أليس من المفترض في حركة شعبية كتلك التي تتشكل الآن من أجل التغيير، أن تضم ائتلافاً وطنياً لأكبر مساحة من الطيف السياسي المصري، لتكون عندها بالفعل هي حركة الشعب، وليست محاولة انقلابية مفروضة من قبل مكون واحد؟. . أليس التوافق هو الكلمة السحرية والديموقراطية، التي بدونها لا يمكن أن تذهب أمة إلى أي مكان تحت الشمس؟!!
إذا ما أعقبت النظرة العابرة إلى تجمعات المعارضة المصرية، نظرة أخرى متأملة ومتفكرة، نتساءل خلالها ونحن نستعرض من يصرخون وبماذا يطالبون. . سنجد القومجيين والناصريين، الذين أكثر ما يشغل بالهم ويؤجج عواطفهم العداء لأمريكا وإسرائيل، وقد يربطون هذا أو لا يربطونه بمشاكل الجماهير مع الأجور والسكن والصرف الصحي وسائر قائمة المشاكل المزمنة. . بجانبهم اليساريون المتشنجون مطالبين بالعودة (وحدنا بالتأكيد) إلى نظم اقتصادية شبعت فشلاً، ويغادرها العالم كله غير مأسوف عليها. . ويتصدر المشهد ذوو اللحى الخفية والظاهرة، الذين يمتلكون وحدهم مفاتيح الوصول قريباً أو بعد حين إلى الجنة. . يقدح الشرر من عيونهم، ويتدفق التهديد والوعيد من أفواههم. . يعدوننا بالصلاح والفلاح إذا ما كفنَّا المرأة حية في السواد، وألزمنا الأقباط وأمثالهم أضيق الطريق، وأعلنا الحرب على أعداء الله في مشارق الأرض ومغاربها!!. . وسط هؤلاء يتناثر على استحياء أفراد يحفظون مقولات الحرية والديموقراطية والحداثة عن ظهر قلب، يرددونها حين يسمح لهم المجال بذلك، ويلتزمون الصمت الوقور والمؤدب أغلب الوقت، حتى لا يفكر أحد في حملهم من أربع وطرحهم خارج قاعة الحوار الوطني، التي تكون في الأغلب مكيفة!!
أليس التوافق هو الحل الوحيد للجمع بين كل هؤلاء الأعدقاء؟!!
إذا كانت الإجابة المنطقية الوحيدة هي "نعم"، ألن يكون من المنطقي بعد ذلك أن نتساءل، عما نتوقع من نتائج أداء مثل هذا التجمع، وعما إذا كان من المؤمل لها، أن تكون أفضل مما نتحصل عليه الآن من نتائج لشخوص الحكم وسياساته؟!!
هل اقتربنا الآن من الوصول إلى إجابة حقيقية للتساؤل الذي بدأنا به وهو "لماذا"؟!
نظام الحكم الحالي يا سادة لا يفتقد لكل شرعية، كما يحلو لأشاوس المعارضة القول. . هناك شرعية قانونية، قد تكون مشكوكاً فيها نظراً لما يحدث من تزوير في كل انتخابات مصرية عبر العصور. . وهناك شرعية سياسية، ليست أيضاً بريئة من التشكيك، نظراً للاستبداد طويل المدى. . لكن هناك أيضاً ما يمكن تلقيبه بشرعية التوافق، وتعني هنا أن يراعي الحكم في توجهاته وخطواته، أكبر عدد أو مساحة ممكنة من الطيف المصري. . يحدث ذلك سواء ضمت دائرة الحكم شخوصاً من مختلف تلك التيارات، أو وضعت مواقفها في الحسبان والحسابات، مع بقاء رموزها خارج دائرة الحكام شبه المغلقة!!
سياسة التوافق هكذا ستحاول قدر الجهد والممكن أن ترضي جميع الأطراف، ولكن لأن هذا الإرضاء واسع المساحة لابد وأن يكون بمقدار محدود، نظراً لتضارب التوجهات، فإن هذا سوف يترتب عليه أيضاً أنها سوف تغضب جميع الأطراف أيضاً، وبمقدار يختلف بالطبع بين طرف وطرف. . لكن أهم وأخطر ما يترتب على هذه الحالة، هو أن هذا الحكم سيكون كمركب مجاديفه موزعة على شكل دائرة على محيطه، بحيث يُبذل الجهد لدفع المركب في جميع الاتجاهات، لتكون النتيجة أن تتوقف حيث هي، عاجزة عن الذهاب إلى أي مكان!!
الناصريون الآن خارج دائرة الحكم نعم، لكن بداخله قومجيون، والحكم يحسب للناصريين وصوتهم العالي ألف حساب، فيتأرجح في موضوع السلام مع إسرائيل، بين مواقف رسمية مؤيدة للسلام، ومواقف معرقلة خلف الكواليس، وأخرى إعلامية معادية له محرضة عليه. . اليساريون أيضاً خارج دائرة الحكم، لكن تحرك الدولة نحو الاقتصاد الحر مكبل متخبط وخجول، خشية أو احتراماً للمناضلين اليساريين ونظرياتهم البائدة. . تنظيم الإخوان المسلمين محظور وخارج دائرة الحكم أيضاً، لكن مدرسته الفكرية تشكل العمود الفقري لمختلف أجهزة الدولة، ويعتنقها رموز بارزة في أعلى درجات السلطة، بداية من رئاسة مجلس الشعب، وانتهاء بنيابة رئاسة ما يعرف بالمجلس القومي لحقوق الإنسان. . الأقباط عموماً مهمشون عن السلطة، لكن الحكم يراعيهم بعض الوقت، ويضطر في أحيان أخرى كثيرة للتخلي عنهم، لينهش ذئاب التأسلم في أجسادهم ما شاء لهم الهوى، بدلاً من أن يتفرغوا لنهش أجساد النظام!!. . الليبراليون غير مستبعدين تماماً من دائرة الحكم، وهم يحققون بعض الإنجازات، لا ينكرها على الحكم إلا أعمى أو متعام، لكنهم بالطبع يعملون في وسط معاد بدرجات متفاوتة، لتكون النتيجة حنق الليبراليين خارج الحكم!!
هل وجدنا الآن إجابة لتساؤل "لماذا؟"؟
"لماذا" نحن فاشلون؟
لأن صفوتنا موزعة على اتجاهات متضادة وليست متنوعة تنوعاً صحياً وثرياً.
"لماذا" حكوماتنا فاشلة؟
لأنها بالحتم لابد وأن تكون حكومة توافقية، تحاول قدر جهدها البقاء في السلطة لأطول وقت ممكن، عن طريق ما يسمى التوافق، أو إرضاء جميع الأطراف، حتى لو كان هذا الهدف هو المستحيل بعينه، وحتى لو كان هذا المنهج هو الذي سوف يصل بالبلاد إلى كارثة قد تكون وشيكة، وقد يستغرق الوصول إليها بعض الوقت!!
هل يستطيع البرادعي أن يقود مصر في طريق جد مختلف، أم أنه قدرنا الذي لا مهرب لنا منه؟