الأربعة الكبار من أولادى تتراوح أعمارهم تقريبا بين الحادى و الثلاثين ( محمد ) الى السابعة والعشرين ( حسام ) ، وبينهما الشريف (30 عاما ) والأمير ( 28 عاما ). وبحكم السّن شاركوا معى سنوات المعاناة والاضطهاد فى مصر ، ثم استمتعوا معى بحرية الجهاد السلمى فى امريكا . وبحكم المعاناة المشتركة و السّن فلهم مع السيدة أم محمد والدتهم حق المشاركة الحقيقية فى النقاش واتخاذ القرارات . وهم الذين يسيطرون على كل شىء يخص البيت والمعيشة ، وحتى فى رعاية منير و سامح أصغر الأبناء . وأجد متعة فى مراقبتهم وهم يتصرفون فى حكمة و مسئولية و مشورة.
ولكن متعتى الحقيقية حين ندخل فى نقاش ، وهم عادة يقفون منى موقف المعارضة والرأى الاخر . وهذا فعلا ما أحتاجه . وكثيرا ما آخذ برأيهم فيما يخصّ عملى ، وأحيانا لا أفعل .
2 ـ حين أصدر المركز العالمى بيانا عن موضوع المآذن السويسرية دار نقاش حاد بيننا . كان(الأمير) خارجا لتوه من المستشفى إثر عملية جراحية بسيطة ، وكان لا يزال يعانى من آثارها ، وكان (محمد) مستغرقا فى فحص كاميرا التصوير التى سيعمل عليها لخدمة المركز والموقع ، وكان (حسام) يعانى من ألم فى ظهره بسبب إفراطه فى التمارين الرياضية ـ يمنعه من الجلوس والنوم ، بينما كان الشريف سعيدا يغنى ، ربما لأن زوجته السيدة ( نجار ) الأمريكية الايرانية سمحت له بالمبيت عندنا ليطمئن على أخيه (الأمير).
كل هذه الملابسات لم تمنع حدة النقاش حول البيان الذى اصدره المركز بشأن المآذن السويسرية .
3 ـ أوضحت وجهة نظرى .
قلت :إننى أرى فى الديمقراطية السويسرية تجسيدا للديمقراطية فى الاسلام . والديمقراطية فى الاسلام هى حق الشعب فى إتخاذ قرارات فى المباح والحلال بغرض التنظيم ورعاية المصالح . وهناك ثلاثة مجالات فى التشريع الاسلامى : الواجب المفروض والحرام المحظور ، وهما معا إستثناء . ولا يجوز أن يتدخل التشريع البشرى فى الديمقراطية الاسلامية فى مجالى الحرام فيحلله أو فى المفروض الواجب فيبطله أو يمنعه أو يحرمه.
أمام التشريع البشرى المجال الأوسع وهو المباح المحتاج للتنظيم مثل البناء و الطرقات و المعمار و المرور و التصنيع و شتى شئون الادارة. وفيها جميعا تكون الحاجة للتنظيم و التنسيق بما ينفع الناس . والدولة فى الاسلام هى عقد بين الناس ونظام الحكم بحيث تكون الحكومة فى خدمة الناس ، وتنفذ قراراتهم ، ومتى أتخذ الناس قرارا أصبح بموجب العقد قانونا ملزما للأفراد والحكومة على السواء ، وتلتزم به المعارضة لأن الوفاء بالعقود اساس من أسس التشريع فى الاسلام.
وقلت إن المسلمين فى سويسرا لهم حق التصويت بالتساوى ، و قد جرى التصويت بالأغلبية على حظر المآذن ، وعليهم الالتزام بذلك القانون وفق النظام الديمقراطى ، ووفق نفس الديمقراطية فى الدولة الاسلامية . وهذا القرار بشأن المآذن يدخل فى إطار المباح والحلال لأن المآذن لا دخل لها بأى تشريع اسلامى ،أو عقيدة اسلامية ، بل هى مجرد طراز معمارى أخذه المسلمون عن أهل الكتاب .
وقلت إن المسلمين خارج سويسرا ليس لهم حق التدخل فى شأن داخلى سويسرى جرى التصويت عليه ديمقراطيا ، والمآذن فى الأصل موضوع لا شأن له بدين الاسلام .
4 ـ زوجتى وأولادى أوضحوا وجهة نظرهم :
* قالت السيدة أم محمد ـ رفيقة الكفاح والنضال عبر اكثر من ثلاثين عاما ـ أخاف أن يكون هذا القرار السويسري مجرد خطوة لاتخاذ إجراءات أكثر ضد المساجد و المسلمين ، وهم معهم الأغلبية الديمقراطية .
* وقال الشريف لى : حضرتك تعبر عن رأيك .. وهناك فارق بين الرأى و المبدأ. من حيث المبدأ لا يجوز لهم التدخل فى الحرية الدينية ، ومن حيث الرأى لا يجوز لحضرتك أن تفرض وجهة نظرك عليهم ،لأن لديهم شيوخهم الذين يعتبرون المآذن أساسا فى الاسلام .
* وقال حسام : القانون يجب أن يسرى على الجميع ، حين يتم إصدار قانون ضد فئة من المواطنين ولا يسرى على الباقين فهو مساس بحقوقهم . لو صدر هذا القانون ليسرى على الكنائس و المساجد ودور العبادة لكان قانونا عادلا ،أما أن يصدر ضد المسلمين وحدهم فهذا اضطهاد .
* وقال الأمير : إن من حق المسلمين فى سويسرا بناء ما يشاءون شأن المسيحيين و اليهود داخل سويسرا . والحرية الدينية تشمل كل شىء من حرية العقيدة و العبادة الى حرية الدعوة و التبشير الى حرية إقامة دور العبادة وفق القواعد التى تسرى على الجميع . وليس مهما إن ما يفعلونه صحيح او باطل شرعا. لا دخل هنا بما يصح شرعا أو لا يصح ،لأن كل فرد يرى نفسه على الحق ، وللجميع الحرية المطلقة فى الدين دون تدخل من السّلطة أو الفقهاء الآخرين.
* وقال الابن الأكبر محمد : أعتقد أن البيان الذى كتبه أبى لا شأن له بما تقولون ، لقد هاجم البيان شيوخ التطرف الذين قاموا بحملة على سويسرا ،أى إن هدف البيان هو فضح الشيوخ المتطرفين أعوان الاستبادا و الفساد ،فهم آخر من يحق له الكلام فى الحرية الدينية . نقد القرار السويسرى يأتى من أوربا وأمريكا ، وليس من المتطرفين والارهابيين .
5 ـ وفعلا ..
أبنائى كلهم على حق ، وزوجتى أيضا .
وكما قال محمد احمد صبحى منصور ، فالبيان الذى كتبته هو بيان سياسى و ليس بيانا حقوقيا . وقد وضح هذا من عنوانه ، فليس مجرد تاييد لسويسرا ولكنه فى الأساس ( استنكارا للحملة على سويسرا فى حظر المآذن ). وتركز الاستنكار على شيوخ التطرف : (يستنكر المركز العالمى للقرآن الكريم تلك الحملة المصطنعة التى يشنها المتطرفون المنتسبون للاسلام على سويسرا بشأن موضوع المآذن ، ويعتبر المركز العالمى تلك الحملة سلسلة من خطة طويلة الأجل لتعميق العداء بين المسلمين و الغرب .
ويؤكد المركز العالمى للقرآن الكريم أن هذا العداء من المتطرفين للغرب يتنافى مع دستور الاسلام ، ومن بنوده إن الله جل وعلا خلق الناس من اب واحد وأم واحدة أى أخوة ، وجعلهم مختلفين فى اللون واللغة ليتعارفوا سلميا وليس ليتباغضوا حربيا ( 49 /13 ). كما أن العلاقة مع الأخوة من أهل الكتاب يجب أن تؤسس على التنافس فى الخير و التسابق فى الخيرات ، وتأجيل الخلافات الدينية الى يوم القيامة حيث يحكم بيننا رب العزة فيما نحن فيه مختلفون ( 5 / 48 ). ومن التنافس فى الخير التسابق فى تأكيد الحرية الدينية للأقليات الدينية ورعاية حقوقها، و نصرة المضطهدين فى العالم ، وإغاثة المنكوبين والجوعى .
ويشهد المركز العالمى للقرآن الكريم أن تلك القيم الاسلامية الواردة فى القرآن ينفذها الغرب المسيحى بدون معرفة بوجودها فى القرآن ، بينما ينتهكها قادة المسلمين السياسيون والدينيون ، وهم على علم بمخالفتهم للاسلام وما جاء فى القرآن .
2 ـ أولئك المتطرفون أول من يعلم أن الصلاة فى الاسلام تجوز فى أى مكان بدون الحاجة الى بناء مسجد ، وهم الذين يرددون حديثا منسوبا للنبى محمد عليه السلام يقول ( جعلت لى الأرض مسجدا وتربتها طهورا ) بمعنى أن يصلى المسلم على التراب فى أى مكان .
أولئك المتطرفون يعلمون أن إقامة المآذن ليس تشريعا اسلاميا ، وأن المسجد الذى أقامه رسول الاسلام فى المدينة كان غاية فى البساطة ، مجرد حيطان وسقف بسيط ومفروش بالحصى ،وأن عمر بن الخطاب استنكر تجصيص وتزيين المساجد ،ولكن حينما عرف العرب المسلمون الترف قلدوا النموذج المسيحى فى إقامة الكنائس ، فأضافوا مآذن للمساجد تحاكى فى الشكل أبراج الكنائس وتنافسها فى الزخرفة والطول ، ثم غلب التعصب على المسلمين فى بعض العصور فحرموا إقامة الكنائس ، تمسكا بالتعصب الدينى فى العصور الوسطى،والذى ساد فى أوربا وبلاد المسلمين معا .
ثم تخلصت أوربا من سيطرة الكنسية ونهضت وتبنت العلمانية والديمقراطية والحرية الدينية وحقوق الانسان ، وكان المسلمون على وشك اللحاق بهم لولا قيام الدولة السعودية ونشرها ـ فى عصرنا الحديث ـ أكثر مذاهب المسلمين تعصبا فى العصور الوسطى ، تحت اسم الوهابية .
وبنفوذها النفطى وتأييد السياسة الأمريكية لها أتيح للوهابية أن تختطف اسم الاسلام ، وأصبح الاسلام متهما بالتطرف و الارهاب والتزمت والانغلاق.)
ولم ينس البيان التنويه و التذكير بضحايا الاضطهاد الدينى فى مصر بالذات، وضلوع أولئك الأشياخ فيه: (فى سويسرا يستطيع المسلم ان يشترى كنيسة ويحولها الى مسجد، ولكن لا يستطيع القبطى المصرى إصلاح دورة مياه فى كنيسته الآيلة للسقوط إلا بعد موافقة رئيس الجمهورية أومن ينوب مكانه .
أليس من السخف أن يثور أولئك المتطرفون على ما تقرره سويسرا على أرضها بينما يسكتون عن معاناة المصريين والعرب و المسلمين من الاستبداد و الفساد ؟ ألم تصل الى مسامعهم صرخات الأبرياء المعذبين فى السجون ومراكز الشرطة العادية و الشرطة السياسية (أمن الدولة ) ؟
لم يتحرك لديهم شىء إسمه الضمير وهم يعلمون أن شيخا مثلهم اسمه حسن شحاته خرج من السجن محطما جسديا من التعذيب ومحطما نفسيا بعد أن أرغم الجلادون إبنه على التبرؤ منه ؟ كل جريمة الشيخ حسن شحاته أنه مارس حقه فى إعلان معتقده الشيعى فى مسجد وحيد ، بينما تتكاثر المساجد الوهابية فى كل ركن فى مصر .
للسنيين الحق فى إنشاءمساجد تفوق عدد سكان مصر ، ولكن ليس للشيعةالمصرين الحق فى بناء مساجدهم ودور عباداتهم ، وليس من حق الأقباط بناء كنائس لهم .!!
أما القرآنيون المستضعفون فى الأرض فليس من حقهم ـ أصلا ـ الصلاة ـ معا ـ فى بيوتهم ، بل يرغمونهم على حضور الصلاة فى المساجد السنية ليسمعوا بأنفسهم الهجوم عليهم وتكفيرهم.
هذا كله لا يحرك ساكنا لشيوخ السلطان .!!
لم يتحرك لديهم الضمير حين كان عبد اللطيف سعيد ورفاقه من القرآنيين عام 2007 يتعرضون للضرب والسحل والكهرباء فى امن الدولة فى شبرا الخيمة و مدينة نصر،وتحت التعذيب كانوا يستجوبونهم فى عقائدهم وكيفية صلاتهم .!! وهو نفس ما كانت تفعله محاكم التفتيش فى العصور الوسطى .
5 ـ أولئك الشيوخ يشاركون فى ارساء الاستبداد والفساد والتعذيب وانتهاك حقوق الانسان ،ولذا تراهم يفتعلون القضايا ويثيرون الأزمات مع الغرب لالهاء الناس عن حقوقهم الضائعة .
ولا نستبعد أن تكون تلك الضجة مفتعلة لالهاء الناس عن قضية خطيرة بدآ المركز العالمى للقرآن الكريم طرحها للمناقشة ،وهى قضية الجهاد السلمى والسياسى و التنويرى لتحرير البيت الحرام فى مكة و الحج الاسلامى من السيطرة السعودية.)
أى نحن أمام بيان سياسى يستفيد من الموقف لصالح ضحايا الاستبداد الدينى و السياسى ، و يرفع أمام المجتمع الدولى معاناة الأقباط و الشيعة و القرآنيين ، ويذكر أسماء حسن شحاتة و عبد اللطيف سعيد . وليقرر فى النهاية ان من بيته من زجاج لا يصح له أن يرمى الناس بالطوب ، وأنه ليس من حق زعماء المافيا السفاحين المجرمين الاعتراض على مواطن مسالم بحجة أنه خالف القانون وإشِارة المرور .
6 ـ حضر ذلك النقاش صديقى الاستاذ خلدون ، واستمع له منبهرا ..
وفى النهاية قال : لو كان معى كاميرا فيديو لقمت بتسجيل هذه المناقشة .
قلت : أكتبها بنفسى ، فالقلم أكثر خلودا من الفيديو .