قدامة بن جعفر أستاذ ابن خلدون في كتابه : الخراج وصناعة الكتابة

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٧ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

لم يحظ قدامة بن جعفر بالشهرة التي حازها كتابه " الخراج وصناعة الكتابة " .. وكل ما نعرفه عن قدامة أنه كان نصرانيا فأسلم على يد الخليفة المكتفى بالله العباسي وانه كان أحد الفصحاء والفلاسفة ، وأنه جالس ابن قتيبة والمبرد وثعلبا وأن له كتبا كثيرة في الحساب والمنطق ونقد الشعر بالإضافة إلى كتابه المشهور عن الخراج ، وأنه عمل كاتبا لدى الوزير ابن الفرات ، ويقال أنه عمل أيضا لعز الدولة البويهي ، وقد توفى أيضا سنة 328 وقيل سنة 337 في أيام الخليفة المطيع العباسي .
ولكن شخصية قدامة بن جعفر العلمية تظهر في كتابه الخراج ..
ومن أسف فان الأجزاء الأربعة الأولى من الكتاب مفقودة ،وتم تحقيق ونشر الأجزاء الأربعة الأخيرة ، ومع ذلك فهي تعطي سيلا من المعلومات التاريخية عن العصر العباسي ، وتعطي فكرة عن التقدم المعرفي في شئون الدواوين والإدارة الاقتصادية والسياسية للقرن الرابع الهجري ، كما أنها لا تخلو من بعض الجوانب الاجتماعية و الأخلاقية والفلسفية ، وكلها أمور غفل عن تسجيلها المؤرخون العظام مثل الطبري الذي كان معاصرا لقدامة ، إذ تركز اهتمام المؤرخين على النواحي السياسية وما يتصل بها وأهملوا ما عداها.. وجاء كتاب" الخراج " لقدامة بن جعفر يسد بعض النقص.
والقسم المنشور من كتاب الخراج لقدامة يقع في أربعة أجزاء أو أربعة منازل بتعبير المؤلف ، وقد قسم المؤلف كل جزء إلى أبواب .. وقد وضع تعريفا موسوعيا لكتابه يقول إنه " يشمل على عجائب الأرض والبحار وفتح البلاد ومعرفة خراجها وترتيب الكاتب وما يحتاج إليه من الرياسة وهو مرتب على المنازل وبالله التوفيق .. " .
والقسم المنشور من الكتاب يبدأ بالجزء الخامس أو بالمنزلة الخامسة حسب تعبير المؤلف ويتحدث الجزء الخامس عن الدواوين ويتحدث الجزء السادس عن جغرافية الأرض والمعمور منها وغيره والبحار والأنهار والثغور ، ويتكلم الجزء السابع عن أوجه الخراج وموارد بيت المال بالتفصيل ، أما الجزء الأخير فهو عن احتياجات البشر الفطرية والاجتماعية والنظم السياسية .
 
 
قدامة بن جعفر أستاذا لابن خلدون
 
 
ونشير هنا بإيجاز إلى تأثر ابن خلدون بالأفكار التي ساقها قدامة بن جعفر في كتابه الخراج .. ومع حرص ابن خلدون على صياغة الأفكار بأسلوبه هو ، ومع أن ابن خلدون أفاض في مقدمته في تنظير علم الاجتماع وتوسيع أفاقه وتأصيل نظريته من خلال الفحص التاريخي ، إلا أن قدامة بن جعفر المتوفى سنة 328 يقف أستاذا لابن خلدون المتوفى سنة 808 في ما أورده قدامة في الجزء الأخير من كتابه على وجه الخصوص وهو الذي يتحدث فيه عن النواحي الاجتماعية والفطرية في المجتمعات الإنسانية وما ينبغي أن تكون عليه السياسة والإدارة .
وعلى سبيل المثال فإن قدامة يتحدث في ذلك الجزء في الباب الخامس عن " السبب الذي احتاج له الناس إلى المدن والاجتماع فيها " ويتحدث ابن خلدون في المقدمة في الكتاب الأول منها في " أن الاجتماع الإنساني ضروري " .
وكلاهما يستشهد على ضرورة الاجتماع الإنساني بأن الفرد وحده لا يستطيع أن يقوم بكل الصناعات والأعمال فلابد من التعاون والاجتماع ، وكلاهما جاء بنفس الأفكار ولكن بأسلوب مختلف ، لا ريب إن ابن خلدون ـ الذي قرأ تراث العصر العباسي وتعرض في مقدمته لموضوعات الخراج ونقل عن كتب الخراج ومنها كتاب قدامة ـ قد استفاد بتلك الأفكار السياسية والاجتماعية التي جاء بها قدامة في كتابه . ونكتفي بتلك اللمحة عن تأثير قدامة بن جعفر في العلامة ابن خلدون ، ونأخذ منها دليلا على عقلية قدامة السباقة في الفكر ، مع انه لم يحظ باهتمام مؤرخي عصره ، ولم يكتبوا عنه ، بما يكافئ عقليته ومنزلته العلمية .   
 
لمحة عن الجانب الاقتصادي في كتابه
 
من الممكن أن نلخص كتاب الخراج لقدامة في كلمة موجزة ، إنه يعطي جرعة مركزة من المعلومات لكي يستفيد بها من يتصدى لمنصب الكتابة في الدواوين ، ولأن هدف الدواوين هي ضبط حركة الدولة الاقتصادية والإدارية فإن الجانب الاقتصادي في كتاب قدامة لا يقتصر على مجرد العناوين وإنما يتخلل السطور في ثنايا الكتابة ، والأحاطة بها تستلزم بحثا كاملا .. ولكن نكتفي بلمحة مركزة .
في الجزء الخامس أو المنزلة الخامسة يتحدث قدامة عن الدواوين المختلفة للجيش والنفقات وبيت المال والرسائل والتوقيع والخاتم والفض والمظالم والبريد والسكك والطرقات ، كما يتحدث عن النقود والعيار والأوزان ودار الضرب . وهو يهدف بذلك إلى تعليم المبتدئ في فن الكتابة للدواوين ، ويكتب كأنه يكلم تلميذا أمامه يبين له ما يجوز ومالا يصح في الكتابة ، وهو بذلك يستعرض مهارته اللغوية والثقافية ، وخصوصا حين يعلق على مناهج كتاب الدواوين من قبل وما ينبغي أن يكون عليه كاتب الدواوين في عصره .. ومن خلال منهجه في الكتابة تسيل معلوماته الاقتصادية ، فهو مثلا يقول عن ديوان بيت المال انه " محاسبة صاحب بيت المال على ما يرد عليه من الأموال وما يخرج من ذلك في وجوه النفقات " ويشرح كيفية قيام صاحب بيت المال على وظيفته .
وحين يتحدث عن النقود والعيار والأوزان وديوان ضرب النقود يأتي بمقدمة تاريخية عن سك النقود عند الفرس وبداية سك النقود في ولاية الحجاج على العراق إلى أن يصل إلى عصره في القرن الرابع الهجري ، ويهتم بذكر أوزان الدرهم والدينار.
وعندما يتحدث عن ديوان البريد يصف الطريق ما بين بغداد إلى البيت الحرام وما بينهما من محطات وقرى للمسافرين والمسافات بينهما، ويأتي ببعض التفصيلات عن بعض المنازل والطرق والآبار ، ويصف الطريق ما بين مكة والمدينة وما بينهما من منازل ومحطات والمسافات بينهما ، ونفس الحال في الطريق بين مكة والطائف ، ومنها إلى اليمن ، والطريق ما بين البصرة إلى مكة ، ومن مصر إلى مكة عبر البر وعبر البحر ، ومن مكة إلى دمشق واليمامة وصنعاء وعمان .. وهكذا..
ويتحدث بالتفصيل على منازل ومحطات البريد في تلك الأنحاء، ويضيف إليها المنازل البريدية في الشام والعراق وفارس وما وراءها في كرمان و سجستان و أصفهان والكرج " روسيا" وأواسط أسيا .. حتى بخاري وسمرقند والتركستان .. الخ .. ثم من الشام إلى أسيا الصغرى ومن دمشق إلى جنوب الشام ومصر وشمال إفريقيا، واتصالات تلك العراق والمراكز البريدية ببغداد وهي قلب الدولة وعاصمتها .. ثم بعد المنازل والمحطات يتحدث عن تفريعات الطرق والسكك بين كل مدينة وأخرى بين الشرق والغرب والشمال والجنوب على اتساع الدولة العباسية مما يعطي وصفها تفصيلا للمسرح الجغرافي الذي صارت عليه التحركات السياسية والاقتصادية والإدارية في العصر العباسي . وفي الجزء السادس أو المنزلة السادسة يتحدث قدامة عن المعمور من الأرض وما فيها من بحار وجزر وجبال وانهار وعيون ، ثم يتوقف مع الدولة العباسية وإيراداتها المالية .
وفي الجزء السابع أو المنزلة السابعة يتحدث قدامة عن أنواع الموارد المالية للدولة العباسية ، وهو يجمع في حديثه بين الجانب النظري الفقهي والجانب التاريخي فيعطي رؤية الفقيه ويورد التفصيلات التاريخية التي يعتمد عليها في ذكره لتلك المواد في البلاد المفتوحة .
وتلك لفتة سريعة لكتاب الخراج لقدامة بن جعفر ، وهو بالقطع يحتاج إلى دراسات متخصصة متعمقة تعطيه حقه من البحث والاهتمام .      
اجمالي القراءات 10721