تجفيف منابع الغوغائية

كمال غبريال في الأربعاء ٠٢ - ديسمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


لاشك أن أخطر ما في أحداث الاعتداءات الطائفية على الأقباط، والتي صارت إحدى مظاهر الحياة المصرية الاعتيادية، أن من يقوم بها ليس جماعات وتنظيمات سلفية إرهابية، كما هو شأن الحوادث التي جرت في تسعينات القرن الماضي، ونجحت الدولة في استئصالها، أو على الأقل إجبارها على الدخول في مرحلة كمون، أو بيات شتوي نأمل أن يطول أبداً. . وإنما الخطر كل الخطر في أن من يقوم بتلك الهجمات الوحشية هم الجماهير العادية. . جماهير فقيرة وكادحة، تعيش في شظف عيش ومعاناة. . ت&Ecrc;توجه بالتخريب والقتل، إلى أخوة لها في الفقر والمعاناة، مسوقة بتصورات عنصرية دينية، تجعل الأقباط في تصور هؤلاء أعداء لله والمؤمنين، لتكون النتيجة أن رؤوس تلك الغوغاء يجهدون أنفسهم للعثور على مبررات لمهاجمة هؤلاء الكفار أعداء الله. . يستوي هنا أن يضطر قادة الفتن لاختراع تلك المبررات اختراعاً، أو أن يلتقطوا حادثة فردية يكون قبطي طرفاً فيها، ليتم اتخاذها كعود ثقاب، يشعل النار في البنزين والديناميت المعد والمجهز سلفاً، في انتظار قدح شرارة بسيطة، لتتواتر بعدها الأحداث، وتتوالى الانفجارات.

المسألة هكذا لا تكون وجود حوادث مثيرة للفتنة، أو بناء كنائس لا تريدهها الدولة ولا الغوغاء. . وإنما المسألة إذن هي وجود حالة احتقان مبعثه العداء والكراهية للأقباط. . حالة أشبه ببالون منتفخ بما يتم حقنه به، وينتظر مجرد لمسة لكي ينفجر، وقد ينفجر حتى بدون تلك اللمسة.
يسجل المراقب حَسِن النية فشل الدولة وأجهزتها الأمنية في معالجة هذه الحوادث، سواء في إحباط مخططاتها قبل دخولها حيز التنفيذ، أو في السيطرة عليها حال حدوثها، كذا الفشل في تطبيق سيادة القانون، بوضع المجرمين ومحرضيهم تحت طائلة العدالة والقانون. . في مقابل هذا يذهب البعض إلى اتهام الأجهزة الأمنية بالتقصير المتعمد، انحيازاً لجانب الغوغاء والمتعصبين، وتعاطفاً معهم، ورضى عما يفعلون. . ولا تتوقف التحليلات عند هذا الحد، بل يذهب البعض إلى أن الأجهزة الأمنية ليست فقط فاشلة أو مقصرة أو متعاطفة مع تلك الأحداث الإجرامية، وإنما هي أيضاً متواطئة ومشاركة في صنع أو اصطناع هذه الأحداث!!
كل تلك التحليلات والاحتمالات واردة وغير مستبعدة على الإطلاق، على ضوء ما نشهده من نتائج أو أحداث وبيلة متكررة، وفي ظل حالة الاحتقان والتعصب والهوس الديني، الذي امتد ليشمل قطاعات تتسع يوماً فيوماً من الشعب المصري، ومن الطبيعي أن تمتد هذه الحالة لتشمل المنتمين لكافة أجهزة الدولة!!

المواجهة الأمنية للمجرمين والخارجين عن القانون، هي خط الدفاع الأخير للمجتمع، وأي ضعف أو خلل في هذا الخط، سوف تترتب عليه ما نشهد من كوارث إنسانية ووطنية. . ولأن الأجهزة الأمنية بطبيعة تكوينها، وبخطورة مهمتها، من المفترض أن تكون الأكثر انضباطاً وكفاءة، فإن ظهور مثل ذلك الخلل في أدائها، يشير بقوة إلى عدم صلاحية النظام الحاكم بأكمله، ما هو كفيل في النظم الديموقراطية بإسقاط حكومات، أو سقوط نظم بكاملها، لتقوم مقامها نظم قادرة على حماية الوطن والمواطنين، وقادرة على النهوض بالمهام التي يمليها عليها العقد الاجتماعي، الذي تقوم على أساسه الأمم ونظمها السياسية.
كان ما سبق بخصوص ما يظهر من خلل في أداء خط الدفاع الأخير للمجتمع، والذي نطلق عليه المواجهة الأمنية. . السؤال الآن لماذا يتقهقر مجتمعنا ومؤسساته أمام هجمة التعصب الديني، حتى نصل إلى خط الدفاع الأخير؟!!
ولنضع ذات السؤال بطريقة أخرى:  أي دولة تلك التي تترك قطاعات من شعبها تتحول إلى مجرمين وقتلة ومخربين، لكي تقاومهم بعد ذلك بأجهزتها الأمنية؟!!

صيغة أخرى لذات السؤال، ربما كانت أكثر خطورة ومباشرة: هؤلاء الغوغاء من شباب وأطفال، والذين نطالب الدولة الآن بملاحقتهم وردعهم، أليسوا ضحايا دولة تركتهم نهباً للمحرضين والمتعصبين، ليغسلوا أدمغتهم من كل إنسانية، ويحقنونها بالهوس والتعصب، بل ويتم ذلك في مؤسسات تابعة للدولة ذاتها، سواء في مساجد تشرف عليها وزارة الأوقاف، أو في المعاهد الأزهرية والمقررات الدراسية بصورة عامة، علاوة على منابر الدولة الإعلامية؟!!
نعم الردع مطلوب وجوهري لكل من تسول له نوازعه الإجرامية انتهاك القانون. . لكن أي حماقة تلك، أن تصر دولة على لعب دور رجل الإطفاء، الذي يأتي دائماً متأخراً، بعد أن تكون النيران قد أتت على الأخضر واليابس. . ودون أن تقدم على إزالة أسباب اشتعال تلك الحرائق، ألا نعرف جميعاً أن "الوقاية خير من العلاج"؟!. . تترك دولتنا السنية الوباء يتفشى ويتوطن، لكي تهرول سيارات الإسعاف بعد ذلك لنقل القتلى إلى المشرحة!!
هو أمر مستفز أن تسعى دولتنا للعب دور أقليمي ودولي، أو دور ريادي كما يقول المناضلون الحنجوريون، وهي في ذات الوقت عازفة أو غير قادرة على أداء مهمامها الأساسية، في إقرار السلم الأهلي وسيادة القانون، وتوفير الأمن لمواطنيها. . بل ونجد أن سلطة الدولة تبدو كما لو كانت رمزية، أو لا وجود حقيقي لها في أعماق الصعيد، وليس أمامها ككيان هش كرتوني، إلى أن تذعن صاغرة –ومعها الأقباط المجني عليهم- لمجالس العرب العرفية، والتي هي مهزلة بكل المقاييس!!

مستفز أن نسمع مسؤولينا يتحدثون بحرارة عن حق الشعب الفلسطيني في عودة اللاجئين إلى قلب إسرائيل، في نفس الوقت الذي يتم فيه تهجير الأقباط من قراهم، سواء تحت تهديد عصابات الجماعات الإسلامية، أو تحت إشراف الأمن وبواسطته، بدعوى حماية أرواحهم!!
يقودنا كل هذا إلى سؤالين، لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر:
أولهما عما إذا كانت دولتنا دولة واحدة متجانسة، لها سياسة محددة تسعى لتحقيقها، أياً كان رأينا في تلك السياسة. . أم أن دولتنا وأجهزتها كيانات متهرئة، تحوي نزعات وتيارات شتى متضاربة، ويختلط فيها المخلصون والوطنيون والحداثيون، مع الفاسدين والمرتزقين والمنافقين، كما بها ما بها من المتعصبين والإرهابيين العنصريين، بحيث أن هذا هو سر ما نشهده من أداء مترد في جميع المجالات، وليس فقط ما نحن بصدده من تمزق طائفي، واستهداف للأقباط، قد يصل قريباً إلى حد التطهير العرقي لهم؟!!

التساؤل الثاني عن حقيقة ما يتقول به البعض، من أن سياسة الممسكين بزمام الأمور، تقوم على تغذية حالة الاحتقان بين أبناء الوطن الواحد، لكي ينصرف الشعب للتناحر بين مكوناته، ولا يلتفت ليقض مضاجع المستريحين إلى الأبد على كراسي السلطة، ليكون الأقباط هنا وكأنهم لقمة سائغة، تُلقى للمتأسلمين، وجماعات التائبين الذين تم الإفراج عنهم، ليلتهموهم هنيئاً، مقابل كف توجهاتهم العنيفة تجاه الدولة ورموزها؟
نعم ينبغي على الأقباط، وعلى كل أحرار مصر، مطالبة الدولة بتفعيل سيادة القانون، وردع المخربين ومحرضيهم، بأقصى العقوبات المنصوص عليها في القانون. . لكن الأهم أن نصرخ في وجوه كل القادة في جميع مؤسسات الدولة، لكي يقوموا بواجبهم في تجفيف المنابع التي تنتج الغوغاء ومحرضيهم!!

اجمالي القراءات 9200