الإيمان, والتجربة الشخصية.
أكتب مقالتي هذه ,بعد أن بلغت من العمر مراحل متقدمة ,غنية بالتجارب الشخصية ,وخاصة التجربة الشخصية الإيمانية أو التجارب التي سمعتها وعاشها بعض الأخوة المقربين.هذه التجارب ولدت لدى شعوراً إنسانياً يختلف عن شعوري الإنساني عندما كنت شاباً أو طفلاً.صرت أبكي عندما أسمع عن حالات الظلم التي تقع على البشر وخاصة الأطفال.أبكي عن&Izlig;ي عندما أشاهد دراما إنسانية فيها تجربة حية إيمانية تُشعر الإنسان المحتاج بأن الله قريب منه ويستجيب إلى دعائه ورجائه.
وبالوقت نفسه أصبحت أدرك ما معنى القسوة وعدم الرحمة عند الكثير من المؤمنين أو الذين يدَّعون الإيمان ,ويعبدون الله بشكل زخرفي.أصبحت أدرك ما معنى هذه التعابير القاسية الصادرة عن وجوه بعض العلماء والمشايخ وأهل الإسلام السياسي ,وسدنة التنظيمات الجهادية التكفيرية,وكأنهم جاءوا ليقولوا لنا أعبسوا إن الإيمان عبوس دائم وقتل وتفجير الخ.ذلك أن إيمانهم تنقصه التجارب الشخصية الإيمانية
مع العلم أن هؤلاء وغيرهم من حفظة النصوص ,قد يحفظون كتاب الله عن ظهر قلب .يعيدون إنتاج النص في كل مناسبة ,لكنهم لا يعيشون النص القرآني,لا يتمثلون النص من خلال تجربة شخصية يعيشها بعضهم فيصبح إيمانه بهذه الحالة منيعاً ,ويزاد تواضعاً ورحمة وحباً للآخرين.
أستطيع أن أقدم ألاف البراهين على وجود الله عز وجل ,ويستطيع غيري أن يقدم ألاف البراهين على عدم وجود الله ,ما ا لذي يجعلني أنا متمسكاً بإيماني ولا أتنازل عنه ,أليست تجاربي الشخصية الإيمانية في الدرجة الأولى الى جانب مطالعاتي الفكرية ,وتدبري الشخصي في نصوص كتاب الله الذي يفتح مواقع إيمانية راسخة في كل كياني وتصرفاتي مصقولة بالتجارب..
هناك من أقام إيمانه على المنطق والعقل ,وكنت في يوم من الأيام ,أناقش هؤلاء حول عقم منطقهم الإيماني وكانوا من حملة الشهادات العالية,وبالفعل كنت أشعر أن قوة منطقي كانت تثير في إيمانهم المنطقي والعقلي بعض الشكوك ولو إلى حين.لكني لم استطع يوماً أن أزحزح من إيمان عمتي رحمها الله الأمية التي كانت تعبد الله ليل نهار.وكان إيمانها المطلق مبنياً على تجارب مأساوية مرت بها ودعت الله مستجيرة فأجارها وساعدها فوراً ,ولو أني جئت إليها بكل كتب المنطق والفلسفة التي تنكر وجود الله لما زحزحت من إيمانها قيد شعرة.
لقد كانت عمتي تقول وتردد أنه قريب أنه قريب ,أنه رحيم أنه رحيم بعباده,وأن الوصول إليه أسهل مما نتصور. كيف هذا ؟,كيف صار هذا الإيمان بهذا الشكل؟.أؤكد أنه كان إيمان تقليد في البداية,ومر بالتجربة الشخصية ,لينتهي الى الإيمان الحقيقي القوي الراسخ.هذه العمة بعد ذلك وكلت أمرها الى خالقها ,وصارت تستخيره في كل صغيرة وكبيرة .وكانت تشعر بقرب الخالق منها ,فكانت تزداد بدورها رحمة وشفقة الى كل من حولها ,وأصبح النص البسيط والسهل القصير الذي تحفظه من كتاب الله عن ظهر قلب تعيشه وتتمثله وتتجوهر فيه بشكل عملي حتى صار أهل الحي يطلقون عليها أسم أم الفقراء والمساكين.
مسكين أيها الإنسان ,الذي تمر عليه مثل هذه التجارب الشخصية الإيمانية ,ولا يستطيع أن يصنفها في سياق العناية الإلهية التي ترافقنا في مسيرة حياتنا إلى يوم نغادر هذا العالم. وكأنه خسر دنياه وخسر أخرته.
أقرأ الكثير من المقالات ,وخاصة الدينية منها ,ومن على هذا الموقع , مقالات تتدبر في كتاب الله شارحة مقاصد الآيات ,يكتبها أخوة أعزاء ,كما وأقرأ على المواقع الأخرى مقالات جيدة ورائعة في تحليلها وتدبرها ,لكني أشعر أن كاتبها لا يغني مقالته بتجاربه الإيمانية الشخصية التي تدعم ما يكتب .
إن عدم إيراد التجارب الإيمانية ,تحيل النصوص الى التحجر والجمود ,تصبح نصوصاً بدون ثمر . ما فائدة حفظ النص ,وإعادة استهلاكه ,دون أن يعطيناً خبرة إيمانية تنطق بما جاء فيه النص على أرض الواقع. صحيح أن الرسالات والنبوات انتهت بنبوة محمد(ص) .لكن ماتركه لنا نبينا من نصوص قرآنية ,جاءت لنتفاعل معها ,لتكسبنا خبرة لتجعلنا نشعر بأن الله فعلاً قريب منا.وأننا مهما علونا نبقى بحاجة إليه وإلى عنايته.
أخي داود .مسلم شاب بسنوي ,لو نظرت إلى وجه لشدك هذا النور الإيماني الذي يملأ قلبه لينعكس بعد ذلك على وجهه البشوش دائماً.
حدثني بعد أن أدينا صلاة المغرب ,أنه أثناء الحرب الصربية البوسنوية ,حيث هاجر من البوسنة ليعيش في سلوفاكيا ,كان من المطلوبين على قائمة الأشخاص الذين يجب قتلهم من قبل السلطات الصربية.وبعد مرور سنتين على الحرب الظالمة ,قرر السفر سراً لزيارة أهله في البوسنة,وكان عليه تجاوز الحدود الصربية بجواز سفر جديد حصل عليه من سلوفاكيا.شاءت الأقدار أن تم التعرف عليه من قبل جاسوس بسنوي كان يعمل لحساب الصرب .قبض عليه ونقل إلى دائرة المخابرات العامة .بعد سجنه لمدة ساعتين ,جيء به إلى قسم التحقيق وكان يرأسه أكبر شخصية فاشية مخابراتية في صربيا, وجيء معه بالوثائق التي كانت بحوزته جواز السفر بطاقة إقامة وبعض الأوراق الغير هامة الى جانب المصحف الشريف. بدأ المحقق بإطلاق الشتائم بألفاظ بذيئة ,لم توفر أمه وأهله ودينه ,وفوراً التفت المحقق الى الوثائق وتناول المصحف الشريف ,وطلب من داود تمزيقه صفحة صفحة, وأكل الورق الممزق ,وقال له بعد ذلك ستقتل رمياً بالرصاص أيها الخائن.
تابع داود كلامه ,وترقرقت في عينيه الدموع .قائلاً ...توجهت آنذاك إلى الخالق وقلت بصوت قوي وخافت ....يا رب يا رب أنت المعين وأنت المنقذ.
في هذه اللحظة بالذات رن جرس الهاتف ,ورفع المحقق السماعة ,وكان منفعلاً أثناء المكالمة لدرجة لا تصدق .وسمعت صوتاً من داخلي يأمرني بأن أخرج من غرفة التحقيق.وبدون تردد ....وصدقني يا أخي ..خرجت بكل هدوء وتوجهت إلى البوابة الخارجية ,حيث الحراسة المشددة ,وبدون أن التفت إلى أحد ,وكأن الجميع أصابهم العمى عني ,وإذ بي خارج المبنى ,لفت نظري أن تاكسي يقف على الجهة المقابلة من الشارع , توجهت من فوري إليه فتحت باب التاكسي ,وسألت السائق أن يتوجه إلى منطقة أمنة كنت أعرفها قبل الحرب .وفعلاً وصلت بأمان وكان بيدي المصحف الشريف الذي كان علي أن أمزقه وأكله.....بعد ذلك تكفل الأخوة بتهريبي إلى سلوفاكيا من جديد....وها أنا الآن أمامك وقد صلينا معاً ....تصور يا أخي إلى هذا اليوم وأنا أفكر بهذه العناية الإلهية ,التي أعمت أبصار الحقدة .
أليست تمثل هذه التجربة الشخصية قمة الإيمان .ليس لداود فحسب بل لكل من سمع وسوف يسمع بهذه التجربة .
صحيح أن كتاب الله تعالى هو للهداية, ولكن من ثمرات التعامل مع كتاب الله تعالى هي العناية الإلهية التي تغني تجاربنا الإيمانية.