دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا ( 3 )

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٢ - يناير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
1 ـ تعرضنا فيما سبق لمفهوم الزكاة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأنها تعنى التزكية للنفس والسمو بها ،وأن تأدية الصلاة وإعطاء الصدقة هى مجرد وسائل للتزكية، لأن التزكية هى المقصد الأصيل فى تشريع الصلاة والصدقة.
وهنا نستشهد بقول يقول رب العزة عن الزكاة المالية ودورها:(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل 15 :21 ) أى سينجو من عذاب النار ذلك المتقى الذى كان فى الدنيا يؤتى المال وينفقه تزكية لنفسه يبتغى به وجه ربه جل وعلا ، ولذا لا يلتفت الى رد الفعل من الناس ، ولا يعتقد أن باعطائه المال له فضل أو منّة على أحد ، و أنه ليس صاحب فضل أو نعمة على من يأخذ منه المال ، فكل ما يريده هو رضى الله جل وعلا عليه ، ولذلك سينعم هذا المتقى فى الآخرة برضى ربه عنه ، وسيرضى بمقام النعيم فى الجنة.
2 ـ واقع الأمر أن للزكاة المالية ( الصدقة ) دورا فى السمو بعقيدة المؤمن ، كما أنها الأساس فى السمو بأخلاقه ، كما أنها هى الأساس فى تشريعات الصدقة أو ( الزكاة المالية ) . وكلها تتداخل مع بعضها بحيث يصعب ـ أحيانا ـ الفصل بينها .
ومن خلال التزكية نفهم التشريعات القرآنية عن الزكاة المالية أو الصدقة ، واختلافها عن تشريعات (الزكاة ) فى الدين الأرضى السّنى.
ونتوقف هنا مع بعض ملامح التزكية العقيدية كأساس فى الزكاة المالية ،أو الصدقة. :ـ

أولا : الايمان بأن المال مال الله جل وعلا :

1 ـ وتفسير ذلك هو أن الله جل وعلا هو الرزاق ، وهو صاحب المال فى الأصل ، فأنت حين تنفق فأنت لا تنفق من مالك ولكن من مال الله الذى أعطاه لك (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) ( النور 33 ) والمؤمن يجعل ذلك فى حسبانه ، ويعرف أنه ليس المالك الحقيقى للمال ، بل هو مستخلف فى ذلك المال الذى أعطاه الله تعالى لك .
2 ـ والاستخلاف هنا يعنى المسئولية ، والمسئولية تعنى وجود أوامر مفروض تنفيذها ، فالذى استخلفك على هذا المال هو الذى أمرك بالانفاق منه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد 7 ).
3 ـ والاستخلاف يعنى أيضا قدرة صاحب المال على عقابك بحرمانك من هذا المال طالما تسىء استخدامه ولا تدفع الحقوق التى عليك ، أى فالذى رزقك بهذا المال يستطيع ليس فقط حرمانك منه ، بل يستطيع أن يتحول ذلك المال الى محنة لك ، يظل معك ليؤرقك و يسلبك راحة البال ، ويعطيك كثرة الأمراض من ضغط الدم الى أمراض القلب و المعدة ، عدا الأمراض النفسية من القلق والتوتر والأمراض العصبية .
وفى النهاية فهذا المال إما أن تتركه بالموت ،أو أن يتركك بالخسارة ، وفيما بين هذا وذاك فأنت مسئول ومحاسب أمام الله جل وعلا عما أعطاك من رزق مالى أو عينى .
4 ـ وهكذا فهنا جانب عقيدى هو الايمان بأن المال مال الله جل وعلا ، وأنه استخلفنا فيه لنقوم بحقه ، ولنعطى حقه ، وفق التشريع الالهى فى إعطاء الصدقة أو الزكاة المالية.
ثانيا :إيمان البشر بالدنيا أم بالآخرة : أو : البشر وإرادة الدنيا أو إرادة الآخرة :

1 ـ كل إنسان يتمنى أن يكون ثريا مليونيرا ولا يرجو أبدا أن يكون فقيرا مملقا محتاجا ، ولكن توزيع الرزق بيد الله جل وعلا وحده ، ولا يستطيع إنسان أن يحقق كل ما يريده إلا بمشيئة الرحمن جل وعلا ، ولهذا يغتنى أناس ثم يفتقرون ، ويتحول فقراء الى أغنياء ، ولا يضمن أكبر بليونير فى العالم أن يظل هكذا الى نهاية العمر.
واقع الأمر أننا نحن ـ البشر ـ يتخللنا المال ذاهبا وآتيا و العكس ، يتنقل بيننا سواء كان مال سائلا وارقاما فى أرصدة البنوك ،أو مجرد عملات ورقية ،أو كان ملكية عينية من أرض وعقارات نتوالى على تملكها ، ونموت ليرثها آخرون بعد أن كانت لمن كان قبلنا ، ثم فى النهاية نحن محاسبون ومؤاخذون ومساءلون عما فعلناه بهذا المال وبتلك (الأعراض ) العينية فترة حياتنا فى هذا العالم .

2 ـ ويتصارع البشر ـ أو معظمهم ـ فى سبيل الثروة ، ومن أجلها يتعاركون للوصول الى السلطة و النفوذ. والثروة و السلطة وجهان لعملة واحدة ، تؤدى إحداهما للأخرى ، فالضابط فى جهاز الشرطة يستغل نفوذه وسلطته ليجمع المال والعقارات ، والثرى يصل الى مجلس الشعب ليحصل على نفوذ ، به يحمى ثروته ويحصنها بال ويضاعفها .
وفى سبيل السلطة والثروة ترتفع شعارات للضحك على الذقون ، منها شعارات دينية أو قومية أو وطنية أو اجتماعية للتلاعب بعقول البسطاء و العوام و اللأغلبية الصامتة ، ولركوب ظهورهم لبلوغ الهدف الحقيقى وهو الثروة و السلطة.
أسوأ وأحقر أولئك المخادعين هم من يخلط السياسة بالدين ..!!
وكما يقال فى أمريكا بكل بصراحة نحتاجها فى بلاد العرب و المسلمين:( كل شىء هو فى سبيل المال : It is all for money ) فالمال هو المقصود الأعظم لكل البشر إلا من هداهم الله جل وهلا و أرادوا الآخرة وعملوا لها وهم أحياء فى هذا العالم .

3 ـ وبالتالى فنحن هنا أمام تقسيم قرآنى للبشر فى هذه الناحية ، وهو تقسيم رائع وهام لم يأخذ حقه من التدبر برغم أهميته الاخلاقية والنفسية و برغم ما سيترتب عليه من خلود فى الجنة أو النار بغض النظر عن المسميات والألقاب و الشعارات .
3 / 1 : هناك من يريد الدنيا فقط ، يعمل لها ، وحتى لو صام وصلى وتبرع وتصدق فهو لأجل متاع هذه الدنيا وزخارفها من مال ومتعة وصحة وأولاد و جاه ، ولا وجود مطلقا للآخرة فى حساباته أو فى حسبانه ، يبذل فى سبيل الدنيا كل دقيقة فى صحوه ونهاره ،وعليها يغمض عينيه قبل النوم ويفتحهما عند اليقظة ، وفى سبيلها تتكون صداقاته وعداواته ومنافساته ورؤيته للدين والدنيا . عبد الدنيا هذا لن يحصل فيها إلا على الرزق المقدر له سلفا مهما ركض وقفز وجرى ، ومهما بكى وصرخ واشتكى ، فمثله بقية البشر من أغنياء وفقراء ، لا ينال أحدهم سوى الرزق المقرر له كثيرا أو قليلا .
وعبد الدنيا لن يرضى بالمقدر له وسيظل يطمع فيما فى يد الآخرين ، غنيا كان أم فقيرا.
ولكنه بهذا ( النصيب ) المقدر له فى الرزق من لدن الله جل وعلا لن يكون له فى الجنة نصيب مهما عمل من الصالحات لأنه لم يؤمن باليوم الآخر ولم يعمل له حسابا .
يقول جل وعلا : (مَّن كانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ) أى من كان يريد الدنيا العاجلة ،فإن الله جل وعلا يعجل له فيها رزقه حسب قوانيه هو جل وعلا (مَّن كانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيد ).
أى طبقا لارادة الله جل وعلا وطبقا لمشيئته هو يأتى الرزق وفيرا أو قليلا لهذا أو ذاك ، إختبارا لهذا أو ذاك . لا دخل هنا لايمان أو كفر ،أو للطاعة أو المعصية .
3 / 2 : يتعلق الأمر بشيئين : أولهما سبق قوله وهو مشيئة الرحمن وحده فى توزيع الرزق و التفاضل بين البشر فيه يبسطه لمن يشاء ، ويقلله لمن يشاء ، والآخر هو إرادة العبد ، هل هو عبد للدنيا لا يرى سواها أم هو عبد لله جل وعلا يؤمن أن الله جل وعلا خلقه وأعطاه حرية العبادة أختبارا له ، وأمره باخلاص العبادة له ، وقال له فى صراحة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ( الذاريات 56 ـ ) وترك له حرية الطاعة أو المعصية .
إرادة الانسان هنا هى عقيدته ومدى إيمانه أو كفره ، وهو يتمتع بكامل حريته هنا ، ولادخل لايمانه أو كفره بحظه ونصيبه فى الرزق لأن الرزق أحد الحتميات الأربعة ( الميلاد و الموت والرزق و المصائب ) التى لا مجال للافلات منها ، ولا حساب عليها . الحساب فى حرية الانسان فى العقيدة وفى الطاعة و المعصية فى تعامله مع الناس ورب الناس جل وعلا .
والذى أراد الدنيا ووجه وجهه نحوها سيأخذ رزقه المقدر و الحتمى فى الدنيا وفق مشيئة الله تعالى وارادته وقسمته ، ولكنه فى الآخرة ليس له إلا النار.
3 / 3 : قد يقال : ولكن هذا الشخص الذى أراد الدنيا قد عمل الصالحات من حج وصيام وتشييد للمساجد و دور للايتام و المستشفيات ، فكيف ينتهى به الحال الى الخلود فى النار؟
ونقول إنه طالما وجّه وجهه للدنيا وسعى سعيه للدنيا فقط فكل أعماله الصالحة لم تكن لوجه الله تعالى و لكن للرياء و الشهرة و الاستحواذ على رضا الناس ، والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا لوجهه دون أدنى ذرة من نفاق او رياء .
3 / 4 : وقد يقال ايضا : ولكن لا بد لأعماله الصالحة التى أراد بها الدنيا أن يكون لها مقابل . ونقول هذا صحيح فله أجر فى الدنيا مقابل عمله الصالح للدنيا ، والله تعالى وعده بأن يعطيه أجره فى الدنيا ، ويوفيه هذا الأجر فى الدنيا ، ولكن ينتظره أيضا الخلود فى النار ، يقول جل وعلا (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )( هود 15 : 16 )( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ) ( الشورى 20 ).
4 هذا عمّن أراد الدنيا .. فماذا عمّن أراد الآخرة ؟
إرادة الآخرة ليس مجرد شعار يرفع ، ولكنه إيمان يؤكده سلوك ملتزم ،أى سعى فى الدنيا بالعمل الصالح والاخلاق الحميدة ينبغ من رغبة حقيقية تبتغى وجه الله جل وعلا فى كل تصرف ، دون اهتمام برضى الناس او سخطهم .
4 / 1 : هذا الذى يريد الآخرة ويسعى فى الدنيا من أجلها مؤمنا بالله تعالى و باليوم الآخر ، هو لا يتكاسل عن السعى للمعاش بل يسعى فى الدنيا فى جد واجتهاد مثل من أراد الدنيا ووجه وجهه نحوها . ولكن الفارق فى الايمان ؛ وفى المصير.
وهذا الذى إختار الآخرة تسرى عليه أيضا نفس القوانين الحتمية فى الرزق ، فقد يكون فقيرا أو غنيا ، أو تقلب بين الفقر و الغنى شأن من أراد الدنيا ، ولكن الفارق فى الايمان وفى المصير.
4 / 2 : يقول جل وعلا عن هذا الصنف الآخر من البشر : (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) هذا أراد الآخرة وسعى لها سعيها الصالح أى عمل الصالحات وهو مؤمن صحيح الايمان ، ولذلك سيكون سعيه مشكورا فى الآخرة بينما أحبط الله عمل عبد الدنيا فلن يغنى عنه شيئا .
ومع أن الله جل وعلا لم يجعل للايمان أو الكفر دخلا فى قوانين الرزق إلا إن الفارق هائل بين هذين النوعين من البشر ،وهذا الفارق مترتب على إرادة هذا الدنيا ، وإرادة ذاك الآخرة .

4 / 3 : ومن الطبيعى ان الفائز فى الآخرة هو الذى اختار الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ، موقنا ان هذه الدنيا التى تنتهى بالموت لا تستحق أن يقصر الانسان عليها إرادته وعمله ونيته و ايمانه .
أما الآخر فقد غفل عن هذه الحقيقة البسيطة ولم يقتنع بما يراه حوله من موت ينتهى اليه الجميع ، ومال يتنقل بين أيدى هذا وذاك لا يدوم لأحد . وبذلك يكون مريد الآخرة قد فعل الأفضل لنفسه فاستحق بايمانه وعمله ان يفضله الله تعالى على مريد الدنيا ، يقول جل وعلا :(كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) ( الاسراء 18 : 21 ).

4 / 4 : أى لمريد الآخرة تفضيل فى الدنيا بما يتمتع به من رضا وصبر وحلم وتوكل على الله جل وعلا و راحة بال ، عكس صريع الدنيا ومريدها ، ثم تأتى الآخرة بالجنة لمريد الآخرة وبالنار لمريد الدنيا .

5 : ما يخص موضوعنا هنا عن دور التزكية أن من يريد الآخرة يسعى فى الدنيا بما معه من مال يبغى به وجه الله جل وعلا ، يشترى به الآخرة لينجو من عذابها ، يقول رب العزة :(وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى)(الليل 15 :21 ) .

صدق الله العظيم ..

اجمالي القراءات 13698