مُباراة كُرة، وثلاث دول فاشلة، وخسارة شعبين

سعد الدين ابراهيم في الأربعاء ٢٥ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

حاولت إحدى السيدات المغربيات أن تُخفف لوعة زوجها المصري في أعقاب مُباراة مصر والجزائر، وما صاحبها من مشاهد عُنف قبيحة، بأن هناك "حدة مزاج جزائرية" معروفة لكل جيرانهم، تجعل هؤلاء الجيران يُحمدون الله إذا لم تصبهم "القُرعة" للعب مع الجزائر في أي مُباريات إفريقية، أو عربية، أو متوسطية، أو دولية. وذكرت الزوجة المغربية لزوجها المصري المُناسبة التي كانت منذ عدة سنوات، حيث شاء حظ المغرب أن تواجه الجزائر في مُباراة لكُرة القدم. فم&ilde;ا كان من غُلاة الجزائريين إلا تجميع أكبر عدد من الحمير، وألبسوها أعلاماً مغربية، وطافوا بها في شوارع مُدنهم الرئيسية قُبيل، وأثناء، وبعد المُباراة!

          ومع نشر هذا المقال في عدة صُحف عربية (منها المصري اليوم القاهرية، والخبر الجزائرية، والمساء المغربية، الراية القطرية) وغيرها من الصُحف يوم السبت 28/11/2009، سيكون قد قيل حول تلك المُباراة وذيولها القبيحة، ما لم يقله مالك في الخمر، أو نزار قباني في هزيمة العرب المُدوية عام 1967. ولعل من أصوب ما قرأت في الأيام الأولى بعد واقعة أم درمان (حيث كانت مُباراة مصر والجزائر) مقالاً جامعاً للدكتور عبد المنعم سعيد، بعنوان "لم تكن مُباراة في كُرة القدم؟! (الأهرام 21/11/2009)، وآخر للدكتور حسن نافعة، بعنوان "حالة تلبس" (المصري اليوم 22/11/2009) قدم فيه تحليلاً أميناً لمسئولية حكومة البلدين وإعلامهما عن الشحن النفسي، والتحريض السلوكي اللذان كانا لا بد أن يؤديا إلى ما أديا إليه من عواقب وخيمة، ربما ستستمر تداعياتها لسنوات بين الشعبين المصري والجزائري، ناهيكم عما لحق بمفهوم "العروبة" من إساءة.

          وكان في المقالين المذكورين أعلاه، ما يكفي، دون حاجة مني لمزيد. ولكن رجل الأعمال المصري المعروف رامي لكّح، ألح عليّ في مُكالمة تليفونية، من لندن، أن أدلي بدلوي في الموضوع، وكان مُنفعلاً أشد الانفعال بما تعرض له المصريون من مهانة. ولفت نظري أن رامي لكّح، في هذه اللحظات نسي تماماً مُشكلاته مع الحكومة المصرية، واستبدت به الغيرة "للكرامة المصرية"!

          وبعيداً عن انفعالات رامي لكّح، وتأملات عبد المنعم سعيد، وتحليلات حسن نافعة، وحمير المغربية سعيدة سعيد، شغلني كيف أن دولاً عربية ثلاث ظهرت بمظهر تعيس قُبيل، وأثناء وبُعيد المُباراة. فهناك الدولتان اللتان لعبا فريقهما، من أجل التأهل عن القارة الإفريقية لنهائيات كأس العالم (المونديال)، عام 2010، بجنوب إفريقيا، وهما الجزائر ومصر. أما الدولة الثالثة، فهي تلك التي لعب الفريقان على أرضها، وهي السودان، والتي كان مفروضاً أن تكون مُحايدة وصارمة في حفظ الأمن والنظام.

          وحسناً فعلت صحيفة "المصري اليوم"، في اليوم التالي للمُباراة، حيث أعلنت مع أخبار ونتيجة المُباراة نفسها، والتي فازت فيها الجزائر على مصر بهدف واحد، وتعادل البلدان في درجة "الفساد". نعم "الفساد". فهناك مُنظمة دولية مُتخصصة في رصد ظاهرة الفساد، طبقاً لمنهجية صارمة، ثم تقوم بترتيب دول العالم، تصاعدياً ـ من أقلها فساداً إلى أكثرها فساداً.

          وتُسمى تلك المؤسسة المُتخصصة "بمُنظمة الشفافية الدولية" ((Transparency International، ومقرها ألمانيا. وهي تصدر تقاريرها سنوياً في مُنتصف نوفمبر من كل عام. وقد تزامن صدور تقريرها هذا العام في نفس يوم مُباراة مصر والجزائر. وتشاء الصدفة وحدها أن تأتي مصر والجزائر مُتعادلتان في درجة الفساد. فقد تقاسمتا المركز 111، بين المائة والثمانين دولة، التي شملها تقرير مُنظمة الشفافية الدولية. كما جاءت الدولة المُضيفة، وهي السودان، في المركز 176، أي قبل الأخير بأربعة مراكز فقط. أما الأخير بين الدول (أي الأكثر فساداً) فقد كانت دولة عربية أيضاً، وهي الصومال (180).

          ويُسمي عُلماء الاجتماع السياسي مثل هذه الدول "بالفاشلة" (Failed state). ويتجلى فشل هذه الدول لا فقط في فساد كبار مسئوليها، ولكن أيضاً فيمن دونهم في المستويات الوسطى والدنيا من الموظفين، وحيث تصبح "الرشوة"، و"المحسوبية"، و "الواسطة" هي طريقة حياة، ووسيلة إنجاز مُعظم مُعاملات مواطنيها.

          كذلك من أعراض الدولة الفاشلة، عدم قدرتها على حفظ الأمن والنظام لأبناء مُجتمعها، وحيث يُختزل أمن المجتمع في أمن النظام الحاكم ـ أي سلامة وحماية كبار المسئولين وذويهم. وقد تجلى ذلك في تلك الساعة الحرجة التي أعقبت مُباراة مصر والجزائر في العاصمة السودانية. فقد فشلت أجهزة الأمن السودانية عن حفظ النظام في إستاد أم درمان، والمنطقة المُحيطة به. وهو ما عرّض مئات المُشجعين والمُتفرجين لخطر اعتداءات البلطجية والغُلاة.

          ولكن هذه الأجهزة لم تفشل في تأمين وخروج كبار المسئولين وأبنائهم من ذلك الإستاد، وهروبهم من الساحة، وإلى مطار الخرطوم، حتى ركبوا طائراتهم الخاصة، عائدين إلى أوطانهم. وكان الاستثناء الوحيد هو لأحد أبناء الرئيس، وهو علاء مُبارك، الذي أصرّ على ألا يُغادر أرض المعركة إلا بعد أو مع أفراد الفريق، بعكس شقيقه جمال مُبارك الذي كان في مُقدمة الهاربين مع بعض أعضاء مجلس الشعب ومنهم حنجوري شهير يُزايد دائماً على الآخرين في الوطنية والقومية والصمود في صحيفته الصفراء !!..

          وهكذا، كانت مُباراة كروية واحدة كاشفة عن عورات ثلاثة أنظمة عربية حاكمة، وبلا شرعية، قام اثنان منها بشحن الرأي العام في بلديهما لتوقع "الانتصار" فقط، في مُسابقة رياضية هي بطبيعتها، كأي مُسابقة، لا بد فيها من احتمال الخسارة أو الهزيمة.

          واستخدم الإعلام الموجه في البلدين كل وسائل الشحن المشروعة وغير المشروعة. من ذلك استدعاء أحدهما لأسطورة "المليون شهيد" والتي أصبحت مع يوم المُباراة "مليون ونصف شهيد". واستدعى الطرف الآخر أسطورة "السبعة آلاف سنة حضارة"، والتي أصبحت مع يوم المُباراة "ثمانية آلاف سنة". وهكذا تبارى إعلام البلدان في المُبالغات.. من ذلك أن مصر "الشقيقة الكُبرى" تعرضت لعدوان ثلاثي عام 1956 ـ من فرسنا وبريطانيا وإسرائيل، بسبب دعمها لثورة  تحرير الجزائر ضد فرنسا. ومنها أن لواءاً جزائرياً شارك في دعم مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973، حيث اختلطت دماء الجزائريين مع أشقائهم المصريين والسوريين.

          وهكذا تحولت مظاهر "التضامن" بين الشعبين المصري والجزائري في حياة جيل سابق، هو الذي كان قد أعطى عن طيب خاطر، إلى مظاهر للفرقة على أيدي جيل لاحق لم يُعط، ولا يعرف إلا تفاخر الجاهلية الأولى. إن "الرياضة" مثل "الديمقراطية" ـ هي مُنافسة من أجل الجدارة، طبقاً لقواعد معلومة، يحترمها المُتنافسون. وليس النصر أبدياً في الديمقراطية، ولا الهزيمة أبدية في الرياضة. فكلاهما يخضع، أو من المفروض أن يخضع، لمُنازلات دورية (سنوية أو رباعية أو خماسية). ولذلك فمن لم ينتصر هذه المرة، تكون لديه فرصة أو فرص أخرى في المُستقبل. فنتيجة أي مُنافسة ليست ولن تكون نهاية المطاف أو أحد "علامات الساعة" (أي الآخرة، يوم القيامة).

          إن الخاسرين في مُباراة مصر والجزائر (18/11/2009) هما الشعبان، المصري والجزائري، وقضية الوحدة العربية. فمشهد الاعتداءات، والدماء التي سالت في إستاد أم درمان، ربما تتضاءل بالنسبة لما تعرض له أبناء الشعبين على أيدي الاستعمار أو أطراف أجنبية أخرى، ولكنه لم يكن على أيد الأشقاء، ولم يكن مُسجلاً بالصوت والصورة، مثلما في أم درمان والخرطوم، وفي صُحف القاهرة والجزائر، وعلى شاشات التليفزيون التي رآها الملايين.

          لذلك لم يكن غريباً أن كثيراً من الأصوات المصرية، خرجت من معاقلها مُنكرة، بل وساخرة، من "العروبة"، ومُطالبة بإسقاط "عربية" من الاسم الرسمي لبلدهم (وهو جمهورية مصر العربية). وطاف بخاطري وأنا أقرأ هذه الدعوات، أحلام ونضالات أربعة أجيال عربية، طوال القرن العشرين، من أجل "العروبة" ـ كأمة واحدة، ذات رسالة خالدة!.

          نعم طاف بخاطري أسماء شريف حسين وميشيل عفلق وقسطنطين زريق وجمال عبد الناصر وشكري القوتلي، كما طاف بخاطري جهود بقايا أخر هذه الأجيال، من العراقي خير الدين حسيب، إلى المصري محمد حسنين هيكل، إلى الجزائري الأخضر الإبراهيمي. ولم أملك إلا أن أزفر مثلما زفر ابن أبا عبد الله، وهو يُغادر أخر القلاع العربية في الأندلس (1492). ولكن العزاء لحسيب وهيكل والإبراهيمي، هو أن الزفرات ربما تنتهي وتموت مع أصحابها، ولكن الأحلام لا تنتهي ولا تموت... وكما حدث مع أحلام أجيال أوروبية، تحققت وحدتها، رغم ماضيها من العداوة والاقتتال، فربما ستأتي أجيال لا يُصرفها اعتزازها بوطنيتها عن مصيرها القومي المُشترك، الذي صاغته الجغرافيا والتاريخ واللغة.

          والله أعلم

 

اجمالي القراءات 10530