وعظ السلاطين (1) أبو جعفر المنصور .. والخضر

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٥ - يناير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً


* يذكر ابن الجوزي في تاريخه المنتظم هذه القصة عن الخليفة أبى جعفر المنصور، وقد أسندها إلى رواة على طريقة المحدثين، يقول"وجرت للمنصور في حجه قصة مع بعض الصالحين : أخبرنا محمد بن ناصر قال أخبرنا المبارك بن عبدالجبار قال أخبرنا محمد بن علي بن الفتح قال : حدثنا أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري عن ابراهيم بن أحمد الخشاب المقرئ قال : حدثنا أبو على الحسن بن عبدالله الرازي قال : حدثنا المثنى قال حدثنا سلمة بن سلمة القرشي قاضي اليمن قال: سمعت أبا المهاجر المكي يقول :
* قدم المنصور مكة وكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل ويطوف ويصلي ولايعلم به أحد ، فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلي بالناس، فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينما هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد ، ثم أرسل إليه فدعاه ، فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم على المنصور.
* فقال له المنصور : ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغى والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني فأقلقني ؟
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن أمنتني على نفسي أخبرتك بالأمور من أصلها ، وإلا احتجبت منك واقتصر على نفسي ، ففيها لي شغل شاغل
فقال : أنت آمن على نفسك،
فقال : يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق واصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض لأنت ،
قال: ويحك ، كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء بيدي، والحلو والحامض في قبضتي ، قال : هل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين ؟ إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص وأبوباً من الحديد وجنوداً معهم السلاح، واتخذت أعواناً فجرة ، إن نسيت لم يذكروك وإن أحسنت لم يعينوك ، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح ، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله في المال حق ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلفتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبهم أحد عنك لما رأوك تجبي المال ولاتقسمه ، قالوا : هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه ، وهو مسخر لنا ، فتآمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا ، ولايخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك ، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم ، وكان أول من صانعهم هم عمالك ، اشتروا رضاهم بالهدايا والأموال ليتقوّوْا بها على ظلم رعيتك ، فظلموا من هم دونهم من الرعية وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك ، وأنت غافل ، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك ، وإن أراد رفع شكوى إليك عند ظهورك ، وجدك قد نهيت عن ذلك ، وقد أوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل بشكواه إلى بطانتك سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك فإن صرخ بين يديك ضربوه ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر فلاتنكر ذلك ولا تغيره ، فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ، وقد كانت بنو أمية و كانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم إلا رفعت مظلمته ، وقد كان الرجل يأتي من أقصى الأرض حتى يبلغ سلطانهم فينادى : يا أهل الإسلام ، فيبتدرونه: مالك مالك ؟ فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف له ، وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك ، فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه : مالك تبكي لابكت عيناك ؟ فقال : أما إني لست أبكي على المصيبة إذ نزلت بي ، ولكن المظلوم بالباب يصرخ فلا أسمع صوته ، وقال: أما إن كان سمعى قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لايلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم ، فكان يركب الفيل في طرفي النهار ، ليرى المظلوم فينصفه ، هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله فقد غلبت رأفته بالمشركين .. وأنت مؤمن بالله عزوجل وابن عم نبيه صلى الله عليه وسلم ، ألا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك ؟؟!! فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث. إن قلت أجمعها لولدي فقد أراك الله عبراً في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال ، فلايزال الله يلطف بذلك الطفل الصغير حتى تعظم رغبة الناس إليه، ولست بالذي تعطى ، بل الله يعطى من يشاء ما يشاء ، وإن قلت أجمع المال ليشتد سلطاني فقد أراك الله عزوجل عبراً فيمن كان قبلك، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وما أعدوا من السلاح والعتاد ، وما ضرك أنت وولد أبيك ما كنتم فيه من الضعف حين أراد الله عزوجل بكم ما أراد ، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هى أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح ، يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل ؟ قال : لا ، قال : فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ما أنت فيه من ملك الدنيا وهو لايعاقب من عصاه بالقتل ، ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم، وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك واضمرته جوارحك، فما تقول إذا انتزع ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب ؟ هل يفي عنك ما كنت فيه شيئاً ؟ .

* فبكى المنصور بكاء شديداً حتى ارتفع صوته ثم قال يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً ، ثم قال : كيف احتيالي فيما خُوِلْت ولم أر من الناس إلا خائناً .!
قال يا أمير المؤمنين عليك بالأئمة الأعلام المرشدين .
قال : ومن هم ؟
قال: العلماء،
قال : قد فروا مني !،
قال هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك ، ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم وامنع الظالم وخذ الشئ مما حل وطاب واقسمه بالعدل ، وأنا ضامن لك عن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك ..
* فقال المنصور اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل .
* وجاء المؤذنون فسلموا عليه ، وأقيمت الصلاة ، فخرج فصلى بهم، ثم قال للحارث ، عليك بالرجل فإن لم تأتني به ضربت عنقك ، واغتاظ عليه غيظاً عظيماً . فخرج الحارث يطلب الرجل ، فبينما هو يطوف إذا هو بالرجل قائم يصلي ، فقعد حتى صلى ، ثم قال يا هذا الرجل أما تتقي الله ؟ قال : بلى قال: أما تعرفه قال: بلى، قال : فانطلق معي فقد أقسم أمير المؤمنين أن يقتلني إن لم آته بك . قال : ليس إلى ذلك سبيل ، قال إنه سيقتلني إن لم آت بك ، قال ولن يقتلك أيضاً ، قال : كيف ؟ قال تحسن أن تقرأ ؟ قال لا ، فأخرج من مزود كان معه رقاع فيها شئ مكتوب ، فقال خذه فاجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج ، قال : وما دعاء الفرج ؟ قال : لا يرزقه إلا السعداء ، قال رحمك الله فقد أحسنت إلىّ فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله . قال : من دعا به صباحاً ومساءاً هدمت ذنوبه،ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له في رزقه، وأُعطى أمله وأُعين على عدوه وكُتِبَ عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً ، تقول : " اللهم كما لطفت فيّ بعظمتك دون اللطفاء ، وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت وساوس الصدر كالعلانية عنك ، وعلانية القول كالسر في علمك ، فانقاد كل شئ لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك ، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك ، اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً ، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك علىّ قبيح عملي أطمعني أن أسألك مالا أستوجبه منك ، فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلىّ وإني المسئ إلى نفسي ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك ، فعُد بفضلك عليّ ، إنك أنت التواب الرحيم " .
قال الحارس : فأخذته فوضعته في جيبي ، ثم لم يكن لي همٌ غير أمير المؤمنين ، فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه ينظر إلىّ ويبتسم، ثم قال لي: ويلك، تحسن السحر ؟ فقلت لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ ، فقال هات الورق ، ثم جعل يبكي ، ثم قال: به نجوت ، وأمر بنسخه، وأعطاني عشرة آلاف درهم ، ثم قال : أتعرفه، قلت لا : قال : ذاك الخضر" !!


"التعليق"
* الإعتقاد في وجود "الخضر" على قيد الحياة لم يكن موجوداً في عصر الخليفة المنصور العباسي . إذ أن الصوفية هم الذين أشاعوا الاعتقاد في الحياة الخالدة لخضر ، وأنه يتراءى لهم ويحادثهم وجعلوه رأساً في المملكة الوهمية التي زعموا أنها تتحكم في العالم، وقد سادت المعتقدات عن الخضر وتلك المملكة الصوفية الباطنية بعد عصر المنصور ببضعة قرون خصوصاً في العصر المملوكي ، وشهد ابن الجوزي في أواخر القرن السادس الهجري تأكيد الاعتقاد في حياة الخضر، وبدأ اسمه يظهر في الأقاصيص الصوفية والوعظية وأساطير الكرامات ولقد انتقد الجوزي سلوك الصوفية في عصره في كتاب "تلبيس إبليس" . وقد توفى ابن الجوزي سنة 597 هـ .
* أما الخليفة أبوجعفر المنصور فقد توفي سنة 158 هـ . ولم يكن في عهده صوفية أو كلام عن الخضر وكان أول رائد صوفي في تاريخ المسلمين هو معروف الكرخي الذي مات سنة 200 هـ وتلقى عنه التصوف تلميذه سري السقطي وهو استاذ أبي القاسم الجيد المعروف بسيد الصوفية ، ـ والقشيري ـ المحقق الصوفي صاحب الرسالة القشيرية هو أول من تحدث عن أقاصيص الصوفية مع الخضر في الرسالة القشيرية ، وقد مات القشيري بعد أبى جعفر المنصور بثلاثة قرون أي سنة 465 هـ .
* وجدير بالذكر أن الأساطير التي تتحدث عن حياة الخضر قد شاعت في القرن السادس الهجري وما تلاه وبعضها ارتدى ثوب الحديث النبوي مما دعا الإمام ابن القيم الجوزية إلى أن يؤكد في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" أن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ، ولايصح في حياته حديث واحد. ( المنار المنيف تحقيق طه عبدالرءوف سعد :128) .
* وقد حملت الأقاصيص التي حكيت حول حياة الخضر وأقواله وعظاته الكثير من الأفكار والرؤى الدينية والثقافية للعصر العباسي ، كما تضمنت بين ثناياها الكثير من النقد السياسي والإجتماعي والكثير من الأحلام المحبطة والآمال المحطمة لمؤلفين مغمورين أحلامهم عريضة وبطونهم جائعة ..!!
وأولئك المؤلفون المجهولون عبروا عن أحاسيسهم على لسان الخضر واستطاعوا من خلاله أن يقولوا ما شاءوا دون خوف من سيف السلطة ، وقد ضمنوا إلى جانب ذلك أن تنتشر أراؤهم وأن تجد طريقها للتدوين في مجتمع كان يحتفل بالأقاصيص خصوصاً ما دار منها حول الزهاد والورعين والشخصية الغامضة الأسطورية للخضر الذي يعتقدون حياته وأنه قريب منهم يجئ في لحظة لينقذ المساكين في محنتهم ثم يختفي في نفس اللحظة كما تقول الاساطير .. ولاشك أن الناس في عصور القهر يحتاجون إلى اختراع هذه الشخصية ليعيشوا في ظلالها لحظات من الراحة وأحلام اليقظة الوردية لتخفف عنهم الواقع البغيض .

* والقصة السابقة التي رواها ابن الجوزي وشاعت فى عصره حيكت حول الخضر الذي تصدى لوعظ أبي جعفر المنصور ثم اختفى ، وقبل أن يختفي قام بتعليم الحارس دعاء يستطيع به أن ينجو من غضب أبي جعفر المنصور ، وبالتالي يستطيع به أي مظلوم أن يعيش في أمن من الحاكم الظالم ..
* وابن الجوزي يروي تلك القصة وهو مصدق لها بدليل أنه يذكرها في تاريخه ضمن أحداث 148 هـ . بعد أن ذكر ما وقع من أبي جعفر المنصور من مظالم ، قتله لبني أعمامه الطالبين الثائرين عليه ، ثم حج إلى مكة في نفس العام بعد إخماد ثورة محمد النفس الزكية، ويروي ابن الجوزي أن المنصور في تلك الحجة قد قابل الخضر وجرى بينهم ما سبق . هذا مع أن سياق القصة لايبدو منه تحديد واضح أو حتى ضمني للعام الذي حج فيه أبو جعفر ، ومع أن ابن الجوزي حرص على أن يبدأ القصة بذكر الرواة بالترتيب حسب منهج المحدثين في السند والعنعنة ( أخبرنا فلان عن فلان ..) . إلا أن الراوي الأخير وهو أبو المهاجر المكي لم يكن من أصحاب المنصور والمحيطين به حتى يستحق أن يشاهد تلك الواقعة ويرويها ، بل إن القصة في بدايتها تتحدث عن المنصور وهو يخلو بنفسه بعيداً عن الناس فكيف يتثنى للراوي أبي المهاجر أن يقترب منه ، ثم هو يعترف بوجود حراس وحجاب للمنصور يجعل من الإقتراب منه شيئاً عسيراً، فكيف يتثنى له أن يقتحم خلوة المنصور ويسجل ما دار بينه وبين ذلك الواعظ الذي ظهر أخيراً أنه الخضر ، والراوي لم يقل أنه تسلل إلى المنصور ، ولم يدع ذلك ، وإنما حكى الواقعة فقط،، مما يدل على أنه حكاها من الذاكرة ولا شأن للمنصور أو أُلحِضر بها ، وإنما هى قصة رائعة من نسج الخيال .
* وإذا تعاملنا معها على أنها قصة من نسج الخيال وجدناها أصدق في التعبير عن مشاعر الناس في العصر العباسي ، خصوصاً عصر ابن الجوزي في القرن السادس الهجري . إذا كانت الشكوى عامة من " ظهور البغي والفساد والظلم والطمع " فجعلوا تلك الشكوى على لسان الخضر يجأر بها أمام الكعبة ليسمعه المنصور في هدأة من الليل ، ودار بينهما ذلك الحوار الطويل الذي وضع فيه المؤلف رأيه في صراحة مذهلة ، عن مسئولية الحاكم إذا انتشر الظلم والبغي والفساد في الأرض ، وهو تطور هام في التفكير السياسي يسبق التفكير العادي للعصور الوسطى الذي يحاول دائماً تبرئة الحاكم وتحميل الأتباع للمسئولية من دونه ، ولكن المؤلف هنا يضع المسئولية مباشرة فوق رأس الخليفة أو الحاكم ويرتب هذه القضية ترتيباً منطقياً ، فالخليفة ينشغل عن مهمته في رعاية الناس ويتفرغ لأكل أموال الناس ثم ينفصل عن الناس ليعيش في برج عاجي تحيطه الأسوار والحصون والحراس ، ولا يحيط به إلا أعونه الذين يكونون سمعه وبصره وقنوات الإتصال بينه وبين الناس ، ولكنهم لا يطلعونه إلا على ما يزيده عتواً وطغياناً . ويقوم أولئك الأعوان بمطاردة العناصر الشريفة فلا تبقى إلا العملة الرديئة فينتشر الظلم ويحال بين المظلوم وبين الشكوى ، وحينئذ يظهر البغي والفساد والظلم والطمع ..
ولا يكتفي المؤلف بذلك بل يضرب على وتر حساس لدى الخليفة العباسي حين يزعم أن بني أمية كانوا أكثر عدلاً منه وكانوا يسرعون لنصرة المظلوم ، بل يضرب له مثل آخر اخترعه اختراعاً عن عدل ملك الصين . وكيف أنه ينبغي أن يكون هو الأولى من أولئك بالانحياز للعدل ، ثم يلجأ في النهاية إلى تخويفه من غضب الله وعذاب الآخرة الأبدي ..
* ولابد أن يسأل الخليفة ـ في تلك القصة ـ عن الحل وتأتيه النصيحة بأن يستبدل بأعوان السوء الخونة صنفاً آخر هم العلماء الذين فروا منه ومن ظلمه ،فإذا أراد أن يسير بالعدل فعليه أن يبدأ بنفسه بالاتصال بالشعب وإزالة الحواجز بينه وبين الناس ومنع الظلم وأكل الحلال والحكم بالعدل ، وحينئذ يأتى إلى بابه العلماء والمصلحون .

* إذن هى ليست مجرد قصة ولكنها وثيقة في الإصلاح السياسى صيغت في أسلوب قصصى جذاب وفي شكل حديثى له سنده ورواته ، وكانت البطولة فيه لشخصية احتلت مكانة مقدسة في قلوب العوام والخواص أيضاً . وهذه الوثيقة الداعية للإصلاح تشير في وضوح شديد إلى أساس المرض وهو بغى الحاكم واستئثاره بالأموال من دون الناس وحكمه بالظلم والقهر ثم تضع العلاج وهو يبدأ أيضاً بالرأس ، أى الحاكم ، فحين يتطهر الحاكم من الظلم والأثرة لن يكون إلى جانبه إلا المصلحون بينما يبتعد عنه المفسدون والمنافقون ، وبين التشخيص والعلاج يأتى أسلوب الوعظ لحث الحاكم بشتى الطرق على الرجوع للحق والعدل .
ولأنها وثيقة إصلاح سياسى ضد الظلم فإن الخوف من الظالم وظلمه تظهر واضحة بين السطور، فالخضر لا يتكلم بصراحة أمام الخليفة إلا بعد أن يأخذ منه الأمان لنفسه خشية القتل ، هذا مع أن الخضر فى اعتقادهم محصن ضد الموت والقتل ، ولكنه الخوف الشديد من مواجهة الخليفة ، والخليفة بعد أن أخذته نوبة الورع والتوبة ما لبس أن عاد لطبيعته وقسوته فهدد الحارس بالقتل إن لم يعثر له على الخضر ، والخضر يعلم الحارس طريقة ينجو بها من ظلم الخليفة ، وهى تميمة أو دعاء ويستطيع الحارس بهذا الدعاء أن ينجوا من القتل ..
ولأن المؤلف كان يعيش في العصر العباسى فقد دفعه خوفه إلى تملق العباسيين ، فهو يجعل الخليفة المنصور يبكى مع شدة قسوته ومع انه فضح ظلمه ومسئوليته المباشرة عن الفساد، وتأتى النهاية السعيدة ببكاء الخليفة وعفوه عن الحارس وإعطاءه مكافأة سخية ثم يقول للحارس إن ذلك الرجل كان الخضر ، أى أن الخليفة عرف الشخصية الحقيقية للواعظ المجهول .

* وبذلك يقترب المؤلف لتلك القصة من معتقدات القرن السادس التى كانت تعطى قداسة للخليفة العباسى مهما كان ظالماً ، وكانت تعكس أملا مستحيلا كان يعيش فى ضمير المسلمين فى القرون الوسطى ، وهو العثور على المستبد العادل ، فالخضر ـ بزعمهم يقول للمنصور ( إن الله عزوجل استرعاك أمور المسلمين وأموالهم ) وهنا ترديد وتأكيد على أن الخليفة يستمد سلطته من الله جل وعلا ، وهذا يخالف الاسلام و القرآن الكريم حيث تكون الأمة و الناس و المواطنون جميعا هم مصدر السلطة ، ولقد قال جل وعلا لخاتم المرسلين فى المدينة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) ( آل عمران 159 )، أى أمره الله جل وعلا أن يكون لينا سهلا فى التعامل مع الناس لأنه لو كان فظا غليظ القلب لإنفضوا من حوله ، ولو إنفضوا من حوله فلن يكون له جاه أو ملك أو سلطة أو دولة ،أى فهم باجتماعهم حوله صنعوا له الدولة وأعطوه السلطة ، ولو إنفضوا عنه وتركوه زالت عنه السلطة ورجع الى معاناة الاضطهاد من قريش ، إذن فهم مصدر السلطة ، وليس مصدر السلطة للنبى محمد عليه السلام ـ كولى أمر ـ آتية من الله جل وعلا لأن الله جل وعلا هو ـ ذاته ـ الذى يأمر النبى بأن يكون لينا مع الناس ،وأن يعفو عنهم إذا أساءوا اليه ،وأن يستغفر لهم لو أذنبوا فى حقه ،وأن يشاورهم فى الأمر لأنهم اصحاب الأمر ومصدر السلطة السياسية.
ويختلف الأمر مع المستبد الذى لا بد أن يكون فظا غليظ القلب ليفرض هيبته على الناس ، لذلك يعتمد التعذيب و القهر و الأمر المباشر بقتل من يشاء دون معقب على أمره . ولو كان هذا المستبد علمانيا فهو يحكم بصفته مجسدا للوطن أو القوم أو الشعب ، وهو يقتل من يعترض عليه متهما إياه بخيانة الوطن أو الأمة أو الشعب. ولو كان المستبد متدينا بدين أرضى فهو يحكم زاعما أن الله جل وعلا قد أعطاه التفويض الالهى بحكم الناس ، ومن يخرج عن طاعته فهو كافر وزنديق ومرتد ، ولهذا شهد عصر أبى جعفر المنصور وابنه الخليفة المهدى اختراع ما يعرف بحدّ الردة ، وقتل الكثيرين بتهمة الزندقة ، وكان المنصور يعلن فى خطبه أنه ( خليفة الله فى أرضه وأمينه على ماله ) ، وهذا ما كان سائدا فى القرون الوسطى فيما يعرف بالحق الملكى المقدس ( The Divine right of Kings) .
وواضح فى القصة سمات الحكم الثيوقراطى الاستبدادى ، وتحاول القصة علاج الأمر بأن يستعين المستبد الدينى بالعلماء المخلصين ، وهذا علاج فاسد لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ، ولا يمكن أن تعطى سلطة مطلقة لعالم او حاكم يمارسها بدون مساءلة أمام الناس ثم تنتظر منه العدل ،لأنك أقصيت مبدأ العدل من البداية حين أعطيت كل حقوق الأمة وثرواتها لشخص واحد وجعلته يحتكر القوة و الجند والثروة و السلطة والأمر و النهى ، ثم يتعاظم الظلم حين تزعم أن الله جل وعلا هو الذى أعطى هذا الظالم الحق فى الاستحواذ على السلطة و الثروة ، وليس الله جل وعلا ظالما للعباد .
وطالما جعلت الناس ـ وهم مصدر السلطة فى التشريع الاسلامى ـ رعية مملوكة للمستبد فلا يمكن لهذا المستبد أن يكون عادلا ، بل لا بد أن يكون كما جاء فى القصة وصفا لما كان يفعله الخلفاء : ( فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاباً من الآجر والجص وأبوباً من الحديد وجنوداً معهم السلاح، واتخذت أعواناً فجرة ، إن نسيت لم يذكروك وإن أحسنت لم يعينوك ، وقويتهم على ظلم الناس بالرجال والأموال والسلاح ، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان ، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف والجائع والعاري، وما أحد إلا وله في المال حق ، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلفتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبهم أحد عنك لما رأوك تجبي المال ولاتقسمه ، قالوا : هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه ، وهو مسخر لنا ، فتآمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوا ، ولايخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه عنك حتى تسقط منزلته عندك ، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم ، وكان أول من صانعهم هم عمالك ، اشتروا رضاهم بالهدايا والأموال ليتقوّوْا بها على ظلم رعيتك ، فظلموا من هم دونهم من الرعية وامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً ، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك ، وأنت غافل ، وإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك ، ....)
ولأنه مستبد ظالم لا لمجال حتى لوعظه ونصحه مباشرة ومواجهة فقد لجأ القصّاص ( جمع قاصّ) الى تأليف الحكايات ونشرها لتصل الى من يهمه الأمر ، لعلّ وعسى . وخوفا من سيف السلطة وقهرها وجبروتها فإن الرواة مجهولون أو ماتوا فى عصور سبقت .

والواقع أن وظيفة القصص كانت خطيرة ، كان هناك قصاصون رسميون تعينهم الدولة ، ينشرون دعايتها ، وكان هناك قصاص شعبيون يعبرون عن اتجاهاتهم الدينية و السياسية ، واختلط القصص بالحديث والتفسير ، حيث دار القصص فى أروقة المساجد وتزعمه أحيانا كبار العلماء فى كل عصر ، من الحسن البصرى فى العصر الأموى الى الغزالى وابن الجوزى فى العصر العباسى ، وكلاهما ( الغزالى و ابن الجوزى) أورد تلك القصة عن ذلك الواعظ وابى جعفر المنصور .أوردها الغزالى فى (إحياء علوم الدين ) وأوردها ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم . وأكثر من الغزالى ( ت 505 ) كان ابن الجوزى ( 597 ) مشهوراً في مهنة الوعظ والقصص ، وكان مستمعوه بالآلاف ، ولأنه كان يعرف تأثير القصص على أفئدة الناس فقد كان انعكاس القصص كبيرا فى مؤلفاته ، وهى بالعشرات.
بهذه الحلقة الأولى ندخل فى موضوع ( وعظ السلاطين ).. فانتظرونا فى حلقات قادمة .

اجمالي القراءات 26648