غزوة بدر والأخوان المسلمون

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً

يوم السابع عشر من رمضان كل عام يحتفل المسلمون بذكرى غزوة بدر الكبرى ، وينتهزها المتطرفون ودعاة الدولة السلفية مناسبة ايدلوجية لخدمة غرضهم السياسى.
وردا عليهم ألقيت هذه الندوة فى أواخر التسعينيات فى رواق ابن خلدون حين كنت أديره اسبوعيا ، واتكلم فيه أحيانا .
قلت فى هذه الندوة :

د. جيمى سواجارت فى مناظرتة الشهرية مع أحمد ديدات اتهم النبى محمدا ( ص) بأن اول ما عمله هو الإغارة على قافلة تجارية آمنة ؛ أى أنه كان قاطع طريق بالمقارنة إلى المسيح الذى تركزت دعوته فى السلم والحب.
أخفق احمد ديدات فى الرد على هذه النقطة لأن المكتوب فى التراث يؤكد زعم سواجارت بأن الاسلام انتشر بالسيف والإكراه فى الدين . ومن هنا يأتى الربط بين غزوة بدر ومستقبل الاخوان المسلمين والحركة السلفية التى تنتمى الى التراث المكتوب منذ العصر العباسى ؛ عصر الأمبراطورية القوية والدولة الدينية ؛ ومن هنا تقوم أيدولوجية الحركة السلفية المعاصرة على الإرهاب والوصول للحكم بالقوة والسلاح واستحلال اموال الغير ؛ بنفس المكتوب فى التراث عن غزوة بدر .
إلا أن المكتوب فى القرآن يخالف التراث المكتوب بعد موت النبى محمد بقرنين وأكثر.
فالقرآن يؤكد على قيام الاسلام فى حقيقته على السلام وان الحرب الدفاعية فيه ـ أو الجهاد ـ ليس سوى استثناء لرد العدوان بمثله ، كما يؤكد على الإتجاه السلمى للمسلمين الأوائل ، وأن غزوة بدر كانت مثل غزوات النبى حركة دفاعية من قوم مسالمين مظلومين اضطرهم العدوان للدفاع عن النفس . اذا اعتنق الاخوان المسلمون هذه الفكرة فإن منهج الجماعة سيختلف تماما ؛ إذ سيكون عليها أن تتفرغ سلميا للعمل الثقافى والفكرى لتغير أفكار وعقائد المسلمين المخالفة للاسلام وتحتكم للقرآن الكريم فى تأكيد هذا الاصلاح ، وبالتالى تهجر تماما الطموح السياسى وفكرة الحاكمية .
طبعا ذلك مستحيل لأنهم ليسوا مؤهلين علميا للبحث، وليست لديهم الشجاعة لمخالفة ما كتبه الأئمة السابقون فى الفقه والتفسير والحديث وعلوم الكلام والفرق والملل والنحل ، واكثر من هذا لايجرؤ احدهم على تكذيب حديث واحد من الأحاديث المنسوبة للنبى مهما بلغت سماجة هذا الحديث وطعنه فى النبى والاسلام ومخالفته للقرآن والعقل وحقائق عصرنا الحديث.
هم فقط خبراء فى استغلال الاسلام مطية يصلون بها لهدفهم السياسى وهو الحكم ، وفى سبيل أن يتحكموا فى رقابنا باسم الاسلام فانهم يقفون فى وجه الحركة الاصلاحية السلمية التى تهدف الى الرجوع الى التدين الصحيح الذى كان عليه النبى محمد عليه السلام فى حياته حين كان متبعا للقرآن وحده، على أساس ان النبى وان كان قد مات فان الأصل الذى كان يتبعه ويطبقه { وهو القرآن } موجود لدينا محفوظ بقدرة الله تعالى ولو كره الكارهون. هذه الدعوة الاصلاحية لاصلاح المسلمين بالاسلام يحاربها الاخوان المسلمون وسائر تنظيماتهم العلنية والسرية .
طبعا من حقهم أن يختاروا لأنفسهم ما يشاءون من عقائد وايدلوجيات ، ومن حقهم إذا أرادوا الوصول للحكم أن يتفرغوا لذلك تاركين الاصلاح السلمى الاسلامى للمتخصصين من العلماء الذين يناضلون لتعليم المسلمين الفهم الصحيح للإسلام . ولكن عليهم وهم يعملون بالسياسة أن يتكلموا بلغة السياسة فقط ، بمعنى أن تكون لهم برامج سياسية محددة تتعامل مع الواقع بخطط اقتصادية مبنية على احصاءات وبيانات تقبل النقاش والأخذ والرد والتعديل كمثل ما تفعل كل الأحزاب السياسة .
الأهم أن تكف تماما عن ربط سياستها بالاسلام ، ليس فقط لأن الاسلام أشرف وأقدس وأطهر وأسمى وأعلى من أن يتخذه البعض مطية سياسية للوصول للحكم أو الاحتفاظ به ، وليس فقط لأن الله تعالى يحرم ويجرم استغلال آيات الله تعالى فى سبيل أى حطام دنيوى ، وليس فقط لآن الاسلام هو دين معظم العاملين بالسياسة والحياة الحزبية ولا يصح أن ينفرد به حزب واحد او شخص واحد يحتكره لنفسه مدعيا أنه المختار من بين الناس جميعا ليتحدث باسم الله تعالى ودينه ، ليس كل ذلك فقط ولكن لسبب آخر ينبغى أن يعرفه الجميع جيدا ، وهو انهم آخر من يحق له التمسح بالاسلام ، هذا على فرض أنه يجوزالتمسح بالاسلام فى دنيا السياسة والمنفعة الدنيوية . انهم الذين جعلوا الاسلام متهما بالارهاب ،وهم الذين خلقوا للاسلام أعداءا جددا من داخل المسلمين أنفسهم ومن غير المسلمين ، ثم هم اكثر الناس جهلا بحقائق الاسلام . لا يقتصر جهلهم على حقائق القرآن وانما يمتد الى الجهل بالتراث الذى يدافعون عنه دون أن يقرأوه أو أن يفهموه، لأنهم لو فهموه وعقلوه وكانت لديهم مسحة من ضمير اسلامى لتبرءوا منه علنا وعلى رءوس الأشهاد .
باختصار: إن الاسلام يحتاج الأن إلى من يناضل ويعانى فى سبيل إظهار حقائقه المجهولة ؛ وفى سبيل إصلاح عقائد المسلمين وسلوكياتهم به، فإذا تخلت الحركة السلفية عن هذه الضرورة الإسلامية طمعا فى الوصول للحكم فإن واجبها على الأقل أن تكف عن إستغلال إسم الإسلام العظيم طالما لا تقوم بالحق الواجب له .
وهنا نعطى الاخوان لمحة سريعة عن احدى حقائق الاسلام التى يجهلونها والتى تتناقض مع أساس دعوتهم وحركتهم، وهى فى نفس الوقت وثيقة الصلة بغزوة بدر التى يتغنى بها الأخوان ودعاة السلفية دون فهم أو تعقل .
من خلال القرآن فان السلام هو معنى الاسلام واحدى أهم الحقائق فى اصوله وتشريعاته . فالإسلام فى معناه القرآنى له معنيان : الأول سلوكى ، وهو السلام فى التعامل مع الناس ؛ وكل انسان مسالم فهو مسلم طالما لا يعتدى على أحد ؛ وطالما سلم الناس من لسانه ويده ؛ أما عقائد الناس من إسلام ونصرانية وبوذية ويهودية فالمرجع فيها إلى الله تعالى يوم القيامة. والاسلام فى معناه القلبى الاعتقادى هو الانقياد والاستسلام لله تعالى وحده بالطاعة والعقيدة ، وهذا ما سيحكم الله تعالى عليه وحده يوم القيامة، وليس لأحد من البشر ان يدعى لنفسه الحكم على مافى القلوب ومحاسبة الناس على عقائدهم ، والا كان مدعيا للألوهية مغتصبا لحق الله تعالى فى حاكميته على الناس يوم القيامة .
وقد كان المسلمون الاوائل ضعافا مسالمين آثروا السلم وتحملوا الاضطهاد والتعذيب ، هاجروا إلى الحبشة مرتين ؛ وللمدينة أخيرا هربا من الإضطهاد . ثم عاشوا فى المدينة فى حالة رعب ووصفهم القرآن بأنهم كانوا أقلية مستضعفة تخاف أن يتخطفهم الناس (الانفال26) ولذلك وعدهم الله تعالى بأن يستخلفهم فى الأرض ويبدل خوفهم إلى أمن (النور55)
الكفر والشرك لهما نفس المعنى فى القرآن { التوبة 1: 3& 17 }{غافر 42}
ومفهوم الشرك والكفر فى التعامل مع البشر هو الاعتداء والظلم ، وهذا هو المفهوم السلوكى الذى نستطيع الحكم به على الناس ، فكل مجرم معتد أثيم ظالم يقتل الأبرياء هو مشرك كافر حسب سلوكه ، بغض النظر عن انتمائه الدينى والشعارات التى يعلنها. ولذلك وصف الله تعالى المشركين بأنهم ظالمون معتدون مجرمون، وتالك صفات تنطبق ظاهريا على من يقوم بها، وأستخدم رب العزة هذا المفهوم الظاهرى السلوكى فى التشريع فيما يخص التعامل مع المشرك والكافرفمنع الزواج منهم ومع تزويجهم ومنع موالاتهم أو ما يعنى الآن التحالف معهم فى اعتدائهم على المسلمين لأنهم معتدون متمسكون بالعدوان والظلم. ينطبق هذا على الذين قتلوا النقراشى وأحمد ماهر والقاضى الخازندار فى مصر، والذين قتلوا المسالمين والأبرياء فى مساجد مصر وكنائسها ومدنها وقراها فى القاهرة والريف والصعيد خلال هذا العقد الأخير من القرن العشرين. ينطبق هذا أيضا على الذين يقومون بذبح النساء والأطفال والمسنين فى الجزائر بدون سبب ، كما ينطبق على كل حركات الارهاب التى تستهدف المدنيين فى العالم. كل اولئك القتلة والارهابيون هم كفار ومشركون بارهابهم الذى نراه يقتل الأبرياء . لا شأن لنا بعقائدهم فمرجعها لله تعالى يوم القيامة. انما يعنينا قتلهم للمسالمين .
ان الشرك والكفر بالمعنى العقيدى هو تقديس البشر والحجر والشجرمع الله تعالى. وهذه عادة بشرية سيئة يقع فيها المسلمون وغير المسلمين ، وكل منهم يظن أنه على الحق ويتهم الآخر بالكفر، لذا فان الحكم فى الاختلاف العقيدى مرجعه الى الله تعالى وحده يوم القيامة، ولا شأن لنا به.
لو صدقنا النية لأصلحنا عقائدنا بالرجوع الى القرآن الكريم والاحتكام اليه فيما نفعله من تقديس النبى محمد وجعله شريكا لله تعالى فى مساجدنا وصلواتنا وحتى فى الأذان والتحيات والشهادة بالاسلام، وحتى فى الحج الى قبره ، وفى يوم الدين حين نجعله المهيمن على يوم القيامة والمالك ليوم الدين ، وكل ذلك يناقض القرآن ويخالفه. المشكلة لم تعد فى تأليه محمد فقط ، بل تعدت الى تأليه كبار الصحابة ، وكبار الأئمة والأولياء من السنة والشيعة والصوفية. ازدحمت عقائد المسلمين بتأليه المئات من البشر والآلاف من الأضرحة والقبور المقدسة الحجرية ، وأضيف اليها تقديس آلاف الكتب والأسفار من كتب التراث المقدس التى تعلن الحرب فى سطورها على الله تعالى ورسوله ودينه وكتابه. هذا ما ينبغى اصلاحه سلميا بالحكمة والموعظة الحسنة، مع التسليم بحق كل انسان فيما يعتقد ومسئوليته الشخصية عن اعتقاده يوم الدين أمام الله تعالى.
المفاهيم الحقيقية للاسلام تنكر ما يقع فيه المسلمون من تقديس للنبى محمد والأئمة والأولياء والأضرحة والأنصاب ، بل نزل القرآن خصيصا ليدعو الى نبذ التقديس لغير الله ، ويشجب استغلال دين الله تعالى فى سبيل حطام دنيوى.
هذه المفاهيم الحقيقية القرآنية للاسلام ينكرها الاخوان وصناديد الحركة السلفية . أكثر من ذلك يرون انهم وحدهم المسلمون ويستبيحون دماء المخالفين لهم بعد تكفيرهم. وبالتالى هم أحوج الناس لأن ندعوهم لاعتناق الاسلام الصحيح و الرجوع للحق اذا كانوا فعلا يحبون الله تعالى ورسوله.
ونعود لغزوة بدر ونرى وصف القرآن الكريم لمشركى مكة بأنهم سيظلون يقاتلون المؤمنين حتى يكرهوهم على الإرتداد عن الإسلام (البقرة217) أى أنهم كانوا يقاتلون المسلمين قبل ان ينزل على المؤمنين المسالمين الإذن بالقتال ؛ وحين نزل ذلك الإذن جاء فيه قوله تعالى ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ... الحج29) أى كان المسلمون المسالمون يتعرضون للقتل والقتال ولا يدافعون عن أنفسهم . ثم حين نزل عليهم الأذن بالقتال كرهوا فرض القتال عليهم مع أنه خير لهم فاحتج عليهم رب العزة (البقرة 216) وأمر الله تعالى رسوله بأن يحرض المؤمنين على القتال الدفاعى ووعد القتلى منهم بالجنة طالما قتلوا فى سبيل الله (الانفال 65؛ ال عمران 168) ومع ذلك كان من المؤمنين من احتج على فريضة القتال وآثر الإستسلام السلبى (النساء76؛77) وهذا هو التوصيف العام للمسلمين : إيثار السلم حتى فى الدفاع أمام عدو يريد استئصال المسلمين .
أما التوصيف العام لمشركى قريش فهو أنهم كانوا يقتلون المسلمين حتى فى المسجد الحرام (البقرة191) ويصدون عن الحق، وستعملون الاكراه فى الدين ، ويصدون المسلمين عن الحج والمسجد الحرام قبل الهجرة وبعدها (محمد 32 البقرة 114 ؛ الجن 18؛19 ؛ الأنفال34؛ الحج25؛ الفتح25) واستمر ذلك قبل بدر وبعدها .
أما فى غزوة بدر ذاتها فالأمر يستحق وقفة نتعرف فيها على الإيلاف ؛ وهو ما امتن الله تعالى به على قريش فى سورة" قريش" . والايلاف خارج قريش يعنى تلك المعاهدات التى عهدتها قريش مع القبائل فى طريق تجارتها بين الشام واليمن فى رحلتى الشتاء والصيف ؛ والإيلاف داخل قريش هى إسهام كل القرشيين فى رآسمال القافلة التى تنقل التجارة بين اليمن والشام ؛ وفى نهاية كل رحلة يصيب كل قرشى من الأرباح بقدر أسهمه فى القافلة .
قريش كانت أشهر وأقوى قبيلة عربية بسبب سيطرتها على الكعبة – بيت الله تعالى الحرام – وسيطرتها على موسم الحج الذى كان يفد اليه العرب فى الأشهر الحرم. سيطرت قريش على الحياة الدينية لكل العرب اذ كان لكل قبيلة صنمها الخاص الموضوع فى الحرم المكى، وتقوم قريش على رعايته. استغلت قريش الدين فى تأكيد سلطتها السياسية والاقتصادية فنعمت بالايلاف وهو حصانة قوافلها التجارية – رحلة الشتاء والصيف – من النهب والاعتداء ، و لعبت قريش دور الوسيط فى نقل تجارة الهند الآتية الى اليمن فحملتها الى الشام لتصل الى أوربا وروما ، وبالعكس حملت تجارة روما من الشام الى اليمن لتسافر بحرا الى الهند وآسيا. وازدادت قريش ثراء وأمنا فى الوقت الذى عانت فيه القبائل الأخرى من الفقر والتقاتل والسلب والنهب.
هذه التجارة بالدين استلزمت من قريش ان تحافظ على طقوس الشرك الدينى والظلم الاجتماعى فى مجتمعها الرأسمالى القائم على وجود فجوة هائلة بين المترفين الأثرياء والجوعى من الرقيق والفقراء. وحين ظهر الاسلام يدعو الى عدم تقديس البشر والحجر خافت قريش من القبائل المتحكمة فى طريق تجارتها والتى تحيط الكعبة بأصنامها ، لذلك كان القرآن يؤكد للنبى أن قريشا تعرف أن النبى جاء بدعوة الحق ؛ ولكنها تقف ضده حرصا على مصالحها التجارية ( القصص57 الواقعة 82) ومن هنا كان إضطهادهم للمسلمين المسالمين إلى أن أجبروهم على الهجرة ثم واصلوا حربهم إلى المسلمين إلى أن نزل الأذن للمسلمين بالقتال الدفاعى حتى لا يستأصلهم المشركون .
وكانت غزوة بدر هى المرحلة الكبرى فى هذا الطريق الدفاعى .
والمسلمون حين خرجوا لأخذ القافلة القرشية لم يكن ذلك قطعا للطريق واستحلالا لأموال الغير ـ كما يقول القس سواجرت ـ بل كان حصولا على حقوقهم المالية الضائعة التى نهبتها منهم قريش ظلما وعدوانا. إن تلك القافلة كانت من إستثمارات اموالهم النقدية التى صادرتها قريش من أسهمهم فى الإيلاف ؛وكانت أيضا حصيلة ممتلكات المسلمين العينية والعقارية والديون التى كانت لهم وتركوها فى مكه. أى أنهم كانوا يردون حقهم المسلوب الذى كانت تتاجر به قريش منذ الهجرة إلى وقت غزوة بدر . هذا الى جانب انه رد على اعتداءات سابقة كانت فيها قريش تطارد المسلمين وتهاجمهم وتسلب اموالهم وهم لا يستطيعون الدفاع عن انفسهم لأن الاذن بالقتال لم يكن قد نزل وحيا من السماء بعد.
وقد وعد الله المؤمنين بالنصر أو غنيمة القافلة. وتزعم الروايات التراثية تسابق المسلمين جميعا فى بدر للفداء والتضحية والخطب الحماسية ، الا إن القرآن الكريم يؤكد على العكس ؛ وهو أن فريقا من المسلمين فى بدر كانوا كارهين للحرب حين تحتم الإصطدام الحربى ؛ وأنهم كانوا يجادلون النبى فى الحق الواضح الذى تبين . فلما لم يكن هناك مفر من الحرب كانوا كأنما يساقون الى الموت وهم ينظرون (الانفال5؛6) هذا هو حال المسلمين البدريين ـ وهم أعلام الجهاد فى كتب التراث نفسها ـ كانوا مسالمين خرجوا لاستنقاذ بعض اموالهم الضائعة فلما عرفوا انه يتحتم عليهم دخول حرب حقيقية مع جيش يفوقهم عددا خافوا وارتعبوا ، وجادلوا النبى ثم اضطروا لخوض الحرب . هذا أيضا هو حال الاسلام الذى يجعل تشريع القتال ليس للهجوم وإنما للدفاع فقط ورد الإعتداء بمثله (البقرة190 – 194 ) .
اذن لدينا رؤيتان متناقضتان لغزوة بدر ؛ واحدة فى حقائق القرآن والأخرى فى روايات التراث ؛ ونجد ذلك التناقض بين القرآن والتراث على كل المستويات. فى العقائد وفى التشريعات وفى الاخلاق .وفى الافكار والثقافات.
والحركة السلفية المعاصرة إذا كانت تحمل إسم الإسلام فى قلبها فعليها الاقتداء الحق بسنة خاتم النبيين ومهجه فى حياته وهوالإصلاح . والاصلاح فى عصرنا لعقائد المسلمين وسلوكياتهم يكون بالرجوع للقرآن وفهم القرآن من خلال مصطلحات القرآن ومفاهيمه . وعندها لن تجد وقتا لأى طموح سياسى . لأن إصلاح ما لوثته القرون السابقة يستلزم المزيد من الجهد والتضحية والصبر . أما إذا كانت تحمل راية الإسلام لتعلو بها فى الأرض تحكما فى السياسة فهى تتبع سنة قريش فى حربها للاسلام وفى استغلالها ملة ابراهيم الحنيفية فى مطامعها السياسية والدنيوية. من الطبيعى ـ حينئذ ـ أن يكون مرجعها للتراث الذى تم تدوينه فى عصر الخليفاء الذين تتابعوا من (قريش ) سواء كانوا أمويين أو عباسيين أو فاطميين. كل منهم كان يحكم معتقدا أنه يملك الارض ومن عليها .
الواضح أن منتهى أمل الاخوان السياسى ان يستعيدوا عصر قريش الذى انقضى ويرجعون بنا إلى عصر السلف - غير الصالح ـ الذى ينبغى دفنه ومواراته والتبرؤ منه ، أى بينما يتقدم العالم فى ثورة المعلومات والإتصالات فهم يريدون العودة بنا إلى الوراء وإلى ظلمات الإستبداد والتخلف فى العصور الوسطى ؛ ومن هنا يجب أن نطالبهم بالكف عن خلط الدين بالسياسة ؛ وان يكون لهم برنامج سياسى معلن واضح وقابل للنقاش كبقية الاحزاب السياسية .
لقد قامت الدولة الاسلامية فى عهد النبى ، وهى تتناقض تماما مع نظام الحكم الذى يؤمن به الاخوان وسائر الحركات السلفية التى لم تقدم الا نماذج من الحكم الاستبدادى الظالم الذى يكون فيه الحاكم مالكا للارض وما عليها ومن عليها. النموذج الأقرب للدولة الاسلامية اليوم هو النظم الديمقراطية الغربية حيث الحرية وحقوق الانسان والعدل والتسامح. ان الدولة الاسلامية هى مبادىء الحرية المطلقة فى الرأى والفكر والعقيدة ، والديمقراطية المباشرة والتسامح والرحمة والعدل والسلام. وأى دولة تحقق فى دستورها وقوانينها وتطبيقاتها تلك القيم العليا فهى دولة اسلامية.
هذا ما كانت عليه دولة النبى محمد فى المدينة ، وانتصرت على اعدائها ليس بمعاركها الحربية التى بالغت فيها كتب السيرة ، ولكن بدعوتها العقلية البسيطة السهلة التى توضح الكذب والافتراء فى خرافات الأضرحة والقبور المقدسة فانتبه العرب الى سخف عبادة الأصنام والأوثان والموتى من الأولياء.
بالتنوير العقلى الاسلامى الذى حمله القرآن الكريم فى حواراته ونقاشاته استيقظ العقل العربى من الغفلة فأصبحت الأصنام والأوثان والقبور المقدسة مجرد احجار لاتختلف عن أى حجر يسير عليه الانسان والحيوان.
العداء القرشى للاسلام أسهم فى انتصار الدولة الاسلامية. حاول اثارة القبائل ضد الاسلام فأثارت اهتمامهم بالدعوة الجديدة، فقامت حركة من النقاش اسفرت عن نقاش الثوابت نفسها ـ والثوابت هى ما وجدنا عليه آباءنا فاتبعناه بدون علم أو هدى أو كتاب منير. الثوابت تعتمد فى بقائها على السكوت وعدم النقاش، فاذا تعرضت لرياح النقاش والنقد ووصل اليها شعاع النور زالت سقطت. هذا بالضبط ما حدث للثوابت التى كانت تدافع عنها قريش انهارت وزالت بالنقاش . بعد التغيير الجديد الذى أحدثه الاسلام أدركت قريش أن مصلحتها تحتم عليها أن تدخل فى الاسلام لتحافظ على بعض نفوذها القديم ـ خصوصا وان محمدا نبى الاسلام من قريش ، ومعه معظم المهاجرين . وبذلك دخلت قريش الاسلام بسهولةعير متوقعة ، وفتحت أبوابها للنبى وأصحابه الذين اضطهدتهم وحاربتهم من قبل. وانتظرت الفرصة لتستعيد نفوذها فى الوضع الجديد.
ثم جاءت الأوضاع بما تشتهى قريش بعد وفاة النبى محمد عليه السلام ، اذ ثارت حركة الردة وأخذت تغير على المدينة. فكان الأمويون هم أبرز قواد المسلمين فى مواجهة حركة الردة. والأمويون هم زعماء قريش الداخلين فى الاسلام حديثا بعد حياة حافلة بحرب الاسلام والمسلمين ـ وبتأثيرهم أعيد الأعراب الثائرون الى الاسلام، وبتأثير قريش الجديد تم تصدير قوة الأعراب { المرتدين سابقا } إلى خارج الجزيرة العربية لشغلهم عن الغارات والفتن داخل الجزيرة؛ وكان الأمويون قادة معظم هذه الفتوحات التى خالفت تشريع الإسلام حيث اعتدت على الآخرين وعاملتهم بعد الفتوحات كمواطنين من الدراجة الثانية. وأدت الفتوحات الى الفتنة الكبرى والتى أدت بدورها الى تأسيس الدولة الأموية التى أضاعت بسياستها معظم حقائق الاسلام ومبادىء الدولة الاسلامية.
فى الدولة الأموية أصبحت قريش تحكم معظم العالم المعروف وقتها، وتواجه الدولة الرومانية فى أوربا ، وتقسم العالم الى قسمين : دار الاسلام ودار الكفر.
عالجت قريش ـ فى دولتها الثانية " الدولة العباسية " ـ الفجوة بين التشريعات القرآنية وواقع المسلمين المخالف لها باختراع أحاديث كاذبة تبرر التناقض وتشرعه ، وتمت التعمية على حقائق القرآن بأكاذيب التفسير والتأويل وأكذوبة النسخ .وفى عصر الإمبراطورية القرشية العباسية تم تدوين التراث الملفق وتم اعتماده مسيطرا على القرآن الكريم وحكما عليه برغم سهولة اثبات التناقض بين القرآن والتراث. و كان التراث اصدق تعبير عن عداء المسلمين فى تلك العصورللقرآن .
وحين قامت الصحوة الدينية السلفية الراهنة على ذلك التراث وعلى السنة القرشية جاء اتهام الاسلام فى عصرنا بالتطرف والتخلف والارهاب . واذا كان مستحيلا أن نطالبهم بالاصلاح ـ وهم من أسباب الفساد ـ فان المتاح أن نطالبهم بالكف عن استخدام الاسلام العظيم مطية يركبونها للوصول الى الحكم وركوب أكتافنا .
واذا أرادوا أن يبدءوا بداية صحيحة فليقرءوا القرآن وليتدبروه باخلاص طلبا للهداية .
لعل لعل ..لعل وعسى ..!!

اجمالي القراءات 22289