القسم الثانى : قراءة فى مقدمة ابن خلدون
ßÊÇÈ كتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية )
الفصل الرابع : كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

في الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

ق2 ف4

ابن خلدون مختلف عن  الفقهاء والرحالة المغاربة القادمين لمصر

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

 ابن خلدون مختلف عن  الفقهاء والرحالة المغاربة القادمين لمصر

أولا :

1 ــ " مصر " – أقدم وطن وأقدم دولة في الوجود – لها مكانة خاصة  لدى الرحالة المغاربة في العصور الوسطى ، ويتضح هذا من خلال ما كتبه إبن جبير وإبن بطوطه وإبن ظهيره والعلوي. وكانت مصر هي المحطة الأثيرة لديهم وهم في طريقهم للحج ، وكان يطول توقفهم فيها ، ويتشابه تعبيرهم عنها ودهشتهم من عمائرها وسكانها ، بل ربما تتشابه خطواتهم إلى الأماكن " السياحية " التي يزورونها في مصر ، وفي مقدمتها الأضرحة والمشاهد المقدسة من المشهد الحسيني إلى الأضرحة المقدسة في القرافتين ، مما يشجع الباحث المهتم بالرصد التاريخي الإجتماعي على تتبع المتغيرات الإجتماعية ونواحي التدين في دراسته لتلك الرحلات. وهذا هو ما ننتظره من شباب الباحثين فى الاستخلاص التاريخى للحركة الاجتماعية من دراسة كتب الرحالة . وقد عرضنا لهذا فى كتابنا ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى : دراسة عملية) وكان مقررا فى جامعة الأزهر عام 1984  .

2 ــ  وقد قام إبن جبير بثلاث رحلات ، الأولى والشهيرة هي التي صنف فيها كتابه المشهور " تذكرة بالأخبار عن إتفاقات الأسفار " المعروف برحلة إبن جبير والذي كتبه حوالي 582هـ . وقد إستمرت هذه الرحلة من 578 هـ إلى 581هـ . وقام برحلة أخرى بعد فتح صلاح الدين لبيت المقدس واستمرت عامين ( 585- 587) ثم كانت رحلته الثالثة والأخيرة ، وفيها أدى فريضة الحج وعاش في مصر إلى أن مات فيها 614هـ .

 3 ـ    وكانت رحلة إبن جبير شديدة التأثير في إبن بطوطة وفي صياغته لرحلته المسماه " تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار " وقد بدأ رحلته من طنجة يوم 2 رجب 725 وانتهت في 10 ذي الحجة 754هـ . أي حوالي ثلاثين عاما . وتردد أثناء ذلك على مصر ، ووصف فيها الإسكندرية والقاهرة والصعيد وطريق الحج ، وعادات المصريين ومن قابلهم من العلماء ، وكان ذلك في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون .

4 ــ ورحلة إبن بطوطة مشهورة ، وشهرتها هذه غطت على رحلة أخرى لاتزال مجهولة وهي رحلة العلوي ( خالد بن عيسى بن أحمد بن إبراهيم ) وقد بدأ رحلته في 18 صفر سنة 736 أي في تاريخ مقارب لرحلة إبن بطوطة ، وليس من الغريب ذلك الإتفاق بين الرحلتين في وصف قبور الأولياء . ولاتزال رحلة العلوي مخطوطة بدار الكتب ( رقم 400 جغرافيا ) وإن كانت صعبة القراءة لأنها مكتوبة بخط مغربي غريب .

5 ــ  ويضاف إلى ذلك رحلة إبن ظهيرة " الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة " والذي حققه مصطفي السقا ، ونشرته دار الكتب 1969 ، وقد احتوى على معلومات هامة عن مصر المملوكية من واقع الدهشة والمعايشة ، وقد قصره على مصر وعمرانها .

 6 ــ    وقد استقبلت مصر – غير الرحالة المغاربة – ألوف الفقهاء المغاربة في عصرها المملوكي ، وأغلبهم استقر فيها ووجد الوظائف الديوانية والدينية والتعليمية.  وبعضهم أنطقته مصر فكتب فيها نوعا جديدا من الفقه نؤثر أن نطلق عليه مصطلح " الفقه الوعظي " وذلك في مواجهة الفقه الآخر ، وهو " الفقه النظرى " . وهذا ما فعله الفقيه إبن الحاج العبدري المغربي المتوفي 737هـ ، في كتابه القيم الرائع " المدخل " .

  7 ــ    والسائد في الكتابات الفقهية هو المنهج السرياني الصوري ، أي وضع القواعد النظرية وما تنطبق عليه من إحتمالات أو " صور فقهية " مثل إذا قال كذا أو فعل كذا فعليه كذا ، ويجنح هذا النوع من الفقه إلى تصور إحتمالات فقهية مستحيلة لاتزال تمتلئ بها كتب الفقه المقرر على الأزهر حتى الآن ، ونذكر منها ما كان مقررا علينا في الثانوي الأزهري في كتاب "الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع " صورة فقهية كانت تؤرق عقولنا الغضة ، وهي " إذا زنا بأمه في جوف الكعبة في نهار رمضان فماذا عليه من الإثم والعقوبة ". المهم أن الفقه النظري المغرق في التفصيلات الصورية والخيالية كان هو السائد في  عصور التخلف العلمي ، أي في العصرين المملوكي والعثماني ، ومنهما لاتزال مؤلفات الفقه مقررة على طلبة الأزهر حتى الآن . وفيما يتصل بموضوعنا فإن الفقيه المغربي إبن الحاج هو الذي إستنطقته مصر فكتب نوعية جديدة ورائعة من الفقه الذي نسميه الفقه الوعظي ، وذلك في كتابه " المدخل " تأثرا منه بمصر ومجتمعها ونبض عمرانها .  ويقول إبن حجر في صاحبنا إبن الحاج المغربي أنه قدم إلى مصر " وجمع كتابا إسمه " المدخل " كثير الفوائد كشف فيه عن معايب وبدع يفعلها الناس ويتساهلون فيها ، وأكثرها مما ينكر وبعضها مما يحتمل . "[1]

2 ــ      إن هناك من العوامل ما يجعلنا نحبذ هذا التساؤل .

2 / 1 :  فإبن خلدون يختلف عن أولئك الرحالة والفقهاء المغاربة ، فقبل أن يأتي لمصر كان قد كتب مقدمته العبقرية في علم العمران ، ومصر هي أم العمران ، ولا يصح إلا أن تكون أساس كتابه عن العمران ، ولكنها غائبة ، أو على الأقل وجودها النادر ينبه القارئ إلى غيابها أكثر.

2 / 2 : ثم إن هذه العقلية الخلدونية المتميزة كيف لم تنفعل بمصر ولو حتى بالقدر الذي انفعلت به عقليات أخرى مغربية عادية .

2 / 3 : وتلك العقليات الأخرى المغربية العادية  لم تأخذ فرصة إبن خلدون في صلته بالحكام وصلته بالشارع والناس حيث عمل قاضيا ، كما أتيح له أيضا وقت طويل للتفرغ حوالي خمسة عشر عاما متصلة بين  عزله من القضاء لأول مرة وعودته إليه مرة أخرى ، بالإضافة إلى سنوات أخرى متفرقة ، وقد قال في كتابه " العبر " أنه قام بتنقيح كتابه في تلك الفترة في مصر فلماذا لم يشمل التنقيح الأخير إعطاء مصر حقها ، خصوصا وأنه أكمل ذلك التنقيح سنة 797 أي قبل 11عاما من وفاته ؟.

 إن الأمر يستحق الكثير من التفصيلات .

 

 

   ظواهر غريبة فى علاقة ابن خلدون بمصر

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

   ظواهر غريبة فى علاقة ابن خلدون بمصر

 

 في البداية نسترجع بعض الخلفيات الضرورية : 

   فقد ولد إبن خلدون في تونس  سنة 732 هـ من أسرة حضرموتية ، هاجرت إلى الأندلس بعد الفتوحات ، وأسهمت في سياستها ، واستقرت في أشبيلية ، ثم اضطر جده إلى الهجرة إلى تونس بعد سقوط إشبيلية وشارك في سياسة المنطقة ، وورث إبن خلدون شهرة هذه الأسرة وطموحها السياسي ، وقضى الفترة الأولى من حياته (21) عاما في التعليم والتنشئة على يد أبيه ورفاق أبيه من العلماء ، وهذه هي الفترة الأولي من حياته ( 732- 753) . وبدأت الفترة الثانية بعمله كاتبا للتوقيع لدى سلطان تونس سنة( 753 ) ، ثم خدمته لأبي عنان سلطان المغرب ، وتقلبه في فترة قلقه من حياته السياسية بين المغرب وتلمسان وبسكرة والأندلس وتونس ، وفيها تعرض للمطاردة والسجن ، وشارك في إقامة دول وفي إسقاط أخرى ، واسترق من هذه الفترة بضع سنوات من العزلة كتب فيها  المقدمة ومعظم تاريخه "العبر.." وهذه هي فترة الفشل السياسي في حياته، والتي انتهت بهربه إلى مصر (753- 784) واستمرت فترة القلق هذه 31 عاما .

2 ــ  ثم كانت فترة الإستقرار والهدوء في حياته في مصر من سنة 784 إلى سنة 808 أي حوالى 24 عاما إلى أن مات بالقاهرة يوم الأربعاء 26 رمضان 808هـ . وهنا تتجلى الغرائب فى علاقته بمصر :

أولى الغرائب :

1 ــ وفي مصر عمل بالتدريس في الأزهر وبعض المدارس والخوانق . وتخلل ذلك عمله بالقضاء  المرة الأولى كانت فيما بين ( 19 جمادي الآخرة 786 إلى جمادي الأولى 787) والثانية كانت فيما بين ( الخميس 15 رمضان 801 إلى الخميس 12 محرم 803) والثالثة ( 3 رمضان 803 إلى 24 رجب 804 ) والرابعة ( 26 ذو الحجة 804 إلى 7 ربيع الأول 806) والخامسة ( شعبان 807 إلى 16 ذي القعدة 807 ) والسادسة ( في شعبان أو رمضان 808 إلى أن مات في 26 رمضان 808 ).  والمحصلة النهائية أن عمله بالقضاء في تلك الفترات المتقطعة لا يكمل خمس سنوات فقط من حياته بالقاهرة ومصر التي استمرت 24 عاما .

2 ــ  مع ملاحظة أنه  تخلل هذه الفترة حوالى خمسة عشر عاما بين عزله عن القضاء سنة 787 إلى أن تولاه في المرة الثانية سنة 801 ، وملاحظة أخرى أن زملاءه من القضاة أنتجوا أروع أعمالهم التاريخية والفقهية ، ومنهم إبن حجر العسقلاني والعيني في فترة توليهم للقضاء ، أي أن  العمل بالقضاء لم يكن أبدا عائقا دون التأليف .

3 ــ  كما أنه في هذه الفترة لم يترك مصر إلا لأداء فريضة الحج ، واستغرقت الرحلة أقل من عام فيما بين منتصف رمضان 789 إلى وصوله للقاهرة عائدا من الحج في جمادي الأولى 790 . وكان ذلك في فترة عزله الطويلة عن القضاء التي استمرت حوالى خمسة عشر عاما (787 : 801) وفيها تمّ تنقيح المقدمة والتاريخ سنة 797 ، أي كان أمامه عشر سنوات في إتمام ذلك التنقيح لكي يعدل من نظرياته في المقدمة ، ولكي يكمل التأريخ لمصر في عهده  كما فعل مع المغرب ، أو حتى يؤرخ لسيرة حياته بالتفصيل في مصر كما فعل في ختام تأريخه للمغرب ، ولكنه لم يفعل ، سواء في فترة فراغه الطويل  أو في فترة انشغاله الجزئي بالقضاء .

4 ــ  والخلاصة أنه أنهى حياته العلمية بمجيئه إلى مصر ، والتنقيح الذي أضافه للمقدمة والتاريخ كان شكليا بعد كتابتهما في قلعة إبن سلامة لأولاد عريف بالجزائر فيما بين ( 776: 780)، وأنه حينما جاء لمصر في عصر نضجه الفكري واستقراره النفسي والبيئة التي تساعد على الإبداع ، فلم يكن منه إلا أن كف عن الإبداع . وهذه إحدى الغرائب .ولكن تضاف غرائب أخرى .

ثانية الغرائب :

ففي المقدمة تردد بين سطورها أكثر من مرة ما يبلغه – حين كان يكتبها قبل مجيئه  لمصر – عما في مصر من ثراء وعمران وتقدم بحيث يتقاطر إليها المغاربة حتى من الشحاذين . مما يؤكد تشوقه لزيارة مصر . وفي نهاية تاريخه ( العبر ) ذكر أنه كان يسائل القادمين من مصر قبل أن يأتي لها عن أحوال مصر  ، وخصوصا عندما أقام في المغرب  ، وقد ذكر إجابات بعضهم ، قال له أبو عبد الله المقري: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام ، وقال له إبن ادريس  كبير العلماء في بجاية ( تونس ): ( كأنما انطلق أهلها من السحاب ، يشير إلى كثرة سكانها وأمنهم من العواقب )، وقال له  عنها أبو القاسم البرجي :( إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها . . إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها .! ). أي أنه كان يتساءل عن مصر متشوقا إلى أن يرى مصر ، ويتمنى بطبيعة الحال أن يستقر فيها ويستريح من قلاقل وطنه وحياته السياسية ، حيث كان يعبر في التأريخ لسيرته الذاتية عن أمنيته في أن ينقطع معتزلا للتأليف والتدريس . .

فلماذا نسى ذلك كله حين جاء لمصر ؟ .

ثالثة الغرائب

  أنه ذكر في سيرته الذاتية وحياته السياسية القلقة – في نهاية تاريخه – كل  أسماء السلاطين والقواد والعلماء وزعماء القبائل الذين تعامل معهم ، وحسبما قرر – وهو الشاهد الوحيد – فأنهم كانوا لا يلبثون أن يضيقوا بمقامه معهم ، والسمة الواضحة أنه كان لا يلبث  طويلا مع أحد الحكام ، إذ سرعان ما ينتهي أمره بالإخفاق أو الطرد أو السجن ، وربما يهرب إلى حاكم فيطارده حاكم آخر . ولم تقتصر هذه المعاناة عليه ، وإنما أصابت أسرته  في محاولتها اللحاق به . وكان ذلك من عناصر الضغط عليه في حله وترحاله .

ومع هذا كان يتبادل رسائل الحب أو النفاق مع أولئك الفرقاء ، ويحرص على تسجيل تلك الرسائل والأشعار والقصائد . وكل ذلك شئ عادي .   

 أما الغريب فهو أنه بعد هذه الثرثرة نراه يقتضب التاريخ لحياته حين قدم لمصر فلم تشغل في كتابه سوى حوالى عشر صفحات ( من ص 451: ص462) في مقابل أكثر من سبعين صفحة عن حياته في المغرب ( 379: 451) .

 رابعة الغرائب

بل الأكثر من ذلك ، أن حديثه عن حياته في مصر إنصب أساسا ليس على مصر ، بل على لقائه في موسم الحج مع رفاقه المغاربة ومراسلاته معهم ، بحيث إستغرق ذلك سبع صفحات ( من ص 455: إلى ص 462) أي أنه لم يتحدث عن مصر في تاريخه وحياته سوى أربع صفحات تقريبا .. وهذه ملاحظة غريبة .

خامسة الغرائب : غريبة الغرائب

ولكن الأغرب منها أنه مع حرصه على تسجيل أسماء رفاقه  وفرقائه في المغرب ، برغم ما عاناه منهم . فإنه تجاهل ــ وهو مؤرخ وفيلسوف فى التأريخ ــ  أن يذكر إسم السلطان المملوكي برقوق وسائر من ساعده ووقف إلى جانبه في مصر من الأمراء وأهمهم الأمير الطنبغا الجوياني ، ومن العلماء ،وأهمهم المقريزي الذي ملأ الدنيا إشادة به ومدحا له .

  1 :  لم يرد على الإطلاق في تاريخه اسم برقوق مع إشاراته الموجزة لأفضال برقوق عليه ، وفيها أضفي ابن خلدون على نفسه ما يشاء من عزة ، متجاهلا اصحاب الفضل عليه وأولهم السلطان برقوق ، يقول بعد قدومه للقاهرة " ثم كان الإتصال بالسلطان فأبرّ مقامي وأنس الغربة ووفر الجراية ( أي المرتب ) من صدقاته شأنه مع أهل العمل ، وانتظرت لحاق أهلى وولدي من تونس ، وقد صدهم السلطان هنالك عن السفر إغتباطا بعودتي ، فطلبت من السلطان صاحب مصر الشفاعة إليه لتخلية سبيلهم ، فخاطبه في ذلك ".

2 ــ والذي لم يذكره إبن خلدون أن السلطان برقوق أرسل مبعوثا من لدنه إلى سلطان تونس ، وجعل ذلك السلطان أبا العباسي التونسي يرسل أولاد إبن خلدون في سفينة مع مبعوث تونسي وغرقت السفينة . 9

3  : ونعود إلى إبن خلدون في تأريخه لنقتطف منه بعض الشواهد على تجاهله للسلطان برقوق والشخصيات المصرية ، يقول دون ذكر اسم السلطان برقوق ". . ثم هلك بعض المدرسين بمدرسة القمحة ( المدرسة القمحية ) بمصر من وقف صلاح الدين الأيوبي فولاني تدريسها مكانه " . ويقول دون ذكر اسم القاضى : " وبينما أنا في ذلك إذ سخط السلطان (على) قاضي المالكية في دولته لبعض النزعات فعزله .. فلما عزل هذا القاضي المالكي سنة 786 إختصني  السلطان بهذه الولاية تأهيلا لمكاني وتنويها بذكري ، وشافهته بالتفادي من ذلك فأبى إلا الإمضاء " أي حاول رفض الوظيفة ولكن صمم برقوق على تعيينه قاضيا للقضاة المالكية .

  والذي لم يذكره إبن خلدون أن برقوق خرج عن عاداته إكراما لإبن خلدون ، إذ كان تعيين القضاة وباقي الوظائف يتم بالشراء والرشوة، ولكن برقوق " أنعم " على إبن خلدون بهذا المنصب بدون مقابل ، مع حرصه على  المال وشهرته بأخذ " البراطيل " على حد قول المقريزي.

4:  والذي لم يذكره أيضا إبن خلدون أنه عندما وصل القاهرة حرص على الإتصال بالأمير الطنبغا الجوياني " أمير مجلس " ، وكان رجلا شهما أمينا مستقيما – خلال ما يبدو من تاريخه – وهو الذي تولى مهمة توصيل إبن خلدون بالسلطان برقوق ، وكان له الفضل فى تعيين ابن خلدون مدرسا في الجامع الأزهر وفي المدرسة القمحية ، ثم كان ذلك الأمير ( الطنبغا الجوياني ) هو الساعي لدى السلطان برقوق في تولية إبن خلدون للقضاء المالكي [3]، وربما كان لهذا الأمير  دور في عزل القاضي المالكي عبدالرحمن بن خير ليتولى إبن خلدون مكانه . هذا الأمير المملوكى الشهم ( الطنبغا الجوياني )  صاحب الفضل على ابن خلدون لم يذكره ابن خلدون فى تاريخه ، الذى كتبه وهو شاهد على عصره يروى قصة حياته .

 5 ـ  ونعود إلى إبن خلدون وهو يتحدث عن إكرام السلطان ( المجهول الذي لا إسم له ) ، وكيف أنه عندما عزم على الحج سنة 789 ، أعانه السلطان والأمراء ، وبعد عودته من الحج سنة 790 قابل السلطان بعد عودته وكيف تمتع بعناية السلطان . ثم أشار إلى نكبة برقوق وخلعه عن السلطنة في فتنة يلبغا ومنطاش ، ولم يذكر بالطبع كيف خان ( إبن خلدون ) السلطان برقوق أثناء محنته وأفتى (إبن خلدون ) بتكفير برقوق ليرضى منطاش ، ومع ذلك فإن برقوق حين عاد للسلطنة لم يعاقب إبن خلدون ، بل عندما مات القاضي إبن التنسي المالكي ، رفض رشوة من الدماميني الراغب في الوظيفة واستدعى إبن خلدون من قريته بالفيوم ليتولى القضاء سنة 801 . !!.

6 ــ ماذا قال ابن خلدون وهو يختم كتابه قبل هذا التاريخ ، أي سنة 797 ؟ قال " وبعد قضاء الفريضة رجعت إلى القاهرة محفوفا بستر الله ولطفه ، ولقيت السلطان  فتلقاني أيده الله بمعهود عبرته وعنايته ، ولحقت السلطان النكبة التي محّصه الله فيها . . ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح عباده . . أعاد لي ما كان أجراه من نعمته ولزمت كسر البيت ممتعا بالعافية لابسا برد العزلة عاكفا على قراءة العلم وتدريسه لهذا العهد فاتح سبع وتسعين . . وهذا آخر ما انتهيت إليه وقد نجز الغرض مما أردت إيراده في هذا الكتاب والله الموفق برحمته  للصواب . . الخ ".

 تجاهل ابن خلدون نذالته مع السلطان برقوق فى محنة السلطان برقوق ، ولم يتوقف بالتقدير لبرقوق حين عفا عنه وولاه القضاء . بل إستمر على تجاهل إسم برقوق ، وهو الذى كان يحرص فى تأريخه لحياته فى شمال افريقيا والمغرب والاندلس على تسجيل أسماء شتى المتغلبين من الحكام ، مع كثرتهم وصغارهم وتفاهتهم وتصارعهم فى زقاق التاريخ فى العصر الوسيط . 

 والمهم أن إبن خلدون إحتفل بالتأريخ لخصومه من موطنه بينما تجاهل أعلام الدنيا في مصر ، وهم أشهر الساسة والعلماء في ذلك العصر ، ولم يذكر أسماءهم ، مع عظيم فضلهم عليه . . وتلك أيضا إحدى الغرائب .

التحس بعد الاستغراب

1 ــ وبعد هذه الغرائب نصل إلى مرحلة التحسر؛ التحسر العلمي ، وذلك حين نقرأ صفحتين فقط من صفحاته القليلة عن حياته في مصر المملوكية ، وفي الصفحتين أشار إلى أن معاناته في توليته الأولى للقضاء (786 : 787) وكشف عما كان مستورا في الوسط القضائي ، من فساد الهيئة المعاونة للقضاة ، أي الموقعون والشهود وفساد هيئة الإفتاء من العلماء ، وما يسود القضاء من وساطة في  الأحكام ، وإصدار الفتاوي مدفوعة الأجر في صدور الأحكام القضائية وفي تعديلها ، وتدخل الأمراء وأصحاب النفوذ في مسيرة العدالة كي تتحول إلى مسيرة للظلم.

2 ــ وهذا الجانب مسكوت عنه من معظم المؤرخين المعاصرين لهذه الفترة ، وهم الذين يسجلون أحداثها باليوم والشهر ، ويؤرخون لأعيانها من السلاطين والأمراء والعلماء ، والمؤسف أن أولئك المؤرخين كانوا من السلك القضائي كإبن حجر والعيني ، إلا أنهم سكتوا عما أشار إليه إبن خلدون في  صفحتيه ، ولولا هاتين الصفحتين ما علمنا ذلك المسكوت عنه ، وهنا موطن الحسرة .

3 ــ  فماذا لو ركز إبن خلدون بقلمه وعبقريته على أحوال مصر ؟ إن لديه مع عقليته النافذة الناقدة فراغا طويلا وتجربة حافلة بين مصر وموطنه الأصلي  وحياته قبل وأثناء وجوده بمصر ، ويستطيع أن يفيد من هذه الحياة الزاخرة بالخبرات في التأريخ والتقعيد وعقد المقارنات ، بالإضافة إلى كشف المستور والأمور العادية من تفصيلات الحياة الإجتماعية التي لا يهتم بإبرازها المؤرخ من أبناء البلد ، أو يتحرج من الخوض فيها ، إذن يحق لنا أن نتحسر . .

ثم يحق لنا بعدها أن نتساءل لماذا ؟ .

 لماذا كان ابن خلدون فى مصر ولم تكن مصر فى ابن خلدون ؟!.

 

 

ابن خلدون بين التعصب لموطنه وإيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

 

  لماذا لم تكن مصر في إبن خلدون ؟ هل السبب تعصبه لوطنه أم إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية ؟

    هنا نفكر معا في بعض الإجابات .

التعصب لموطنه

 هل لأنه كان متعصبا لوطنه ( فيما بين تونس والجزائر والمغرب والأندلس )؟

1   :  ويرجح هذا الإحتمال أنه جاء لمصر بعد أن بلغ الثانية والخمسين من عمره ، وفي هذه المرحلة العمرية يكون الإنتماء قد تحدد واكتمل ، خصوصا مع حياة حافلة بالتقلبات السياسية والمعارف الفكرية . فلم تكن مصر سوى منتجع للراحة يمارس فيها فترة السكون والمعاش والتمتع الهادئ بالحياة بعيدا عن المشاكل . .

  2 : ويتفق مع هذا الإحتمال ما اشتهر به إبن خلدون من المحافظة على زيه المغربى  الغريب في مصر ، ورفضه أن يرتدي زي القضاة ، مما أثار  المؤرخ  الساخط دائما السخاوي فقال عنه " لم يغير زيه المغربي ولم يلبس بزي قضاة هذا البلد لمحبته المخالفة في كل شئ " [4]. أي أنه خالف كل شئ إعتاد عليه المصريون ، كما خالف بذلك القادمين لمصر من المشرق والمغرب وهم كانوا أسرع إلى تمصير أنفسهم . . أي أن كل منهم كان يتمصر ولا يبقى من تاريخه القديم إلا لقب المغربي أو الحلبي أو الفاسي أو المقريزي أو العسقلاني أو العيني أو الشامي . . الحجازي . . الخ . . بينما ظل إبن خلدون في مصر على زيه وعاداته دون أن يتمصر . . أي كان متعصبا لموطنه وماضيه وتاريخه القديم . خصوصا وإن هذا التعصب يدعمه إحساسه بعبقريته وتفوقه على العلماء المصريين في عصره.

 وهناك دلائل أخرى في تاريخه ومقدمته يظهر فيها هذا التعصب لموطنه ، إذ بني المقدمة على أحوال موطنه وعصبياته ، وكان يحلو له الإستشهاد – بما يشبه الفخر – بعلماء وطنه مع تأكيده المتكرر على ما أصاب وطنه من تأخر وتخلف.

 3 : ثم يكفي عنوان كتابه " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " فالواضح أن العنوان ينقسم إلى تاريخ العرب والعجم وتاريخ البربر . ومن المنتظر ــ منهجيا ـ أن يحتل البربر نصف التاريخ حسب العنوان ، وإلا فليس هناك ما يدعو إلى جعلهم جزءا في العنوان ، إلا أن إبن خلدون حاول إختصار تاريخ العرب والعجم في كتابه الذي يشمل سبعة أجزاء ، ولكن ملأ تاريخ العرب والعجم خمسة أجزاء وشطرا من الجزء السادس . ولم يبق لتاريخ البربر من قبل الفتح الإسلامي وبعده حتى سيرة إبن خلدون إلا الشطر الباقي من الجزء السادس وبقية الجزء السابع والأخير . وإذا فالداعي الوحيد لذكرهم في العنوان هو مجرد التعصب للمنطقة مع قلة إسهامها في التاريخ العام فيما حولها .

  4 ــ وليس ذلك عيبا في إبن خلدون ، لأنه لا يُعاب المرء بحب موطنه – ولكنها محاولة للإجابة على السؤال . . نقول ، ربما كان تعصبه لموطنه هو السبب في تجاهله لمصر في مقدمته وتاريخه .

إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية

  وربما يكون ذلك بسبب إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل الصوفية وما فيها من تفسير أو تبرير لحياته قبل وبعد مجيئه لمصر   .

 1 :    فالواضح في مقدمته إيمانه بعقيدة وحدة الفاعل التي تجعل الله تعالى هو الفاعل في كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال شريرة أو خيرة ، مع تعارض ذلك مع القرآن والإسلام ، والشواهد في ذلك كثيرة ، ولكن نكتفي منها مما قاله عن السلطان برقوق ونكبته وعزله ثم عودته : " ولحقت السلطان النكبة التي محصه الله فيها وأقاله ، وجعل إلى الخير فيها عاقبته ومآله ، ثم أعاده إلى كرسيه للنظر في مصالح عباده ، وطوقه القلادة التي ألبسه كما كانت " [5] ، والتمعن في ذلك  الكلام يؤكد أن إيمان إبن خلدون بوحدة الفاعل – تلك العقيدة الصوفية – نتج عنه إيمانه بالثيوقراطية ، أي أن الله تعالى هو الذي يقيم الحاكم ، ومن هنا يكون من حق الحاكم النظر مستبدا في مصالح العباد بالقلادة التي ألبسه الله تعالى له . والتأكيد على الثيوقراطية أو الخلافة الشرعية أو الحق الملكي المقدس كان ثقافة العصور الوسطى ، وكان إحدى  أساسات مقدمة إبن خلدون مع اللازمة الأخرى وهي العصبية التي تقيم ذلك الملك المقدس الذي يملك الأرض ومن عليها ولا يسأله أحد  عما يفعل .

 ومن خلال هذه العقيدة – وحدة الفاعل – التي آمن بها إبن خلدون ، يمكن تفسير حياته وإعطاء الإجابة على سؤالنا .

  2 :    لقد كتب إبن خلدون المقدمة والتاريخ في عزلته بقلعة إبن سلامة في الجزائر في حماية أعراب أولاد عريف ، في مدة أربع سنوات (776: 780) ووضع في المقدمة خبرة فشله في حياته السياسية المتقلبة قبل ذلك فيما بين 753 إلى 776 أي ثلاثة وعشرون عاما ، وصل فيها إلى أعلى المناصب من كاتب السر أى السكرتير الخاص بالسلطان والحاجب أي الذي يدير دولة السلطان ، وتآمر على كثيرين وتآمر عليه كثيرون ، وفي النهاية لم يصل إلى شئ .  فالمحصلة النهائية أنه بعد الإرتفاع والإنخفاض وإقامة دول وإسقاط  دول أخرى ، فإنه  لم ينجح على الإطلاق في إقامة ملك لنفسه ، بل إن ما يبدو بين سطوره أن طموحه الشديد كان السبب في خوف السلطان منه ، وكانت العادة أن يستعينوا به لاستمالة أعراب الزواودة من بني رياح بسبب صلاته القوية لهم ، فإذا انتهت مهمته أصبح وجوده ثقيلا عليهم .

 أي أنه ربما أدرك أنهم كانوا يستغلونه فقط في مشاحناتهم لصالحهم السياسي ، وهم مجرد ملوك ليس لهم من مميزات إلا عصبيات قائمة على النسب والإستقرار في المنطقة من قرون .وبهذا يمتازون عليه ، وهو حضرمي الأصل ، قدِمَ أسلافه إلى إشبيلية بالأندلس فلم ينجحوا في إقامة ولاية لهم ، ثم رحل جده إلى تونس بعد سقوط إشبيلية وليس له إلا خبرة سياسية    تؤهله فقط لكي يكون الرجل الثاني أو الثالث في سلطنة حاكم صاحب عصبية قبلية تقيم الملك وتحرسه . وعبقرية إبن خلدون في حياته السياسية تلك لم تنجح في أن يحقق أكثر مما حققه أسلافه ، وذلك في منطقة لا تدين بالولاء إلا لصاحب العصبية والنسب من القبائل المتحاربة في المدن والصحراء ، ولأنه بلا جذور فقد تحتم عليه في عمله السياسي أن يخدم أصحاب العصبيات ، وأن تتغير تحالفاته حسب مصالحه ، وفي النهاية أخفق ، ورأي كيف عجز عن الدفاع عن نفسه عندما هاجمه أتباع أبو حمو السلطان البربري الذي غدر به إبن خلدون وتحالف ضده مع سلطان المغرب ، إذ لم تكن مع إبن خلدون عصبية تحميه وقت الأزمة ، وظل أبو حمو يطارده إلى أن لجأ في النهاية إلى حماية أولاد عريف بعائلته ، حيث عاش في قلعتهم معتزلا يكتب تاريخه ومقدمته ، فكتب المقدمة تأثرا بهذه الخبرة عن العصبية وأثرها في إقامة الدولة ، وأثرها في إنهيار دولة أخرى .

3 ــ  وتبعا لإيمانه بالتصوف – الدين السائد في عصره – فإن التفسير الملائم لإخفاقه السياسي هو أن الله تعالى أراد له أن يكون بلا عصبية تقيم له الملك برغم ما حباه الله تعالى به من نبوغ ومقدرة هائلة على التأثير في المستمعين له سواء كانوا من الحكام أو من الأعراب . أي له كل مؤهلات الحكم والسياسة لولا افتقاره إلى العصبية ، وتلك إرادة إلاهية ، أن يظل نباتا طافيا بلا جذور ، في مجتمع يقوم على الأصل والنسب الثابت القديم .  ومن هنا تبلورت لديه تلك الصلة التي وثق بها العلاقة بين وحدة الفاعل والثيوقراطية ، والتي أوضحها في المقدمة .

وتناثرت تجليات ذلك الربط في ثنايا المقدمة ، ومنها :

3 / 1 : هجومه على الفقهاء الذين لا تؤيدهم عصبيات ومع ذلك يقومون بثورات على الحكام ويكون مصيرهم إلى الفشل ، واعتبرهم إبن خلدون خارجين على إرادة الله لأنه حين حرمهم من وجود تلك العصبيات المسلحة المؤيدة ، فأنه لم يعطهم الإذن بالثورة ، ولعل ذلك يعطينا لمحة إلى أنه حاول أن تكون له العصبية فلم يستطع ، وكان ذلك تفسيره لفشله السياسي في المنطقة.

3 / 2 :  ويفسر ذلك رأيه بأن من الأفضل للحاكم أن يكون متوسط الذكاء ليقترب من المستوى العام لعصره ، فهو هنا يعبر عن رأيه في نفسه وفي حكام عصره .

3 / 3 :  كما يفسر ذلك رأيه في أن الشهرة تأتي بالحظ ولمن لا يستحق ، حيث اجتازته الشهرة وتركته إلى حكام متنازعين ليس لهم من مميزات إلا النسب والزعامة القبلية .

 ويفسر هذا أيضا نفاق إبن خلدون للحاكم لأنه يعتقد أن الله تعالى قد اختار ذلك الحاكم ليحكم .

3 / 4 : ومن هنا لا يكتفي إبن خلدون بنفاق الحاكم – المتوسط الذكاء في نظره – وإنما يهاجم العالم الكفء الخبير الذي يحافظ على كرامته ولا ينافق الحكام والكبار ، ويعتبر ذلك الترفع من الأخلاق المذمومة [6] ،

3 / 5 : ويفسّر هذا لجوءه الى نفاق الكبار وغطرسته مع من هم دونه .

 ولذلك أهدى كتابه العبقري للسلطان المغربي أبي فارس بعد أن أوسعه مدحا ونفاقا .

 وفي حياته بمصر قيل عنه أنه كان حسن العشرة إذا كان معزولا عن السلطة، أما إذا تولى القضاء فلا يستطيع أحد أن يجلس معه ، بل ينبغي ألا يراه أحد ، ولذلك كان يتواضع للأكابر ويباسطهم ويمازحهم بخلاف تصرفه مع الناس إذا تولى القضاء [7]أي أنه من حقه أن ينافقه الناس إذا اختاره الله لمنصب ، بينما من واجبه أن ينافق من اختارهم الله للمنصب خصوصا السلطان .

كان بارعا فى  (فنّ النفاق ) ،  ولذلك إستطاع بمعسول حديثه أن يكتسب إعجاب الطاغية السفاح تيمورلنك الذي دمر دمشق سنة 803هـ . كما إستطاع بهذا المنطق الداهية أن يجعل برقوق يرضى عنه بعد عودته للسلطنة وينسى خيانة إبن خلدون له .

 3 / 6 ـ   إلا أن طريقته تلك في التعامل جعلت أصدقاءه وتلاميذه قليلين . وبالتالي فلم يكن له تأثير علمي في عصره يتناسب مع قامته العلمية ونبوغه الفكري . خصوصا وأنه ختم نبوغه بالمقدمة والتاريخ وأنهاه بقدومه لمصر ولم يزد شيئا كما قلنا .

4 ـ  ومن هنا فلم يكن له من تلامذة إلا المقريزي والدلجي .

4 / 1 :   والمقريزي الذي عاش بين عام (766)، (845) ، كان في الثامنة عشر من عمره حين قدم إبن خلدون مصر ، أي صحبه شابا إلى أن مات إبن خلدون وقد تجاوز المقريزي الأربعين من عمره ، وقد تأثر المقريزي بإبن خلدون في نقله ملاحظات خلدونية في الخطط المقريزية ، كقوله نقلا  عن شيخه إبن خلدون ، إن أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب " تعليقا على مظاهر الإنحلال الخلقي في ذلك الوقت ، وفي إنتقاد المقريزي للظلم المملوكي وعنايته بالأسعار والأحوال الإقتصادية في تاريخه السلوك وفي مؤلفاته الصغيرة ، والأمر يحتاج إلى دراسة متخصصة في مؤلفات المقريزي [8] . لتوضيح تأثر المقريزى بشيخه ابن خلدون ، وننتظر هذا البحث من شبابنا الباحثين الجادين ، فى عصرنا عصر السطحية العلمية ووالخواء الثقافى .!

4 / 2 : أما الدلجي ( شهاب الدين أحمد بن على ) فقد تأثر في كتابه " الفلاكة والمفلوكون " بإبن خلدون ونقل آراه في الكيمياء والمطالب أي الكنوز المدفونة وغيرها ، واستعمل نفس أسلوبه في المقدمة دون أن يشير إليه ، وتأثر بإبن خلدون في حياته ، إذ كان مهتما بالعقليات ومشهورا بانتقاصه للناس والإستهزاء بهم  إلى أن مات 838[9].

    وهذا هو ما رصدناه من المتأثرين بإبن خلدون.

5 ــ  أما غيرهم ، فلم نجد تعاطفا مع إبن خلدون فيما ذكره عنه أعلام عصره كإبن حجر والعيني والسخاوي وحتى إبن تغري بردي أبوالمحاسن.

6 ــ  وذلك وثيق الصلة بعقيدة إبن خلدون في وحدة الفاعل التي جعلته ينافق الأكابر دون حرج ولا يأبه بالآخرين ممن هم أقل منه أو يساوونه . لذلك قل اصدقاؤه وتكاثر منتقدوه . وبالتالي فإن مشروعه في إصلاح النظام القضائي في مصر لم يفلح ، حين قام بعزل الفاسدين من الشهود والموقعين ، وحين رفض الإستجابة للوساطات في القضاء ، إذ كان يمكنه أن يجمع حوله عصبية ممن هم أقل منه شأنا ليُآزروه في حركته الإصلاحية ،  ولكن طريقته في التعامل حالت دون ذلك ، هذا بالإضافة إلى إحتقاره لعلماء عصره ، ومعرفته  بنبوغه وتفوقه العلمي عليهم .

7 ــ  وأدى هذا الفشل المزدوج ( في مشروعه لإصلاح القضاء في مصر بالإضافة إلى فشله السابق في مشروعه السياسي في موطنه ) إلى أن يعيش السنوات الأخيرة في حياته (803: 808) في إستسلام غريب للسقوط ، لانجد له تبريرا أيضا إلا في عقيدة الفاعل الصوفية ، أو بالتعبير المصرى الشائع " ربنا عايز كده ".

8 ــ  وهكذا نفهم ما قالوه عنه في آخر حياته أنه سكن على البحر أي النيل وأكثر من الإستماع إلى المطربات ، ومعاشرة الأحداث ( أي الشذوذ الجنسي ) وأنه تزوج إمرأة لها أخ مصاب بالجنون مما جعل خصومه يشنعون عليه طبقا لهذا الاتهام بالشذوذ الجنسى ، ومع ذلك أكثر من الإزدراء بالناس ، حتى تخلى عنه المتحمسون له وكان منهم الإستادار الكبير الذي رفض شهادته لأنه لم يعد أهلا للشهادة ، وكيف أنه في ولاياته الأخيرة للقضاء لم يعد ذلك القاضي المصلح الذي كان ، بل أصبح لينا مفرطا عاجزا خائرا يسمع بعض نوابه يستهزئ به فلا يرد عليه [10].

 في ضوء عقيدة الفاعل الصوفية يمكن تفسير حياة إبن خلدون بين الصعود والسقوط ، ويمكن أن نفهم من خلالها لماذا غابت مصر عن تاريخه وثقافته ، ولماذا لم يكن له فيها كثيرون من المعجبين والتلاميذ .

 ولكنها ليست الإحتمال الأخير . .

سقوط  نظريته فى العصبية فى مصر المملوكية ، وموت ابن خلدون الغامض

  كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

 

سقوط  نظريته فى العصبية فى مصر المملوكية

في ضوء عقيدة الفاعل الصوفية يمكن تفسير حياة إبن خلدون بين الصعود والسقوط ، ويمكن أن نفهم من خلالها لماذا غابت مصر عن تاريخه وثقافته ، ولماذا لم يكن له فيها كثيرون من المعجبين والتلاميذ .

 ولكنها ليست الإحتمال الأخير . . ربما كان السبب هو سقوط  نظريته فى العصبية فى مصر المملوكية  .

 

  1 ــ  إذ ربما يكون السبب أنه وجد في مصر ما يناقض الأساس الذي أقام عليه نظريته الكبرى في المقدمة ، وهي فكرة العصبية .

2 ــ    ففكرة العصبية نجدها مثالية في المجتمعات الصحراوية حيث القبائل وحيث تقوم القبيلة على النسب الواحد ، وتكون القبيلة دولة متحركة بجيشها وقيادتها ونظامها الداخلي ، هى ثابتة بنسبها ولكن المكان متغير حسب قوة تلك القبيلة أو القبائل المتحالفة معا ، إذ تمتد تلك القبيلة بنفوذها وتحالفاتها وسيطرتها بقدر ما تصل إليه قوتها ،وسرعان ما تقوم الدول المؤقتة والمتحركة وسرعان أيضا ما تسقط ، دون إستقرار وثبات .

هنا ـ فى دول العصبية ومناطقها ـ يكون الإنتماء ليس للمكان والوطن  بل للنسب والقبيلة ، فالمكان هناك مجرد جهة متغيرة ومتحركة . ( حتى الأن يطلقون فى تونس على المكان جهة، أو الجهوية ).

نجد العكس فى المجتمعات المستقرة الزراعية الثابتة ، فيها يكون الإنتماء الوحيد للمكان  وللبلد أو حتى المدينة والقرية ، فتنتشر فى مصر أسماء الأشخاص تعكس إنتماءهم الى بلادهم. تنتشر فى مصر أسماء ( الاسكندراى ) ( الطنطاوى ) ( الجرجاوى ) ( المنياوى )( البحراوى )( الدمياطى ) ( الرشيدى )( الغرباوى )( الأسيوطى ) ( السيوطى )( القناوى ) ( الطهطاوى)( الصعيدى ) ( الشرقاوى ) ( البحيرى ) ( المنوفى ) ( السنباطى ) ( السخاوى ) ( البنهاوى ) ( الصاوى ) ( الاسوانى ) ( الأبنودى ) ( الطحاوى ) ( البهنساوى )( المنفلوطى )( السبكى ) ( البسيونى ) ( السويسى ) ( القرافى )( الأدفوى )( الجيزاوى )( المحلاوى ) ..الخ . بل إن الوافدين الذين إستقروا بمصر حملوا  فى مصر إسم بلدهم الأصلى ( المكاوى ) ( المدنى ) ( الشامى )( المغربى ) ( التونسى ) ( المقريزى ) ( الفاسى ) ( الحجازى ) ( العراقى ) ( البصرى ) ( اليمنى )( حلبى )( البغدادى ) ( الكوفى ) ( النجدى ) ( الصفدى ) ( النابلسى ) ( الغزاوى ) ( العينى )..الخ .

فى مصر ــ ممثلة للبيئة النهرية المستقرة ـ يتركز الانتماء للمكان وللوطن كله وللدولة المستقرة منذ آلاف السنين وللقرية أو المدينة مسقط الرأس، وتلك هي الثقافة المصرية التي تخالف – إن لم تناقض – خبرة إبن خلدون التي أسس عليها مقدمته .

3 ــ  ويزيد من ذلك نظام الحكم المملوكي الذي عاش إبن خلدون في كنفه في مصر ، فهو نظام يناقض تماما جوهر فكرة العصبية الخلدونية القائم على النسب والقبيلة ، فأولئك المماليك الحكام لا أصل لهم أساسا ولا نسب ، إذ يؤتى بأحدهم رقيقا من بلد مجهول ويتنقل من يد إلى أخرى إلى أن يباع في مصر ، وإذا حاز على إعجاب سيده يعتقه ، ويصير جنديا ،ثم يتعين عليه إذا أراد أن يترقى أن يدخل في حياة التآمر – وفي حياة التآمر هذه لا يكون إنتماؤه وولاؤه إلا لذاته ، لذلك فإن الأمير المملوكي لا يحفظ عهدا ،وإنما يبيع ولاءه أو ينقله حسب مصلحته ، وبذلك يصل إلى الإمارة أو السلطنة ، وقد يقتل قبل ذلك أو بعدها حسب الظروف ، ولكنها في النهاية معادلة مختلفة في بدايتها وفي تطورها عن تلك المعادلة البسيطة التي أقامها إبن خلدون في المقدمة.

ويكفي ذلك التشابك المعقد في النظام المملوكي السائد والمستقر في مصر والذي لم يسقط برغم ما في داخله من تآمر وشقاق ، والذي لم يسقط إلا بسبب تدخل خارجي وبظرف إستثنائي عجيب على يد سليم الأول العثمانى ، بل إن نظام المماليك إستمر يحكم مصر محليا فى إطار الدولة العثمانية  .

ويتضح من المستحيل أن ينجح ذلك النظام المملوكي في موطن إبن خلدون القائم على العصبية والأنساب المستقرة في المنطقة ، كما كان من المستحيل أيضا أن تنجح كل نظريات العصبية الخلدونية وتفصيلاتها المتعددة على الحالة المصرية النهرية المستقرة ، تلك الحالة التي سمحت باستمرار حكم أجنبي ظالم رقيق مجلوب الى مصر يحكم مصر وأهلها من الأحرار .

4 ــ  وكان مفروضا أن يعيد إبن خلدون كتابة المقدمة على أسس جديدة بحيث تكون مصر حاضرة فيها بظروفها العادية وظروفها الإستثنائية الغريبة ، مثل خضوعها للماليك القادمين رقيقا من سائر بلاد العالم ، إلا أن إبن خلدون قام بتنقيح المقدمة والتاريخ شكليا واكتفى بذلك ، ربما تعصبا لموطنه وربما لأنه علق الأمور كلها على وحدة الفاعل ، وربما لأسباب أخرى تظل مجهولة لدينا؛مثل نهاية حياته الغامضة .

موت ابن خلدون الغامض

1 ـ     فقد مات إبن خلدون ( فجأة ) كما قال المؤرخون،وبعد أن تولى القضاء بأيام ، يوم الأربعاء 26 رمضان 808 هـ.

2 ــ  صحيح أنه كان في السادسة والسبعين من عمره ، وهو سن مثالى ومناسب تماما للموت ، ولكن هذا الموت المفاجئ يسمح بظهور علامات إستفهام،  يعززها خصومات إبن خلدون ، والمكائد التي أدخل نفسه فيها في المرحلة الأخيرة من حياته ، وما كان يتخلل هذه الخصومات من موت مفاجئ .

3 ــ   ثم كان موت ابن خلدون الغامض هذا واقعا ضمن سلسلة من الموتات الغامضة في ذلك الوقت .

ونعطي بعض الأمثلة من عصر إبن خلدون ونقتصر على إيرادها على مصدر تاريخى واحد فقط ،هو: ( إنباء الغُمر بأبناء العمر ) الذى كتبه المؤرخ الفقيه الإمام إبن حجر العسقلانى ، ورتبه فى التأريخ لسنوات عمره من سنة ميلاده ، حيث كان يسجل الأحداث شاهدا على العصر .

من ( إنباء الغُمر بأنباء العُمر ) ننقل هذه الأحداث عن إغتيالات غامضة لم يتم التعرف على القتلة فيها. 

ونرتب هذه الأحداث حسب السنين :

 1- في سنة 789 جاء ناصر الدين الحلبي من حلب إلى القاهرة بسبب وظائف يتم توزيعها ، وكان بارعا في الفقه والحديث والأدب ، ومشهورا بحسن الخط وجودة الضبط ، فمات فجأة ، فاجأته الوفاة في ربيع الآخر 789 ويقال أنه مات مسموما .

2- ووفد أحمد بن يزيد الحنفي المشهور بمولانا زادة الحنفي إلى مصر تسبقه شهرته ، فأقام في خانقاه سعيد السعداء ، وجاءته وظائف كثيرة ، ثم دس بعض الحاسدين له سما فمات في المحرم سنة 791 وكان مشهورا بالذكاء . 

3- وكان إبن مكانس أعجوبة في الذكاء والشعر والكتابة ، وقد استدعوه إلى القاهرة فاغتيل بالسم في الطريق ، فدخل القاهرة ميتا في 15 ذي الحجة 794.

4- وكان عمر الفوي أعجوبة في الحفظ ماهرا في الفقه والفرائض ، وتم اغتياله سنة 801 ، وكالعادة لم يعرف قاتله .

5-   وكان شرف الدين الدماميني غريما لإبن غراب ـ وإسمه سعد الدين إبراهيم ، وكان إبن غراب هذا هو الذي سيطر على السلطان الناصر فرج بن برقوق ، وقد أرسل إبن غراب ذلك الرجل شرف الدين الدماميني قاضيا على الإسكندرية، وسرعان ما مات مسموما فيها سنة 803[11] .

6 ـ   والمشهور أن إبن غراب  هذا هو الذي أقام الناصر فرج سلطانا وكان صبيا صغيرا ، وهو الذي أثار عليه الأمراء المماليك ، ثم هو الذي أقنع السلطان الصغير بالإختفاء ، ثم أقام أخاه الأصغر سلطانا ، ثم أعاد الناصر فرج للسلطنة ، وخلع أخاه الأصغر ، وظل متحكما في سلطنة الناصر فرج إلى أن مات ( أي إبن غراب ) فجأة سنة 808 وكان في الثلاثين من عمره .

هناك بين السطورعلاقة غامضة بين ابن خلدون ( الشيخ العبقرى فى فنّ التآمر ) وهذا الشاب المصرى العبقرى سياسيا  ( سعد الدين ابراهيم : المشهور بابن غراب ) ؟ ومن الغريب أن يموتا معا وفجأة وفى نفس التوقيت تقريبا عام 808 .! هل هى مصادفة ؟  .

أخيرا

هذا الغموض لا يزال يؤرقنا ..

دعنا نفتش بين السطور فى علاقة ( الشيخ ) ابن خلدون ( عبقرى التاريخ ) بالشاب المصرى المجهول ( عبقرى السياسة ) ، ربما نجد إجابات أخرى .

وإذا عجزنا فمن حقنا أن نتخيل ،ولكن فى بحث تاريخى مدعوم بتصور درامى .

 

فى تفسير موت ابن خلدون الغامض : هل تآمر إبن خلدون على دولة المماليك ؟

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

أولا

1 ـ ــ في البداية فإن إنشغال إبن خلدون في التآمر هو التفسير المنطقي لسكونه العلمي، فقد ودّع نبوغه العبقرى فجأة وهو فى مصر حيث وكان متوقعا أن يتفرغ للإبداع . بل من الغريب اختفاؤه بين سطور التاريخ المصرى بما لا يناسب قامته الفكرية وقربه من أهل الحكم فترة حياته في مصر ، وهذا بعد حياة حافلة بالإنجاز العلمي والتفاعل السياسي المتوهج . الانشغال بتحقيق هدف كبير هو التفسير المقبول لتوقف الابداع الخلدونى وأيضا التوقف ( المعلن ) لنشاطه السياسى الذى كان محور حياته من قبل . ونعيد القول بأنه من  الغريب أن حياة إبن خلدون في مصر قد تحولت إلى سكون عجيب لا يتفق مع خضم الصراعات التي نشأت عليها أسرته ، والتي إنطبع بها تاريخه الشخصي خلال(31 )عاما ، فهل نتصور أن يحدث هذا من إبن خلدون في مصر المملوكية والتي يتاح فيها المجال للتآمر لكل قادر عليه ، خصوصا وأنه حين وصل إلى مصر في الثانية والخمسين من عمره كان أستاذا في التآمر ؟

2  ـ اللمحات القليلة التي ظهر فيها إبن خلدون بين سطور التاريخ المصري في هذه الفترة ( 784 ـ 808 ) المليئة بالتآمر كان  فيها تأثيره كبيرا وواضحا ، وذلك مثل إتصاله السريع بالسلطان برقوق بمجرد وصوله للقاهرة ، وهذا لا يتأتى بسهولة لأى قادم لمصر ، وعلى مبلغ علمنا لم يحدث لأى فقيه أورحالة مغربى قادم لمصر أن تتيسّر له صلته بالسلطان ،وأن تتيسر له سُبُل المعاش والرعاية بسرعة . ثم هذه الصداقة  السريعة مع السلطان برقوق ، وهوأحد كبار المتآمرين في العصر، ثم العلاقة الغامضة بين إبن خلدون و الأمير يلبغا الناصري الذي نجح في إزاحة برقوق من السلطة ، ثم عودة العلاقات إلى مجاريها  بسرعة بين إبن خلدون والسلطان برقوق بعد عودة برقوق إلى السلطة ، ثم تلك الغرابة فى مسلك السلطان برقوق الذى إنتقم من كل من خانه ما عدا إبن خلدون ، ثم مقتل أحد خصوم إبن خلدون بعد أن دبر مكيدة لعزل إبن خلدون وسجنه، وذلك بعد موت برقوق ، واللقاء الذي تم بين إبن خلدون وسفاح عصره تيمورلنك حين كان يحاصر دمشق.

4 ــ الأهم من ذلك كله والأغرب،  هى تلك العلاقة الغامضة بين إبن خلدون وتلميذه المجهول الأمير سعد الدين إبراهيم المعروف بإبن غراب ، ذلك الشاب الذي وصل إلى قمة النفوذ فى شبابه المبكر ، وذلك بتخطيط عبقري لا نتصور صدوره منه. هو نفس الشاب الذي تلاعب بالسلطة المملوكية في عصر أبناء برقوق فعزل الناصر فرج بن برقوق وعين أخاه عبد العزيز ،ثم عزل عبد العزيز وأرجع الناصر فرج ،

يقول المقريزى عن هذا الشاب المصرى( الأميرسعد الدين إبراهيم المعروف بإبن غراب ) وتلاعبه بالسلاطين من أبناء برقوق:( اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه)، كلام هائل من شيخ المؤرخين المصريين الذى كان شاهدا على عصره . هذا الشاب المصرى كاد يتولى السلطة بنفسه ليكون أول مصري يتولى السلطة بعد الفرعون أبسماتيك ، لولا أنه مات فجأة يوم 19 رمضان سنة 808 ،ثم مات أستاذه المجهول فجأة أيضا يوم 26 رمضان سنة 808 ، أي بعد أسبوع . وبالمناسبة فهذا الأستاذ المجهول هو إبن خلدون . يقول المقريزى فى وفيات شهر رمضان 808 : ( شهر رمضان، أوله الأحد:.. وفي تاسع عشره: مات سعد الدين إبراهيم بن غراب .  ومات عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين، الحضرمي، الأشبيلي، المالكي، في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان فجأة، ولي المالكية عدة مرار.ومات إبراهيم بن عبد الرازق بن غراب، الأمير القاضي سعد الدين بن علم الدين ابن شمس الدين، في ليلة الخميس تاسع عشر شهر رمضان، ولم يبلغ الثلاثين سنة. ).

من المستحيل فى رأينا ، ومن واقع التخصص فى العصر المملوكى أن يصل شاب مصرى ـ من أصل قبطى ـ  غير عسكرى الى موقع يتحكم فيه فى السلاطين المماليك إلا إذا كان وراءه عقل جبار متمرس فى فن التآمر . وهذا العقل هو ابن خلدون.

ثانيا : استاذ التآمر ( ابن خلدون ) فى عاصمة التآمر ( القاهرة المملوكية )

1 ــ والعادة أنه فى حلبة التآمر فى الدولة المملوكية قد يصل المتآمر الى السلطة وقد يصل الى الموت.

2 ـ المناخ فى العصر المملوكى كان جاهزا للتآمر فى كل وقت ، لأن التآمر كان هو العملية السياسية المُتاحة للترقى وللوصول الى الحكم ، والاحتفاظ به . إن مفتاح الشخصية المملوكية – كنظام سياسي – هو المساواة بينهم جميعا في الأصل والنشأة والتفاضل بينهم يكون بالمقدرة القتالية والدهاء السياسي ، فكلهم جيء به من بلاده الأصلية رقيقا لينخرط في سلك المماليك ثم ليتدرج بكفاءته السياسية والحربية حتى يصل إلى السلطنة ، ولا عبرة إلا بملكات المملوك وقدراته. لذا نجد بعض الغرائب ؛ فالظاهر بيبرس كان في الأصل مملوكا لأحد الأمراء، وهو الأمير البند قداري ونسب الله فقيل بيبرس البند قداري . واعتقه سيده ثم وصل بيبرس بدهائه وقدرته إلى أن أصبح سلطانا وسيده السابق أصبح مجرد تابع صغير له في دولته . ومهارة بيبرس تتجلى في قدرته الفائقة على المؤامرات والدهاء مع نشاطه الحربي .وحين يصل مملوك ما بدهائه وحذقه في المؤامرات إلى السلطنة فأنه يواجه مؤامرات الآخرين إلى أن يموت نتيجة المؤامرة، أو يقضى على خصومه . وهكذا تدور السياسة المملوكية في حلقة لا تنتهي من الدسائس والمؤامرات . وقد تنتهي المؤامرة بقتل السلطان – وحينئذ يتولى القاتل السلطنة طالما كان كفئا , وبذلك يصبح قتل السلطان مسوغا شرعيا عندهم لصلاحية القاتل كسلطان شأن مجتمع الغاب , وذلك هو الأغلب في السلطات العسكرية فالأقوى هو الأغلب , ومعنى ذلك إن الأمراء لا يخضعون للسلطان إلا لأنه أقواهم , وهو قرين لهم وندُّ فإذا ما مات فحظ ابنه أن يكون مجرد فترة انتقالية ليظهر فيها الأكفاء من بينهم ليتغلب على السلطنة ويمسك بزمام الأمور ويعزل السلطان الصغير أو يقتله.  ومن عجب إن أكثر السلاطين كان يخدع نفسه ويصدق نفاق أتباعه فيخيل إليه أنهم سيرعون حقه عليهم بعد موته في رعايتهم لابنه ولى عهده ، فيأخذ عليهم العهود والمواثيق ،ويمكن لابنه في حياته ما استطاع . ومع ذلك فإن أخلص ممن يقوم بأمر ابنه في حياته يكون هو نفسه الذي يعزله بعد فترة انتقالية معقولة ويتسلطن , وينشيء أتباعا جددا من المماليك الذين يشتريهم , ويبعد عنه رفاقه السابقين في المؤامرات ، , وأعدائه طبعا.  وبعد أن تقترب منيته يظن أن الأمور استتبت له فيأخذ العهد لابنه ويأتمن عليه أخلص أتباعه إلا أن القصة تتكرر بحذافيرها , ويعزل التابع ابن سيده السلطان السابق وتتكرر القصة ، وهكذا ،  وتستمر المؤامرات . وبهذا قامت الدولة المملوكية البحرية وبهذا استمرت، وبذلك قامت الدولة المملوكية البرجية وبذلك استمرت إلى أن سقطت . 

ومثلا فقد تآمر الأمير بيبرس وقتل السلطان قطز وتولى مكانه ، وقام بيبرس بتوطيد الدولة المملوكية ، وحاول في أخريات حياته أن يوطد الأمر لابنه سعيد بركة فولاه العهد من بعده . وحتى يضمن ولاء المماليك له من بعده فقد زوجه من ابنة كبير المماليك قلاوون الألفي وجعل قلاوون نائبا له ، ولكن تآمر قلاوون على ابن بيبرس وعزله  سنة 678 وتولى مكانه .وأقامت أسرة قلاوون في حكم مصر نحو قرن أو يزيد 678 – 784 ..وأنشأ قلاوون لنفسه عصبة خاصة من المماليك وأقام لهم أبراجا خاصة بالقلعة فعرفوا( بالمماليك البرجية) وأولئك هم الذين تآمروا على اغتصاب السلطة من أبناء وأحفاد السلطان قلاوون، ثم استطاع أحدهم في النهاية وهو برقوق إقامة الدولة المملوكية البرجية . 

ولقد انعكس نفوذ المماليك البرجية على مصير السلاطين من أبناء وأحفاد الناصر محمد بن قلاوون بعد وفاته فكثر توليهم وعزلهم تبعا لمؤامرات كبار الأمراء البرجية ،  حتى انه في العشرين سنة الأولى التي أعقبت وفاة الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده ( 741 – 762 ) ، وفي العشرين سنة التالية تسلطن أربعة من أحفاده . وبعضهم تسلطن وعمره عام واحد كالسلطان الكامل شعبان بن ناصر محمد ، وبعضهم لم يبق في الحكم إلا شهرين مثل الناصر أحمد بن الناصر محمد.    وقد تمكن برقوق بسلسلة من الدسائس والمؤامرات أن يقيم الدولة البرجية وتغلب على مصاعب عديدة وصلت إلى درجة عزله من السلطنة إلا أنه عاد للسلطنة للمرة الثانية سنة 797 . ومات برقوق سنة 801 وتولى ابنه الناصر فرج .

3 ـ عاش ابن خلدون فى مصر فى فترة الاضطراب هذه ( نهاية الأسرة القلاوونية ، وتأسيس الدولة المملوكية البرجية على يد برقوق ) ، وشارك فى حلبة التآمر من وراء ستار إستخدم فيه الشاب سعد الدين ابراهيم ( ابن غراب ) .

4 ـ ونعيد ما قلناه من قبل عن المسرح السياسى المملوكى وابن خلدون :  قبيل وصول إبن خلدون لمصر كان السلطان الرسمي هو الصبي حاجي إبن الأشرف شعبان القلاووني ، وكان كبار أمراء المماليك يتصارعون ليصل الأقوى منهم إلى السيطرة على السلطان الصغير حتى يعزله ويتولى مكانه. وفعلا تحالف الأميران بركة وبرقوق حتى تحكما  في السلطنة ، ثم اختلفا وتصارعا وتغلب برقوق وانفرد بالحكم ، وبعدها عزل السلطان القلاووني الصغير وتولى السلطنة في 18 رمضان 784 . وكان إبن خلدون قد سافر إلى الأسكندرية في شعبان من نفس العام فوصل إليها في عيد الفطر 784 . ثم وصل إلى القاهرة في أول ذي القعدة 874 حيث كان برقوق يبدأ أول سنة له في الحكم سلطانا ،  ثم لم يلبث أن ثار على برقوق سنة789 مملوكه الأمير منطاش والأمير يلبغا الناصري نائب الشام وانهزم عسكر برقوق وانضم أكثره إلى المماليك الثائرين ، فاختفى برقوق ، ثم سلم نفسه إليهما ، فأرسلوه سجينا إلى الأردن ( الكرك).  ثم حدث الخلاف بين الأميرين منطاش ويلبغا الناصري ، وانتصر منطاش . وهرب برقوق من سجنه في الأردن وتجمع حوله أتباعه فجاء بجيش هزم به منطاش وعاد إلى السلطنة للمرة الثانية 792هـ . واستقر له السلطان إلى موته سنة 801.

  5 ــ وتولى إبنه فرج بن برقوق وكان عمره أقل من عشر سنوات وثار عليه المماليك ، وهنا تجلى نفوذ سعد الدين ابراهيم (ابن غراب ) حين اقنع السلطان الناصر فرج ابن برقوق بالهرب والاختباء واخفاه فى بيته كى يتخلص من خصومه ، وقام سعد الدين باجلاس عبد العزيز بن برقوق على الحكم وسيطر على الدوله ، ثم بعد سبعين يوما عزل عبد العزيزواعاد الناصر فرج،وتلك ظاهرة لم تتكرر فى التاريخ المصرى بطوله ، او كما يقول المقريزى (اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). ومن الصعب أن نصدق أن شابا مصريا مهما بلغت عبقريته يصل الى هذه الحنكة فى فنّ التآمر. والتفسير المقبول هووجود ابن خلدون من وراء ستار يحرّك الأحداث ويوجهها.وفشلت المؤامرة ، ودفع ابن خلدون وتلميذه الشاب الثمن ، فماتا ( فجأة ) .  

6 ـ لا يمكن أن يتوب ابن خلدون عن التآمر وهو أستاذ فى هذا الفن ، وقد جاء الى أكبر حلبة للتآمر فى عصره ، وكان يتوق من قبل للمجىء اليها . ولنتذكر أن ابن خلدون السياسى ( أكبر ) من ابن خلدون مؤسس علم العمران والمؤرخ ، صحيح أنه فشل سياسيا ونجح واشتهر عالما ومؤرخا ، ولكننا نضع معيار الجهد والوقت الذى قضاه ابن خلدون فى ميدانى التأليف والعمل السياسى ، ولقد قضى أقل وقته فى التأليف وأغلب وقته فى العمل السياسى . وبذل بقية عمره فى مصر لكى يحقق بالسياسة ( وهى فنُّ التآمر وقتها ) ما كتبه عالما مؤرخا عن ( العصبية ).

7 ـ ولكن لا تزال هناك إسئلة مشروعة .!

 

 

رأينا فى تفسير موت ( إغتيال ) ابن خلدون الغامض  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

رأينا فى تفسير موت ( إغتيال ) ابن خلدون الغامض  

 

أولا :  ونبدأ بسؤال : ما الفائدة التي تعود على إبن خلدون من إشتراكه مع سعد الدين إبراهيم ابن غراب ضد الدولة المملوكية التي احتضنته ؟

  1 : هناك فائدة سياسية متوقعة ، وهى أن يشارك إبن خلدون في جني ثمار نجاحه ، إذا نجحت خطته مع رفيقه سعد الدين إبراهيم . فى أن يحقق ابن خلدون طموحه السياسى الذى فشل فى تحقيقه فى الاندلس وشمال أفريقيا ،بل أن يحققه فى مصر التى كان يتوق الى القدوم اليها والاستقرار فيها . وواضح أنه لعب على الحبال المتاحة له ، فأيد الأميرين يلبغا ومنطاش فى ثورتهما على ولىّ نعمته السلطان برقوق ، ليس بالطبع حبا فيهما ولكن ليحقق طموحا سياسيا لا يمكن الوصول اليه إلا بفنّ التآمر السائد والمشروع وقتها، وابن خلدون بارع فى هذا الفنّ.

  2 :  وهناك أيضا فائدة خلدونية خاصة بصاحبها ، وهى إثبات نظرية إبن خلدون في العصبية ، وتطبيقها في مصر في عهده عمليا . فقد أقام إبن خلدون نظريته السياسية في "المقدمة " على العصبية القائمة على النسب، والتي  تعنى أن أهل العصبية القبلية القائمة على النسب الواحد والأصل الواحد إذا أتيحت لهم أسباب القوة ، فإنهم يستطيعون إقامة ملك لهم .وذلك ما كان يحدث في شمال أفريقيا والمغرب والأندلس .. إذ تتجمع عصبية القبيلة تتحرك به في الصحراء إلى المدن الساحلية حيث تقيم لها ملكا ، إلا أن النظام المملوكي المستحكم والمتحكم في مصر والشام كان يناقض فكرة العصبية من أساسها .لأن المماليك ليس لهم أصل ولا نسب منذ البداية .

3 ــ وقد تجاهل إبن خلدون في أثناء مقامه في مصر الإشارة إلى ذلك التعارض بين النظام المملوكي ونظريته في العصبية ، كما لم يقم بتعديل نظريته في المقدمة . برغم أنه ختم حياته بربع قرن عاشه في مصر .

ولعله ـ وفقا لنظريتنا الخاصة ـ كان يؤجل هذا إلى أن ينجح في إثبات نظريته على أرض الواقع في إقامة ملك مصري يقوم على العصبية . وقد كانت عصبيات الأعراب في مصر موجودة ، وكانت هي القوة المسلحة الوحيدة في الداخل التي تناوئ السلطة المملوكية . ولكن كانت تحتاج إلى تنظيم وتقعيد .

4 ــ أي أن أدوات التآمر كانت متاحة أمام إبن خلدون لكي يثبت صدق نظريته في العمران ، وإمكان تطبيقها في مصر وهى أم العمران ، وذلك أكبر مكسب علمي ومعنوي يعود على إبن خلدون في تحالفه مع سعد الدين إبراهيم .

ثانيا : ماذا عن الدليل والبرهان

1 ـ ما سبق كله إفتراض يحتاج إلى دليل وبرهان ، ومن شأن التأريخ في الحوليات التاريخية أنها تسجل أحداث العصر باليوم والشهر وذلك على مدار العام أو الحول ، وكل عام ، وهذا ما فعله المؤرخون المعاصرون لابن خلدون وهو فى مصر ، مثل المقريزى في تاريخه " السلوك " وإبن حجر في تاريخه " إنباء الغمر" والعيني في تاريخه " عقد الجمان" . كانوا معاصرين لإبن خلدون في مصر ، ويرصدون ظواهر الأحداث من واقع المتابعة اليومية .

2 ــ ومن هنا فإن حركات التآمر التاريخي ـ والتى كانت تُشكل الحياة الواقعية ـ كانت تظهر أحيانا بين سطور الأحداث ، وتستلزم إستنطاق الوقائع وربطها ببعضها ، ويعتمد هذا الربط أساسا على منطقية التفسير للأحداث .  

3 ــ المؤرخ  وقتها يسجل ما يرد اليه من أحداث ، يسجل ما يصل الى السطح ، وهو بعيد عن العُمق ، ومكائد القصور. وهى ظاهرة لم تتكرر فى التاريخ المصرى بطوله ، أن يقوم شاب بما قاله المقريزى عن ابن غراب :(اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). كيف وصل هذا الشاب الى تلك المنزلة؟ وكيف برع فى فنّ التآمر الى هذه الدرجة ؟ ومن كان خلفه يوجهه من وراء ستار؟ .. سطور التاريخ المعاصر تعطى إشارات ، والأحداث فيها تتحللها الفجوات . ومهمة الباحث التاريخى عسيرة فى الوصول الى مؤامرة تختبىء بين السطور ، ولا تحكى عنها السطور سوى شذرات من بينها ، احيانا ـ النتائج .

4 ـ الصعب هو أن تبحث عن مؤامرة فاشلة . المؤامرات التاريخية منها ما ينجح صاحبها فيصل الى الحكم أو يقيم دولة فيتراقص فى موكبه المؤرخون ، يحكون أصله وفصله وجهده . ومنها ما يفشل ، فيغيب صاحبها بالموت ، ويقبع بين سطور التاريخ بين أشلاء مؤامرته المبعثرة هنا وهناك .

5 ـ فى اول كتاب لنا :( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ) عام 1982 ، وهو منشور هنا كشفنا مؤامرة شيعية كبرى لقلب نظام الحكم فى مصر الأيوبية ، وقد تستر أعيانها بالتصوف ، وكانت نقطة المركز فى قرية مجهولة يومئذ ، هى طنتدا ( طنطا ) وسط الدلتا المصرية ، وتزعمها فى المرحلة الحاسمة ( أحمد البدوى ) وعاونه ابوالحسن الشاذلى وابراهيم الدسوقى ، وكانت الدولة الأيوبية فى وقت ضعفها ، ولكن تغير المسرح سريعا بوثوب المماليك ( القوة العسكرية ) للحكم ، ونجاحهم فى تدمير الأيوبيين وقهر المغول وتقليم أظافر الصليبيين وقهر ثورة الأعراب ، وتلفت الظاهر بيبرس الذى وطّد الحكم المملوكى حوله فوصلت اليه انباء تلك الحركة الشيعية الغامضة ، وكان شيخه ( خضر العدوى ) جاسوسا لهم عليه . إنقلبت الأوضاع بالنسبة للسيد البدوى فى طنطا ، وأحس بالخطر فاستمر فى تنكره وتصوفه خائفا من جبروت الظاهر بيبرس . وفشلت تلك الحركة الشيعية التآمرية ، ونتج عنها تكوين طرق صوفية مشهورة . وإشتهر السيد البدوى علما تاريخيا بعد قرنين من وفاته ، بينما كان مجهولا فى حياته لم يسمع به أحد . هذا مثال على الحركات التآمرية الفاشلة التى حققناها من أكثر من ثلاثين عاما .

6 ــ والآن مع حركة تآمرية أبسط ، ودارت أيضا فى منطقة مفصلية ، بين سقوط الدولة المملوكية البحرية وتأسيس وتوطيد الدولة المملوكية البرجية . البطل هو الشاب ( المجهول تاريخيا ) سعد الدين ابراهيم ابن غراب الذى قال المقريزى عن تحكمه فى الدولة المملوكية عام 808 : ( اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). قال المقريزى عن خلاف المماليك مع السلطان فرج بن قلاوون : ( ثم عادوا إلى ما هم عليه من الخلاف بعد قليل، وأعانهم السلطان على نفسه، بإخراج يشبك بن أزدمر، وأزبك، فأبدوا عند ذلك صفحات وجوههم، وأعلنوا بخلافه، وصاروا إلى أينال باي بن قجماس، ليلة الجمعة، وسعوا فيما هم فيه.) وقال عن دور الشاب سعد الدين ابن غراب ( كاتب السّر ) أى سكرتير السلطان وكاتم سرّه والمتحكم فيه : ( فخيّله منهم، حتى امتلأ قلبه خوفاً. فلما علم ابن غراب بما هو فيه من الخوف، حسّن له أن يفر، فمال إليه. وقام وقت الظهر من بين حرمه وأولاده، وخرج من ظهر القلعة فن باب السر الذي يلي القرافة، ومعه الأمير بيغوت، فركبا فرسين قد أعدهما ابن غراب، وسارا مع بكتمر مملوك ابن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهره أيضاً، إلى بركة الحبش. ونزلا وهما معهما في مركب، وتركوا الخيل نحو طرا وغيبوا نهارهم في النيل، حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت ابن غراب، وكان فيما بين الخليج وبركة الفيل، فلم يجدوه في داره، فمروا على أقدامهم حتى أووا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر مملوك ابن غراب. ثم بعثوا إلى ابن غراب فحول السلطان إليه وأنزله عنده بداره، من غير أن يعلم بذلك أحد. وقد حدثني بكتمر المذكور بهذا فيما بعد، وقد صحبته في السفر، فبلوت منه ديناً، وصدق لهجة، وشجاعة، ومعرفة ومحبة في العلم وأهله. ).أى يحكى المقريزى نقلا عن بكتمر مملوك ابن غراب ، والذى لعب دورا فى هذا بأوامر من سيده ابن غراب . وقام سعد الدين إبن غراب بتعيين أخ السلطان الغائب سلطانا بدير وأسماه : ( السلطان الملك المنصور) وهو  عز الدين أبو العز عبد العزيز بن السلطان برقوق . ويقول المقريزى عن تقليد السلطنة للسلطان الجديد : ( وقد أحضروا الخليفة والقضاة الأربع، واستدعوا الأمير عبد العزيز بن الظاهر، وقد ألبسه ابن غراب الخلعة الخليفتية، وعمّمه. فعهد إليه الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بالسلطنة، ولقبوه الملك المنصور عز الدين، وكنوه بأبي العز. وذلك عند أذان عشاء الآخرة، من ليلة الاثنين سادس عشرين ربيع الأول، وقد ناهز الاحتلام . وصعدوا به من الإسطبل إلى القصر. ولم تدق البشائر على العادة، ولا زينت القاهرة، وأصبح الناس في سكون وهدوء، فنودي بالأمان والدعاء للملك المنصور. ) ويقول المقريزى عن تحكم سعد الدين ابن غراب فى السلطنة وقتئذ : ( وقام بن غراب بأعباء المملكة، يدبر الأمراء كيف شاء. والمنصور تحت كفالة أمه. ليس له من السلطنة سوى مجرد الاسم في الخطة، وعلى أطراف المراسيم .). وبين السطور صراعات معقدة بين المماليك ، وفريق منهم تحت إمرة ابن غراب ، واستمر هذا الصراع من ربيع الأول وانتهى فى رمضان من نفس السنة  808 وهى نفس السنة التى شهدت أوج عظمته وشهدت أيضا موته الغامض ، وموت استاذة ابن خلدون . ابن خلدون فى رأينا هو الذى كان فى الخلفية يخطط لابن غراب . فالأبطال هنا إثنان فقط : ابن خلدون وابن غراب . كانا على وشك تغيير تاريخى جذرى .. لولا الفشل .

7 ـ هذا الفشل فى حد ذاته هو الذى يجعل أشلاء المؤامرة مبعثرة فى صراع معقد ومتحرك تختلف شخصياته وتتنوع مواقفه، ويجعل أحداثها تُلمح ولا تُصرح ، تشى ولا تشرح ، ولكن تظل بين أخبارها غرائب تجعل الباحث يلهث خلفها يستنطق الأحداث ، ويسترجع ماقبلها وما بعدها ويتأمل ما بين السطور ، ويقارن التواريخ ، ويتساءل عن المسكوت عنه بين السطور ، ثم يقوم بتجميع الأحداث الأصلية والفرعية وما يتصل بهما ، ثم يحدد الفجوات بينها ، ويحاول أن يملأ تلك الفجوات بتصورات ( درامية ) محكومة بشخصيات العصر وثقافته . هذا ما فعلناه فى تصورنا البحثى لمؤامرة ابن خلدون وابن غراب ، لتجلية مؤامرة مسكوت عنها ، ولتجلية سبب الموت المفاجىء للعلامة ابن خلدون ، ولإماطة اللثام عن شخصية مجهولة فى التاريخ المملوكى هى الشاب سعد الدين ابراهيم المشهور بابن غراب .!.

 قمنا ببحث مكثف بين سطور التاريخ المصري في هذه الفترة ( 784 ـ 808 )، تمّ فيه تجميع الأحداث ، وملء الفجوات بينها ، وتحديد الشخصيات وخلفياتها قبل وبعد هذا التاريخ ، ثم فيما بعد قمنا بصياغتها دراميا . ويبقى الأصل البحثى وهو المهم هنا .

8 ـ ومن حق القارىء أن يرفض تصوراتنا .. ولكن من حقنا أن نطالبه بتفسير لتلك الحالة الغريبة لشاب مصرى عاش فى حكم عسكرى مؤسس على التآمر فوصل الى أعلى منصب مدنى وتلاعب بالسلاطين. ليست جريمته أنه ـ برغم تحكمه فى الدولة العسكرية المملوكية فترة من الزمن ـ أنه قبع مجهولا بين سطور التاريخ . بل على العكس ، فهذا فى حدّ ذاته ـ أكبر باعث للبحث. وإذا كانت الفجوات بين الأحداث عائقا ، فالتصور الدرامى كفيل بتقديم الصورة ، لتكون أقرب للواقع ، فى تسلسها ومنطقيتها .

9 ــ  ونقدم موجزا للأحداث التاريخية وبالتصورات الدرامية ، محتفظين لنا بكل التفاصيل ، وبحق تحويلها الى عمل درامى ، بعد عمل منهك ــ  فى تجلية هذه الفترة الغامضة من التاريخ المملوكى  ــ إستمر شهورا .

 

 

 

 رؤية بحثية درامية للمؤامرة الخلدونية فى مصر المملوكية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

رؤية بحثية درامية موجزة للمؤامرة الخلدونية فى مصر المملوكية

 

 وهنا نلجأ إلى ربط الأحداث واستقراء الوقائع باختصار :

1 ـ ونبدأ بسنة 767 :في هذا العام كان قتل السلطان أبى عبد الله الذي ساعده إبن خلدون في استعادة ملكه في " بجاية " في المغرب ، وحيث عمل إبن خلدون حاجبا له يدير له الدولة ، ولكن بقتل السلطان أبى عبد الله وتعيين إبن خلدون وصيا على العرش أدرك إبن خلدون أنه لا طاقة له بمواجهة خصمه أبي العباس الطامع في " بجاية " ، لذلك ترك " بجاية " ورحل عنها إلى " بسكرة " في الجزائر.

2 ـ وفي نفس العام 767 ، كانت هناك محنة أقسى في الإسكندرية ، إذ أغار عليها ملك قبرص مع بعض السفن الإيطالية. وخلال أسبوع من فشل السلطة المملوكية في الدفاع عنها ـ في سلطنة الأشرف شعبان ـ إستطاع الفرنجة تدمير المدينة وقتل الآلاف من سكانها . وكان نائب السلطان المملوكي في الإسكندرية ـ والذي فشل في حمايتها هو الأمير إبن عرام ، وكان الحاكم المدني أو ناظر الإسكندرية هو غراب ، الذي كان قبطيا فأسلم ، ووصل غراب هذا إلى نظارة الإسكندرية مسقط رأسه ومعقل أسرته . وكان من معاوني غراب  الشاب : جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه .

3 ــ وقد إنشغل هذا الأخير (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه)  أثناء محنة الغزو بسرقة بيوت الأثرياء ، الذين كان يعرف ثرواتهم بحكم عمله ، وإنهمك فى تجميع الأموال وقت الفوضى وتقاتل أهل الإسكندرية في الفرار من أبواب الإسكندرية. وبالمناسبة كان صاحبنا جمال الدين بن أصفر عينه هو المتولي لباب رشيد في الإسكندرية ، وقد ترك البوابة ليسطو على خزائن الأغنياء .

4 ــ وبعد رجوع الغزاة الفرنجة إلى البحر وبداية التحقيق كان كبش الفداء هو غراب ، إذ إتهمه إبن عرام وإبن أصفر عينه بأنه الذي خان وباع الإسكندرية للقبرصي الذي أغار عليها ، وعوقب غراب بالتوسيط ، أي بالقطع نصفين ، وتعليقه قطعتين على أبواب الإسكندرية . وترك غراب مع هذا العار ولده عبد الرزاق الذي سعى إلى إنصاف أبيه ، وحقق ذلك جزئيا بأن وصل إلى منصب أبيه ، وهو نظارة الإسكندرية ، ثم مات ميتة غامضة،  وترك ولدين ، الأكبر فخر الدين ماجد ، والأصغر بطل قصتنا سعد الدين إبراهيم ، المولود سنة 778 هـ . هنا نكون قد تعرفنا على ( سعد الدين ابراهيم : ابن غراب )

5 ــ ونرجع الى ابن خلدون . ونصل إلى شهر شوال  سنة 784 ، حيث وصل إبن خلدون إلى الإسكندرية ليأخذ طريقه منها إلى مكة للحج ، ولكن يتغير مساره، إذ يؤجل موضوع الحج ويسرع بالسفر إلى القاهرة ليجد الأحوال ممهدة له هناك . لأنه في نفس الوقت كان (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) قد أصبح صاحب حظوة لدى السلطان برقوق ، الذي وصل الحكم حديثا ، واشتهر بحبه الشديد للمال وبيعه للمناصب بالرشوة . ومن هنا كان من الطبيعي أن يصل إبن أصفر عينه سريعا بأمواله التي جمعها من محنة الإسكندرية .

وهكذا تقلب (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) فى المناصب ،عن طريق شراء المناصب في خدمة الأمراء المماليك إلى أن وصل إلى وظيفة شاد الدواوين ، أو الذي يعاقب كبار الموظفين ويستخلص منهم الأموال المنهوبة . وهى مهنة تدر الأموال على صاحبها ، لأنه بالتعذيب يستخلص الأموال ، ويتمكن من إختلاس بعضها لنفسه .  وعندما وصل إلى هذا المنصب سافر إلى الإسكندرية ليؤمن مستقبله السياسي عن طريق إستمالة أسرة إبن غراب ، ولذلك أخذ الطفل سعد الدين إبراهيم ليعلمه ويربيه ويضمه اليه رهينة ليضمن سكوت اهله وهو يؤهل نفسه لمستقبل سياسى كبير فى القاهرة بما لديه من الموال ، فى دولة يمكن فيها شراء المناصب ، وخصوصا فى عهد برقوق المشهور بنهمه فى جمع الأموال وبيع المناصب بالرشوة .

6 ــ والمنتظر أن يقابل في الإسكندرية إبن خلدون الذي حل بهذا البلد يتلفت حوله عمن يسانده في حياته المقبلة بمصر . وما كان حلول إبن خلدون ليخفى على أولى الأمر بالإسكندرية ، كما أن وصول إبن أصفر عينه الذي أصبح اسمه جمال الدين محمود لم يكن ليمر بهدوء ، ومن هنا فإن المنتظر أن يلتقى الرجلان ، حيث يحتاج كل منهما للآخر في مستقبله السياسي .ابن أصفر عينه ( جمال الدين ) يريد أن يرصّع مظهره بصحبة الفقيه المغربى الكبير ابن خلدون ، وابن خلدون يريد من ابن أصفر عينه أن يكون وسيلة مواصلات تصله بكبار الدولة فى القاهرة.

7 ــ  ومن هنا تتابعت الأحداث تربط بين الثلاثة إبن خلدون وجمال الدين محمود(جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه)  والطفل الصغير الذي يحمل أحزان أسرته وطموحاتهم ، سعد الدين إبراهيم.

8 ــ  وهذا التحالف السري يفسر الصعود المفاجئ لإبن خلدون في القاهرة ، إذ سرعان ما تعرف على الأمير الطنبغا الجوبانى صديق جمال الدين محمود ، وعن طريقه قام إبن خلدون بالتدريس في الأزهر سنة 784 ، واجتمع بالسلطان برقوق فأجرى عليه المرتبات ، ثم تولى التدريس بالمدرسة القمحية سنة 786 .

وأرسل السلطان برقوق مبعوثا خاصا إلى سلطان تونس ليستقدم أسرة إبن خلدون. ونجحت الوساطة وجاءت السفينة تحمل أسرة إبن خلدون ومعهما المبعوث المصري ومبعوث من سلطان تونس . ولكن غرقت السفينة في ميناء الإسكندرية . وفي نفس العام (786 ) تولى إبن خلدون منصب قاضى القضاة المالكية ، وشرع في إصلاح النظام القضائي في مصر باستبعاد المزورين من الشهود والموقعين ورفض الوساطات في القضاء ومنع التدخلات الفقهية في الحكم القضائي . ولكنه أثار زوبعة لم يجد من يسانده فيها حتى السلطان برقوق ذاته ،فاضطر السلطان لعزله في 7 جمادى الأولى سنة 787 .

9 ــ  وفي الوقت الذي تفرغ فيه إبن خلدون للتدريس في الأزهر والمدرسة القمحية كان جمال الدين محمود (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) يترقى في المناصب ، إذ أصبح أستادار برقوق يوم الثلاثاء 3 من جمادى الآخرة سنة 790 .وبعدها بيومين أصبح أقوى رجل مصري في سلطنة برقوق ، إذ جمع بين الإشراف على دواوين الدولة المملوكية الثلاثة : الديوان المفرد أي الأستدارية ، وديوان الوزارة أو ديوان الدولة ، وديوان الخاص المتعلق بإيرادات السلطان وثروته الخاصة . وكان يتولى عقاب من يغضب عنه برقوق ليستخلص منهم الأموال وتتم مصادرتها لصالح برقوق. وبالتالى أتيحت له الفرصة ليحتفظ بجزء منها لنفسه ، وبهذا عظُم أمره ونفذت كلمته على حد قول المقريزى عنه في "الخطط المقريزية " .

10 ــ ونتصور إبن خلدون في هذه الفترة من العزل عن القضاء المالكي وقد اكتفى بالتدريس وتوثيق صلته بالصبي " سعد الدين إبراهيم : ابن غراب " الذي بلغ الثامنة عشرة من عمره، ويقوم على تعليمه سيده جمال الدين محمود الأستادار ، ويشارك إبن خلدون في تثقيفه ويتعرف منه على خبايا الدولة التي يديرها جمال الدين الأستادار .

11 ــ ثم اختفت دولة برقوق ،فيما عرف بفتنة منطاش ، ويلبغا الناصري ،التي إستمرت فيما بين يوم الاثنين 5 من جمادى الآخرة سنة 791 إلى عودة برقوق للحكم يوم الثلاثاء 14 من صفر سنة 792 ، وفي أيام هذه الفتنة إنحدر جمال الدين الأستادار من أعلى المناصب إلى أسفل الدرجات ، فأصبح سجينا في جب القلعة ضمن المماليك من المقربين من السلطان السابق برقوق، وصودرت أمواله ، وما جمع وما خبّأ من الذهب . بينما سارع ابن خلدون للتعاون مع النظام الجديد ( يلبغا / منطاش ) . وقبض ابن خلدون ثمن خيانته لبرقوق ، إذ تولى التدريس في المدرسة الصرغتمشية كما تولى شياخة الخانقاه الركنية بيرس ( في محرم ثم في ربيع الآخر سنة 791 ) .

وفي قضية مشهورة ـ وقتها ـ هي قضية الأعرابي إبن سبع حيث اختلف فيها قضاة القضاء الأربعة ، إستدعى يلبغا الناصري المتحكم في الدولة إبن خلدون ليحكم في القضية ، برغم أنه كان معزولا من القضاء ، وحكم إبن خلدون بتحويل الحكم ليلبغا ، وكانت تلك سابقة في التاريخ القضائي ، وحدثت في 25 من ذي القعدة سنة 791 .

12 ــ وانتهت محنة (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) جمال الدين الأستدار بعودة السلطان برقوق  للسلطنة، فأعاده برقوق لمنصبه بالأستادارية . عاد جمال الدين الأستدار إلى مناصبه وأكرم برقوق إبنه فجعله نائبا للسلطنة في الإسكندرية بلده الأصلي . ولكن جمال الدين الأستدار(جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه)  كان يريد معرفة الخائن الذي كشف عن خزائنه أو بعضها أثناء المحنة ، وجعله يخسر 58 قنطارا من الذهب ، صودرت منه .( ملاحظة : تخيل 58 قنطارا من الذهب حصيلة شخص واحد من الحرامية فى العصر المملوكى ، فماذا عمّن سبقه من الحرامية ، من عمرو بن العاص الذى ترك عند موته سبعين بهارا من الذهب ، أي 210 قنطارا او 140 اردبا من الذهب ،( خطط المقريزي 1/ 140 ، 564 ).  الى مبارك فى عصرنا . وهى حقيقة أن مصر التى تحملت كل هذه السرقات طوال تاريخها هى أغنى دولة فى العالم ، وهذه حقيقة يعلمها اللصوص جيدا .! )

نعود الى هذا اللص ( جمال الدين الاستادار : ابن أصفر عينه ) والذى خرج من السجن متحسرا على ضياع ثروته متحفزا للبحث عمّن خانه ودلّ يلبغا على كنوزه المخبأة . وبالتالى لا بد أن تحوم الشبهات حول الشاب سعد الدين إبراهيم ابن غراب ، هذا الشاب الذى لم ينس ما فعله ابن أصفر عينه بجده غراب من قبل .

13 ــ  بعودة (جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) جمال الدين الأستدار الى قوته وبحثه عمّن خانه وكشف المخبّأ من كنوزه ، كان من الطبيعي أن يستعد الشاب سعد الدين إبراهيم ابن غراب لذلك اليوم الأسود بمكيدة محكمة ، لا نتصور أنه الذى حبكها ، والأصح أن يقال أن إبن خلدون، الأب الروحي ، هو الذي كان يتحسب بذلك ، بأنه هو الذي يحرك الشاب.

ولذلك فإنه في نفس اللحظة التي إكتشف فيها جمال الدين الأستدار خيانة الشاب الذي رباه ، كان قد وقع في المشكلة الكبرى الأساس ، مشكلة الكنوز التي نهبها من الإسكندرية وقت محنتها سنة 767 . والكنوز الأخرى التي نهبها أثناء توليه المناصب في سلطنة برقوق .

 وتم التخطيط بدقة شديدة للإيقاع بجمال الدين الأستدار وهو في أوج عظمته . إذ ظهر منافس قوي له هو علاء الدين علي بن الطبلاوى ، والي القاهرة ، فاتصل به سعد الدين إبراهيم وحكي له عن كنوز وسرقات جمال الدين الأستادار ، واشترط أن يجلس مع الظاهر برقوق نفسه في خلوة ليحكى له . وتم ذلك للشاب الصغير ، واختلى بالسلطان ، وسمع له ، ومن هنا بدأت نكبة جمال الدين الأستادار الثانية والأخيرة ، وبها تم إنتقام سعد الدين إبراهيم لجده المظلوم ، وارتقى سلم المناصب .

14 ــ وهكذا شهد عام 797 تولى سعد الدين إبراهيم نظر الديوان المفرد في (11 من صفر) وخلال عامين بعدها قاسى محمود جمال الدين الأستادار وإبنه من ويلات السجن والعذاب إلى أن مات ليلة الأحد 9 من رجب 799 وقد اكتشفوا بمعونة سعد الدين إبراهيم كل دفائنه من الجواهر والأموال .

15 ـ بالقضاء على(جمال الدين محمود بن على بن أصفر عينه) جمال الدين الأستدارأصبح الشاب الصغير سعد الدين ابراهيم ابن غراب هو المنافس الوحيد لإبن الطبلاوى ،والذي تعاظمت سلطته بعد نكبة جمال الدين الأستادار. والمنتظر أن يعصف ابن الطبلاوى بهذا الشاب ، ولكن العجيب أن ينجح ذلك الشاب الصغير في الإيقاع بإبن الطبلاوى أيضاً ، إذ رسم له شيخه الروحي إبن خلدون، أن يتحالف مع شاب أمير مملوكي هو يشبك الشعباني ، كان نجما سياسيا صاعدا بين الأمراء المماليك .  وبنفس الطريقة إعتقل إبن الطبلاوى وأخوه وصودرت أمواله وتعرض للتعذيب حتى حاول الإنتحار ، وكل ذلك خلال عام 800 هـ. وأصبح الشاب سعد الدين إبراهيم صاحب أكبر المناصب في السنتين الأخيرتين من سلطنة برقوق، وهو في الثانية والعشرين من عمره . وهذه سابقة فى التاريخ المصرى كله أن يتولى شاب مصرى مدنى  هذه المناصب فى هذه السّنّ. ولا يمكن تصور هذا إلا بوجود عقلية جبارة هى العقلية الخلدونية .

  ولم ينس سعد الدين إبراهيم شيخه الخفي إبن خلدون ، إذ جعل برقوق في أواخر أيامه يأمر بتنفيذ إصلاحات إبن خلدون القضائية بفرز وعرض الشهود، وأمر القضاة بذلك، وعندما لم يتم هذا الأمر الصادر في أخريات شعبان سنة 801 بعث السلطان برقوق بالبريد إلى الفيوم ليستدعى إبن خلدون ليتولى قضاء المالكية في 10 رمضان سنة 801 .

  ولكن ما موقع إبن خلدون من هذا التألق الذي وصل إليه تلميذه ؟

 إن إبن خلدون تولى القضاء في فترة التألق هذه، أي في 16 رمضان 808 . وسرعان ما مات فجأة تلميذه سعد الدين إبراهيم في 19 رمضان سنة 808 هـ ، ثم لحق به ابن خلدون فمات فجأة أيضاً في 26 رمضان 808 هـ . ولا يمكن أن تكون هذه مجرد مصادفات .

ولكن أين نظرية العصبية الخلدونية في ذلك كله؟

  لقد كانت المرة الأولى التي يلجأ فيها مصري صميم للإستعانة بالأعراب وعصبياتهم .. حدث ذلك من سعد الدين إبراهيم حين استعان بأعراب "تروجه" بجوار الإسكندرية، ولكنهم خانوه، ففشل مشروع ابن خلدون ، وكان هذا الفشل سبب الموت ( المفاجىء ) للشاب سعد الدين ابراهيم ( ابن غراب ) ولأستاذه  إبن خلدون..

16 ــ ونسترجع ما ذكره المقريزى فى رمضان عام 808 : ( شهر رمضان، أوله الأحد:.. وفي تاسع عشره: مات سعد الدين إبراهيم بن غراب .  ومات عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين، الحضرمي، الأشبيلي، المالكي، في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان فجأة، ولي المالكية عدة مرار.ومات إبراهيم بن عبد الرازق بن غراب، الأمير القاضي سعد الدين بن علم الدين ابن شمس الدين، في ليلة الخميس تاسع عشر شهر رمضان، ولم يبلغ الثلاثين سنة. ).

 

 

تحويل حياة ابن خلدون الي عمل درامي  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

تحويل حياة ابن خلدون الي عمل درامي :

 مقدمة :

1-              حين اخرج يوسف شاهين فيلما عن ابن رشد وجه ضربة لتاريخ ابن رشد الحقيقي ،وان كان ذلك في صالح هدفه في مواجهة الارهاب ،ولكن تبقي المشكلة الأساسية ،وهي ان الدرما قد تجور علي احداث التاريخ وتنشئ احداثا وشخصيات مزيفة وثقافة مغايرة حين تنقل الي السينما او التليفزيون حياة شخصية تاريخية أو فترة زمنية .

2-       والعلاج لذلك هو تقديم الدراما التاريخية بيد المتخصصين في التاريخ ،وهم الذين يعرفون خفاياه وزواياه ،ونوادره وعجائبه ،وهنا يتقلص دور الأختراع أو التزييف في وقائع التاريخ وشخصياته ، حيث ان غرائب الوقائع التاريخية المجهولة تفوق خيال أي قصاص وهنا أيضا يتجلي ابداع المؤلف ليس في التزييف ولكن في ربط الأحداث التاريخية وخلق عمل درامي من خلالها ،ويكون في حد ذاته تفسيرا منطقيا ويقترب من ان يكون علميا- للوقائع والشخصيات .

3-       والتطبيق العملي لهذه الدراما التاريخية الواقعية والمتخصصة هو فكرة هذا العمل عن حياة العلامة العربي ابن خلدون فى مصر،والمستوحاة من كتاب صدر لنا عن حياته ،وفيه تحليل لعقليته ولمقدمته الرائعة .وقد صدر الكتاب ( مقدمة ابن خلدون : دراسة تحليلية تاريخية أصولية ) عن مركز ابن خلدون ودار الأمين للنشر عام 1988 .

 الفكرة الأساس في دراما حياة ابن خلدون :

1-       حياة ابن خلدون في حد ذاتها دراما حية ،حيث عاش حياته حتي سن الخمسين في صراعات مستمرة من تونس الي المغرب الي الأندلس ثم الي الجزائر الي المغرب الي الأندلس ثم الي الجزائر ثم الي تونس ،وفي النهاية هرب الي مصر ،حيث لازمه الصراع مع الفقهاء والقضاة وان كان خافتا حوالي 24 سنة ،وهذه الدراما الخلدونية لا تخلو من شجن عاطفي ،حيث كان ارتباطه قويا بزوجته ،التي لازمته في حله وترحاله ،واضطر احيانا لتركها تحت رحمة خصومه ،واستغل خصومه ذلك في منع اسرته من اللحاق به ،الي ان جاء الي مصر واسترحم السلطان برقوق فبعث رسولا الي السلطان التونسي ابي العباس ،فأرسل زوجة ابن خلدون واولاده ،وبعد ان وصلوا الي الأسكندرية تغرق بهم السفينة ،فماتت الزوجة والبنات ونجا ولدان له ،وبعدها وقع في غرام سيدة مصرية في أواخر عمره وتزوجها فثارت حوله الأقاويل ،بالأضافه الي إدمانه في نهاية حياته في مصر الاستماع الي الغواني ،وكلها تضيف الي الدراما العاطفية والانسانية وتتشابك مع صراعاته الفقهية في تلك الفترة المجهولة في حياته في مصر بعد ان كتب مقدمته الشهيرة .

2-       ومع انه من السهل الاكتفاء بحياة ابن خلدون الدرامية ،الا ان البحث التاريخي المتعمق في حياته استطاع اظهار علاقات خفية تربط بين احداث حياة ابن خلدون في مصر وبين شخصية تاريخية مجهولة حتي الآن وان كانت مشهورة في عصرها ،وهي شخصية الشاب سعد الدين ابراهيم بن عبد الرزاق بن غراب السكندري ،اذ ان هناك صلة تبدو بين سطور الأحداث قد تثير النقاش حين تصدر في بحث تاريخي علمي ،ولكنها تكون اكثر ابهارا واقناعا  حين تقوم الدراما بإظهارها وتجليتها ،مع التوثيق باليوم والشهر والعام .

3-       ونعطي فكرة عن تلك الشخصية الموازية لأبن خلدون وعلاقتهما السرية ،من خلال ما كتبه اثنان من اعظم مؤرخي مصر في العصور الوسطي وهما المقريزي ،وابن حجر العسقلاني ،وقد عاشا معا هذه السنوات مع ابن خلدون وسعد الدين ابراهيم ،واتفقا معا في ايراد تاريخهما في (السلوك )و(الخطط) للمقريزي ،وفي (انباء الغمر )و (الدرر الكامنة) لابن حجر .

فكرة تاريخية عن سعد الدين ابراهيم بن عبد الرزاق ( المشهور بابن غراب ) وعلاقته بابن خلدون:

1 ـ اسلم جده غراب، وتولي نظر الاسكندرية أو الولاية عليها .وهو منصب مدنى.

وكان (محمود بن علي بن اصفر عينه ) يعمل تحت امرته شادا علي باب رشيد في الاسكندرية.

وحدث سنة 767 ان اغار الفرنج بزعامة القبرصي علي الاسكندرية واستباحها اسبوعا ،وذلك في غفلة من حاكمها العسكري ابن عرام ،وبعد انتهاء الغارة كانت التضحية (بالناظر غراب) اذ اتهموه بالخيانة ،ووسطوه    أي قطعوه نصفين أي جعلوه كبش فداء بدلا من الحاكم العسكرى المملوكى.

وفي نفس الوقت استطاع( محمود بن علي بن اصفر عينه) اثناء تلك الغارات ان يسرق الأموال والذهب وهرب الي القاهرة .

وبعدها بحين تبين براءة الناظر غراب ،وتولي ابنه عبد الرزاق نفس وظيفة ابيه ،نظر الاسكندرية او الولاية عليها .

وفي نفس الوقت علا  فى القاهرة شأن (محمود بن علي بن اصفر عينه) في ابتداء سلطنة برقوق بسبب ما معه من أموال ، واستطاع (بالبذل والبرطلة ) أى الرشوة أن يصبح استادرا للسلطان واصبح لقبه جمال الدين محمود الاستادار . وهو صاحب واحدة من أجمل الخانقاوات المقامة فى العصر المملوكى ، ولا تزال شاهدا على فن المعمار المملوكى حتى الآن . وقليلون من الباحثين فى العصر المملوكى من يعرف أن جمال الدين الاستادار المشهور ليس إلاّ ( محمود بن على بن أصفر عينه ) الخائن لسيده وولى نعمته غراب الضحية المظلوم فى محنة الاسكندرية عندما غزاها القبرصى.

2 ـ ويبدو أن خيال سيده المظلوم (غراب ) الذى قطعوه نصفين كان يؤرق جمال الدين اتلاستادار ، فهو الذى وشي بسيده القديم غراب واتهمه ظلما ، لذا فقد جاء الي الاسكندرية ليكفر عن ذنبه ،وهكذا يحدثنا المقريزي وابن حجر عن قدوم جمال الدين محمود الي الاسكندرية ليأخذ حفيد غراب ،وهو الصبي سعد الدين ابراهيم بعد موت ابيه عبد الرزاق لكي يعلمه ويربيه لديه في القاهرة ،وكان ذلك سنة 784 .

3 ـ وهونفس التوقيت الذي وصل فيه ابن خلدون أي في شوال، والمنتظر عند وصول ابن خلدون للاسكندرية ان يعمل علي تهيئة نفسه للحج الا انه كما قال في تاريخه اجّل موضوع الحج وسفره الي القاهرة ،و الواضح هنا ان ابن خلدون التقي بجمال الدين محمود وعرف صلته بالسلطان وكيف يصل للسلطان عن طريقه ،وبذلك نفسر ذلك اللقاء السريع الغير متوقع الذي تم بين ابن خلدون والسلطان برقوق في القاهرة ،وعن طريق الأمير الطنبغا الجوباني صديق جمال الدين محمود ،وكيف اعطي برقوق لابن خلدون المرتبات والجرايات وعينه مدرسا في الأزهر ثم في المدرسة القمحية ، ثم جعله قاضيا للقضاة المالكية ،وتوسط برقوق لاحضار اسرة ابن خلدون له من تونس وارسل لذلك سفينة خاصة بمبعوث خاص .

4 ـ وفي هذه الفترة (764 هـ 787هـ )ما بين وصول ابن خلدون الي عزله من القضاء في فترته الأولي كان الصبي سعد الدين ابراهيم يتعلم ويتفقه لدي استاذه (جمال الدين بن محمود بن اصفر عينه )او جمال الدين الاستادار ،ولكن الصبى الصغير كان قد رضع من اسرته ان ولي نعمته هذا هو سبب نكبة جده غراب . فعاش على أمل الانتقام منه . وهذا ما حدث فعلا.

5 ـ ونفهم بين سطور التاريخ ان جمال الدين الاستدادار استعان بصديقه ابن خلدون في تثقيف ذلك الصبي المولود في سنة 778 هـ وان ابن خلدون بدهائه ومقدرته علي التآمر وفن ادارة الصراع قد استخدم ذلك الصبي العبقري في نقل كل اخبار جمال الاستادار اليه ،وعمل علي توجيه الصبى الذكى واعداده ليصل الي اكبر المناصب ليصل عن طريقه ابن خلدون الي ما كان عليه من نفوذ سياسي في الدول التي اسهم في ادارتها قبل مجيئه الي مصر.

6 ـ وكان المناخ فى الدولة المملوكية مناسبا للتآمر ، بل كانت مصر والشام ميدانا للصراع على الحكم . فقد ثار( منطاش)( ويلبغا )وعزلوا برقوق من الحكم ونفوه الي الشام ،وبعد عدة حروب عاد برقوق ليحكم في سلطنته الثانية .

واستمرت فترة عزل برقوق فيما بين 791 : 792 وبسبب علاقته الوثيقة بالسلطان المعزول برقوق فإنه في هذه الفتره تعرض جمال الدين الاستادار الي الاعتقال والمصادرة واخذوا منه (58 ) قنطارا من الذهب.

7 ـ وفي نفس الوقت  تعاون  ابن خلدون مع منطاش ويلبغا، وافتي بكفر برقوق مع معظم القضاة ، لذا كان موقفه حرجا حين عاد برقوق الي الحكم وأخذ ينتقم ممن تخلي عنه في محنته ، ولكن الغريب أن إستطاع ابن خلدون ان ينجو من انتقام برقوق ، مع ان  العلاقات بينه وبين جمال الدين الاستادار أصبحت بالغة السوء ،ومن الطبيعي ان يزداد نفوذ جمال الدين الاستادار بعودة سيده السلطان برقوق  ،خصوصا وقد كان الاستادار ضمن مظاليم منطاش ويلبغا ومن المسجونين في القلعة بسبب علاقاته ببرقوق .

8 ـ وترتفع علامة استفهام : لماذا انتقم السلطان برقوق من كل من تخلى عنه وانضم للثائرين عليه ، وترك ابن خلدون ؟ وابن خلدون هو أسير لنعمة برقوق ، ولكنه سرعان ما انفض عنه فى محنته وانضم للأميرين الثائرين منطاش ويلبغا .

وهنا تعطينا الدراما التفسير لما حدث بعد عودة برقوق للحكم ، اذ ان من المنتظر ان يستخدم ابن خلدون سلاحه السري ضد جمال الدين الاستادار الذي اخذ نفوذه في الاتساع في وقت كان فيه برقوق يتتبع كل خصومه بالقتل والمحاكمات . وكان السلاح السري لابن خلدون هو الشاب سعد الدين ابراهيم (ابن غراب )  الذي يعمل كاتبا لدي جمال الدين الاستادار وكاتم سره ويتمتع بثقته والذي يحمل ( فى نفس الوقت ) حقدا هائلا علي سيده جمال الدين.

9 ـ ومن هنا نفهم ما وراء الاحداث التي تتابعت منذ 797 هـ وكان ابن غراب وقتها في التاسعة عشرة من عمره ،ولكنه تصرف بذكاء شديد ليوقع بسيده جمال الدين الاستادار وفق خطة مرسومة لا يمكن الا ان تكون من وضع وتخطيط ابن خلدون .

اذ كان المنافس الأكبر للاستادار جمال الدين محمود هو الأمير علاء الدين بن الطبلاوي والي القاهرة، ونشأ تحالف سري بين الشاب سعد الدين ابراهيم وابن الطبلاوي، وأوصله ابن الطبلاوى الي السلطان برقوق، وكشف سعد الدين للسلطان عن سرقات الاستادار وكنوزه ، وبدأ السلطان برقوق يستصفي اموال جمال الدين الاستادار تحت التعذيب ،وفى نهاية الامر اجرى مواجهة بين سعد الدين ابراهيم وجمال الدين الاستادار ،وكشف فيها سعد الدين ابراهيم كل الحقائق مما جعل السلطان يصدر قرارا باعدام جمال الدين، الي ان مات تحت التعذيب سنة 799 وتم انتقام سعد الدين لجده غراب.

 وقد استفاد سعد الدين ابراهيم اكثر من ذلك بتعيينه ناظرا للديوان المفرد فى 11صفر سنة 798 وهواقل من عشرين عاما، ثم اضيف له بواسطة  ابن الطبلاوى وظيفة ناطر الخاص وهى الاملاك الخاصة بالسلطان وذلك فى 15 ذى القعدة سنة 798ثم اضيف له نظر الجيوش فى 6ذى القعدة سنة 800 " فاظهر العفة والحشمة "كما يقولون ،ومات برقوق فى شوال سنة 801وقد جعله ضمن اوصيائه على السلطان الصغير الناصر فرج بن برقوق .

10 ـ ولكن طموح (ابن غراب : سعد الدين ابراهيم ) لم يتوقف بالقضاء على سيده السابق وعدوه جمال الدين الاستادار ، ولم تكفه كل المناصب التى حصل عليها  بازالة سيده جمال الدين الاستادر، إذ بقى أمامه حليفه علاء الدين بن الطبلاوى الذى اصبح اكبر رجل مصرى مدنى فى الدولة المملوكية بعد القضاء على جمال الدين الاستادار ، وكان لا بد من التآمر عليه ليحتل مكانه . وكان معه استاذه ابن خلدون يرسم له الخطط . وهكذا قام سعد الدين ابراهيم (ابن غراب ) بتنفيذ خطه ماكره استطاع بها بالتحالف مع الامير يشبك الشعبانى القضاء على ابن الطبلاوى واخيه سنة 800وتولى مناصبه .

11 ـ ويلاحظ أنه فى فترة ظهور نفوذ الشاب سعد الدين ابراهيم نرى ابن خلدون وقد رجع للقضاء بعد ان ظل معزولا لمدة 15عاما وكانت تلك مكافأة سعد الدين ابن غراب  لاستاذه ابن خلدون . وظل ابن خلدون فى القضاء بعد موت برقوق ، وتولى ابنه الصبى الناصر الى ان تم عزله بمؤامرة شارك فيها جلال الدين الدميرى الذى كاد ان يوقع محنه بابن خلدون فى محرم 803 بعد عزله مباشرة عن القضاء، وفى ذلك الوقت كان سعد الدين يجتاز فترة من الصراعات على القمة فى تحالفه مع امراء المماليك الشبان (يشبك الشعبانى )ضد الامراء الكبار ( أيتمش وتنم )ولكن انتقم سعد الدين ابراهيم لاستاذه ابن خلدون ،ذلك ان ابن خلدون وسعد الدين صحبا الجيش المملوكى الذى توجه للقاء تيمور لنك واجرى ابن خلدون معه محادثات باسم السلطان الناصر فرج، الذى كان على رأس الجيش ، وكان ضمن الجيش قاضى القضاه المالكى جلال الدين الدميرى خصم ابن خلدون ،وقد عاد الجيش وتاخر ابن خلدون فى العوده ،واثناء عودة الجيش مات جلال الدين الدميرى ميتة غامضه ،وعاد سعد الدين مع الجيش بدون قاضى القضاه المالكي وعين الاقفهسى مكانه ،ثم ما لبث ان عزل وعاد ابن خلدون للقضاءفى 23رمضان 803.

وهكذا كان ابن خلدون يلى القضاء مع علو نفوذ تلميذه سعد الدين ابن غراب  ، ويعزل عنه بتاثير خصوم سعد الدين ابن غراب .

12 ـ ووصل نفوذ سعد الدين ابراهيم (ابن غراب ) الى الذروة حين اقنع السلطان الناصر فرج ابن برقوق بالهرب والاختباء واخفاه فى بيته كى يتخلص من خصومه ، وقام سعد الدين باجلاس عبد العزيز بن برقوق على الحكم وسيطر على الدوله ، ثم بعد سبعين يوما عزل عبد العزيزواعاد الناصر فرج،وتلك ظاهرة لم تتكرر فى التاريخ المصرى بطوله ، او كما يقول المقريزى (اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). ومن الصعب أن نصدق أن شابا مصريا مهما بلغت عبقريته يصل الى هذه الحنكة فى فنّ التآمر. والتفسير المقبول هووجود ابن خلدون من وراء ستار يحرّك الأحداث ويوجهها.

ومن الطبيعى أن يستفيد ابن خلدون من نفوذه .فى هذه الفتره تولى ابن خلدون القضاء فى 16 رمضان .

13 ـ وبعد ان علا نفوذ سعد الدين ابراهيم (ابن غراب ) الى الذروه مات فجأة فى 26رمضان808   ،بعد ان كاد يتولي السلطنة بنفسه كما تشير بعض مصادر التاريخ.

14 ـ بعد كل هذا الا ينبغى للدراما ان تبحث هذا الموضوع ؟!

وهل يمكن لشاب مصري ان يتمتع بكل هذه العبقرية السياسية ويكون منسيا من التاريخ ضائعا بين السطور ؟

اللهم اذا كان سلاحا في يد ابن خلدون الذي اراد ان يستخدم ذلك الشاب في تحقيق ما عجز عنه ابن خلدون نفسه فيما بين الاندلس وشمال افريقيا ،حين صنع عروشا وتخلي عنه اصحابها .كما اراد ان يستخدمه ايضا في تحقيق نظريته عن العصبية التي شرحها في المقدمة والتاريخ في سبعة اجزاء قبل ان يأتي الي مصر ،ثم عاش في مصر حوالي ربع قرن الي ان مات دون ان يكتب جديدا يضيفه الى مقدمته ، مما يدل علي انه انشغل بشئ اهم وهو تنصيب شاب مصري سلطانا بدل السلاطين المماليك ليؤكد صحة نظريته السياسية عن ( العصبية ) وليحقق أمله السياسى الذى عجز عن تحقيقه فى شمال أفريقيا والاندلس ،وكاد ان يفلح في ذلك بأن يجعل المصرى سعد الدين ابراهيم ( ابن غراب ) سلطانا . ،وقد اشار المؤرخون المقريزي وابن حجر والعيني ان سعد الدين ابراهيم بن غراب اوشك ان يكون سلطانا، وعندما فشل المشروع مات في نفس الشهر ميتة غامضة هو واستاذه ابن خلدون .

وهنا تفسر الدراما اهم حقيقة غامضة في تاريخ ابن خلدون في مصر ، وتُجلّى فترة غامضة من التاريخ المصرى المملوكى ، وتقدم صورة حية للمجتمع المصرى وقتها على مستوى القمة ( المماليك وكبار المسئولين والقضاة ) والشعب .

المعالجة الدرامية باختصار :

أ-من الممكن ان تكون الدراما سيناريو مسلسل من 30 حلقة يتوقف مع ابن خلدون وهو يكتب التاريخ والمقدمة في قلعة بني سلامة بالجزائر ويسترجع تقلبات حياته السابقة ثم قراره بالذهاب الي تونس كخطوة لهربه الي مصر وفيها الدراما العاطفية بعلاقته بزوجته واولاده اثناء تنقلاته وغربته عنهم . ثم يتتبع في الفترة مابين ( 748 803 ) صراعاته في مصر لاصلاح النظام القضائي وعلاقاته بجمال الدين الاستادار وسعد الدين ابراهيم وعلاقاته العاطفية ، وينتهى فى الفترة (803- 808 ) حيث مشاركته مع سعد الدين ابراهيم في محاولة الانقلاب علي الدولة المملوكية وتنفيذ نظرية ابن خلدون عن العصبية ،وموتهما في نفس الشهر ، وما تخلل ذلك من مؤامرات .

ب- تفصيلات المسلسل تتبع التطورات التاريخية لمصر منذ عهد السلطان الاشرف شعبان وهجوم الفرنجة والقبارصة علي الاسكندرية سنة 767 ،ويتتبع بشكل موازي تقلبات ابن خلدون السياسية في الشمال الافريقي والاندلسي ،والصراع مع فرنجة الأندلس الي ان أتي ابن خلدون لمصر فيتتبع علاقاته فيها وتحالفه السري مع سعد الدين ابراهيم الي نهاية حياتهما سنة 808 هـ ،.

ج ـ والأهمية القصوي ان كل مشهد موثق باليوم والشهر والعام ،وليس فيه اختراع او تزييف ، فالإبداع هنا في ربط الأحداث وتضفيرها لأظهار حقبة هامة من التاريخ المصري والعربي للمشاهدين علي اوسع نطاق .

د ـ هذه الدراما عن ابن خلدون جاهزة ( تقريبا ) ، تحتاج الى اللمسات الأخيرة ،وليس في ذلك مشكلةعلي الأطلاق .

ولكن المشكلة في تنفيذ عمل درامي حقيقي يعيش العصر بأحداثه وثقافته وعاداته وطريقته في الحديث والزي والتفكير ، ثم يقدم هذا العمل الدرامي اجابة عن سؤال علمي تاريخي هام .هو : لماذا عاش ابن خلدون في مصر الاربعة وعشرين عاما الأخيرة من حياته عازفا عن الكتابة ، والجواب أنه كان منشغلا بتحقيق هدف أعظم ، هو إقامة مصرى سلطانا على مصر بدلا من هؤلاء المماليك المجلوبين لمصر .  هذه الأجابة يقدمها هذا العمل الدرامي عن الوجه السياسي الآخر لابن خلدون وهو وجه غامض ،يمكن توضيحه أكثر بالعمل الدرامى الذى يعطى الباحث التاريخى حرية فى الانطلاق و استقراء الأحداث وتجلية الغامض منها بصورة أكثر مما يعطيه له منهج البحث التاريخى الصارم .

وذلك ما يطمع هذا العمل بتقديمه بصورة علمية وفنية وراقية .

نقول :- ان المشكلة تكمن في تنفيذ هذا العمل

لأن تحويل التراث الي دراما يتحكم فيه بعض مما لا يعرفون من حقائق التاريخ الا ما يحصلون عليه من خلال مؤلفات سطحية هامشية ،ويسدون هذا النقص بأختراع احداث وتزويرها ،وبدون فهم بأن لكل عصر لغته ومصطلحاته ،وازياءه وثقافته ..

المشكلة الحقيقية في تقديم عمل درامي يعيد الاحترام الي تراثنا كما يفعل الغرب مع تراثه مع ان تراثنا اثري واروع من تراث الغرب ..

فهل نجد من يتعاون معنا في هذه القضية .

نحن في الانتظار والله تعالي المستعان .

  د.احمد صبحي منصور   

ملاحظة

حقوق هذه المعالجة وهذا العمل محفوظة للمؤلف وورثته بعده .

وتمت كتابة هذه المعالجة عام 1999 ، وحاول المؤلف دون جدوى تسويقها فى مصر وقتها . وهذه محاولة أخرى .

والله جل وعلا هو المستعان .

9 اكتوبر 2015



[1]
- ابن حجر : الدرر الكامنة في اعيان المائة الثامنة ،4/237 ط . بيروت .

[2]- المدخل لابن الحاج : دار الحديث 1981، اربعة أجزاء.

[3]- المقريزي : السلوك 3/517 ، ابن حجر : أنباء الغمر 2/158. السخاوي : الضوء اللامع 4/146 ، أبوالمحاسن : المنهل الصافي : الجزء المخطوط : ترجمة ابن خلدون.

[4]-  الضوء اللامع 4/146.

[5]- تاريخ ابن خلدون 7/462.

[6]- مقدمة ابن  خلدون الباب الخامس ، الفصل السادس ، والباب الثالث الفصل 38

[7]-  الضوء اللامع 4/146، 147

[11]- أنباء الغمر 2/273، 364، 3/132، 4/75، 332.