حالة التخلف التي نعيشها، لا تجعل حياتنا كجسد مريض، يحتاج إلى الفحص لتحديد مواطن الداء ونوعية الدواء، بل أصبحنا بالتخلف أقرب إلى جثة، تحتاج إلى التشريح، لتحديد صنوف الميكروبات والفيروسات التي اغتالتها، فحولت ثمانين مليوناً من البشر (ومعهم كتلة شعوب الشرق الكبير) إلى إشكالية في حد ذاتهم، بدلاً من أن يكونوا بشراً كادحين، يعانون إشكاليات في سعيهم لتحصيل قوتهم، وتأسيس حياة أفضل لهم ولأجيالهم. . هناك فارق كبير إذن بين أن يعاني شعب إشكاليات، وبين أن ي&szli;كون الشعب ذاته هو المشكلة.
قلنا في المقال السابق أن الأحداث التي واكبت مبارة في كرة القدم بين مصر والجزائر، تعد افتضاحاً لحالة التخلف التي تجمع الشعبين، اللذين نصر منذ أكثر من نصف قرن أنهما شقيقان. . حتى لو كان شقيقنا الجزائري هو الأعمق والأكثر ولوغاً فيما يجمعنا معاً من تخلف وبدائية وفشل ذريع في التحضر!!
ورغم أن كل الحقائق على الأرض تصرخ، أن دعوى القومية العربية لا ظل لها من المصداقية، إلا على أرضية التخلف. . وأنها دعوى تعسفية تماماً، تحولت مع الوقت إلى لغم عنقودي، تتناثر شظاياه القاتلة في كل اتجاه. . لننال نحن منها النصيب الأكبر، ويطال بعضها العالم من حولنا. . رغم هذا فإننا لا نقر ما يراه البعض، أن الطفح الجلدي الذي داهم الشعب الجزائري، فاضحاً ما يكنه من كراهية متجذرة للشعب المصري، هو دليل على زيف ما نزعمه أو ندعيه من أخوة عروبية تربط شعوب المنطقة. . الأمر ليس أبداً على هذا النحو، فالقضية ليست ما إذا كان الشعبين المصري والجزائري أشقاء أم لا. . فالسؤال الذي طرحته الأحداث مختلف عن هذا تماماً. . السؤال الحقيقي والموجع هو عما إذا كانت هذه الشعوب عموماً تتمتع ولو بالحد الأدني من التحضر. . وإذا ما كانت الإجابة سلبية –وهي بالتأكيد كذلك- سوف يصدمنا تساؤل آخر، أشد قسوة ومرارة، عن سر حصانة هذه الشعوب المنيعة ضد الحضارة!!
ليست المسألة إذن إن كنا شعبين شقيقين أم لا، فالشعوب غير الشقيقة لا تفعل هكذا مع بعضها، على هامش مباراة لكرة القدم، والأحداث التي جرت لا تشابه على الإطلاق ما حدث من بضع عشرات من مشجعي الكرة الإنجليز المخمورين، والذين قاموا بأعمال شغب، تسببت في عقوبات لدولتهم، تلقتها بقناعة تحسب كواحدة من ملامح أمة متحضرة. . الأمر عندنا مختلف جذرياً، بصناعته المسبقة بواسطة وسائل الإعلام لدى الطرفين، وبالتخطيط والتنفيذ للمؤسسة السياسية والعسكرية الجزائرية، ليساهم الجميع في صنع حالة، ربما كانت غير مسبوقة عالمياً، وهي حالة تقاتل جماهير شعبين. . فالأمم تتقاتل عبر نظم حكمها، وتستخدم أجهزتها العسكرية في المواجهة، وتناشد الجماهير مساندتها خلال ذلك، بمجرد التأييد والتعضيد المعنوي، دون تدخل الجماهير فعلياً في الاشتباك. . بل وتدعي كل نظم الحكم المتحاربة، أنها لا تضمر شراً لشعب الطرف المقابل، وتوجه إليه خطاب صداقة، محاولة إقناعه أن نظام حكمة يدفع به لمعركة مع شعب صديق له!!. . أما نحن شعوب العروبة المجيدة، وأصحاب الحلم العربي، فنتقاتل مع بعضنا البعض بالسكاكين والأحجار وشعلات اللهب، وبنهب الممتلكات، وترويع الرجال والنساء والأطفال المقيمين بين ظهرانينا!!
الساحة حافلة الآن بالنظريات والفتاوى الهائمة:
نسمع مثلاً أن ما حدث لعبة سياسية لنظامين سياسيين فاشلين وفاسدين يحكمان الشعبين، يتوسلان إلهاء الجماهير بعيداً عن تهديد وجودهما الهش، والمفتقد لأي شرعية شعبية أو ديموقراطية.
نسمع عن مؤامرة خارجية وراء الأحداث، تطوع البعض بحكم الاعتياد بوصفها بالصهيونية، وأضاف البعض جديداً هذه المرة، فتحدث عن مؤامرة من العصفور القطري الهزيل، الذي يطمح لأن يلعب دور نسر، ليس بأداء إيجابي لصالح الشعوب والدول المحيطة، وإنما باللعب على القلاقل والانشقاقات هنا وهناك، وكأنه وصيف لملك التخريب الإيراني المتوج بعمامة فقيه.
نسمع أيضاً عن العداء والكراهية المتأصل لدى عموم العرب بلا استثناء، تجاه المصري المحسود على حضارته القديمة والممتدة عبر آلاف السنين، مقابل شرازم عشائر بدوية، تعجز عن التطور، وتصر أن تبقى – كما هو شأن البدو أبداً- عالة على الحضارة والمتحضرين، وأن هذا العداء لكل ما هو مصري، متأصل لدى نخب هذه الشعوب وحكامها، وتنساق خلفهم الدهماء، رغم شعارات العروبة الزاعقة، سواء على المستوى الرسمي، أو عبر وسائل الإعلام!!
لم نعدم أيضاً من ينسب الأحداث إلى مؤامرة أو خطة توريث الحكم في مصر، ويستدل على ذلك بالزج بنجلي الرئيس وسط مشجعي الفريق المصري في أم درمان، وبالحديث التلقائي الحماسي غير المنمق لأكبرهما لقناة تليفزيونية فضائية، ليبدو نجلي الرئيس كشباب مصري منتم للقاعدة الجماهيرية، ويتحمسان لما تتحمس له، وأنهما ليسا "أبناء ذوات" مفروضين على الجماهير من عل!!
ونحن في خضم هذه الضوضاء، وفي غياب تحقيقات ودراسات علمية رصينة، تتناول كافة الظواهر المجتمعية لبلادنا وشعوبنا، لا نستطيع أن نتبين مدى مصداقية أي من هذه الأقاويل. . لكننا نستطيع أن نؤكد أمراً واحداً، هو أن أي صناعة أو فلنقل مؤامرة، لا تنجح فيما تهدف إليه، إلا إذا استخدمت خامات مناسبة لما تود تصنيعه. . نعرف أيضاً يقيناً أن "كل إناء ينضح بما فيه". . وأن أي وسائل إعلام أو أنظمة حكم، أو أي مدبري أحداث ومؤامرات، لن يجدوا من الجماهير آذاناً صاغية، إذا ما طالبوها بما هي غير مستعدة أو مؤهلة له. . بل هل يمكن أن يجرؤ أحد في وسائل إعلام شعوب متحضرة، أن يحرض الجماهير على ممارسات همجية؟. . لا أظن أن أحداً يمكن أن يطرأ على باله مجرد التفكير في أن يُقَدِم على ذلك، لأنه يدرك بالتأكيد أن سوف يطلق بذلك رصاصة على رأسه هو، وليس على أي رأس آخر!!
أمامنا ملحوظة بسيطة وتبدو هامشية في غمار ما حدث من جرائم للغوغاء. . ملحوظة منقطعة الصلة بكل ما ذكرنا أعلاه من نظريات وتفسيرات. . بعيدة عن التعصب في تشجيع فريق كرة، وعن مؤامرة صهيونية وقطرية للتفرقة بين الشعبين الشقيقين، كما هي بعيدة عن حسد المصري على حضارته، وعن مؤامرة توريث الحكم المصرية!!
الحادثة التي نعنيها هي قيام بعض الجزائريين بحرق الإنجيل في المدرجات أثناء المباراة!!!
يبدو أن هذا الفعل منقطع الصلة بكل ما يحدث، وبأنه حادث عرضي أو نشاز، لكنني شخصياً أراه غير ذلك، فالأمر ببساطة أن الشعب الجزائري الذي تفتك به داخلياً أيديولوجيا الإسلام السياسي، بحيث يمثل مع أفغانستان النموذج الأسوأ، لما يمكن أن يزرع هذا الفكر من كراهية ودموية بين أفراد شعب واحد وعقيدة واحدة. . هذه الشخوص الجزائرية المضروبة بسرطان التعصب المتأسلم، جاءت لمدرجات مباراة في تصفيات كأس العالم لكرة القدم، لتمارس مساحة عريضة من شخصيتها الإجرامية الدموية الكارهة للحياة وللبشر، وكان من الطبيعي أن نجد في القلب من ممارساتها حرق الإنجيل!!
إذا أردنا أن نجد حلولاً أو علاجاً لشعوبنا، فيجب علينا أن نعمد مباشرة إلى جذور الورطة أو الأزمة أو المرض، وألا نترك أنفسنا ننساق للانشغال بقشور وأوهام، أو بأعراض جانبية. . فأصل الداء واضح وضوح الشمس. . الداء الوبيل الذي يعطينا مناعة ضد التحضر، ويجعل منا أعجوبة العصر في التخلف، هو استشراء الفكر العدواني الإجرامي لتيارات التأسلم السياسي، والذي يثمر مختلف أنواع ثمار التخلف والوحشية البدائية. . ويظهر في مناسبات مختلفة، أو بدون مناسبة على الإطلاق، كما قد يظهر في مدن الجزائر وجبالها أو في الخرطوم، وقد يظهر أيضاً في فرشوط والكوم الأحمر بمحافظة نجع حمادي، ليقتل ويحرق ويدمر، بذرائع تافهة أو بدونها. . فالكراهية تتفجر من تلقاء ذاتها، ولا تنتظر في الأغلب مبررات. . وإذا كان الجميع حالياً يطالب برد الاعتبار لكرامة المصري التي أهانها بلطجية وغوغاء الجزائر، فمن لأقباط مصر، يعيد لهم الكرامة والأمن المنتهك بغوغاء المتأسلمين ولصوص النهب، والذين تكتفي قوات الأمن بمراقبة ما يحدث لهم، لتشرب بعدها معهم الشاي في جلسات صلح عرفي؟!!