ماذا تعنى عودة السياسة إلى الحياة العامة المصرية؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٩ - ديسمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

ماذا تعنى عودة السياسة إلى الحياة العامة المصرية؟ البرادعى مرشحاً.. ونقابة الصحفيين نموذجاً

 علّق على مقالنا فى الأسبوع الماضى (المصرى اليوم ١١/١٢) إلكترونياً أكبر عدد من القراء، منذ بدأت النشر مع العدد الأول من الصحيفة قبل عدة سنوات، وانطوت مُعظم التعليقات على تأييد صريح أو ضمنى لترشيح د. محمد البرادعى لرئاسة الجمهورية لانتخاباتها القادمة عام ٢٠١١، كما طل&Egredil; طلب عدد من القرّاء الكرام أن أفسر أو أشرح أكثر ماذا أعنيه «بعودة السياسة» إلى المشهد المصرى؟ واستغرب أو استنكر بعضهم ما تنطوى عليه العبارة، وكأن السياسة كانت «غائبة»، فإذا كنت أعنى ذلك، فكيف كانت مصر والمصريون يحكمون؟ وهو سؤال وجيه ومشروع.

والإجابة ببساطة، هو أن مصر، منذ «ثورة يوليو ١٩٥٢»، وإلى منتصف السبعينيات، كانت تحكم سُلطوياً بـ«الأوامر»... وكان «الاقتصاد» يُدار سياسياً بـ«الأوامر»، فذلك كان منطق من قاموا بالانقلاب العسكرى على النظام الملكى القائم، وبينما تحرر الاقتصاد تدريجياً، فى ظل ولاية الرئيس السادات مع سياسة «الانفتاح»، فإن نظام الحكم لم يتغير إلا قليلاً، إلى الوقت الحاضر.

ولست، هنا، أصدر أحكاماً «تقييمية» على ثورة يوليو، وإنما أصدر أحكاماً «تقريرية»، كعالم اجتماع سياسى، فتعريف «السياسة»، مشتق من الفعل «ساس»، أى طوّع تدريجياً وسلمياً، ولذلك يُطلق على من يقوم بتدريب الدواب أو الحيوانات الأليفة، «سائس» (سايس)، وهذا لا ينطبق فقط على من يُدرب الحمير والخيول، ولكن أيضاً على من يقوم بصف السيارات فى «الجراجات» أو «المواقف» أو على جانبى الطريق، وذلك منعاً لاحتكاك أو تصادم بعضها ببعض!

وليس فى هذا التوصيف حطّ أو إقلال من ثورة يوليو، ومن قاموا بذلك الانقلاب، الذى سموه مجازاً «ثورة». فقد كانوا ضباطاً عسكريين، تربوا فى مؤسسة الجيش على «الأوامر» و«الضبط والربط»، لإنجاز أى مهام، وحين يتم الإنجاز فى أى «مُهمة»، فإن من يقوم أو قام بذلك، عادة ما يُردد: «تمام يا فندم»!

وكمؤسسة هرمية (مثل بناء الهرم)، فإن الأوامر فى المؤسسات السيادية تصدر من أعلى، ولا يُسأل أو يُستشار، أو يؤخذ رأى من تصدر لهم أو عليهم هذه الأوامر، فحين تصدر الأوامر، فإن من يُصدرها يتوقع «الطاعة»، وربما كان هذا هو المطلوب والمرغوب فى المؤسسات السيادية، لطبيعة وظيفتها الحياتية الوجودية، دفاعاً ووجوداً واقتحاماً فى مواجهة خصوم.

وحينما تحوّل انقلابيو ٢٣ يوليو إلى حُكام، فإنهم تعاملوا مع الشأن العام المصرى، بنفس المنطق والعقلية والأسلوب، أى أنهم أداروا «الدولة» بالأوامر، وكان لهم ما أرادوا إلى حد بعيد. وحاولوا أن يُديروا «المجتمع»، بنفس طريقة الأوامر، ولم يكن لهم ما أرادوا، إلا قليلاً. فأجهزة الدولة- مثل الحكومة والجيش والشرطة- يقوم بتشغيلها موظفون، تعوّدوا بدورهم على ما يُشبه الأوامر، وهى لغتهم، ومفرداتها «اللوائح»، و«التعليمات»، و«التوجيهات»،

ومن هنا أصاب الحُكام العسكريون الجُدد فى سنواتهم الأولى بعض النجاح، ولكن درجة هذا النجاح كانت تتناقص تدريجياً كلما اقتربوا، أو حاولوا اقتحام «المجتمع»، أى عموم الناس، فى الشوارع والأسواق والمقاهى والقرى والنجوع والعائلات فى منازلها، وكان ولا يزال عدم الطاعة أو عدم الامتثال هذا يتم بألف طريقة وطريقة غير مُباشرة، ابتداء من المقاومة بالنكات، مروراً بالتباطؤ فى العمل، أو التكاسل، أو التجاهل، وانتهاء بالعصيان المدنى المُسالم أو «المُشاغب»!

ولكن حيث يقنع الحُكام، ويقتنع المحكومون، أن فى طاعة أو التجاوب مع الأوامر «مصلحة» لهم، أولاً، ولبلدهم ثانياً، فإننا نكون بصدد ما يطلق عليه عُلماء المجتمع «سياسة». والسياسة بهذا المعنى تقوم على «الإقناع» و«الاقتناع»، وعلى قواعد يرتضيها مُعظم أبناء المجتمع، وهو ما يحدث عادة وبسلاسة فى ظل أنظمة الحُكم الديمقراطية،

 ففى هذه الأخيرة، تكون أمام «المواطنين»، بدائل تقدمها أحزاب أو قوى أخرى مُنظمة، أو شخصيات عامة، ويختار الناس بإرادتهم الحُرة، من بين هذه البدائل، ويسود البديل الذى تكون له «الأغلبية»، وتمتثل لذلك «الأقلية»، لإدراكها أن ذلك ينطوى على «العدالة»، ولأنها بهذا الامتثال المؤقت تُكرس قواعد المُنافسة السلمية، وأمن المجتمع، إلى أن تسنح فرصة ثانية، بعد خمس أو ست سنوات، تحاول فيها مرة أخرى الدعوة والإقناع لـ«البديل» الذى نفضله.

إن أنظمة الحُكم الديمقراطية أى أنظمة البدائل والاختيار بالإرادة الحرة، هى ما أخذ بها ثلث بُلدان العالم، منذ قرن من الزمان، وأخذ بها ثلث آخر منذ عام ١٩٧٤، أى أن ثلثى بُلدان العالم تأخذ بها فعلاً (١٢٠ بلداً من مجموع ١٨٠ من أعضاء منظمة الأمم المتحدة)، ولأن مصر ظلت فى هذا الثلث الأخير «العاطل» عن الديمقراطية، أو «المُعطل» عنوة بعيداً عنها، فإننا وآخرين، دعونا إلى هذا البديل الديمقراطى، منذ أواخر ستينيات القرن الماضى، وحذّرنا من عواقب التلكؤ فى اعتماد الديمقراطية أسلوباً للحُكم، وعانينا، وعوقبنا بالسجن وبتلطيخ السُمعة، بسبب إصرارنا على الدعوة لهذا البديل الديمقراطى.

ومن هنا ترحيبنا بترشيح د. محمد البرادعى لرئاسة جمهورية مصر العربية. ومن قبله رحّبنا بترشيح آخرين، مثل د. أيمن نور، ممن سمحت لهم الثقوب الدستورية الضيقة بالنفاذ من الطوق المضروب حول إمكان المُشاركة، فنرجو لهذه الثقوب أن تتسع للدكتور البرادعى، وعلى كل دُعاة الديمقراطية أن يتضامنوا فى مسيرات شعبية، وتوقيع توكيلات لمجلس الشعب، بل وإلى ما يتيسر من ألوان «العصيان المدنى»، لإزاحة القيود الدستورية على الترشيح لهذا المنصب، الذى سيُقرر مصير المنطقة، خلال العامين القادمين لبقية هذا القرن الحادى والعشرين.

ومن هنا، أيضاً احتفيت بخوض الصديق ضياء رشوان انتخابات نقابة الصحفيين، فى مُنافسة جادة وشريفة مع صديق آخر وهو الصحفى الكبير مكرم محمد أحمد، إذا كانت الدولة أو الحزب الوطنى قد ساند هذا الأخير، فلا غُبار على ذلك. فمن حق النظام والحزب الحاكم أن يُدافعا عن موقعهما فى السُلطة، سواء فى الدولة أو منظمات المجتمع المدنى، وعمادهما النقابات المهنية. المُهم، أن تكون هذه المُنافسة شريفة وشفافة، ويرضى عن قواعدها عموم الناس.

لقد كسر ضياء رشوان تقليداً سُلطوياً دخيلاً فى مؤسسات المجتمع المدنى، التى هى، أصلاً، تجمعات بالإرادة الحُرة لأصحابها.

ولعل ما بادر به ضياء رشوان، بخوض المعركة وبالنتيجة المُشرّفة التى أحرزها، يكون بشيراً واعداً لكسر احتكار سُلطة الدولة والحزب الوطنى لمؤسسة الرئاسة. لقد وعد د. محمد البرادعى بأن يخوض معركتى تعديل الدستور والترشيح، واللتين هما وجهان لنفس المسيرة الديمقراطية لمصر المستقبل.

إن التوفيق فى معركتى تصحيح الدستور والترشيح للرئاسة سيكون، فى حد ذاته، إنجازا كبيرا، فنرجو للرجل أن يصمد فى هذا السعى المشكور، وعلى عموم الشعب والأمة أن يهبوا لنُصرة الرجل فى مسعاه، لأن ذلك فى النهاية هو نُصرة لمصر وللديمقراطية، التى طال انتظارها.

حتى أولئك الذين يؤيدون إعادة ترشيح الرئيس محمد حسنى مُبارك أو أحد نجليه، عليهم أن يؤيدوا مسعى تصحيح الدستور والانتخابات الرئاسية التنافسية الحقيقية. ففى ذلك تكريس للشرعية الحقيقية لمن سيتم انتخابه فى ظلها. وبغير هذا التصحيح ستظل شرعية أى رئيس، حتى لو كان حسنى مُبارك، مطعوناً فيها.

إن نجاح أى من الأسرة فى انتخابات تنافسية حُرة، بأغلبية ٥١ فى المائة لهى أفضل لهم ألف مرة من انتخابات مُقيّدة، حتى لو كان نجاحهم فيها بنسبة ٩٩ فى المائة، فندعو لمبارك أن يتم مسيرته العامة فى تاريخ مصر الحديث بما يجعل معاصريه والأجيال القادمة يذكرونه بالخير.

وعلى الله قصد السبيل

 

اجمالي القراءات 10301