هو افتضاح لا فضيحة

كمال غبريال في الجمعة ٢٠ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

الفضحية" تعني أن يرتكب شخص فعلاً مستهجناً وفظيعاً، يجعله محط احتقار الجميع، وربما مثار شماتة البعض أيضاً. . أما "الافتضاح" فمعناه أوسع وأشمل، فهو يعني سقوط الأقنعة والستائر عن الإنسان أو الجماعة، فيظهر على الملأ، ليس مجرد ارتكاب حادثة أو فعل شائن، وإنما تظهر الحقيقة التي كانت مخفية بوسائل شتى. . وإذا كانت "الفضيحة" أمراً قابلاً للتجاوز والنسيان مع الزمن، فإن "الافتضاح" هو بمثابة حكم إعدام أدبي على المُفْتَضَح.

ما حدث في الأيام الماضية بين ا&il;لمصريين والجزائريين، إثر تنافسهم على مباراة كرة قدم، لا يدخل في دائرة مشكلة عابرة، أخطأ فيها هذا الطرف أو ذاك، أو حتى كلاهما. . فهو في الحقيقة "افتضاح" لواقع التخلف والتردي الحضاري للشعبين. . فاتساع مساحة الأحداث زمانياً ومكانياً، يجعل هذا التقرير أو تلك النتيجة تشمل عموم الشعبين، جماهير وصفوة وحكاماً. . بالطبع لا يعني هذا حكماً حصرياً على جميع أفراد الشعبين، لكنه يعني المستوى العام للأمتين.

نعم الشعب المصري بحكم التاريخ وحقائق الواقع، يحتل موقعاً متقدماً في الترتيب الحضاري لدول شرق وجنوب المتوسط. . كما تدل الأحداث المؤسفة أيضاً، على فارق في مستوى العنف وما يظاهرة من تخلف، بين الشعبين الذين صارا  فجأة غريمين، يظهر منه أن الشعب المصري رغم كل ما حدث من تجريف وتدمير لركامه الحضاري خلال العقود الماضية، مازال يتقدم جيرانه ببضع خطوات، إلا أن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، فمعيار الحضارة لا يقاس على من يقبعون في حضيضها، وإنما بالقياس على مستويات العصر الحداثية، فوفق المقياس العالمي ينظر إلينا العالم، ليرانا كائنات متخلفة، قد نسيها الزمان ونسيته!!

لنا هنا عدة ملاحظات، نسجلها بأمل أن تكون أجراس إنذار، لمن قد يخطر على باله مراجعة الذات ومحاسبة النفس. . أيضاً للقائمين على شئون المجتمعات الشرق أوسطية، والذين نرى أنهم يغطون في نوم عميق، لا أمل في أن يستيقظوا منه يوماً:

مفهوم حب الوطن لدى الشعوب متدنية التحضر، يأخذ وجه كراهية آخر، يحتل في مخيلتهم دور العدو. . مثل هذه المشاعر أو الأفكار لا يمكن بأي حال أن تكون مشاعر حب، فالحب هو الذي يدفعك للالتصاق برفيقك لأنك تحبه، لكن أن تلتصق به لأنكما فقط تكرهان أو تخافان من آخر عدو، فهذا لا ولم يكن حباً. . هو مجرد رد فعل للكراهية أو انعكاس لها ليس أكثر. . هذا القصور وبدائية المشاعر وهمجيتها، ليس وليد لحظات وظروف استثارة، مثل مباراة كرة قدم أو حتى ما هو أخطر منها بمراحل، إنما هو نوعية مشاعر غائرة في النفوس، تُسأل عنها الثقافة والعقائد والتربية. . فلننظر إلى عبارة مأثورة نتداولها، وكأنها الحكمة المصفاة التي لا حكمة سواها: "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب".

نحن غير معنيين هنا بمضمون هذه العبارة السيء، من حيث أنها تحض الإنسان على اتخاذ مواقف ذاتية لا موضوعية، بمعنى أن موقفي ورأيي في أي إشكالية، لا يحدده موضوع القضية، الذي يكشف أين الحق وأين الباطل، لكي أختار لنفسي جانب الحق في مواجهة الباطل، وإنما هي درجة القرابة من الأطراف المشتبكة. . هكذا يغيب العقل وتغيب معه الإنسانية، ذلك أن أبسط ما يميز الإنسان عن الحيوان هو إعمال عقله في التمييز، أما الحيوانات فهي فقط تتجمع مع جنسها، لتسير في قطعان لا يربط بينها غير الجنس والشكل الخارجي. . لكن الأهم فيما تدل عليه العبارة سابقة الذكر، أننا لا نعثر فيها على مشاعر حب من أي طرف لطرف آخر. . فما يجمع الأخوين ليس حبهما لبعضهما البعض، وإنما وقوفهما معاً في مواجهة ابن العم، الذي يلعب في هذه المرحلة دور الآخر أو العدو. . في المرحلة التالية نجد نفس الشيء، فما يربطني بابن عمي ليس أيضاً حبي له، وإنما هو تضامننا معاً ضد الغريب. . نحتاج إذن دائماً إلى عدو لنتحد ونتكاتف، وإذا لم نجد العدو الغريب الذي نعاديه جميعاً، فسوف نتشرذم نحن فيما بيننا، على أسس ذاتية طائفية وقبلية وعائلية، وليس على أسس موضوعية، لنعادي بعضنا البعض، حتى يتيسر لكل شرذمة أن تتضامن فيما بينها. . هذا ما نتلقنه منذ الصغر، ويظل مغروساً في عقولنا ومشاعرنا، لا يغادرها مهما حصلنا حتى على أعلى الشهادات الأكاديمية!!

ألسنا نردد بغبطة أن مباراة الجزائر وتشجيع الفريق الوطني، قد جمع المصريين مسلمين ومسيحيين على قلب رجل واحد، ونعتبر هذا مؤشراً جيداً على الوحدة الوطنية؟

نعم هو مؤشر جيد، لكن ليس من الجيد أن نكون باحتياج إلى التوجه ضد طرف خارجي، حتى نكف عن التوجه ضد بعضنا البعض، ثم لا يلبث أن ينفض مولد "سيدي كأس العالم"، لتعود الهجمات العنترية لغوغاء التأسلم، لتمارس جهادها في سبيل الله، بحرق منازل ومتاجر وكنائس الأقباط!!

هذا بالطبع يختلف عن حالة أخرى، نُجْمِع فيها على تكاتفنا لرفعة وطننا، ونحرص على وصول فريقنا لكأس العالم، دون مشاعر عدائية للفرق الأخرى، تصل لحد مهاجمة الأوتوبيس الذي يقل الفريق المنافس بالأحجار، كأننا نريد أن نقتلهم، لا أن نتفوق عليهم في مباراة رياضية، بغض النظر عن ممارسات الشعب الجزائري، التي يمنعنا الحياء من تحليلها ووصفها، فأولى بذلك مفكروهم والمهتمون بأخلاق وحضارة شعب، كان من المفترض أن يحتل قمة حضارية، لاختلاطه دهراً بالشعب والثقافة الفرنسية. . فأولى بهم أن يبحثوا لماذا ضاعت دون جدوى محاولات فرنسا انتشال هذا الشعب من وهدة التخلف، فإذا بهم يدفعون مليون شهيد كما يقولون، للتحرر من فرنسا، ويتفرغون لذبح بعضهم بعضاً، ويحولون الجزائر في ظل شيوع التيارات الإسلامية، إلى مستنقع للدماء الجزائرية وغير الجزائرية. . فالحالة الجزائرية تحتاج بالفعل إلى الدراسة العلمية، التي قد يستفيد منها بدرجة أو بأخرى كل شعوب المنطقة. . دراسة تدلنا لماذا ترفض هذه الشعوب استيعاب الحضارة والتحضر، وتندفع بقوة وحماس إلى حتفها، باعتناق أفكار وأيديولوجيات التخلف والجريمة والكراهية. . دراسة تقول لنا إن كان السر في هذا الميل والنهج الشعبي، يرجع إلى محفزات جينية موروثة، أم إلى فيروسات ثقافية مغروسة، يصعب أو يستحيل اقتلاعها من جذورها؟! (مع الاعتذار لمن قد يجد في هذه الكلمات عنصرية ضد شعب، هو جزء من الأخوة الإنسانية، فالعنصرية لم ولن تكون جزءاً من توجهاتنا، وإنما هو الحرص على المكاشفة والمصارحة إلى أقصى حد ممكن).

يفتضح أيضاً من معالم تخلفنا، جهلنا أو عجزنا عن استيعاب أصول التنافس الشريف، فالأمم التي تقدمت ولو بضع خطوات على طريق الحضارة، تعرف الفرق بين التنافس الشريف في سائر الأنشطة الإنسانية، كالرياضة والتجارة والصناعة وغيرها، وبين الصراع الذي قد يأخذ طابعاً دموياً!!

في التنافس يحرص الفرد على الارتفاع بنفسه والارتقاء بها فوق الآخرين، عن طريق شحذ قدراته وصقلها، وبذل الجهد والعرق في تحقيق التفوق، دون أن يحاول إيقاع الضرر أو إعاقة المنافسين، وإلا عُد تنافسه غير شريف. . تماماً كحالة تلميذ يريد أن يكون الأول على صفِّه، فيعمد بدلاً من إجادة استذكار دروسه، إلى إيقاع إصابات بالطلبة المتفوقين في الصف، حتى لا يدخلون الإمتحان، أو يعيقهم عن الاستذكار!!

وكما أن لما نسميه التنافس الشريف أصوله، فإن الصراع أيضاً له أصوله، رغم أنه قد يصل إلى تصفية أحد الأطراف للآخر جسدياً. . فلا يجب مثلاً أن تطعن عدوك أو تطلق عليه النار من الخلف، ففي هذا نذالة أكثر مما فيه من قوة أو شجاعة. . الحروب أيضاً بين الأمم لها أصول وتحكمها معاهدات، تحرم إيذاء المدنيين والعزل، وتحرم قتل الأسرى أو إيذاءهم!!

ماذا نقول إذن عن الجزائريين، الذين بالتواطؤ مع السلطات الجزائرية أو بتخاذلها، هاجموا المصريين العاملين في الجزائر، بأسرهم وأطفالهم، حتى لو كان ما وصل إليهم من أكاذيب عن عنف من المصريين ضد مواطنيهم صحيحاً؟. . روح العدالة هنا غائبة تماماً، فثقافتنا وتربيتنا تنتمي لعصور الجهالة والبداوة، وأبعد ما تكون عن الإنسانية والحضارة!!

هو عار التخلف يلفنا جميعاً يا سادة، من وصل منا إلى كأس العالم، ومن لم يصل!!

اجمالي القراءات 10456