الاحتكار والأحكار

آحمد صبحي منصور في السبت ١٢ - نوفمبر - ٢٠٢٢ ١٢:٠٠ صباحاً

نص السؤال
قرآت كتابك عن تطبيق الشريعة فى عصر السلطان برسباى الذى إحتكر الفلفل والتجارة الشرقية. وقرآت أيضا عن وجود ( أحكار ) فى المساكن بالقاهرة المملوكية ، فهل الاحتكار هو الأحكار ؟ الذى أفهمه أن الاحتكار اسلوب اقتصادى مستمر حتى الآن . فهل الأحكار نفس الشىء ؟
آحمد صبحي منصور

أولا : الاحتكار جريمة دينية وأخلاقية لا تزال مستمرة

1 ـ لن نكتفي بالقول بأن الاحتكار حرام وأن المحتكر يجرم في حق المجتمع  ومأواه جهنم وبئس المصير ، فكم تكلم الآخرون علي هذا المنوال  وما ازداد الاحتكار إلا انتشارا علي انتشار. سنتحدث عن أثر الاحتكار في تدمير المجتمع والقضاء على قانون العرض والطلب الذى يضبط السوق  .

 2 ـ إن الاحتكار يعني أن يتحكم شخص أو عدة أشخاص معا في سلعة معينة يحتاجها الناس والمجتمع فلا يستطيعون الحصول عليها إلا منهم وبالشروط والثمن الذي يحدده المحتكرون .  لا بد للمحتكر أو المحتكرين أن يكونوا أصحاب نفوذ مستمد من السلطة القائمة  . يتأكد الاحتكار ويستشرى ضرره حين تقوم به السلطة ، تستخدم نفوذها فى التجارة والعرض والطلب والتسعير ، فتتألف بها طبقة مترفة تُنذر بانفجار المجتمع وتدميره .

3 ـ الاحتكار يضيع قانون العرض والطلب. فى السوق الحرة التى لا تتدخل فيها السلطة لا يفلح الاحتكار ، ولو تمكن محتكر ما من الاستحواذ علي سلعة ما فإن المنتجين سيسارعون  بإنتاجها في العام التالي فيكثر عرضها وينتهي احتكارها. ولو تمكن المحتكر من اختزانها في مخازنه للعام التالي فإن مخزونه سيفسد وسيخسر ، وإذا نجا من الفساد فإنه ـ أي المخزون ـ سيسهم في رخص الأسعار بعدة زيادة العرض وستضاف مصاريف التخزين إلي خسائر المحتكر.

وذلك يؤكد أن الاحتكار لا ينجح في السوق المفتوح الذي يحكمه قانون العرض والطلب ، فإذا تدخلت السلطة في السوق فاحتكرت سلعا وأصدرت قوانين وقرارات فإن ذلك التدخل سيظهر أثارا سيئة وكوارث اقتصادية يستفيد منها فقط السماسرة والوسطاء والمتاجرون بالأقوات والمستغلون من الموظفين المرتشين علي حساب الفقراء الذين صدرت القرارات من أجلهم .

  4 ـ إن الاحتكار رذيلة أخلاقية وتجارية ومفسدة علي كل المستويات حتى فى النُّظم الاشتراكية ذات الاقتصاد المُوجّه الحكومى ، الذى يتجمّل بزعم توصيل السلع والخدمات والدعم للفقراء والمحرومين ، إذ سيظل الفقراء في حرمانهم ويثري علي حسابهم المتاجرون والمرتشون . ، والأفضل من ذلك أن تبتعد الحكومة عن التدخل فى حركة السوق ، وتكتفى بتوفير الأمن ومطارد الفساد ، و تشجيع الإنتاج في بيئة حرة نظيفة تعاقب اللصوص وتكافيء الشرفاء  .

 

ثانيا : الحكر تعبير تراثى تاريخى عن التعمير والاستصلاح

بين الاحتكار والإعمار

  1 ـ الاحتكار مذموم ، وكان معروفا فى العصور الوسطى ، خصوصا وقت الغلاء والمجاعات ، كان يعنى جمع الغلال وتخزينها والمبالغة فى تسعيرها .   أما الحكر فهو قريب من معني الاحتكار ، إلا أنه بعيد عن الاتصاف بالذم . فالحكر هو تملك الأرض واحتكارها ومنع الغير من استغلالها لأن صاحبها يقوم باستصلاحها واستغلالها واستزراعها ، وهو بالتالي لا يحتكر المحصول الناتج من الأرض بل يبادر ببيعه والتخلص منه ليفي بحق الأرض والعناية بها ، ومن هنا يبتعد الحكر عن المعني المذموم لاحتكار الطعام والسلع ، لأن من يحكر أرضا تكون في الأغلب مواتا تحتاج الاستصلاح ، ومن حقه شرعا أن يمتلكها لنفسه وأن يرثها أولاده ، فالاستصلاح في حد ذاته يبرر الملكية والحكر .

الحكر والتعمير والاستصلاح والبناء

     إذن فالحكر في الأرض قرين الاستصلاح والتعمير ، خصوصا وقد ارتبط بإنشاء المساكن و البساتين   والزروع ، إلا أنه يختلف عن التعمير المعتاد في أنه لا يتجه إلي الصحراء والأماكن البعيدة ، وإنما يتركز أساسا في أطراف المدن ومناطق الخرابات والأراضي المهجورة داخل المدن أو بين مدينة وأخري ، فتتحول إلي جنات من البساتين والمساكن والعمار .

    ولأن من يقوم بإحياء هذه المناطق حريص علي ألا ينازعه فيها أحد بعد أن أنفق فيها ماله وعرقه فإنه يأخذ من الحاكم أو السلطان عقدا بحكر الأرض له ولذريته ، وتظل تلك الأرض حكرا عليه وتحمل اسمه قرونا ، بعد اندثار الذرية .

 

أثر التحكير فى توسع الفسطاط وتمددها

ولذلك فإن توسع الفسطاط والقاهرة قام علي هذه الاحكار ، فالفسطاط  توسعت ، ثم أقيمت عاصمة أخري قريبة منها هي العسكر التى أنشأها العباسيون ، وملئت الفجوات بينهما بالمساكن والبساتين طبقا لنظام الحكر ، أو التعمير ، ثم أضيفت عاصمة أخري هي القطائع التى أنشأها أحمد بن طولون ، وملئت الفوارغ بينها وبين الفسطاط والعسكر بالاحكار وأصبحت جميعها مدينة واحدة يُطلق عليها حينئذ ( مصر الفسطاط ) ، ثم أقام الفاطميون القاهرة عاصمة جديدة وقامت الاحكار بالوصل بين القاهرة والعواصم السابقة حتي صارت مدينة واحدة هي مصر القاهرة ..

أشهر الأحكار : حكر الزهري:

1 ـ  هو أقدم حكر في القاهرة . وقد أقامه الزهري واسمه عبد الوهاب ابن موسي الذي ينتهي نسبه إلي عبد الرحمن بن عوف الزهري ،كما أن أمه من ذرية عبد الملك بن مروان ، وقد جاء عبد الوهاب الزهري من المدينة إلي مصر وتولي الشرطة في الفسطاط ، وقد أخذ من الوالي تصريحا بحكر أو تحكير منطقة واسعة بجانب الفسطاط ، وقام بتحويل المنطقة إلي بساتين متصلة حملت اسم " جنان الزهري " أو بستان الزهري ، وورثتها ذريته من بعده فأصبحت " حكر الزهري " ومات عبد الوهاب الزهري سنة 210هـ.   

2 ـ ومرت السنون وضعفت ذرية الزهري وضاع نفوذها فتشجع وكيل بيت المال واستولي علي بعض الحكر ، وباع منه وأجّر بعضه .. والواقع أن حكر الزهري كان غاية في الاتساع ، حتي أنه حين طال عليه الأمد تحول إلي عدة بساتين وعدة أحكار . وجاء ابن التبان في خلافة الأمر بأحكام الله الفاطمى فاستولي علي أغلب أحكار الزهري ، وأعاد استصلاحها واستثمارها فأصبح معظم حكر الزهري يحمل اسم بر التبان نسبة  لابن التبان .

3 ـ  وقد استولي آخرون في عصور مختلفة علي أجزاء أخري من حكر الزهري ، فتحولت إلي أحكار مختلفة اشتهرت فى العصر المملوكى ، تحمل أسماء : شق الثعبان وبطن البقرة وسويقة القيمري وسويقة صفية وبركة الشقاف وبركة السباعين وقنطرة الخرق وحكر الحلبي والبواشقي وكرجي وميدان المهاري والميدان السلطاني . أي أن التعمير في العصر المملوكي اتخذ من بعض مناطق حكر الزهري ميدانا للقصر السلطاني .

    حكر الست حدق والست مسكة على أطلال حكر الزهرى :

   1 :    والملاحظ أن النفوذ السياسي كان بالغ التأثير في الحصول علي الحكر وفي الاحتفاظ به أو الاستيلاء عليه . ولم يكن النفوذ السياسي مقصورا علي الرجال بل تمتعت به بعض النساء فحصلن علي أحكار ومنهن الست حدق والست مسكة .

  2 : وحكر الست حدق اندثر بعدها وأصبح يعرف بالمريس ، واحتفظ بعمارته وبساتينه حتي حدث الخراب سنة 806هـ. وقد عمرته الست حدق وأنشأت به جامعا عرف باسمها ..

  3 :  وكان إلي جانبه حكر الست مسكة ، وهي الأخرى أنشأت به جامعا .. وكلها ـ كما أسلفنا ـ من جملة حكر الزهري القديم . الذي تقاسمه كثيرون ، وتناوب عليه كثيرون ، إلي أن قامت السيدتان حدق ومسكة بإعادة تعميره ، وتشجع الناس فأعادوا إلي المنطقة البهجة واستوطنوها وأنشأوا بها الحمامات والأسواق ..

  4 :    وكانت حدق ومسكة من جواري السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون نشأتا في داره وصارتا قهرماتين ( القهرمانة هي المشرفة علي الدار ) وتخصصتا في عمل الأعراس والأفراح والإشراف علي شئون الحريم السلطاني وتربية أولاد السلطان ، وطال عمرهما وأصبح لهما نفوذ كبير استخدمتاه في أعمال الخير وبناء المساجد وتعمير الاحكار المندثرة .

5 ـ ونحن ننقل هذا عن كتاب المقريزى ( الخطط ). 

اجمالي القراءات 1860